بيان
سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة، و قد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد و هو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، و للفتنة، و للقصاص، و النهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، و كل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، و ليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم و هو ظاهر، و لا قيدا احترازيا، و المعنى قاتلوا الرجال دون النساء و الولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، و يقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله.
بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال و الوصف للإشارة، و المراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين و هم مشركوا مكة.
فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله:» الحج - 40، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.
على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده و أطرافه و لوازمه فقوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله، لأصل الحكم، و قوله تعالى: لا تعتدوا إلخ، تحديد له من حيث الانتظام، و قوله تعالى: و اقتلوهم «إلخ»، تحديد له من حيث التشديد، و قوله تعالى: و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام «إلخ»، تحديد له من حيث المكان، و قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة «إلخ»، تحديد له من حيث الأمد و الزمان، و قوله تعالى: الشهر الحرام «إلخ»، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال و القتل و معاملة بالمثل معهم، و قوله تعالى: و أنفقوا، إيجاب لمقدمته المالية و هو الإنفاق للتجهيز و التجهز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، و لا أن تكون نازلة في شئون متفرقة كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد و هو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.
قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، و كونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين و إعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس و أعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فإن الدفاع محدود بالذات، و التعدي خروج عن الحد، و لذلك عقبه بقوله تعالى: و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
قوله تعالى: و لا تعتدوا «إلخ» الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا و اعتدى إذا جاوز وحده، و النهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، و الابتداء بالقتال، و قتل النساء و الصبيان، و عدم الانتهاء إلى العدو، و غير ذلك مما بينه السنة النبوية.
قوله تعالى: و اقتلوهم حيث ثقفتموهم إلى قوله: من القتل، يقال ثقف ثقافة أي وجد و أدرك فمعنى الآية معنى قوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 6، و الفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشيء، و لذلك يطلق على نفس الامتحان و الابتلاء و على ما يلازمه غالبا و هو الشدة و العذاب على ما يستعقبه كالضلال و الشرك، و قد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، و المراد به في الآية الشرك بالله و رسوله بالزجر و العذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قبلها.
فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم و جلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، و ما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة و الفتنة أشد من القتل لأن في القتل انقطاع الحياة الدنيا، و في الفتنة انقطاع الحياتين و انهدام الدارين.
قوله تعالى: و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه «إلخ»، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، و الضمير في قوله: فيه راجع إلى المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.
قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، الانتهاء الامتناع و الكف، و المراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين و قبول الإسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: فإن انتهوا فلا عدوان، و أما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه و هو قوله: و لا تقاتلوهم عند المسجد، و على هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله، و قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.
و في قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، و المعنى فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.
قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره، و الفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله و يكره عليه المشركون بمكة، و يدل عليه قوله تعالى: و يكون الدين لله، و الآية نظيرة لقوله تعالى: «و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و إن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى و نعم النصير:» الأنفال - 40، و في الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال و إن ردت فلا ولاية إلا لله و نعم المولى و نعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، و من المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، و لا معنى لقتال هذا شأنه و غايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق و هو الدين الذي يستقر على التوحيد.
و يظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:» التوبة - 30، بناء على أن دينهم لله سبحانه و تعالى، و ذلك أن الآية أعني قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه و تعالى هو أن لا يعبد الأصنام و يقر بالتوحيد، و أهل الكتاب مقرون به، و إن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنهم لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق، لكن الإسلام قنع منهم بمجرد التوحيد، و إنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم و إظهار الإسلام على الدين كله.
قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، أي فإن انتهوا عن الفتنة و آمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين:» التوبة - 12.
قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص، الحرمات جمع حرمة و هي ما يحرم هتكه و يجب تعظيمه و رعاية جانبه، و الحرمات: حرمة الشهر الحرام و حرمة الحرم و حرمة المسجد الحرام، و المعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، و قد هتكوا حين صدوا النبي و أصحابه عن الحج عام الحديبية و رموهم بالسهام و الحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه و ليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله و يمتثلون أمره في إعلاء كلمته و لو هتكوا حرمة الحرم و المسجد الحرام بالقتال فيه و عنده جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات و أعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لأنه شرع القصاص في جميع الحرمات و إنما شرع القصاص في الحرمات لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل.
ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأن فيه استعمالا للشدة و البأس و السطوة و سائر القوى الداعية إلى الطغيان و الانحراف عن جادة الاعتدال و الله سبحانه و تعالى لا يحب المعتدين، و هم أحوج إلى محبة الله تعالى و ولايته و نصره فقال تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين.
و أما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فإن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابلة اعتداء و أما إذا كان في مقابلة الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان و ارتقاء عن حضيض الاستعباد و الظلم و الضيم، كالتكبر مع المتكبر، و الجهر بالسوء لمن ظلم.
قوله تعالى: و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله و الكلام في تقييد الإنفاق هاهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، و الباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، و المعنى: و لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة و الاستطاعة و القدرة فإن اليد مظهر لذلك، و ربما يقال: إن الباء للسببية و مفعول لا تلقوا محذوف، و المعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إلى التهلكة، و التهلكة و الهلاك واحد و هو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، و هو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.
و الكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط و تفريط كما أن البخل و الإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة و ذهاب القدرة، و فيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، و كما أن التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر و المسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة و بطلان المروة.
ثم ختم سبحانه و تعالى الكلام بالإحسان فقال: و أحسنوا إن الله يحب المحسنين، و ليس المراد بالإحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين و ما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، و الكف في مورد الكف، و الشدة في مورد الشدة، و العفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الإنسانية باستيفاء حقها المشروع لها، و دفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر، و محبة الله سبحانه و تعالى هو الغرض الأقصى من الدين، و هو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالإتباع، قال تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله:» آل عمران - 31، و قد بدأت الآيات الشريفة و هي آيات القتال بالنهي عن الاعتداء و إن الله لا يحب المعتدين و ختمت بالأمر بالإحسان و إن الله يحب المحسنين، و في ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى.
الجهاد الذي يأمر به القرآن:
كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال و الصبر على كل أذى في سبيل الله سبحانه و تعالى، كما قال سبحانه و تعالى: «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون و لا أنتم عابدون ما أعبد، إلى قوله: لكم دينكم و لي دين:» الكافرون - 6، و قال تعالى: «و اصبر على ما يقولون:» المزمل - 10، و قال تعالى: «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال:» النساء - 77، و كان هذه الآية تشير إلى قوله سبحانه و تعالى: «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة:» البقرة - 110.
ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة و من معهم بالخصوص كقوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله:» الحج - 40، و من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر و غيرها، و كذا قوله: «و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير و إن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى و نعم النصير:» الأنفال - 40، و كذا قوله تعالى: «و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين:» البقرة - 190.
و منها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:» التوبة - 29.
و منها آيات القتال مع المشركين عامة، و هم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 5، و كقوله تعالى: «قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة:» التوبة - 36.
و منها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: «قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة:» التوبة - 123.
و جملة الأمر أن القرآن يذكر أن الإسلام و دين التوحيد مبني على أساس الفطرة و هو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها كما قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون:» الروم - 30، فإقامته و التحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه:» الشورى - 13، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز:» الحج - 40، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه و حياة ذكره منوط بالدفاع، و نظيره قوله تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض:» البقرة - 251، و قال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال: «ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون:» الأنفال - 8، ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال - 24، فسمى الجهاد و القتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، و معناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الإنسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية و موت الفطرة، و في القتال و هو دفاع عن حقها إعادة لحياتها و إحياؤها بعد الموت.
و من هناك يستشعر الفطن اللبيب: أنه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك و إخلاص الإيمان لله سبحانه و تعالى فإن هذا القتال الذي تذكره الآيات المذكورة إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله و رسوله و لا يدينون دين الحق فهم و إن كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، و الدفاع عن حق الإنسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.
و القرآن و إن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال، و هو القتال لإقامة الإخلاص في التوحيد قال تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون:» الصف - 9، و أظهر منه قوله تعالى: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون:» الأنبياء - 105، و أصرح منه قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا:» النور - 55، فقوله تعالى: يعبدونني يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي شيئا، مع أنه تعالى يعد بعض الإيمان شركا، قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:» يوسف - 106، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض و تخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.
و ربما يتوهم المتوهم أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنهم في الأرض، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض و إزالتهم عن مكانهم و وضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.
على أن قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم:» المائدة - 54، - على ما سيجيء في محله - يشير إلى دعوة حقة، و نهضة دينية ستقع عن أمر إلهي و يؤيد أن هذه الواقعة الموعودة إنما تقع عن دعوة جهاد.
و بما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فإن دينهم إنما كان يعتمد في سيره و تقدمه على الدعوة، و الهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل و السبي و الغارات، و لذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف و الدم و آخرون بدين الإجبار و الإكراه!.
و ذلك أن القرآن يبين أن الإسلام مبني على قضاء الفطرة الإنسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به و حكمت و دعت إليه، و هي تقضي بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية و الاجتماعية عليه، و أن الدفاع عن هذا الأصل بنشره بين الناس و حفظه من الهلاك و الفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفاؤه بأي وسيلة ممكنة، و قد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة و الصبر على الأذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الإسلام و نفوس المسلمين و أعراضهم و أموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الإنسانية و كلمة التوحيد و لم يبدأ بشيء من القتال إلا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية، قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن:» النحل - 125، و الآية مطلقة، و قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة:» الأنفال - 42.
و أما ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الإنسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الأفراد بعد البيان و إقامة الحجة البالغة عليهم، و هذه طريقة دائرة بين الملل و الدول فإن المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت و لو انجر إلى القتال حتى يطيع و ينقاد طوعا أو كرها.
على أن الكره إنما يعيش و يدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم و التربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري و كلمة التوحيد طوعا.
و أما ما ذكروه: أن سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة و الهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح و هود و صالح (عليهما السلام) فقد كان أحاط بهم القهر و السلطنة من كل جانب، و كذلك كان عيسى (عليه السلام) أيام إقامته بين الناس و اشتغاله بالدعوة و إنما انتشرت دعوته و قبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته و كان ذلك أيام طلوع الإسلام.
على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، و القرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: «و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين:» آل عمران - 147، و قال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -: «و إذ قال موسى لقومه، إلى أن قال: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين إلى أن قال تعالى: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون:» المائدة - 24، و قال تعالى: «أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله:» البقرة - 246، إلى آخر قصة طالوت و جالوت.
و قال تعالى في قصة سليمان و ملكة سبإ: «ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين» - إلى أن قال تعالى -: «ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون:» النمل - 37، و لم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها «إلخ»، إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.
بحث اجتماعي
لا ريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الإنسان و سائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود و البقاء.
و كما أن الفطرة و الجبلة أعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود و البقاء كالإنسان يتصرف في الجماد و النبات و الحيوان حتى في الإنسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك و إن زاحم حقوق غيره من الحيوان و كمال غيره من النبات و الجماد، و كأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها و إذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، و الناموس ناموس التنازع في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده و بقاءه بالشعور و الحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة، و يذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرفه المذكور، و يدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون و الأنياب و المخالب و الأظلاف و الشوك و المنقار و غير ذلك، و بعضها الذي لم يتسلح بشيء من هذه الأسلحة الطبيعية القوية تستريح إلى الفرار أو الاستتار أو الخمود كبعض الصيد و السلحفاة و بعض الحشرات، و بعضها الذي يقدر على إعمال الحيل و المكائد ربما أخذ بها في الدفاع كالقرد و الدب و الثعلب و أمثالها.
و الإنسان من بين الحيوان مسلح بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، و له فطرة كسائر الأنواع، و لفطرته قضاوة و حكم، و من حكمها أن للإنسان حقا في التصرف، و حقا في الدفاع عن حقه الفطري، و هذا الحق الذي يذعن به الإنسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة و المقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الإنساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما أوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه أن يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الإنسان إذا أحس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الأفراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة و الموافقة على التمدن و العدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه و يعدله الاجتماع بتعديله.
و من هنا يعلم: أن الإنسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام و الاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع و اعترف بأنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.
فكل قتال دفاع في الحقيقة، حتى أن الفاتحين من الملوك و المتغلبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية و لياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس و سفك الدماء و فساد الأرض و إهلاك الحرث و النسل.
فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الإنسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للإنسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهمية فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الإنسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق الضائع المستنقذ في الأهمية الحيوية، و قد أثبت القرآن أن أهم حقوق الإنسانية هو التوحيد و القوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الإنساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنساني التي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم.
بحث روائي
في المجمع، عن ابن عباس: في قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج هو و أصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة و كانوا ألفا و أربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه و يعود العام القابل و يخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت و يفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي و أصحابه لعمرة القضاء و خافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدوهم عن البيت الحرام و يقاتلوهم، و كره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عن ابن عباس و غيره.
و في المجمع، أيضا عن الربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله و يكف عمن كف عنه حتى نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية.
أقول: و هذا اجتهاد منهما و قد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و اقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه: أن الفتنة في الدين و هو الشرك أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان غير جائز.
أقول: و قد عرفت: أن ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة أنها نزلت دفعة واحدة.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية،: بطرق عن قتادة، قال: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك و يكون الدين لله. قال: حتى يقال: لا إله إلا الله عليها قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إليها دعا، و ذكر لنا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى: يقولوا: لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، قال: و إن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله.
أقول: قوله و إن الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبي و هي استفادة حسنة، و روي نظير ذلك عن عكرمة.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج البخاري و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر: أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا و أنت ابن عمر و صاحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: أ لم يقل الله: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة و كان الدين لله و أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة و يكون الدين لغير الله.
أقول: و قد أخطأ في معنى الفتنة و أخطأ السائلان، و قد مر بيانه، و إنما المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي و لا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام:، عن العلاء بن الفضيل، قال: سألته عن المشركين أ يبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلاهم، رأى المسلمون بما أنهم يظهرون عليهم فيه، و ذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و النحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، و يغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ.
و في الكافي، عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم فقال (عليه السلام) لا يقتل و لا يطعم و لا يسقى و لا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) يقام عليه الحد في الحرم لأنه لم ير للحرم حرمة، و قد قال الله: عز و جل: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلا على الظالمين و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن و لا وفق، أ ليس الله يقول: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين، يعني المقتصدين! و روى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، و من ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، و دخل في نهيه يقول الله: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
و في الدر المنثور، بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران،: قال كنا بالقسطنطينية، و على أهل مصر عقبة بن عامر، و على أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب، صاحب رسول الله: فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل و إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه و كثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله إن أموالنا قد ضاعت و أن الله قد أعز الإسلام و كثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه، يرد علينا ما قلنا: و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأموال و إصلاحها و تركنا الغزو.
أقول: و اختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه: أن الآية مطلقة تشمل جانبي الإفراط و التفريط في الإنفاق جميعا بل تعم الإنفاق و غيره.
|