بيان
نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، و فيها تشريع حج التمتع.
قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو، و يترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، و الكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، و كونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، و ربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلا فيه اهتماما بأمره و شأنه، و المراد بإتمام الحج و العمرة هو المعنى الأول الحقيقي، و الدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه و ضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع و لا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال و هو ظاهر.
و الحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.
و يبتدى هذا العمل بالإحرام و الوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، و فيها التضحية بمنى و رمي الجمرات الثلاث و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة، و فيها أمور مفروضة أخر، و هو على ثلاثة أقسام: حج الإفراد، و حج القران، و حج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.
و العمرة عمل آخر و هو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة و التقصير، و هما أعني الحج، و العمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله و يدل عليه قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية.
قوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي و لا تحلقوا رءوسكم «إلخ»، الإحصار هو الحبس و المنع، و المراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام و الاستيسار صيرورة الشيء يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، و الهدي هو ما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، و أصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، و الهدي و الهدية كالتمر و التمرة، و المراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.
قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه «إلخ» الفاء للتفريع، و تفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، و الإتيان بقوله: أو به أذى من رأسه بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، و الصدقة، و النسك.
و قد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، و أن الصدقة إطعام ستة مساكين، و أن النسك شاة.
قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها و الإحلال إلى زمان الإهلال بالحج فما استيسر من الهدي، فالباء للسببية، و سببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء و الصيد و نحوهما من جهة تمامها بالإحلال.
قوله تعالى: فما استيسر من الهدي، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مئونة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.
فإن قيل: إن ترتب قوله: فما استيسر من الهدي، على قوله: فمن تمتع ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدي واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك.
قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، و لا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة و عدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبرانا لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، و ظاهر الآية كون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي إخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبنى عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدي و قولنا تمتعوا و سوقوا الهدي، و أما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله: تعالى في ذيل الآية ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به و مكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، و هو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، و لذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله و إلا فعند الرجوع إلى وطنه، و ظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، و لم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك.
قوله تعالى: تلك عشرة كاملة، أي الثلاثة و السبعة عشرة كاملة و في جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة و السبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام و الكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، و إنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.
قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي الحكم المتقدم ذكره و هو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، و هو الذي بينه و بين المسجد الحرام.
أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، و أهل الرجل خاصته: من زوجته و عياله، و التعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، و فيه إيماء إلى حكمة التشريع و هو التخفيف و التسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، و هو عمل لا يخلو من الكد و مقاسات التعب و وعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن و الراحة، و الإنسان إنما يسكن و يستريح عند أهله، و ليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج و الإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات.
و قد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن «إلخ»، دون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، و هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت و لا شخص دون شخص و لا حال دون حال.
قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله شديد العقاب، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبىء عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله و كذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم و ألفته قلوبهم و قد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم و لذلك قابلوه بالإنكار و كان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، و لذلك اضطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، و أنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى و التحذير عن عقاب الله سبحانه.
قوله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج إلى قوله: في الحج، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم و قد بينته السنة و هي: شوال و ذو القعدة و ذو الحجة.
و كون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه دون جميعه.
و في تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج و بالحج الثاني نفس العمل و بالثالث زمانه و مكانه، و لو لا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.
و فرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية، و الرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، و الفسوق هو الخروج عن الطاعة، و الجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، و الفسوق بالكذب، و الجدال بقول لا و الله و بلى و الله.
قوله تعالى: و ما تفعلوا من خير يعلمه الله، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، و دعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور و معنى العمل، و هذا دأب القرآن يبين أصول المعارف و يقص القصص و يذكر الشرائع و يشفع البيان في جميعها بالعظة و الوصية لئلا يفارق العلم العمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، و لذلك ختم هذه الدعوة بقوله: و اتقوني يا أولي الألباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام و الاقتراب و التعين.
قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، هو نظير قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع» إلى أن قال: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله:» الجمعة - 10، فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، و لذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.
قوله تعالى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، و هي المزدلفة.
قوله تعالى: و اذكروه كما هديكم «إلخ» أي و اذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم و أنكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.
قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس و إلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أن قريشا و حلفاءها و هم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة و كانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضه من حيث أفاض الناس و هو عرفات.
و على هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، و الكلام بمنزلة الاستدراك، و المعنى أن أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، و ربما قيل: إن في الآيتين تقديما و تأخيرا في التأليف، و الترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس. فإذا أفضتم من عرفات.
قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم إلى قوله: ذكرا، دعوة إلى ذكر الله و البلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آباءه و أشد منه لأن نعمته في حقه و هي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: «و اذكروه كما هديكم» أعظم من حق آبائه عليه، و قد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم و النثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم، و أو في قوله أو أشد ذكرا، للإضراب فتفيد معنى بل، و قد وصف الذكر بالشدة و هو أمر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية قال تعالى: «و اذكروا الله ذكرا كثيرا:» الأحزاب - 41، و قال تعالى: «و الذاكرين الله كثيرا:» الأحزاب - 35، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي و اللفظ حاك عنه، فيمكن أن يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: «الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم:» آل عمران - 191، و أن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، و لما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى و نسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا «إلخ» تفريع على قوله تعالى: فاذكروا الله كذكركم آباءكم، و الناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آباءه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية و لا يطلب إلا الدنيا و لا شغل له بالآخرة، و من المؤمن الذي لا يريد إلا ما عند الله سبحانه، و لو أراد من الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، و على هذا فالمراد بالقول و الدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، و يكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا و لا نصيب له في الآخرة و منهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الآخرة و لهؤلاء نصيب في الآخرة.
و من هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، و ذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا و ما هو يتمتع به في الحياة الأرضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، و هذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا و ما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة و سيئة و لا يريد و لا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة.
و المقابلة بين قوله: و ما له في الآخرة من خلاق، و قوله: أولئك لهم نصيب مما كسبوا، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا:» الفرقان - 23، و قال تعالى: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها»: الأحقاف - 20، و قال تعالى: «فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا»: الكهف - 105.
قوله تعالى: و الله سريع الحساب، اسم من أسماء الله الحسنى، و إطلاقه يدل على شموله للدنيا و الآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا.
فالمحصل من معنى قوله: فمن الناس من يقول إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها و لا نصيب له في الآخرة، و منهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له و له نصيب من الآخرة و الله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب بذكر الله و لا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آيسين.
قوله تعالى: و اذكروا الله في أيام معدودات، الأيام المعدودات هي أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر من ذي الحجة، و الدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، و الدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: فمن تعجل في يومين «إلخ»، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة، يوم ينفر فيه، و يومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، و قد فسرت في الروايات بذلك أيضا.
قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاج و لم يقيد بشيء أصلا، و لو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أن من أتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، و من هنا يظهر: أن الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر و التعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال.
و أما قوله: لمن اتقى، فليس بيانا للتعجل و التأخر و إلا لكان حق الكلام أن يقال: على من اتقى، بل الظاهر أن قوله: لمن اتقى نظير قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية، و المراد أن هذا الحكم لمن اتقى و أما من لم يتق فليس له، و من اللازم أن يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج و اختصه به فيئول المعنى أن الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الإحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب أن يقيم بمنى و يذكر الله في أيام معدودات، و قد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمة أهل البيت كما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أنكم إليه تحشرون، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام و تذكير بالحشر و البعث فإن التقوى لا تتم و المعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى: «إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب:» ص - 26.
و في اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: أنكم إليه تحشرون، مع ما في نسك الحج من حشر الناس و جمعهم لطف ظاهر، و إشعار بأن الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع و الإفاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحدا.
بحث روائي
في التهذيب، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله، قال: هما مفروضان.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالوا: سألناهما عن قوله: و أتموا الحج و العمرة لله، قالا: فإن تمام الحج أن لا يرفث و لا يفسق و لا يجادل.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: يعني بتمامهما أداءهما، و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما.
أقول: و الروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الإتمام فإن فرضهما و أداءهما هو إتمامهما.
و في الكافي، عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجرة و صلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها و أهل بالحج و ساق مائة بدنة و أحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة و لا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة طاف بالبيت و طاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام و استلم الحجر، ثم قال: أبدأ بما بدأ الله عز و جل به فأتى الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا و المروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا و أمرهم أن يحلوا و يجعلوها عمرة، و هو شيء أمر الله عز و جل به فأحل الناس، و قال رسول الله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، و لم يكن يستطيع من أجل الهدي الذي معه، إن الله عز و جل يقول: و لا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله، قال سراقة بن جعثم الكناني: علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم، أ رأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكل عام؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا بل للأبد، و إن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا و رءوسنا تقطر من نسائنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنك لن تؤمن بها أبدا، قال: (عليه السلام): و أقبل علي (عليه السلام) من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلت و وجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مستفتيا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي بأي شيء أهللت؟ فقال بما أهل به النبي، فقال: لا تحل أنت فأشركه في الهدي و جعل له سبعا و ثلاثين و نحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثا و ستين فنحرها بيده ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم أمر به فطبخ فأكل منه و حصا من المرق و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أكلنا الآن منه جميعا و المتعة خير من القارن السائق و خير من الحاج المفرد، قال: و سألته: ليلا أحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم نهارا؟ فقال نهارا، فقلت: أي ساعة؟ قال: صلاة الظهر.
أقول: و قد روي هذا المعنى في المجمع و غيره.
و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام) قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فليس لأحد إلا أن يتمتع لأن الله أنزل ذلك في كتابه و جرت به السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فما استيسر من الهدي شاة.
و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في المتمتع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية و يوم عرفة، قيل: فإنه قد قدم يوم التروية؟ قال: يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جماله؟ قال: يصوم يوم الحصبة و بعده يومين، قيل: و ما الحصبة؟ قال يوم نفرة، قيل يصوم و هو مسافر؟ قال: نعم أ ليس هو يوم عرفة مسافرا؟ إنا أهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: فصيام ثلاثة أيام في الحج، يقول: في ذي الحجة.
و روى الشيخ عن الصادق (عليه السلام) قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام، و ليس له متعة.
أقول: يعني أن ما دون المواقيت فساكنه يصدق عليه أنه من حاضري المسجد الحرام و ليس له متعة، و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمة أهل البيت.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: الحج أشهر معلومات، قال: الحج أشهر معلومات شوال و ذو القعدة و ذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فمن فرض فيهن «إلخ»، الفرض التلبية و الإشعار و التقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج.
و في الكافي، عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: فلا رفث «إلخ»، الرفث الجماع، و الفسوق الكذب و السباب، و الجدال قول الرجل: لا و الله و بلى و الله.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم الآية يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه و قضى فليشتر و ليبع في الموسم.
أقول: و يقال: إنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآية.
و في المجمع، و قيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام).
أقول: و فيه تمسك بإطلاق الفضل و تطبيقه بأفضل الأفراد.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية، قال: إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام و يقف الناس بعرفة و لا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة، و كان رجل يكنى أبا سيار و كان له حمار فاره، و كان يسبق أهل عرفة، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة و أن يفيضوا منه.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة، قال: رضوان الله و الجنة في الآخرة، و السعة في الرزق و حسن الخلق في الدنيا.
و عنه (عليه السلام) قال: رضوان الله و التوسعة في المعيشة و حسن الصحبة، و في الآخرة الجنة.
و عن علي (عليه السلام): في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء، و عذاب النار امرأة السوء.
أقول: و الروايات من قبيل عد المصداق و الآية مطلقة، و لما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا و ظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الأولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و اذكروا الله في أيام معدودات الآية، قال: و هي أيام التشريق، و كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا و كذا، فقال الله جل شأنه: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا، قال: و التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله و الله أكبر و لله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.
و فيه، عنه (عليه السلام) قال: و التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و في الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات.
و في الفقيه،: في قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه الآية، سئل الصادق (عليه السلام) في هذه الآية فقال: ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفورا له لا ذنب له.
و في تفسير العياشي، عنه (عليه السلام) قال: يرجع مغفورا له لا ذنب له لمن اتقى.
و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: لمن اتقى الآية، قال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى.
و عن الباقر (عليه السلام): لمن اتقى الرفث و الفسوق و الجدال و ما حرم الله في إحرامه.
و عنه أيضا: لمن اتقى الله عز و جل.
و عن الصادق (عليه السلام): لمن اتقى الكبائر.
أقول: قد عرفت ما يدل عليه الآية، و يمكن التمسك بعموم التقوى كما في الروايتين الأخيرتين.
بحث روائي آخر
في الدر المنثور، أخرج البخاري و البيهقي عن ابن عباس: أنه سئل عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون و الأنصار و أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع و أهللنا فلما قدمنا مكة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت و بالصفا و المروة و أتينا النساء و لبسنا الثياب، و قال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت و بالصفا و المروة و قد تم حجنا و علينا الهدي كما قال الله: فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم و الشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج و العمرة فإن الله أنزله في كتابه و سنة نبيه و أباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، و أشهر الحج التي ذكر الله: شوال و ذو القعدة و ذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، و الرفث الجماع، و الفسوق المعاصي، و الجدال المراء.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج البخاري و مسلم عن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج و أهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، و بدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي و منهم من لم يهد، فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه و من لم يكن أهدى فليطف بالبيت، و بالصفا و المروة و ليقصر و ليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج الحاكم و صححه من طريق مجاهد و عطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى إذا لم يكن بيننا و بين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال، قلنا: أ يروح أحدنا إلى عرفة و فرجه يقطر منيا؟ فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال: أ بالله تعلمون أيها الناس؟ فأنا و الله أعلمكم بالله و أتقاكم له و لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا و لحللت كما أحلوا، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله، و من وجد هديا فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله و فعلناها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج و لم ينه عنه حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.
أقول: و قد رويت الرواية بألفاظ أخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور.
و في صحيح مسلم، و مسند أحمد، و سنن النسائي، عن مطرف، قال: بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم علي و إن مت فحدث بها عني إني قد سلم علي و أعلم أن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جمع بين حج و عمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله و لم ينه عنه نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء.
و في صحيح الترمذي، أيضا و زاد المعاد، لابن القيم: سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج، قال: هي حلال فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها فقال: أ رأيت إن كان أبي نهى و صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أ أمر أبي تتبع أم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الرجل: بل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لقد صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في صحيح الترمذي، و سنن النسائي، و سنن البيهقي، و موطأ مالك، و كتاب الأم للشافعي، عن محمد بن عبد الله: أنه سمع سعد بن أبي وقاص و الضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان و هما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك قال سعد: قد صنعها رسول الله و صنعناها معه.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى، قال: قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو بالبطحاء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت و بالصفا و المروة ثم حل فطفت بالبيت، و بالصفا و المروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي و غسلت رأسي فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر و إمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فأتموا فلما قدم قلت: ما ذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: و أتموا الحج و العمرة لله، و أن نأخذ بسنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحل حتى نحر الهدي.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة و كان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسول الله ما شاء مما شاء و إن القرآن نزل منازله فأتموا الحج و العمرة كما أمركم الله و افصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم و أتم لعمرتكم.
و في مسند أحمد، عن أبي موسى أن عمر قال: هي سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني المتعة و لكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا.
و في جمع الجوامع للسيوطي، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج و قال: فعلتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أنهى عنها و ذلك أن أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج و إنما شعثه و نصبه و تلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت و يحل و يلبس و يتطيب و يقع على أهله إن كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج و خرج إلى منى يلبي بحجه لا شعث فيها و لا نصب و لا تلبية إلا يوما و الحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم و بين هذا لعانقوهن تحت الأراك مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع و لا زرع و إنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم.
و في سنن البيهقي، عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة و ابن عباس يأمر به، قال على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مع أبي بكر فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الرسول و القرآن هذا القرآن و أنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما إحداهما متعة النساء و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة و الأخرى متعة الحج.
و في سنن النسائي، عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: و الله إني لأنهاكم عن المتعة و إنها لفي كتاب الله و لقد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعني العمرة في الحج.
و في الدر المنثور، أخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة و كان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي (عليه السلام): لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: و لكنا كنا خائفين.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي ذر: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج مسلم عن أبي ذر قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء و متعة الحج.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة جدا لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا و هو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهي ربما يبحث فيه من جهة كون ناهيه محقا أو معذورا فيه و عدم كونه كذلك، و هو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.
و ربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب و السنة، و هو سنخ بحثنا في هذا الكتاب.
فنقول: أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى و أتموا الحج و العمرة لله الآية و أن التمتع مما كان مختصا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء و أن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج و العمرة كما أمركم الله، فقد عرفت: أن قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج و العمرة بعد فرضهما.
و الدليل عليه قوله تعالى: فإن أحصرتم «إلخ»، و أما كون الآية دالة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحج، و أن عدم الفصل كان أمرا خاصا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، أو به و بمن معه في تلك الحجة حجة الوداع فدون إثباته خرط القتاد.
و فيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله و الله إني لأنهاكم عن المتعة إلى قوله: و لقد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما الاستدلال عليه بأن في النهي أخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية أبي موسى من قوله: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: و أتموا الحج و العمرة لله و إن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدي انتهى، فقد عرفت أن الكتاب يدل على خلافه، و أما إن ترك التمتع سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكونه لم يحل حتى نحر الهدي ففيه: أولا: أنه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الأخر التي مر بعضها آنفا.
و ثانيا: أن الروايات ناصة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صنعها، و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بالعمرة و أهل ثانيا بالحج، و أنه خطب و قال: أ بالله تعلمون أيها الناس، و من عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية أن حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حج قران و أن المتعة كانت تطلق على حج القران!.
و ثالثا: أن مجرد عدم حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ليس إحراما للحج و لا يثبت به ذلك، و الآية أيضا تدل على أن سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة.
و رابعا: هب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بغير التمتع لكنه أمر جميع أصحابه و من معه بالتمتع، و كيف يمكن أن يعد ما شأنه هذا سنته؟ و هل يمكن أن يتحقق أمر خص به رسول الله نفسه و يأمر أمته بغيره و ينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس؟!.
و أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج و يورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء و استعمال الطيب و لبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحمد عن أبي موسى: من قوله: و لكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا انتهى، و كما في بعض الروايات: قد علمت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعله و أصحابه و لكني كرهت أن يعرسوا بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم انتهى، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص و قد نص الله و رسوله على الحكم، و الله و رسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه و يكرهه! و من أعجب الأمر أن الآية التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه و يكرهه فقد قال تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع و الالتذاذ بطيبات النكاح و اللباس و غيرهما؟ و هو الذي كان يخشاه و يكرهه!.
و أعجب منه: أن الأصحاب قد اعترضوا على الله و رسوله حين نزول الآية! و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور، عن الحاكم عن جابر قلنا: أ يروح أحدنا إلى عرفة و فرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام خطيبا و رد عليهم قولهم و أمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا.
و أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي، عن سعيد بن المسيب: من قوله: مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع و لا زرع و إنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم انتهى.
ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على أن الله سبحانه يرد عليه في نظير المسألة بقوله: «يا أيها الذين آمنوا إن المشركين نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم:» التوبة - 28.
و أما الاستدلال عليه بأن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور، عن مسلم عن عبد الله بن شقيق: من قول عثمان لعلي (عليه السلام) و لكنا كنا خائفين انتهى، و قد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها الناس و الله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتى يذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج و يهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج الحديث.
ففيه: أن الآية مطلقة تشمل الخائف و غيره فقد عرفت أن الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية.
على أن جميع الروايات ناصة في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بحجه تمتعا، و أنه أهل بإهلالين للعمرة و الحج.
و أما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في روايتي الدر المنثور، عن أبي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان و ابن الزبير فقد عرفت جوابه، و إن كان المراد أنه كان حكما خاصا لأصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه أنه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية.
على أن إنكار بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك الحكم و تركهم له كعمر و عثمان و ابن الزبير و أبي موسى و معاوية و روي أن منهم أبا بكر ينافي ذلك!.
و أما الاستدلال عليه بالولاية و أنه إنما نهى عنه بحق ولايته الأمر و قد فرض الله طاعة أولي الأمر إذ قال «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» الآية: النساء - 54، ففيه أن الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.
بيان ذلك: أن الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى: «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم:» الأعراف - 3، و ما بينه رسول الله مما شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله»: التوبة - 29، و قوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا:» الحشر - 7، فالمراد بالإيتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: و ما نهيكم عنه، فيجب إطاعة الله و رسوله بامتثال الأوامر و انتهاء النواهي، و كذلك الحكم و القضاء كما قال تعالى: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون:» المائدة - 45، و في موضع آخر «فأولئك هم الفاسقون:» المائدة - 47، و في موضع آخر «فأولئك هم الكافرون:» المائدة - 44، و قال تعالى: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا:» الأحزاب - 36، و قال: «و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة:» القصص - 68، فإن المراد بالاختيار هو القضاء و التشريع أو ما يعم ذلك، و قد نص القرآن على أنه كتاب غير منسوخ و أن الأحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد:» فصلت - 42، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله و رسوله أو قضى به الله و رسوله يجب اتباعه على الأمة، أولي الأمر فمن دونهم.
و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم إنما يجعل لأولي الأمر حق الطاعة في غير الأحكام فهم و من دونهم من الأمة سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله و رسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة أولي الأمر إنما هو ما يأمرون به و ينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.
فكما أن الواحد من الناس له أن يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الأكل له من مال نفسه و له أن يبيع و يشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا، و له أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، و له أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، و ليس له أن يشرب الخمر، و لا له أن يأخذ الربا، و لا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه و إن رأى صلاح نفسه في ذلك لأن ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الأمر له أن يتصرف في الأمور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الأحكام الإلهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حينا، و يمسك عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الإنفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.
و بالجملة كل ما للواحد من المسلمين أن يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الأمر من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.
و لو جاز لولي الأمر أن يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، و لم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إن حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك و العبادة من الناسك فيلزم تركه، و بين أن يقول القائل: إن إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم إهمالها، أو إن إجراء الحدود مما لا تهضمه الإنسانية الراقية اليوم، و القوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟! و قد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور،: أخرج إسحاق بن راعويه في مسنده، و أحمد عن الحسن: أن عمر بن الخطاب هم أن ينهى عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله و اعتمرنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل عمر.
|