بيان
قوله تعالى: كتب عليكم القتال و هو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، و في القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: «ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج:» النور - 61، و غير ذلك من الآيات و الأدلة.
و لم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: «و هو كره لكم» و هو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، و حفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.
و الكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الإنسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، و الكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كان يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه قال تعالى: «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها:» النساء - 19، و قال تعالى: «فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها:» فصلت - 11، و كون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لأن القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس و تعب الأبدان و المضار المالية و ارتفاع الأمن و الرخص و الرفاهية، و غير ذلك مما يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها و شاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه و إن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، و ذكر أن فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ و الزلل، و هو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر و أحد و الخندق و غيرها، و معلوم أن من الجائز أن ينسب الكراهة و التثاقل إلى قوم فيهم كاره و غير كاره و أكثرهم كارهون، فهذا وجه.
و إما لأن المؤمنين كانوا يرون أن القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة و القوة لا يتم على صلاح الإسلام و المسلمين، و أن الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس و كثرة الأموال و رسوخ الاستطاعة، و لذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال و الاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي و النظر، فإن لله أمرا في هذا الأمر هو بالغه، و هو العالم بحقيقة الأمر و هم لا يعلمون إلا ظاهره و هذا وجه آخر.
و إما لأن المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، و ملكة الرحمة و الرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، و لم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم و يخالطوهم بالعشرة الجميلة، و الدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، و يدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، و نفوس الكفار من الهلاك الأبدي و البوار الدائم، فبين ذلك أنهم مخطئون في ذلك، فإن الله - و هو المشرع لحكم القتال - يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، و أنه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع و يرمى به، و هذا أيضا وجه.
فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: و هو كره لكم إلا أن الأول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على أن التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.
قوله تعالى: و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، قد مر فيما مر أن أمثال عسى و لعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، و ليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.
و تكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطئهم في الأمرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم أو تحبوا شيئا و هو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم و حبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، و مثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، و أما من أخطأ خطاءين كان يكره المعاشرة و المخالطة و يحب الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطئه في الأمرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، و لا في حبك اهتديت، عسى أن تكره شيئا و هو خير لك و عسى أن تحب شيئا و هو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، و لما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، نبههم الله بالخطاءين بالجملتين المستقلتين و هما: عسى أن تكرهوا، و عسى أن تحبوا.
قوله تعالى: و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، تتميم لبيان خطئهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطئهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، و زوال صفة الجهل المركب كر عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الأمور، و الذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه و كشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلموا إليه سبحانه الأمر.
و الآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق و نفي العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: «إن الله لا يخفى عليه شيء»: آل عمران - 5، و قوله تعالى: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء:» البقرة - 255، و قد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: «و قاتلوا في سبيل الله:» البقرة - 190.
قوله تعالى: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام و ذمه بأنه صد عن سبيل الله و كفر، و اشتمالها مع ذلك على أن إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، و أن الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال و أن هناك قتلا، و أنه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات: «إن الذين آمنوا و الذين هاجروا و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله و الله غفور رحيم» الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، و طعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش و أصحابه.
قوله تعالى: قل قتال فيه كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام، الصد هو المنع و الصرف، و المراد بسبيل الله العبادة و النسك و خاصة الحج، و الظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، و المسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله و عن المسجد الحرام.
و الآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، و قد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 6، و ليس بصواب، و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.
قوله تعالى: و إخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل، أي و الذي فعله المشركون من إخراج رسول الله و المؤمنين من المهاجرين، و هم أهل المسجد الحرام، منه أكبر من القتال، و ما فتنوا به المؤمنين من الزجر و الدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين أن يطعنوا المؤمنين و قد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، و لم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلا راجين رحمة الله و الله غفور رحيم.
قوله تعالى: و لا يزالون يقاتلونكم إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم.
قوله تعالى: و من يرتدد منكم عن دينه «إلخ»، تهديد للمرتد بحبط العمل و خلود النار.
كلام في الحبط
و الحبط هو بطلان العمل و سقوط تأثيره، و لم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى: «لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين:» الزمر - 65، و قوله تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم:» محمد - 33، و ذيل الآية يدل بالمقابلة على أن الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: «و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون:» هود - 16، و يقرب منه قوله تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا:» الفرقان - 23.
و بالجملة الحبط هو بطلان العمل و سقوطه عن التأثير، و قد قيل: إن أصله من الحبط بالتحريك و هو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه و ربما أدى إلى هلاكه.
و الذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا و الآخرة معا، فللحبط تعلق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإن الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون:» النحل - 97، و خسران سعي الكافر، و خاصة من ارتد إلى الكفر بعد الإيمان، و حبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، و هو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، و يتسلى به عند المصيبة، و يرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122، تبين الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة و نورا في أفعاله، و ليس للكافر، و مثله قوله تعالى، «فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيمة أعمى:» طه - 124، حيث يبين أن معيشة الكافر و حياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، و بالمقابلة معيشة المؤمن و حياته سعيدة رحبة وسيعة.
و قد جمع الجميع و دل على سبب هذه السعادة و الشقاوة قوله تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» محمد - 11.
فظهر مما قربناه أن المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية، و الأفعال القربية التي كان المرتد عملها و أتى بها حال الإيمان، مضافا إلى أن الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، و لا فعل قربي لهم كالكفار و المنافقين كقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم:» محمد - 9، و قوله تعالى: «إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين:» آل عمران - 22، إلى غير ذلك من الآيات.
فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو أن الكفر و الارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثر في سعادة الحياة، كما أن الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، و إن ارتد بعد الإيمان ماتت أعماله جميعا و حبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية و لا أخروية، لكن يرجى له ذلك أن هو لم يمت على الردة و إن مات على الردة حتم له الحبط و كتب عليه الشقاء.
و من هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتد إلى حين الموت و الحبط عنده أو عدمه.
توضيح ذلك: أنه ذهب بعضهم إلى أن أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، و استدل عليه بقوله تعالى «و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة» الآية و ربما أيده قوله تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا:» الفرقان - 23، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت، و يتفرع عليه أنه لو رجع إلى الإيمان تملك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.
و ذهب آخرون إلى أن الردة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه و إن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانيا إلى حين الموت، و أما الآية فإنما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله و أفعاله التي عملها في الدنيا! و أنت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف، أن لا وجه لهذا النزاع أصلا، و أن الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله و أفعاله من حيث التأثير في سعادته!.
و هنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة و هي مسألة الإحباط و التكفير، و هي أن الأعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها و للسيئة حكمها، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن.
ذهب بعضهم إلى التباطل و التحابط بين الأعمال و قد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، و لازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلا حسنة فقط، أو سيئة فقط و من قائل بالموازنة و هو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقل و يبقى الباقي سليما عن المنافي، و لازم القولين جميعا أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما.
و يردهما أولا قوله تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم و الله غفور رحيم:» التوبة - 102، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال و بقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، و هو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه.
و ثانيا: أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنساني من طريق المجازاة، و هو الجزاء على الحسنة على حدة و على السيئة على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية و العبودية من أصلها فهو مورد الإحباط، و الآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الإيراد.
و ذهب آخرون إلى أن نوع الأعمال محفوظة، و لكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة و السيئة.
نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى: «يا أيها آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا و يكفر عنكم سيئاتكم:» الأنفال - 29، و قال تعالى: «فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية:» البقرة - 203، و قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:» النساء - 31، بل بعض الأعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى: «إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات:» الفرقان - 70.
و هنا مسألة أخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، و هي البحث عن وقت استحقاق الجزاء و موطنه، فقيل: إنه وقت العمل، و قيل: حين الموت، و قيل: الآخرة، و قيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت و موافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يئول إليه حاله و يستقر عليه، فيكتب ما يستحقه حال العمل. و قد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الأوقات بحسب الانطباق، و ربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة.
و الذي ينبغي أن يقال: إنا لو سلكنا في باب الثواب و العقاب و الحبط و التكفير و ما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها:» الآية - 26، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته و في آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها و تقوم بها نتائج و آثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، و إذا صدر منه معصية فصوره معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول و التغير بحسب ما يطرؤها من الحسنات و السيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، و هذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن و تقف الحركة و يبطل التحول و استعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور و آثارها ثبوتا لا يقبل التحول و التغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا.
و كذا لو سلكنا في الثواب و العقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة و المعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهية و ترتب الثواب و العقاب عليها حاله من حيث الإطاعة و المعصية في التكاليف الاجتماعية و ترتب المدح و الذم عليها، و العقلاء يأخذون في مدح المطيع و المحسن و ذم العاصي و المسيء بمجرد صدور الفعل عن فاعله، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح و الذم قابلا للتغير و التحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير و الزوال عما هو عليه من الانقياد و التمرد، فلحوق المدح و الذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه، و أما ثبوت المدح و الذم و لزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.
و من هنا يعلم: أن في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.
و أن الحق أولا: أن الإنسان يلحقه الثواب و العقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول و التغير بعد، و إنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.
و ثانيا: أن حبط الأعمال بكفر و نحوه نظير استحقاق الأجر يتحقق عند صدور المعصية و يتحتم عند الموت.
و ثالثا: أن الحبط كما يتعلق بالأعمال الأخروية كذلك يتعلق بالأعمال الدنيوية.
و رابعا: أن التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير و نحوه.
كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء
من أحكام الأعمال:
أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا و الآخرة كالارتداد.
قال تعالى: «و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة» الآية، و كالكفر بآيات الله و العناد فيه.
قال تعالى: «إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة:» آل عمران - 22، و كذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا و الآخرة كالإسلام و التوبة، قال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم:» الزمر - 55، و قال تعالى: «فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى:» طه - 124.
و أيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم:» سورة محمد - 33، فإن المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة، و إبطال العمل هو الإحباط، و كرفع الصوت فوق صوت النبي، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون:» الحجرات - 2.
و كذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى: «و أقم الصلوة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات:» هود - 114، و كالحج، قال تعالى: «فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه:» البقرة - 203، و كاجتناب الكبائر، قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:» النساء - 31، و قال تعالى: «الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة:» النجم - 32.
و أيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: «إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك:» المائدة - 29، و قد ورد هذا المعنى في الغيبة و البهتان و غيرهما في الروايات المأثورة عن النبي و أئمة أهل البيت، و كذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجيء.
و أيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم:» النحل - 25، و قال: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم: العنكبوت - 13، و كذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس - 12.
و أيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: «إذا لأذقناك ضعف الحيوة و ضعف الممات:» الإسراء - 75، و قال تعالى: «يضاعف لها العذاب ضعفين:» الأحزاب - 30، و كذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة:» البقرة - 261، و مثله ما في قوله تعالى: «أولئك يؤتون أجرهم مرتين:» القصص - 54، و ما في قوله تعالى: «يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم:» الحديد - 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها:» الأنعام - 160.
و أيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: «إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات:» الفرقان - 70.
و أيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: «الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين:» الطور - 21، و يمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم قال تعالى: «و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:» النساء - 9.
و أيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، و يجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، و يجذب سيئاته إليه، و هذا من عجيب الأمر في باب الجزاء و الاستحقاق، سيجيء البحث عنه في قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم:» الأنفال - 37.
و في موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إن شاء الله العزيز.
و بالتأمل في الآيات السابقة و التدبر فيها يظهر: أن في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة و الشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، و ذلك أن فعل الأكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية فعلية و انفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا و لا يتخطاه إلى غيره، و لا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، و كذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، و لا يتعداه إلى غيره، و لا يتبدل بغيره، و لا ينقلب عن هويته و ذاته، و كذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لا غير و كان زيد ضاربا لا غير، و كان عمرو مضروبا لا غير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة و الشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى: «و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون:» البقرة - 57، و قال تعالى: «و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله:» الفاطر - 43، و قال تعالى: «انظر كيف كذبوا على أنفسهم:» الأنعام - 24، و قال تعالى: «ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين:» المؤمن - 74.
و بالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، و ربما نقل الفعل و أسنده إلى غير فاعله، و ربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
و لا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال و آثارها و يفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء، و ذلك أنا نرى أن الله سبحانه و تعالى فيما حكاه في كتابه يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين في حال الموت و البرزخ، و كذا في القيامة و النار و الجنة بحجج عقلية تعرفها العقول قال تعالى: «و نفخ في الصور فصعق من في السموات و الأرض إلا ما شاء الله و نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون و أشرقت الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون:» الزمر - 70، و قد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، و كفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: «و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم الآية:» إبراهيم - 22.
و من هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال و دار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة و نشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
و الذي يحل به هذه العقدة: أن الله تكلم مع الناس في دعوتهم و إرشادهم بلسان أنفسهم و جرى في مخاطباته إياهم و بياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، و تمسك بالأصول و القوانين الدائرة في عالم العبودية، و المولوية فعد نفسه مولى و الناس عبيدا و الأنبياء رسلا إليهم، و واصلهم بالأمر و النهي و البعث و الزجر، و التبشير و الإنذار، و الوعد و الوعيد، و سائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب و مغفرة و غير ذلك.
و هذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الأمر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير أنه شيء لا تسعه حواصلهم و حقائق لا تحيط بها أفهامهم و لذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم:» الزخرف - 4.
فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء و ما يرتبط بها على الأحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح و المفاسد، و من لطيف الأمر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العادية قابلة التطبيق على الأحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا: التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار و المفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، و في المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها أفعال للتابعين فيها، فهي أفعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
و كذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيرا أو شرا، و إسناد الفعل إلى غير فاعله، و جعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، و يوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع و في سطح الأفهام العامة، و إن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، و كانت الأحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، و سينكشف على الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق:» الأعراف - 53، و قال تعالى: «و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين إلى أن قال بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله:» يونس - 39.
و بهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائي بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة و بين أمثال قوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره:» الزلزال - 8، و قوله تعالى: «لا تزر وازرة وزر أخرى:» الأنعام - 164، و قوله تعالى: «كل امرىء بما كسب رهين:» الطور - 21، و قوله تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى:» النجم - 39، و قوله تعالى: «إن الله لا يظلم الناس شيئا:» يونس - 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و ذلك أن الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، و كذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو و فعله المتبوع، فالمعصية معصيتان، و كذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، و فاعل كمثله، فهؤلاء و أمثالهم من مصاديق قوله تعالى: «لا تزر وازرة وزر أخرى» الآية و نظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.
و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون:» الزمر - 70، فقوله: و هو أعلم بما يفعلون، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه و يحاسبه من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم و لا عقل، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير «لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير:» الملك - 10، و في الآخرة أيضا حيث قال «و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا:» الإسراء - 72، و قال تعالى: «نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة:» الهمزة - 7، و قال تعالى في تصديق هذا السلب: «قالت أخريهم لأوليهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون:» الأعراف - 38، فأثبت لكل من المتبوعين و تابعيهم الضعف من العذاب، أما المتبوعين فلضلالهم و إضلالهم، و أما التابعين فلضلالهم و إقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر أنهم جميعا لا يعلمون.
فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا و الآخرة ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: «كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون:» فصلت - 3، و كالآيات التي تحتج عليهم و لا معنى للاحتجاج على من لا علم له و لا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة و لا مناص من إثبات العقل و الإدراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم و اليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق - 22، و قوله تعالى: «و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون:» السجدة - 12.
قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، و معنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث و عدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا:» الإسراء - 13، و قوله تعالى: «قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين:» الزخرف - 38، إلى غير ذلك من الآيات، و سيجيء استيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: «يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون:» البقرة - 242.
و قد أجاب الإمام الغزالي عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: أن نقل الحسنات و السيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره، و لم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة و هو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، و ما لا يعلمه الإنسان فليس بموجود له و إن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الآن في حقه.
فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل و العرض كيف ينقل؟.
فنقول: المنقول ثواب الطاعة، لا نفس الطاعة و لكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها، و أثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الإنسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، و نقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، و إن كان جوهرا فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير و للمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة و الظلمة، و بأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور و المعرفة و المشاهدة، و بالظلم و القسوة يستعد القلب للحجاب و البعد، و بين آثار الطاعات و المعاصي تعاقب و تضاد كما قال تعالى: «إن الحسنات يذهبن السيئات» و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتبع السيئة الحسنة تمحقها» و الآثام تمحيصات للذنوب، و لذلك قال (عليه السلام): إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، و قال (عليه السلام): الحدود كفارات.
فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه و قسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها و المظلوم يتألم فينكسر شهوته و يمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، و ما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم و هذا معنى نقل الحسنات و السيئات.
فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم و حدوث نور آخر في قلب المظلوم، و بطلان الظلمة من قلب المظلوم و حدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم و ليس هذا نقلا حقيقة.
قلنا اسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظل من موضع إلى موضع آخر، و انتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كني بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب، و سمي إثبات الوصف في محل و إبطال مثله في محل آخر بالنقل، و كل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخصا.
أقول: محصل ما أفاده أن إطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق أي القاتل و المقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب و استعارة اسم النقل لإمحاء شيء و إثبات شيء آخر في محل آخر، و إذا اطرد هذا الوجه في سائر أحكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، و قد عرفت أنه سبحانه قرر هذه الأحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، و يبني عليه أحكامه من المصالح و المفاسد، و لا ريب أن هذه الأحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل و ما يشبه ذلك باعتقاد أن الجرم عين الجرم و الحسنة عين الحسنة و هكذا.
هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن أحكام العقل العملي، و أما بالنسبة إلى غير هذا الظرف و هو ظرف الحقائق فالجميع مجازات إلا بحسب التحليل بمعنى أن نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى و التشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.
و من أحكام الأعمال: أنها محفوظة مكتوبة متجسمة
كما قال تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا:» آل عمران - 30، و قال تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا:» الإسراء - 13، و قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في إمام مبين:» يس - 12، و قال تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق - 22، و قد مر البحث عن تجسم الأعمال.
و من أحكام الأعمال: أن بينها و بين الحوادث الخارجية ارتباطا،
و نعني بالأعمال الحسنات و السيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية، دون الحركات و السكنات التي هي آثار الأجسام الطبيعية فقد قال تعالى: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير:» الشورى - 30، و قال تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له:» الرعد - 11، و قال تعالى: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:» الأنفال - 53، و الآيات ظاهرة في أن بين الأعمال و الحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا.
و يجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى و هما قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون:» الأعراف - 96، و قوله تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون:» الروم - 41.
فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الإنساني على طاعة الله سبحانه و سلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، و انفتاح أبواب البركات، و انحراف هذا النوع عن صراط العبودية، و تماديه في الغي و الضلالة، و فساد النيات، و شناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر و البحر و هلاك الأمم بفشو الظلم و ارتفاع الأمن و بروز الحروب و سائر الشرور الراجعة إلى الإنسان و أعماله، و كذا ظهور المصائب و الحوادث المبيدة الكونية كالسيل و الزلزلة و الصاعقة و الطوفان و غير ذلك، و قد عد الله سبحانه سيل العرم و طوفان نوح و صاعقة ثمود و صرصر عاد من هذا القبيل.
فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل و السيئات أذاقها الله وبال أمرها و آل ذلك إلى إهلاكها و إبادتها، قال تعالى: «أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة و آثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم و ما كان لهم من الله من واق:» المؤمن - 21، و قال تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:» الإسراء - 16، و قال تعالى: «ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون:» المؤمنون - 44، هذا كله في الأمة الطالحة، و الأمة الصالحة على خلاف ذلك.
و الفرد كالأمة يؤخذ بالحسنة و السيئة و النقم و المثلات غير أن الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما أنه يؤخذ بمظالم غيره كآبائه و أجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): قال أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين:» يوسف - 90، و المراد به ما أنعم الله عليه من الملك و العزة و غيرهما، و قال تعالى: «فخسفنا به و بداره الأرض:» القصص - 81، و قال تعالى: «و جعلنا له لسان صدق عليا:» مريم - 50، و كأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: «جعلنا كلمة باقية في عقبه:» الزخرف - 28، و قال تعالى: «و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما:» الكهف - 82، و قال تعالى: «فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:» النساء - 9، و المراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه.
و بالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من أفراد الإنسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة أنعمها عليه و امتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول: «قال هذا من فضل ربي ليبلوني ء أشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم:» النمل - 40، و قال تعالى: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد:» إبراهيم - 7، و الآية كسابقتها تدل على أن نفس الشكر من الأعمال الصالحة التي تستتبع النعم.
و إن كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه و استدراجا و إملاء يملى عليه كما قال تعالى: «و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين:» الأنفال - 30، و قال تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين:» القلم - 45، و قال تعالى: «و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون:» الدخان - 17.
و إذا أنزلت النوازل و كرت المصائب و البلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة و محنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، و كان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة و المحك، قال تعالى: «أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون:» العنكبوت - 4 و قال تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء:» آل عمران - 140.
و إن كان المصاب طالحا كان ذلك أخذا بالنقمة و عقابا بالأعمال، و الآيات السابقة دالة على ذلك.
فهذا حكم العمل يظهر في الكون و يعود إلى عامله، و أما قوله تعالى: «و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتكئون و زخرفا و إن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين:» الزخرف - 35، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به و الله أعلم ذم الدنيا و متاعها و أنها لا قدر لها و لمتاعها عند الله سبحانه، و لذلك يؤثر للكافر، و أن القدر للآخرة و لو لا أن أفراد الإنسان أمثال و المساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر.
فإن قيل: الحوادث العامة و الخاصة كالسيول و الزلازل و الأمراض المسرية و الحروب و الأجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، و عليه فلا محل للتعليل بالأعمال الحسنة و السيئة بل هو فرضية دينية، و تقدير لا يطابق الواقع.
قلت: هذا إشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى و سنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء:» الأعراف - 64.
و جملة القول فيه: أن الشبهة ناشئة عن سوء الفهم و عدم التنبه لمقاصد القرآن و أهله، فهم لا يريدون بقولهم: «إن الأعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا» إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها، و لا تشريك الأعمال مع العوامل المادية، كما أن الإلهيين لا يريدون بإثبات الصانع إبطال قانون العلية و المعلولية العام و إثبات الاتفاق و المجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية و استناد بعض الأمور إليه و البعض الآخر إليها، بل مرادهم إثبات علة في طول علة، و عامل معنوي فوق العوامل المادية، و إسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب: أولا و ثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الإنسان و إلى يده.
و مغزى الكلام: هو أن سائق التكوين يسوق الإنسان إلى سعادته الوجودية و كماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، و من المعلوم أن من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو إشراف سائره إلى الهلاك و البوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفق له أصلح المحل و إن عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به.
و قد دلت المشاهدة و التجربة على أن الصنع و التكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات و الفسادات المتوجه إليه، و لا معنى لاستثناء الإنسان في نوعه و فرده عن هذه الكلية! و دلتا أيضا على أن التكوين يعارض كل موجود نوعي بأمور غير ملائمة تدعوه إلى إعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده و يوصله غايته و سعادته التي هيأها له فما بال الإنسان لا يعتني في شأنه بذلك؟.
و هذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى «و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون:» الدخان - 39، و قوله تعالى: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا:» ص - 27، فكما أن صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا و من غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه و بين مصنوعه بمجرد إيجاده، و لم يبال: إلى ما يئول أمره؟ و ما ذا يصادفه من الفساد و الآفة؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لأمره شاهدا على رأسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لأجلها و ركب أجزاءه للوصول إليها أصلح حاله و تعرض لشأنه بزيادة و نقيصة أو بإبطاله من رأس و تحليل تركيبه و العود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السموات و الأرض و ما بينهما و من جملتها الإنسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا، و لم يوجده هباء، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: «أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون:» المؤمنون - 115، و قال تعالى: «و أن إلى ربك المنتهى:» النجم - 42، و من الضروري حينئذ أن تتعلق العناية الربانية إلى إيصال الإنسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة و الإرشاد، ثم بالامتحان و الابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة و سقطت عنه الهداية، فإن في ذلك إتقانا للصنع في الفرد و النوع و ختما للأمر في أمة و إراحة الآخرين، قال تعالى: «و ربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين:» الأنعام - 133، انظر إلى موضع قوله تعالى: و ربك الغني ذو الرحمة.
و هذه السنة الربانية أعني سنة الابتلاء و الانتقام هي التي أخبر الله عنها أنها سنة غير مغلوبة و لا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير:» الشورى - 31، و قال تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:» الصافات - 173.
و من أحكام الأعمال من حيث السعادة و الشقاء: أن قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، و من خواص قبيل السعادة كل صفة و خاصة جميلة كالفتح و الظفر و الثبات و الاستقرار و الأمن و التأصل و البقاء، كما أن مقابلاتها من الزهاق و البطلان و التزلزل و الخوف و الزوال و المغلوبية و ما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء.
و الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، و يكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا: «كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء:» إبراهيم - 27، و قوله تعالى: «ليحق الحق و يبطل الباطل:» الأنفال - 8، و قوله تعالى: «و العاقبة للتقوى:» طه - 132، و قوله تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:» الصافات - 173، و قوله تعالى: «و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون:» يوسف - 21، إلى غير ذلك من الآيات.
و تذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: و لكن أكثر الناس لا يعلمون، مشعر بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، و لو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل أحد لم يجهلها الأكثرون، و إنما جهلها من جهلها، و أنكرها من أنكرها من جهتين:.
الأولى: أن الإنسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده و لا يغيب عنه، يتكلم عن الحال و يغفل عن المستقبل، و يحسب دولة يوم دولة، و يعد غلبة ساعة غلبة، و يأخذ عمره القصير و متاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه و هو المحيط بالزمان و المكان، و الحاكم على الدنيا و الآخرة و القيوم على كل شيء إذا حكم حكم فصلا، و إذا قضى قضى حقا، و الأولى، و العقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، و لا يعجل في أمر، فمن الممكن بل الواقع ذلك أن يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمة، فيظن الجاهل أن الأمر أعجزه تعالى و أن الله سبحانه مسبوق مغلوب ساء ما يحكمون لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، و يحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن و لا يئوده حفظهما و هو العلي العظيم، قال تعالى: «لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم و بئس المهاد:» آل عمران - 196.
و الثانية: أن غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات و قهرها أن تتسلط على الأفعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، و بسط الكره و الإجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقا، و يأسرون آخرين، و يفعلون ما يشاءون بالتحكم و التهكم، و قد دل التجارب و حكم البرهان على أن الكره و القسر لا يدوم، و أن سلطة الأجانب لا يستقر على الأمم الحية استقرارا مؤبدا، و إنما هي رهينة أيام قلائل.
و أما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، و بأن تربي أفرادا تعتقدها و تؤمن بها، فليس فوق الإيمان التام درجة و لا كإحكامه حصن، فإذا استقر الإيمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا و إن استخفى يوما أو برهة، و لذلك نجد أن الدول المعظمة و المجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر مما تعتني بشأن العدة و القوة فسلاح المعنى أشد بأسا.
هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شئونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال و الوهم، و أما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره أوضح و أبين.
فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال و الباطل، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال، و من المعلوم أن الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل.
و الحق من حيث تأثيره و إيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف و لا متخلف، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، و إن غلب عليه عدو الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره و الاضطرار، و وافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: «إلا أن تتقوا منهم تقية:» آل عمران - 28، و إن قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: «و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون:» البقرة - 154.
فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، إما ظاهرا و باطنا، و إما باطنا فقط، قال تعالى: «قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين:» التوبة - 52.
و من هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا و باطنا معا، أما ظاهرا: فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الإنساني هداية تكوينية إلى الحق و السعادة، و سوف يبلغ غايته، فإن الظهور المتراءى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، و إنما هو مقدمة لظهور الحق و لما ينقض سلسلة الزمان و لما يفن الدهر، و النظام الكوني غير مغلوب البتة، و أما باطنا: فلما عرفت أن الغلبة لحجة الحق.
و أما إن لحق القول و الفعل كل صفة جميلة كالثبات و البقاء و الحسن، و لباطل القول و الفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل و الزوال و القبح و السوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الأبحاث: أن المستفاد من قوله تعالى: «ذلكم الله ربكم خالق كلشيء:» المؤمن - 62، و قوله تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه:» الم السجدة - 7، و قوله تعالى: «ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك:» النساء - 79، أن السيئات أعدام و بطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض للوجود بخلاف الحسنات، و لذلك كان القول الحسن و الفعل الحسن منشأ كل جمال و حسن، و منبع كل خير و سعادة كالثبات و البقاء، و البركة و النفع دون السيىء من القول و الفعل، قال تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض:» الرعد - 17.
و من أحكام الأعمال:
أن الحسنات من الأقوال و الأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الأفعال و الأقوال، و قد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل و نعني بالعقل ما يدرك به الإنسان الحق و الباطل، و يميز به الحسن من السيىء.
و لذلك أوصى باتباعه و نهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر و القمار و اللهو و الغش و الغرر في المعاملات، و كذا نهى عن الكذب و الافتراء و البهتان و الخيانة و الفتك و جميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الأفعال و الأعمال توجب خبط العقل الإنساني في عمله و قد ابتنيت الحياة الإنسانية على سلامة الإدراك و الفكر في جميع شئون الحياة الفردية و الاجتماعية.
و أنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية و الفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت أن الأساس فيها هي الأعمال التي يبطل بها حكومة العقل، و أن بقية المفاسد و إن كثرت و عظمت مبنية عليها، و لتوضيح الأمر في هذا المقام محل آخر سيأتي إن شاء الله تعالى. بحث روائي
في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر و إن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين و قد قرأت القرآن؟ قال و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم - و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم - و الله يعلم و أنتم لا تعلمون أقول: و في الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع و التكوين و إنما يختلف باختلاف الاعتبار، و أما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، و قد مر أن عسى في القرآن بمعناه اللغوي و هو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل شيء في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب! و أعجب منه ما نقل عن بعض آخر: أن كل شيء من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربه إن طلقكن، و في بني إسرائيل عسى ربكم أن يرحمكم.
و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن جرير من طريق السدي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية و فيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، و فيهم عمار بن ياسر، و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، و سعد بن أبي وقاص، و عتبة بن صفوان السلمي حليف لبني نوفل، و سهل بن بيضاء، و عامر بن فهيرة، و واقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، و كتب مع ابن جحش كتابا و أمره أن لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه أن سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض و ليوص فإني موص و ماض لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسار و تخلف عنه سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، و سار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، و عبد الله بن المغيرة بن عثمان، و عمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، و عبد الله بن المغيرة و انفلت المغيرة، و قتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين و ما غنموا من الأموال، قال المشركون محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله: «يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه - قل قتال فيه كبير»، لا يحل و ما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله و صددتم عنه محمدا، و الفتنة و هي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: و صد عن سبيل الله و كفر به.
أقول: و الروايات في هذا المعنى و ما يقرب منه كثيرة من طرقهم، و روي هذا المعنى أيضا في المجمع، و في بعض الروايات: أن السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن جحش إلى نخلة فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش و لم يأمره بقتال، و ذلك في الشهر الحرام، و كتب له كتابا قبل أن يعلمه أنه يسير، فقال: اخرج أنت و أصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك و انظر فيه، فما أمرتك به فامض له، و لا تستكرهن أحدا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعا و طاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإني ماض لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه يطلبانه، و مضى القوم حتى نزلوا نخلة، فمر بهم عمرو بن الحضرمي و الحكم بن كيسان و عثمان و المغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف: أدم و زيت، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله و كان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، و ائتمر القوم بهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم أنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام و لئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، و استأسر عثمان بن عبد الله و الحكم بن كيسان، و هرب المغيرة فأعجزهم، و استاقوا العير فقدموا بها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم: و الله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الأسيرين و العير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما قال سقط في أيديهم و ظنوا أن قد هلكوا و عنفهم إخوانهم من المسلمين، و قالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء: قد سفك محمد الدم الحرام و أخذ المال، و أسر الرجال و استحل الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العير و فدى الأسيرين فقال المسلمون: يا رسول الله! أ تطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل الله: إن الذين آمنوا و الذين هاجروا - و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، و كانوا ثمانية و أميرهم التاسع عبد الله بن جحش.
أقول: و في كون قوله تعالى: إن الذين آمنوا و الذين هاجروا الآية، نازلة في أمر أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر، و الآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، و تدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب.
و في الروايات إشارة إلى أن المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، و يؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض (صلى الله عليه وآله وسلم)، كلهن في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر و الميسر، و يسألونك عن الشهر الحرام الرواية، و يؤيد ذلك أن الخطاب في الآية إنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: و لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم.
|