بيان
قوله تعالى: و اتقوا يوما لا تجزي.
الملك و السلطان الدنيوي بأنواعه و أقسامه و بجميع شئونه، و قواه المقننة الحاكمة و المجرية مبتنية على حوائج الحياة، و غايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية و المكانية، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم و يجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم و الجناية عندهم يستتبع العقاب، و ربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كأن يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي و يسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه و بين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا و بدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد و أكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلص بذلك عن تبعة العقاب و نحو ذلك.
تلك سنة جارية و عادة دائرة بينهم، و كانت الملل القديمة من الوثنيين و غيرهم تعتقد أن الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطرد فيها قانون الأسباب و يحكم فيها ناموس التأثير و التأثر المادي الطبيعي، فيقدمون إلى آلهتهم أنواع القرابين و الهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى إنهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف و الزينة، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، و من أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، و ربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، و من الأبطال من يستنصر به الميت، و توجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، و يوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلامية على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربما تلونت لونا بعد لون، جيلا بعد جيل، و قد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، و الأقاويل الكاذبة، فقد قال عز من قائل: «و الأمر يومئذ لله،: الانفطار - 19، و قال: «و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب»: البقرة - 166، و قال «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون»: الأنعام - 94، و قال: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون»: يونس - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها: أن الموطن خال عن الأسباب الدنيوية، و بمعزل عن الارتباطات الطبيعية، و هذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل و الأوهام على طريق الإجمال، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها و إبطاله فقال: «و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون»: البقرة - 48، و قال: «يوم لا بيع فيه، و لا خلة، و لا شفاعة»: البقرة - 254، و قال: «يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا»: الدخان - 41، و قال: «يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم»: المؤمن - 33، و قال: «ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون»: الصافات - 26، و قال: «و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السموات و لا في الأرض سبحانه و تعالى عما يشركون»: يونس - 18، و قال: «ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع»: المؤمن - 18، و قال: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم»: الشعراء - 101، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة و تأثير الوسائط و الأسباب يوم القيامة هذا.
ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الإثبات، قال تعالى: «الله الذي خلق السموات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع أ فلا تتذكرون»: السجدة - 3، و قال تعالى: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع»: الأنعام - 51، و قال تعالى: «قل لله الشفاعة جميعا»: الزمر - 44، و قال تعالى: «له ما في السموات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم»: البقرة - 255، و قال تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قال تعالى: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون»: الأنبياء - 28، و قال: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف - 86، و قال: «و لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا»: مريم - 87، و قال تعالى: «يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما»: طه - 110، و قال تعالى: «و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له»: السبا - 23، و قال تعالى: «و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى»: النجم - 26، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الأولى و بين ما يعممها لغيره تعالى بإذنه و ارتضائه و نحو ذلك، و كيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أن بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، و بعضها تثبتها لغيره بإذنه و ارتضائه، و قد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، و إثباته له تعالى بالاختصاص و لغيره بارتضائه، قال تعالى: «قل لا يعلم من في السموات و الأرض الغيب»: النمل - 65، و قال تعالى: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو»: الأنعام - 59 و قال تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن - 27، و كذلك الآيات الناطقة في التوفي و الخلق و الرزق و التأثير و الحكم و الملك و غير ذلك فإنها شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى، ثم يثبته لنفسه، ثم يثبته لغيره بإذنه و مشيته، فتفيد أن الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها و استقلالها، و إنما تملكها بتمليك الله لها إياها، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه و قضى عليه بقضاء، حتم كقوله تعالى: «فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ»: هود - 108، فقد علق الخلود بالمشية و خاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ، إشعارا بأن قضاءه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده و لا يبطل سلطانه و ملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: «إن ربك فعال لما يريد»: هود - 107، و بالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده و يوجب له الفقر، و لا منع يضطره إلى حفظ ما منعه و إبطال سلطانه تعالى.
و من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، و الآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، و لغيره تعالى بإذنه و تمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة و متعلقها؟ و فيمن تجري؟ و ممن تصح؟ و متى تتحقق؟ و ما نسبتها إلى العفو و المغفرة منه تعالى؟ و نحو ذلك في أمور.
1 - ما هي الشفاعة؟
الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع و التعاون و هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته و ضعفها و قصورها من الأمور التي نستعلمها لإنجاح المقاصد، و نستعين بها على حوائج الحياة، و جل الموارد التي نستعملها فيها إما مورد يقصد فيها جلب المنفعة و الخير، و إما مورد يطلب فيها دفع المضرة و الشر، لكن لا كل نفع و ضرر، فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الأسباب الطبيعية و الحوادث الكونية من الخير و الشر، و النفع و الضر، كالجوع، و العطش، و الحر، و البرد، و الصحة، و المرض، بل نتسبب فيها بالأسباب الطبيعية، و نتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالأكل، و الشرب، و اللبس و الاكتنان و المداواة، و إنما نستشفع في الخيرات و الشرور و المنافع و المضار التي تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين و الأحكام التي وضعتها و اعتبرتها و قررتها و أجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولوية و العبودية، و عند كل حاكم و محكوم، و أحكام من الأمر و النهي إذا عمل بها و امتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، و إذا خالفها و تمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي، أو معنوي، فإذا أمر المولى أو نهى عبده، أو كل من هو تحت سيادته و حكومته بأمر أو نهي مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم، و إن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع و الاعتبار، وضع الحكم و وضع تبعة الحكم، يتعين به تبعة الموافقة و المخالفة.
و على هذا الأصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل و الخاصة بين كل إنسان و من دونه.
فإذا أراد الإنسان أن ينال كمالا و خيرا ماديا أو معنويا و ليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع، و يعرف به لياقته، أو أراد أن يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة و ليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف، و بعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة، و عنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة إلى التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا، كالعامي الأمي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.
ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم، و يوجب نيل الثواب، أو التخلص من العقاب، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه و عبودية عبده فلا يعاقبه، و لا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه و تكليفه المجعول، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، و لا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ و لا تأثير للشفيع في مولوية و عبودية، و لا في حكم و لا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو و الصفح كسؤدده، و كرمه، و سخائه، و شرافة محتده، و إما بصفات في العبد تستدعي الرأفة و الحنان و تثير عوامل المغفرة كمذلته و مسكنته و حقارته و سوء حاله، و إما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى و كرامته و علو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك و عبوديته، و لا أن تبطل حكمك و لا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا و رأفة و كرما لا تنتفع بعقابه و لا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه و لا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة و الكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه و العفو عنه.
و من هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم و ترتب العقاب على مخالفته، و نعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الأول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الأسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة و الغلبة في التأثير، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة.
و من هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأول البعيد و مسببه، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا.
ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين: إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، و ينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق و الإيجاد على الإطلاق، و جميع العلل و الأسباب أمور متخللة متوسطة بينه و بين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد و نعمته التي لا تحصى إلى خلقه و صنعه.
و الثانية: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين و وضع فيه أحكاما من أوامر و نواهي و غير ذلك و تبعات من الثواب و العقاب في الدار الآخرة و أرسل رسلا مبشرين و منذرين فبلغوه أحسن تبليغ و قامت بذلك الحجة و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته.
أما من الجهة الأولى: و هي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب و العلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة و الخلق و الإحياء و الرزق و غير ذلك إيصال أنواع النعم و الفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، و كلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك كقوله تعالى: «له ما في السموات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: البقرة - 255، و قوله «إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل و الأسباب بينه و بين مسبباتها في تدبير أمرها و تنظيم وجودها و بقائها فهذه شفاعة تكوينية.
و أما من الجهة الثانية و هي النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده و لا محذور في ذلك و عليه ينطبق قوله تعالى: «يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا»: طه - 109، و قوله: «لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له»: السبا - 23، و قوله «لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى»: النجم - 26، و قوله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى»: الأنبياء - 28، و قوله: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف - 86، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة و الناس من بعد الإذن و الارتضاء، فهو تمليك و لله الملك و له الأمر فلهم أن يتمسكوا برحمته و عفوه و مغفرته و ما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، و شملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل، و الجرم العامل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد و هو القائل عز من قائل: «أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات»: الفرقان - 70، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما، قال تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا»: الفرقان - 23، و قال تعالى: «فأحبط أعمالهم»: محمد - 10، و قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم»: النساء - 31، و قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 48، و الآية في غير مورد الإيمان و التوبة قطعا فإن الإيمان و التوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب و له تكثير القليل من العمل، قال تعالى: «أولئك يؤتون أجرهم مرتين»: القصص - 65، و قال: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها»: الأنعام - 160، و له سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا، قال تعالى: «الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين»: الطور - 21، و هذا هو اللحوق و الإلحاق و بالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية، و علة متوسطة و لتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه و أوليائه و المقربين من عباده من غير جزاف و لا ظلم.
و من هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه و بين خلقه في إفاضة الجود و بذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الإطلاق.
قال تعالى: «قل لله الشفاعة جميعا»: الزمر - 44، و قال تعالى: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع»: السجدة - 4، و قال تعالى: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع»: الأنعام - 51.
و غيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه و تمليكه.
فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.
2 - إشكالات الشفاعة
قد عرفت: أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، و ستعرف أن الكتاب و كذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية و التأثير، و لا معنى للإطلاق في السببية و التأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط و لا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الإطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببية و هو باطل بالضرورة.
و من هنا اشتبه الأمر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بأمور و بنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى و هاك شطرا منها: الإشكال الأول: أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما.
فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى و تقدس، و إن كان ظلما كان شفاعة الأنبياء مثلا سؤالا للظلم منه و هو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.
و الجواب عنه أولا: بالنقض فإنه منقوض بالأوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا و إثباته أولا كلاهما من العدل، و الحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثم يوضع الأحكام و ما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم، و أما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم و يبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم و لو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كأحوال البرزخ و أهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم و عقابه أولا عدلا و رفع عقابه ثانيا عدلا.
و ثانيا: بالحل، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الأول فيما ذكر من العدل و الظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الأول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة و قد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات أخرى له تعالى من رحمة و عفو و مغفرة، و منها إفضاله للشافع بالإكرام و الإعظام.
الإشكال الثاني: أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف و الاختلاف، فما قضى و حكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، و على هذا جرت سنة الأسباب، قال تعالى: «هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين»: الحجر - 43، و قال تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم»: الأنعام - 153، و قال تعالى: «فلن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا»: الفاطر - 42، و تحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فإن رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، و لعب ينافي الحكمة قطعا، و رفعه عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم و ذنوبهم اختلاف في فعله تعالى و تغير و تبدل في سنته الجارية و طريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم و لا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب و خروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح و الإغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، و إنما تجري الشفاعة و ما يشبهها في سنة هذه الحياة من ابتناء الأعمال و الأفعال على الأهواء و الأوهام التي ربما تقضي في الحق و الباطل على السواء، و تجري عن الحكمة و عن الجهالة على نسق واحد.
و الجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم و سنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع و الحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده و لا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوط علت صفاته.
توضيح ذلك: أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حياة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك.
و هي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء و لا لرابطة واحدة كيف كانت، فإن فيه بطلان الارتباط و السببية، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب و مصلحة مقتضية و لا يشفيه لأنه الله المميت المنتقم شديد البطش بل لأنه الله الرءوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا و لا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب، لأنه رءوف رحيم به، بل لأنه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا و هكذا.
و القرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلاؤم و الايتلاف الواقع بينها و الاقتضاء المستنتج من ذلك، و إن شئت قلت: كل أمر من الأمور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح و الخيرات.
إذا عرفت هذا علمت: أن استقامة صراطه و عدم تبدل سنته و عدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضى صفة قاصرة و إن شئت قلت: بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل و الانفعال و الكسر و الانكسار الواقع بين الحكم و المصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة.
فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير و لم يختلف في بر و لا فاجر و لا مؤمن و لا كافر.
لكن الأسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.
فوقوع الشفاعة و ارتفاع العقاب - و ذلك إثر عدة من الأسباب كالرحمة و المغفرة و الحكم و القضاء و إعطاء كل ذي حق حقه و الفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية و ضلالا في الصراط المستقيم.
الإشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة و نسخها لأجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب و رأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.
و أما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء و هو عالم بأنه ظلم و أن العدل في خلافه و لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، و كل من النوعين محال على الله تعالى لأن إرادته على حسب علمه و علمه أزلي لا يتغير.
و الجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الإرادة و العلم في شيء و إنما التغير في المراد و المعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الإنسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب و شرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأول لاقتران أسباب و شرائط أخر فيريد فيه بإرادة أخرى و كل يوم هو في شأن، و قد قال تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب»: الرعد - 39، و قال: «بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء»: المائدة - 67، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاه الظلمة فلا يعمل أبصارنا و الحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بإنارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضاءة بالسراج و عند انقضائه بإطفائه و العلم و الإرادة غير متغيرتين و إنما تغير المعلوم و المراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم و الإرادة، و ليس كل علم ينطبق على كل معلوم، و لا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم و الإرادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم و الإرادة على المراد مع بقاء المعلوم و المراد على حالهما و هو الخطأ و الفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين أنه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، و هذان غير جائزين في مورده تعالى، و الشفاعة و رفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.
الإشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياء (عليهم السلام) مستلزم لتجري الناس على المعصية و إغراء لهم على هتك محارم الله تعالى و هو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية و الطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب و السنة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهي.
و الجواب عنه، أولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة و سعة الرحمة كقوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 51، و الآية - كما - مر في غير مورد التوبة بدليل استثنائه الشرك المغفور بالتوبة.
و ثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية و إغراءهم على التمرد و المخالفة بشرطين: أحدهما: تعيين المجرم بنفسه و نعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.
و ثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب و أوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا.
فلو قيل: إن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا و لا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول و لعبا بالأحكام و التكاليف المتوجهة إلى المكلفين، و أما إذا أبهم الأمر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب و في حق أي المذنبين أو أن العقاب المرفوع هو جميع العقوبات و في جميع الأوقات و الأحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها و آثامها قنوطا من رحمة الله، و يأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم»: النساء - 31، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات و المعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الإيمان و المعاصي تضعف الإيمان و تقسي القلب و تجلب الشرك، و قد قال تعالى: «فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون»: الأعراف - 98، و قال: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون»: المطففين - 14، و قال: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله»: الروم - 10، و ربما أوجب ذلك انقلاعه عن المعاصي، و ركوبه على صراط التقوى، و صيرورته من المحسنين، و استغناءه عن الشفاعة بهذا المعنى، و هذا من أعظم الفوائد، و كذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.
و القرآن لم ينطق في خصوص المجرمين و في خصوص الذنب بالتعيين و لم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجيء فلا إشكال أصلا.
الإشكال الخامس: أن العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، و أما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله، «لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة»: البقرة - 254، و أخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: «فما تنفعهم شفاعة الشافعين»: المدثر - 48 و أخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: «إلا بإذنه»: البقرة - 255 و قوله: «إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قوله تعالى: «إلا لمن ارتضى»: الأنبياء - 28، و مثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالإذن و المشية معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه و مشيته سبحانه كقوله تعالى: «سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله»: الأعلى - 6، و قوله تعالى: «خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك»: هود - 107، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة و أما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، و أما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.
و الجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير إذن الله و ارتضائه، و أما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فإنها تثبت الشفاعة و لا تنفيه فإن الآيات واقعة في سورة المدثر و إنما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، و مع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الإضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة و بين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الإضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على أن شفاعة ما ستقع غير أن هؤلاء لا ينتفعون بها على أن الإتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: «كانت من الغابرين» و قوله: «و كان من الكافرين» و قوله: «فكان من الغاوين» و قوله: «لا ينال عهدي الظالمين» و أمثال ذلك، و لو لا ذلك لكان الإتيان بصيغة الجمع و له مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.
و أما عن الآيات المشتملة على استثناء الإذن و الارتضاء فدلالة قوله: «إلا بإذنه» و قوله: «إلا من بعد إذنه» على الوقوع و هو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف بأساليب الكلام و كذا القول: بكون قوله: «إلا بإذنه» و قوله: «إلا لمن ارتضى»، بمعنى واحد و هو المشية مما لا ينبغي الإصغاء إليه، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله: «إلا بإذنه و إلا من بعد إذنه» و قوله «إلا لمن ارتضى»، و قوله: «إلا من شهد بالحق و هم يعلمون» إلى غير ذلك، فهب: أن الإذن و الارتضاء واحد و هو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله: «إلا من شهد بالحق و هم يعلمون».
فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا؟ هذا و أمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ! و كيف بأبلغ الكلام! و أما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.
الإشكال السادس: أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم و لزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الأنبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس و بين ربهم بأخذ الأحكام بالوحي و تبليغها الناس و هدايتهم و هذا المقدار كالبذر ينمو و ينشأ منه ما يستقبله من الأقدار و الأوصاف و الأحوال فهم (عليهم السلام) شفعاء المؤمنين في الدنيا و شفعاؤهم في الآخرة.
و الجواب: أنه لا كلام في أن ذلك من مصاديق الشفاعة إلا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه، و من الدليل عليه قوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 48، و قد مر بيان أن الآية في غير مورد الإيمان و التوبة، و الشفاعة التي قررها المستشكل في الأنبياء إنما هي بطريق الدعوة إلى الإيمان و التوبة.
الإشكال السابع: أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة، و ما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة و تثبتها أخرى، و ربما قيدتها و ربما أطلقتها، و الأدب الديني الإيمان بها، و إرجاع علمها إلى الله تعالى.
و الجواب عنه: أن المتشابهة من الآيات تصير بإرجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها، و هو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجيء بيانه عند قوله تعالى: «منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات»: آل عمران - 7.
3 - فيمن تجري الشفاعة؟
قد عرفت أن تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملاءمة إلا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام و على ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين و لم نك نطعم المسكين و كنا نخوض مع الخائضين و كنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين»: المدثر - 48، بين سبحانه فيها أن كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن و أطلقوا و استقروا في الجنان، ثم ذكر أنهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، و هم يجيبون بالإشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.
و مقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، و إذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة و قد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب و الآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفك و الإخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة، و في الآيات تعريف أصحاب اليمين بانتفاء الأوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أن الآيات واقعة في سورة المدثر و هي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، و لم يشرع يومئذ الصلاة و الزكاة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، و بإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة و الزكاة المعهودتين في الشريعة الإسلامية و الخوض هو الغور في ملاهي الحياة و زخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة و ذكر الحساب يوم الدين، أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، و بالتلبس بهذه الصفات الأربعة، و هي ترك الصلاة لله و ترك الإنفاق في سبيل الله و الخوض و تكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، و بالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض و الإقبال إلى يوم لقاء الله، و هذان هما ترك الخوض و تصديق يوم الدين و لازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية، و السعي في رفع حوائج جامعة الحياة و هذان هما الصلاة و الإنفاق في سبيل الله، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم و العمل بهذه الخصال الأربع، و تستلزم بقية الأركان كالتوحيد و النبوة استلزاما هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، و هم المرضيون دينا و اعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، و هم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، و قد قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم»: النساء - 31، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه، فقد بان أن الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث.
و من جهة أخرى إنما سمي هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال و ربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشأمة، و هو من الألفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم و لا يظلمون فتيلا و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا»: إسراء - 72، و سنبين في الآية إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتباع الإمام الحق، و من إيتائه بالشمال اتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون: «يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار»: هود - 98، و بالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى ارتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.
ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى»: الأنبياء - 28، فأثبت الشفاعة على من ارتضى، و قد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل و نحوه، كما فعله في قوله: «إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا»: طه - 109، ففهمنا أن المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» فهو يملك الشفاعة أي المصدر المبني للمفعول و ليس كل مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: «إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى و من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى»: طه - 75، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن و لم يعمل صالحا، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا و هو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم»: يس - 61 فقوله تعالى: «و أن اعبدوني» عهد بمعنى الأمر و قوله تعالى: هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة و النجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثم ينجون منها بالشفاعة، و إلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى «قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا»: البقرة - 80، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، و الجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر، و هم الذين ارتضى الله دينهم.
4 - من تقع منه الشفاعة؟
قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، و منها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه و بين الأشياء.
و أما الشفاعة التشريعية، و هي الواقعة في عالم التكليف و المجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا و زلفى، فهو شفيع متوسط بينه و بين عبده.
و منه التوبة كما قال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم»: الزمر - 54، و يعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك.
و منه الإيمان قال تعالى: «آمنوا برسوله، إلى قوله: و يغفر لكم»: الحديد - 28.
و منه كل عمل صالح.
قال تعالى: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم»: المائدة - 9، و قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة»: المائدة - 35 و الآيات فيه كثيرة، و منه القرآن لقوله تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم»: المائدة - 16.
و منه كل ما له ارتباط بعمل صالح، و المساجد و الأمكنة المتبركة و الأيام الشريفة، و منه الأنبياء و الرسل باستغفارهم لأممهم.
قال تعالى: «و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما»: النساء - 64.
و منه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: «الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا»: المؤمن - 7، و قال تعالى: «و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم»: الشورى - 5، و منه المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم و لإخوانهم المؤمنين.
قال تعالى حكاية عنهم «و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولينا»: البقرة - 276.
و منها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الأنبياء.
قال تعالى: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون» إلى أن قال: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى»: الأنبياء - 29، فإن منهم عيسى بن مريم و هو نبي، و قال تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف - 86، و الآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لأنهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه.
و منهم الملائكة.
قال تعالى: «و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى»: النجم - 26، و قال تعالى: «يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم»: طه - 110، و منهم الشهداء لدلالة قوله تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف - 86، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أن هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة و سيأتي في قوله تعالى «و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس»: البقرة - 143 شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، و من هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عز و جل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم»: الحديد - 19، كما سيجيء بيانه.
5 - بما ذا تتعلق الشفاعة؟
قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الأسباب و منها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب و العقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة و الإيمان قبل يوم القيامة و منها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة، و أما الشفاعة المتنازع فيها و هي شفاعة الأنبياء و غيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن استحقه بالحساب، فقد عرفت في الأمر الثالث أن متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق و قد ارتضى الله دينه.
6 - متى تنفع الشفاعة؟
و نعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب، و الذي يدل عليه قوله سبحانه: «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر»: المدثر - 42، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة و من يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إنما تنفع في الفك عن هذه الرهانة و الإقامة و الخلود في سجن النار، و أما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة و عظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.
و اعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار و تعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، و ذلك لمكان قوله: في جنات، الدال على الاستقرار و قوله: ما سلككم فإن السلوك هو الإدخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد و الجمع و النظم ففيه معنى الاستقرار و كذا قوله: فما تنفعهم، فإن ما لنفي الحال، فافهم ذلك.
و أما نشأة البرزخ و ما يدل على حضور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة (عليهم السلام) عند الموت و عند مساءلة القبر و إعانتهم إياه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به»: النساء - 158، فليس من الشفاعة عند الله في شيء و إنما هو من سبيل التصرفات و الحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: «و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها و هم يطمعون، إلى أن قال: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون، أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون»: الأعراف - 46، 48، 49، و من هذا القبيل من وجه قوله تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه»: إسراء - 71، فوساطة الإمام في الدعوة، و إيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.
فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.
بحث روائي
في أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام) يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» قال (عليه السلام) لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما شفاعتي، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد مر استفادة معناه من الآيات.
و في تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (عليه السلام): في قول الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما و يؤمر الشمس، فيركب على رءوس العباد، و يلجمهم العرق، و يؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، و يدلهم نوح على إبراهيم، و يدلهم إبراهيم على موسى، و يدلهم موسى على عيسى، و يدلهم عيسى فيقول: عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول: محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه و يستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى إنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
أقول: و هذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار و التفصيل بطرق متعددة من العامة و الخاصة، و فيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، و لا ينافي ذلك كون غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنبياء، و غيرهم جائز الشفاعة لإمكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير العياشي، أيضا: عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: هي الشفاعة.
و في تفسير العياشي، أيضا: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ؟ قال: نعم إن للمؤمنين خطايا و ذنوبا و ما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ. قال: و سأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيد ولد آدم و لا فخر. قال نعم. قال: يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع و اطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع و يطلب فيعطى.
و في تفسير الفرات،: عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال: قلت لمحمد بن علي (عليهما السلام)، أية آية في كتاب الله أرجى؟ قال: فما يقول فيها قومك؟ قلت: يقولون: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله». قال: لكنا أهل بيت لا نقول ذلك. قال: قلت: فأي شيء تقولون فيها؟ قال: نقول: و لسوف يعطيك ربك فترضى الشفاعة و الله الشفاعة و الله الشفاعة.
أقول: أما كون قوله تعالى: «عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا» الآية مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى: أن يبعثك، يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة.
و قوله محمودا مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الأولين و الآخرين، و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتفع به و يستفيد منه الكل فيحمده عليه، و لذلك قال (عليه السلام) في رواية عبيد بن زرارة السابقة: و ما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ الحديث.
و سيجيء بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه.
و أما كون قوله تعالى: و لسوف يعطيك ربك فترضى، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية، فإن النهي عن القنوط و إن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): قال: «و من يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون:» الحجر - 56، و قوله تعالى حكاية عن يعقوب (عليه السلام): «إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون»: يوسف - 87، ناظرتان إلى اليأس و القنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد.
و أما قوله تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم:» الزمر - 54، إلى آخر الآيات فهو و إن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى أسرفوا على أنفسهم الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية، و قد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء، و لكنه تعالى ذيله بالأمر بالتوبة و الإسلام و العمل بالإتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه اختبار التوبة و الإسلام و العمل الصالح.
و بالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها، و ليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة و الإعطاء، و الإرضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين.
ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: و لسوف يعطيك ربك فترضى» الآية.
توضيح ذلك: أن الآية في مقام الامتنان و فيها وعد يختص به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقه قط، و لم يقيد الإعطاء بشيء فهو إعطاء مطلق و قد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى: «لهم فيها ما يشاءون عند ربهم:» الشورى - 22، و قال تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:» ق - 35، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم، و المشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الإنسان من السعادة و الخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين:» السجدة - 17، فإذا كان هذا قدر ما أعطاه الله على عباده الذين آمنوا و عملوا الصالحات و هو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام الامتنان أوسع من ذلك و أعظم فافهم.
فهذا شأن إعطائه تعالى، و أما شأن رضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الذي هو زميل لأمر الله.
فإن الله هو المالك الغني على الإطلاق و ليس للعبد إلا الفقر و الحاجة فينبغي أن يرضى بقليل ما يعطيه ربه و كثيره و ينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه، سره ذلك أو ساءه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلم و أعمل، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه، لكن هذا الرضا حيث وضع في مقابل الإعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، و إرضاء الجائع بإشباعه فهو الإرضاء بالإعطاء من غير تحديد، و هذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده.
قال عز من قائل: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك لمن خشي ربه:» البينة - 8، و هذا أيضا لموقع الامتنان و الاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين و أوسع من ذلك، و قد قال تعالى: في حق رسوله: «بالمؤمنين رءوف رحيم:» التوبة - 128، فصدق رأفته و كيف يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة و يرتاض في رياضه و فريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار و هم معترفون لله بالربوبية، و لرسوله بالرسالة، و لما جاء به بالصدق، و إنما غلبت عليهم الجهالة، و لعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد و استكبار.
و الواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره و نظر إلى ما قصر به في الاستكمال و الارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه و طلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب و نقص التجارب فربما خمدت نار غضبه و انكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف و كرامة النبي الرءوف الرحيم و رحمة أرحم الراحمين.
و قد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الآية، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرون الناس و تقولون: شفاعة محمد، شفاعة محمد فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثم قال: ويحك يا أبا أيمن أ غرك أن عف بطنك و فرجك؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟ قال: ما من أحد من الأولين و الآخرين إلا و هو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر: إن لرسول الله الشفاعة في أمته، و لنا شفاعة في شيعتنا، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثم قال: و إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر، و إن المؤمن ليشفع لخادمه و يقول: يا رب حق خدمتي كان يقيني الحر و البرد.
أقول: قوله (عليه السلام): ما من أحد من الأولين و الآخرين إلا و هو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرة أن هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله: ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار و قد مر نظير هذا المعنى في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق (عليه السلام).
و في هذا المعنى روايات أخر روتها العامة و الخاصة، و يدل عليه قوله تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون:» الزخرف - 86، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، و سيأتي إن شاء الله في قوله تعالى: «و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا:» البقرة - 143، أن الأنبياء شهداء و أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد عليهم، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء و لو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.
و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. قال (عليه السلام): لا يشفع أحد من أنبياء الله و رسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، و الشفاعة له و للأئمة من ولده ثم من بعد ذلك للأنبياء.
و في الخصال،: عن علي (عليه السلام) قال قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة يشفعون إلى الله عز و جل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء.
أقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.
و في الخصال، في حديث الأربعمائة: و قال (عليه السلام): لنا شفاعة و لأهل مودتنا شفاعة.
أقول: و هناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) و شفاعة ذريتها غير الأئمة و شفاعة المؤمنين حتى السقط منهم.
ففي الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة و لو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له: ادخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي الحديث.
و في الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: رب سلم شيعتي و محبي و أنصاري و من تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، و شفعت في شيعتك، و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله و لم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت.
و في الكافي،: عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال (عليه السلام): و اعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب و لا نبي مرسل و لا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.
و في تفسير الفرات،: بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال جابر لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة و ساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): فوالله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفر (عليه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون.
أقول: تمسكه (عليه السلام) بقوله تعالى: فما لنا من شافعين يدل على استشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة و قد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها و قد اتضح مما قدمناه في قوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع و لا صديق حميم، فالإتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة و عدم نفعها في حقهم، مضافا إلى أن قوله تعالى: فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين بعد قوله: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر و من المعلوم أن التمني في حيز التحسر إنما يكون بما يتضمن ما فقده و يشتمل على ما تحسر عليه فيكون معنى قولهم: فلو أن لنا كرة معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة.
و في التوحيد،: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، و الله تعالى يقول: و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و من ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال (عليه السلام): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كفى بالندم توبة، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) من سرته حسنة و ساءته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة و كان ظالما و الله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع، فقيل له: يا بن رسول الله و كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرا و المصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار، و أما قول الله عز و جل: و لا يشفعون إلا لمن ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.
أقول: قوله (عليه السلام) و كان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة و إشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين» الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون»: الأعراف - 44 45، و هو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى و لا يسوؤه اقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة و التعاليم الدينية و إما بالاستهانة لأمرها و عدم الاعتناء بالجزاء و الدين يوم الجزاء و الدين فيكون قوله به استهزاء بأمره و تكذيبا له، و قوله (عليه السلام): فتكون تائبا مستحقا للشفاعة، أي راجعا إلى الله ذا دين مرضي مستحقا للشفاعة، و أما التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، و قوله (عليه السلام): و قد قال النبي لا كبيرة مع الاستغفار، إلخ تمسكه (عليه السلام) به من جهة أن الإصرار و هو عدم الانقباض بالذنب و الندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الذي له إلى شأن آخر و هو تكذيب المعاد و الظلم بآيات الله فلا يغفر لأن الذنب إنما يغفر إما بتوبة أو بشفاعة متوقفة على دين مرضي و لا توبة هناك و لا دين مرضيا.
و نظير هذا المعنى واقع في رواية العلل، عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة و كمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط قال اللهم لا، قلت فيسرق؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: لا قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال لا، قلت فيذنب ذنبا؟ قال: نعم و هو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم؟ قال: المسلم لا يلزمه و لا يصر عليه.
الحديث.
و في الخصال،: بأسانيد عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز و جل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا و يستر عليه أن يقف عليه أحد، ثم يقول لسيئاته: كوني حسنات.
و عن صحيح مسلم، مرفوعا إلى أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه و نحوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا و كذا و كذا و هو مقر لا ينكر و هو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: و لقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه.
و في الأمالي،: عن الصادق (عليه السلام): إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك و تعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته.
أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات و الأخبار الدالة على وقوع شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة من طرق أئمة أهل البيت و كذا من طرق أهل السنة و الجماعة بالغة حد التواتر، و هي من حيث المجموع إنما تدل على معنى واحد و هو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إما بالتخليص من دخول النار و إما بالإخراج منها بعد الدخول فيها، و المتيقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار و قد عرفت أن القرآن أيضا لا يدل على أزيد من ذلك.
بحث فلسفي
البراهين العقلية و إن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتابا و سنة في المعاد لعدم نيلها المقدمات المتوسطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ ابن سينا لكنها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقلية و المثالية في صراطي السعادة و الشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرد العقلي و المثالي الناهض عليهما البرهان.
فالإنسان في بادىء أمره يحصل له من كل فعل يفعله هيئة نفسانية و حال من أحوال السعادة و الشقاوة، و نعني بالسعادة ما هو خير له من حيث إنه إنسان، و بالشقاوة ما يقابل ذلك، ثم تصير تلك الأحوال بتكررها ملكة راسخة، ثم يتحصل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدأ لهيئات و صور نفسانية، فإن كانت سعيدة فآثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، و للنفس التي هي بمنزلة المادة القابلة لها، و إن كانت شقية فآثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان و الشر، فالنفس السعيدة تلتذ بآثارها بما هي إنسان، و تلتذ بها بما هي إنسان سعيد بالفعل، و النفس الشقية و إن كانت آثارها مستأنسة لها و ملائمة بما أنها مبدأ لها لكنها تتألم بها بما أنها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة و الشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتا و الصالح عملا و الإنسان الشقي ذاتا و الطالح عملا، و أما الناقصة في سعادتها و شقاوتها فالإنسان السعيد ذاتا الشقي فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحق الثابت غير أن في نفسه هيئات شقية ردية من الذنوب و الآثام اكتسبتها حين تعلقها بالبدن الدنيوي و ارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي أمور قسرية غير ملائمة لذاته، و قد أقيم البرهان على أن القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهر منها في برزخ أو قيمة على حسب قوة رسوخها في النفس، و كذلك الأمر فيما للنفس الشقية من الهيئات العارضة السعيدة فإنها ستسلب عنها و تزول سريعا أو بطيئا، و أما النفس التي لم تتم لها فعلية السعادة و الشقاوة في الحياة الدنيا حتى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عز و جل، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب و العقاب المقتضية لكونها من لوازم الأعمال و نتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا.
ثم إن البراهين قائمة على أن الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال و النقص و الشدة و الضعف و هو التشكيك خاصة في النور المجرد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب و البعد من مبدإ الكمال و منتهاه في سيرها الارتقائي و عودها إلى ما بدأت منها و هي بعضها فوق بعض، و هذه شأن العلل الفاعلية بمعنى ما به و وسائط الفيض، فلبعض النفوس و هي النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء (عليهم السلام) و خاصة من هو في أرقى درجات الكمال و الفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، و من دونهم من السعداء إذا لزمتها قسرا، و هذه هي الشفاعة الخاصة بأصحاب الذنوب.
بحث اجتماعي
الذي تعطيه أصول الاجتماع أن المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته و إدامة وجوده إلا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، و الحكومة في أعمال الأفراد و شئونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع و غريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه و يناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا و يتولد بتألف أطرافه و تفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي و هي موضوعة على مصالح و منافع مادية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادي، و على كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول و الوفاء بالعهد و النصح و غير ذلك، و حيث كانت القوانين و الأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة أخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدي الأفراد المتهوسين و تساهل آخرين، و لذلك كلما قويت حكومة أي حكومة كانت على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره و لا ضل سائره عن طريقه و مقصده، و كلما ضعفت اشتد الهرج و المرج في داخله و انحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، و إيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، و من الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، و تبعة المخالفة و العصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل و الدسائس المهلكة، و لذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة و يكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالإنسان القهقرى كما قيل.
و أن الإحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا و أبعد من العدل من غيرهم و ليس ذلك إلا أنهم يتكلون بحقية دينهم، و ادخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا و غرائزهم و فطرهم و لم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الإنسانية و المدنية الفاضلة.
و بذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام و قد نطق به الكتاب و تواترت عليه السنة.
و لعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، و لا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الأثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية و تطبيق ما شرعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح و المدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول و القوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة و ما هو محلها و موقعها بين المعارف التي جاء بها.
فيعلم أولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أن المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالإيمان المرضي و الدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب و لا سيما الكبائر و لا سيما الإدمان منها و الإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، و بذلك يتحصل رجاء النجاة و خوف الهلاك، و يسلك نفس المؤمن بين الخوف و الرجاء فيعبد ربه رغبة و رهبة، و يسير في حياته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط و لا إلى كسل الوثوق.
و ثانيا: أن الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها و معنوياتها ما يستوعب جميع الحركات و السكنات الفردية و الاجتماعية، ثم اعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة و الجزاء من دية و حد و تعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع و اللوم و الذم و التقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكل على الكل بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثم أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار و التبشير بالعقاب و الثواب في الآخرة، و بنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدإ و المعاد على هذا الترتيب.
فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و صدقه التجارب الواقع في عهده و عهد من يليه حتى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية و من شايعهم في استبدادهم و لعبهم بأحكام الدين و إبطالهم الحدود و السياسات الدينية حتى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم و ارتفعت أعلام الحرية و ظهرت المدنية الغربية و لم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين و ارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل و الفواضل و انحطاطهم في الأخلاق و الآداب الشريفة و انغمارهم في الملاهي و الشهوات و خوضهم في الفواحش و المنكرات، هو الذي أجرأهم على انتهاك كل حرمة و اقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها و فيها إلا سعادة الإنسان في آجله و عاجله و الله المعين، و الإحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين و ليس عليهم قيم و لا حافظ قوي و على جمعية غير المنتحلين، و التعليم و التربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا
|