بيان
قوله تعالى: و يستحيون نساءكم، أي يتركونهن أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهن كالأبناء فالاستحياء طلب الحياة و يمكن أن يكون المعنى و يفعلون ما يوجب زوال حيائهن من المنكرات، و معنى يسومونكم يولونكم.
قوله تعالى: و إذ فرقنا بكم الفرق مقابل الجمع كالفصل و الوصل، و الفرق في البحر الشق و الباء للسببية أو الملابسة أي فرقنا لإنجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر.
قوله تعالى: و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة و قص تعالى القصة في سورة الأعراف بقوله: «و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة»: الأعراف - 142، فعد المواعدة فيها أربعين ليلة إما للتغليب أو لأنه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة أخرى فالأربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.
قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم البارىء من الأسماء الحسنى كما قال تعالى: «هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى»: الحشر - 24، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: اثنان منها في هذه الآية و لعله خص بالذكر هاهنا من بين الأسماء الملائمة معناه للمورد لأنه قريب المعنى من الخالق و الموجد، من برأ يبرأ براء إذا فصل لأنه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض، فكأنه تعالى يقول: هذه التوبة و قتلكم أنفسكم و إن كان أشق ما يكون من الأوامر لكن الله الذي أمركم بهذا الفناء و الزوال بالقتل هو الذي برأكم فالذي أحب وجودكم و هو خير لكم هو يحب الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم و كيف لا يحب خيركم و قد برأكم، فاختيار لفظ البارىء بإضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، و قوله عند بارئكم للإشعار بالاختصاص لإثارة المحبة.
قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم ظاهر الآية و ما تقدمها أن هذه الخطابات و ما وقع فيها من عد أنواع تعدياتهم و معاصيهم إنما نسبت إلى الكل مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، و ينسب فعل بعضهم إلى آخرين.
لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كل بني إسرائيل عبدوا العجل، و لا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم و على هذا فقوله تعالى: فاقتلوا أنفسكم، إنما يعني به قتل البعض و هم الذين عبدوا العجل كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، و قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم تتمة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر، و قوله تعالى: فتاب عليكم يدل على نزول التوبة و قبولها، و قد وردت الرواية أن التوبة نزلت و لما يقتل جميع المجرمين منهم.
و من هنا يظهر أن الأمر كان أمرا امتحانيا نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و ذبح إسماعيل «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا»: الصافات - 105، فقد ذكر موسى (عليه السلام) فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، و أمضى الله سبحانه قوله (عليه السلام) و جعل قتل البعض قتلا للكل و أنزل التوبة بقوله: فتاب عليكم.
قوله تعالى: رجزا من السماء، الرجز العذاب.
قوله تعالى: و لا تعثوا العيث و العثي أشد الفساد.
قوله تعالى: و قثائها و فومها، القثاء الخيار و الفوم الثوم أو الحنطة.
قوله تعالى: و باءوا بغضب، أي رجعوا.
قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون، تعليل لما تقدمه.
قوله تعالى: ذلك بما عصوا، تعليل للتعليل فعصيانهم و مداومتهم للاعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات و قتلهم الأنبياء كما قال تعالى: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون»: الروم - 10، و في التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي.
بحث روائي
في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: «و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة» عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان في العلم و التقدير ثلاثين ليلة ثم بدا منه فزاد عشرا فتم ميقات ربه الأول و الآخر أربعين ليلة.
أقول: و الرواية تؤيد ما مر أن الأربعين مجموع المواعدتين.
و في الدر المنثور،: عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: و إذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه و أباه و ابنه و الله لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم و قد غفر لمن قتل و تيب على من بقي.
و في تفسير القمي،: قال (عليه السلام): إن موسى لما خرج إلى الميقات و رجع إلى قومه و قد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل - فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم - ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل أنفسنا فقال لهم موسى: اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس و معه سكين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا» فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى و صعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل جبرائيل فقال: قل لهم: يا موسى ارفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف و أنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم - فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم.
أقول: و الرواية كما ترى تدل على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولا لموسى و مقولا له سبحانه فيكون إمضاء لكلمة قالها موسى و كشفا عن كونها تامة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإن الظاهر يعطي أن موسى جعل قتل الجميع خيرا لهم عند بارئهم، و قد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه ما وقع من القتل هو الخير الذي ذكره موسى (عليه السلام) كما مر.
و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: و ظللنا عليكم الغمام الآية أن بني إسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا و قتلتنا و أخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل، و لا شجر، و لا ماء. و كانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس و ينزل عليهم بالليل المن فيقع على النبات و الشجر و الحجر فيأكلونه و بالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم فإذا أكلوا و شربوا طار و مر و كان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فتنفجر منها اثنتا عشرة عينا كما حكى الله فيذهب إلى كل سبط في رحله و كانوا اثني عشر سبطا.
و في الكافي،: في قوله تعالى: و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: إن الله أعز و أمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم و لكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآنا على نبيه فقال: و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي: قلت: هذا تنزيل، قال: نعم:. أقول: و روي ما يقرب منه أيضا عن الباقر (عليه السلام) و قوله (عليه السلام): أمنع من أن يظلم بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: و ما ظلمونا، و قوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل، و قوله: و لكنه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الأنبياء و الأوصياء و الأئمة بنفسه، و قوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أن النفي في هذه الموارد و أمثالها إنما يصح فيما يصح فيه الإثبات أو يتوهم صحته، فلا يقال للجدار، أنه لا يبصر أو لا يظلم إلا لنكتة و هو سبحانه أجل من أن يسلم في كلامه توهم الظلم عليه، أو جاز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لأن العظماء يتكلمون عن خدمهم و أعوانهم.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآية عن الصادق (عليه السلام) أنه قرأ هذه الآية: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله - و يقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون فقال: و الله ما ضربوهم بأيديهم و لا قتلوهم بأسيافهم و لكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلا و اعتداء و مصيبة: أقول: و في الكافي، عنه (عليه السلام) مثله و كأنه (عليه السلام) استفاد ذلك من قوله تعالى: ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون فإن القتل و خاصة قتل الأنبياء و الكفر بآيات الله لا يعلل بالعصيان بل الأمر بالعكس على ما يوجبه الشدة و الأهمية لكن العصيان بمعنى عدم الكتمان و التحفظ مما يصح التعليل المذكور به.
|