بيان
قوله تعالى: و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، الآية في بديع نظمها تبتدىء أولا بالغيبة و تنتهي إلى الخطاب حيث تقول: ثم توليتم إلا قليلا منكم و أنتم معرضون، ثم إنها تذكر أولا الميثاق و هو أخذ للعهد، و لا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدىء، فيه بالخبر، حيث تقول: لا تعبدون إلا الله، و تختتم بالإنشاء حيث تقول و قولوا للناس حسنا إلخ.
و لعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان اشتمالها على التقريع و التوبيخ و جرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول و بني على حكايته حكي بالخطاب فقيل: لا تعبدون إلا الله إلخ، و هو نهي في صورة الخبر.
و إنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كان الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، و لا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا و كذا قوله: و بالوالدين إحسانا و ذي القربى و اليتامى و المساكين، كل ذلك أمر في صورة الخبر.
ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، و هو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: و أقيموا الصلوة و آتوا الزكوة ثم توليتم إلخ و انتظم بذلك السياق.
قوله تعالى: و بالوالدين إحسانا، أمر أو خبر بمعنى الأمر و التقدير و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و ذي القربى و اليتامى و المساكين، أو التقدير: و تحسنون بالوالدين إحسانا، إلخ، و قد رتب موارد الإحسان أخذا من الأهم و الأقرب إلى المهم و الأبعد فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، و الوالدان و هما الأصل الذي تتكي عليه و تقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام، و في غير القرابة أيضا اليتامى أحق بالإحسان لصغرهم و فقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين.
هذا و قوله: و اليتامى، اليتيم من مات أبوه، و لا يقال لمن ماتت أمه يتيم.
و قيل اليتيم في الإنسان إنما تكون من جهة الأب و في غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الأم و قوله تعالى: و المساكين، جمع مسكين و هو الفقير العادم الذليل.
و قوله تعالى: حسنا مصدر بمعنى الصفة جيء به للمبالغة.
و في بعض القراءات حسنا، بفتح الحاء و السين صفة مشبهة.
و المعنى قولوا للناس قولا حسنا، و هو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، و مؤمنهم و لا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لأن مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.
قوله تعالى: لا تسفكون دماءكم، خبر في معنى الإنشاء نظير ما مر في قوله: لا تعبدون إلا الله، و السفك الصب.
قوله تعالى: تظاهرون عليهم، التظاهر هو التعارف، و الظهير العون مأخوذ من الظهر لأن العون يلي ظهر الإنسان.
قوله تعالى: و هو محرم عليكم إخراجهم، الضمير للشأن و القصة كقوله تعالى: قل هو الله أحد.
قوله تعالى: أ فتؤمنون ببعض الكتاب، أي ما هو الفرق بين الإخراج و الفدية حيث أخذتم بحكم الفدية و تركتم حكم الإخراج و هما جميعا في الكتاب، أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض.
قوله تعالى: و قفينا التقفية الاتباع و إتيان الواحد قفا الواحد.
قوله تعالى: و آتينا عيسى بن مريم البينات، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.
قوله تعالى: و قالوا قلوبنا غلف جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف و أستار و حجب، فهو نظير قوله تعالى: «و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه»: حم سجدة - 5، و هو كناية عن عدم إمكان استماع ما يدعون إليه.
بحث روائي
في الكافي، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: و قولوا للناس حسنا الآية. قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم.
و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قولوا للناس و لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو.
و في المعاني، عن الباقر (عليه السلام) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز و جل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل و يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف.
أقول: و روى مثل الحديث في الكافي، بطريق آخر عن الصادق (عليه السلام) و كذا العياشي عنه (عليه السلام) و مثل الحديث الثاني في الكافي، عنه.
و مثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر (عليه السلام) و كان هذه المعاني استفيدت من إطلاق الحسن عند القائل و إطلاقه من حيث المورد.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة. قال الله: و قولوا للناس حسنا، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى قوله: «قاتلوا الذين لا يؤمنون» الحديث.
أقول: و هو منه (عليه السلام) أخذ بإطلاق آخر للقول و هو شموله للكلام و لمطلق التعرض.
يقال لا تقل له إلا حسنا و خيرا أي لا تتعرض له إلا بالخير و الحسن، و لا تمسسه إلا بالخير و الحسن.
هذا إن كان النسخ في قوله (عليه السلام) هو النسخ بالمعنى الأخص و هو المصطلح و يمكن أن يكون المراد هو النسخ بالمعنى الأعم، على ما سيجيء في قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها»: البقرة - 106، و هو الكثير في كلامهم (عليهم السلام) لتكون هذه الآية و آية القتال غير متحدتين موردا.
|