بيان
متفرقات من وعيد و وعد و حجة و حكم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرعة على ما تقدم في السورة.
قوله تعالى: «و كذلك نجزي من أسرف و لم يؤمن بآيات ربه و لعذاب الآخرة أشد و أبقى» الإسراف التجاوز عن الحد و الظاهر أن الواو في قوله: «و كذلك» للاستيناف، و الإشارة إلى ما تقدم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله و نسي آيات ربه فإنه تجاوز منه عن حد العبودية و كفر بآيات ربه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربه و تركها بعد ما عهد إليه معرضا عن ذكره.
و قوله: «و لعذاب الآخرة أشد و أبقى» أي من عذاب الدنيا و ذلك لكونه محيطا بباطن الإنسان كظاهره و لكونه دائما لا يزول.
قوله تعالى: «أ فلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم» إلخ، الظاهر أن «يهد» مضمن معنى يبين، و المعنى أ فلم يبين لهم طريق الاعتبار و الإيمان بالآيات كثرة إهلاكنا القرون التي كانوا قبلهم و هم يمشون في مساكنهم كما كانت تمر أهل مكة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن و مساكن ثمود و أصحاب الأيكة بالشام و مساكن قوم لوط بفلسطين «إن في ذلك لآيات لأولي النهى» أي أرباب العقول.
قوله تعالى: «و لو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما و أجل مسمى» مقتضى السياق السابق أن يكون «لزاما» بمعنى الملازمة و هما مصدرا لازم يلازم، و المراد بالمصدر معنى اسم الفاعل و على هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور في الآية السابقة، و أن قوله: «و أجل مسمى» معطوف على «كلمة سبقت» و التقدير و لو لا كلمة سبقت من ربك و أجل مسمى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا و لم يؤمنوا بآيات ربهم.
و احتمل بعضهم أن يكون لزام اسم آلة كحزام و ركاب و آخرون أن يكون جمع لازم كقيام جمع قائم و المعنيان لا يلائمان السياق كثيرا.
و قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك» تكررت هذه الكلمة منه سبحانه في حق بني إسرائيل و غيرهم في مواضع من كلامه كقوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم:» يونس: 19 هود: 110 حم السجدة: 45، و قد غياها بالأجل المسمى في قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم:» الشورى: 14، و قد تقدم في تفسير سورتي يونس و هود أن المراد بها الكلمة التي قضي بها عند إهباط آدم إلى الأرض بمثل قوله: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين:» الأعراف: 24.
فالناس آمنون من الهلاك و عذاب الاستئصال على إسرافهم و كفرهم ما بين استقرارهم في الأرض و أجلهم المسمى إلا أن يجيئهم رسول فيقضي بينهم، قال تعالى: و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون:» يونس: 47 و إليه يرجع عذاب الاستئصال عن الآيات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت و هذه الأمة حالهم حال سائر الأمم في الأمن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، و أما القضاء بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أخره الله إلى أمد كما تقدم استفادته من قوله: «و لكل أمة رسول» الآية من سورة يونس.
و احتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعدا خاصا بهذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة و قد مر في تفسير سورة يونس أن ظاهر الآيات خلافه نعم يدل كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدم.
و نظيره في الفساد قول الآخرين إن المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم بالسيف و الأجل المسمى لباقي كفار مكة و هو كما ترى.
و قوله: «و أجل مسمى» قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل المسمى هو الأجل المعين بالتسمية الذي لا يتخطا و لا يتخلف كما قال تعالى: «ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون:» الحجر: 5، و ذكر بعضهم أن المراد بالأجل المسمى يوم القيامة، و قال آخرون إن الأجل المسمى هو الكلمة التي سبقت من الله فيكون عطف الأجل على الكلمة من عطف التفسير، و لا معول على القولين لعدم الدليل.
فمحصل معنى الآية أنه لو لا أن الكلمة التي سبقت من ربك - و في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب إعزاز و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - تقضي بتأخير عذابهم و الأجل المسمى يعين وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازما لهم بمجرد الإسراف و الكفر.
و من هنا يظهر أن مجموع الكلمة التي سبقت و الأجل المسمى سبب واحد تام لتأخير العذاب عنهم لا أن كل واحد منهما سبب مستقل في ذلك كما اختاره كثير منهم.
قوله تعالى: «فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها» إلخ، يأمره بالصبر على ما يقولون و يفرعه على ما تقدم كأنه قيل: إذا كان من قضاء الله أن يؤخر عذابهم و لا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلا أن تصبر راضيا على ما قضاه الله من الأمر و تنزهه عما يقولونه من كلمة الشرك و يواجهونك به من السوء، و تحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلا الجميل فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك لعلك ترضى.
و قوله: «و سبح بحمد ربك» أي نزهه متلبسا بحمده و الثناء عليه فإن هذه الحوادث التي يشق تحملها و الصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها و ليست إلا سيئة يجب تنزيهه تعالى عنها و لها نسبة بالإذن إليه تعالى و هي بهذه النسبة جميلة لا يترتب عليها إلا مصالح عامة يصلح بها النظام الكوني ينبغي أن يحمد الله و يثني عليه بها.
و قوله: «قبل طلوع الشمس و قبل غروبها» ظرفان متعلقان بقوله: «و سبح بحمد ربك».
و قوله: «و من آناء الليل فسبح» الجملة نظيرة قوله: «و إياي فارهبون:» البقرة: 40، و الآناء على أفعال جمع إني أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و «من» للتبعيض و الجار و المجرور متعلق بقوله: «فسبح» دال على ظرف في معناه متعلق بالفعل و التقدير و بعض آناء الليل سبح فيها.
و قوله: «و أطراف النهار» منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على قوله: «و من آناء» و التقدير و سبح في أطراف النهار و هل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها، أو غير ذلك؟ اختلفت فيه كلمات المفسرين و سنشير إليه.
و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات و إليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة و غيره.
قالوا: إن مجموع الآية يدل على الأمر بالصلوات الخمس اليومية فقوله: «قبل طلوع الشمس» صلاة الصبح، و قوله: «و قبل غروبها» صلاة العصر و قوله: «و من آناء الليل» صلاتا المغرب و العشاء، و قوله: «و أطراف النهار» صلاة الظهر.
و معنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه بعد الزوال أنه لو نصف النهار حصل نصفان: الأول و الأخير و صلاة الظهر في الجزء الأول من النصف الثاني فهي في طرف النصف الأول لأن آخر النصف الأول ينتهي إلى جزء يتصل بوقتها، و في طرف النصف الثاني لأنه يبتدىء من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف الأول باعتبار و طرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان اثنان اعتبارا.
و أما إطلاق الأطراف - بصيغة الجمع - على وقتها و إنما هو طرفان اعتبارا فباعتبار أن الجمع قد يطلق على الاثنين و إن كان الأشهر الأعرف كون أقل الجمع في اللغة العربية ثلاثة.
و قيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نهر لكل فرد منها طرفان فيكون أطرافا، و قد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضا و جوابا.
لكن الإنصاف أن أصل التوجيه تعسف بعيد من الفهم فالذوق السليم - بعد اللتيا و التي - يأبى أن يسمي وسط النهار أطراف النهار بفروض و اعتبارات وهمية لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها و لا أمرا يرتضيه الذوق و لا يستبشعه.
و أما من قال: إن المراد بالتسبيح و التحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح و الحمد إما بتذكر تنزيهه و الثناء عليه تعالى قلبا و إما بقول مثل سبحان الله و الحمد لله لسانا أو الأعم من القلب و اللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها و آناء الليل الصبح و العصر و أوقات الليل و أطراف النهار الصبح و العصر.
و أما لزوم إطلاق الأطراف و هو جمع على الصبح و العصر و هما اثنان فقد أجابوا عنه بمثل ما تقدم في القول السابق من اعتبار أقل الجمع اثنين.
و أما لزوم التكرار بذكر تسبيح الصبح و العصر مرتين فقد التزم به بعضهم قائلا إن ذلك للتأكيد و إظهار مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، و يظهر من بعضهم أن المراد بالأطراف الصبح و العصر و وسط النهار.
و أنت خبير بأنه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير، و الإشكال كله ناش من ناحية قوله: «و أطراف النهار» من جهة انطباقه على وسط النهار أو الصبح و العصر.
و الذي يمكن أن يقال إن قوله: «و أطراف النهار» مفعول معه و ليس بظرف بتقدير في و إن لم يذكره المفسرون على ما أذكر، و المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوي سعة لكل منهما أجزاء كل جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصح أن يسميا أطراف النهار كما يصح أن يسميا طرفي النهار و ذلك كما يسمى ما قبل طلوع الشمس أول النهار باعتبار وحدته و أوائل النهار باعتبار تجزيه إلى أجزاء، و يسمى ما قبل غروبها آخر النهار، و أواخر النهار.
فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: «و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و هي أطراف النهار، و بعض أوقات الليل سبح فيها مع أطراف النهار التي أمرت بالتسبيح فيها.
فإن قلت: كيف يستقيم كون «أطراف النهار» مفعولا معه و هو ظرف للتسبيح بتقدير في نظير ظرفية «آناء الليل» له؟.
قلت: آناء الليل ليس ظرفا بلفظه كيف؟ و هو مدخول من و لا معنى لتقدير في معه و إنما يدل به على الظرف، و معنى «و من آناء الليل فسبح» و بعض آناء الليل سبح فيه، فليكن «و أطراف النهار» كذلك، و المعنى مع أطراف النهار التي تسبح فيها و الظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدر.
هذا.
فلو قلنا: إن المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح في أجزاء من أول النهار و أجزاء من آخره و أجزاء من الليل بمعية أجزاء أول النهار و آخره و لم يلزم محذور التكرار و لا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة، و هو ظاهر.
و لو قلنا إن المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليومية كانت الآية متضمنة للأمر بصلاة الصبح و صلاة العصر و صلاتي المغرب و العشاء فحسب نظير الأمر في قوله تعالى: «أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل:» هود: 114، و لعل التعبير عن الوقتين في الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للإشارة إلى سعة الوقتين.
و لا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليومية فإن السورة - كما سنشير إليه - من أوائل السور النازلة بمكة و قد دلت الأخبار المستفيضة التي رواها العامة و الخاصة أن الفرائض اليومية إنما شرعت خمسا في المعراج كما ذكرت في سورة الإسراء النازلة بعد المعراج خمسا في قوله: «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر:» الإسراء: 78، فلعل التي شرعت من الفرائض اليومية حين نزول سورة طه و كذا سورة هود - و هما قبل سورة الإسراء نزولا - كانت هي الأربع و لم تكن شرعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الآيتين: آية طه و آية هود.
و معلوم أنه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس و انطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر و هو وسط النهار.
هذا.
و قوله: «لعلك ترضى» السياق السابق و قد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربهم و نسيانهم آياته و إسرافهم في أمرهم و عدم إيمانهم ثم ذكر تأخير الانتقام منهم و أمره بالصبر و التسبيح و التحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله و قدره، و المعنى: فاصبر و سبح بحمد ربك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى مثل معنى قوله: «و استعينوا بالصبر و الصلاة».
و الوجه فيه أن تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص و الشين و ذكره بالثناء الجميل و المداومة على ذلك يوجب أنس النفس به و زيادته و زيادة الأنس بجمال فعله و نزاهته توجب رسوخه فيها و ظهوره في نظرها و زوال الخطورات المشوشة للإدراك و الفكر، و النفس مجبولة على الرضا بما تحبه و لا تحب غير الجميل المنزه عن القبح و الشين فإدامة ذكره بالتسبيح و التحميد تورث الرضا بقضائه.
و قيل: المراد لعلك ترضى بالشفاعة و الدرجة الرفيعة عند الله.
و قيل: لعلك ترضى بجميع ما وعدك الله به من النصر و إعزاز الدين في الدنيا و الشفاعة و الجنة في الآخرة.
قوله تعالى: «و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه» إلخ، مد العين مد نظرها و إطالته ففيه مجاز عقلي ثم مد النظر و إطالته إلى شيء كناية عن التعلق به و حبه و المراد بالأزواج - كما قيل - الأصناف من الكفار أو الأزواج من النساء و الرجال منهم و يرجع إلى البيوتات و تنكير الأزواج للتقليل و إظهار أنهم لا يعبأ بهم.
و قوله: «زهرة الحياة الدنيا» بمنزلة التفسير لقوله: «ما متعنا به» و هو منصوب بفعل مقدر و التقدير نعني به - أو جعلنا لهم - زهرة الحياة الدنيا و هي زينتها و بهجتها، و الفتنة الامتحان و الاختبار، و قيل: المراد بها العذاب لأن كثرة الأموال و الأولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال: «و لا تعجبك أموالهم و أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون»: التوبة: 85.
و قوله: «و رزق ربك خير و أبقى» المراد به بقرينة مقابلته لما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا هو رزق الآخرة و هو خير و أبقى.
و المعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا و بهجتها التي متعنا بها أصنافا أو أزواجا معدودة منهم لنمتحنهم فيما متعنا به، و الذي سيرزقك ربك في الآخرة خير و أبقى.
قوله تعالى: «و أمر أهلك بالصلوة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوى» الآية ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكية كسائرها على أنا لم نظفر بمن يستثنيها و يعدها مدنية، و على هذا فالمراد بقوله «أهلك» بحسب انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام) و كان من أهله و في بيته أو هما و بعض بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقول بعضهم: إن المراد به أزواجه و بناته و صهره علي، و قول آخرين: المراد به أزواجه و بناته و أقرباؤه من بني هاشم و المطلب، و قول آخرين: جميع متبعيه من أمته غير سديد، نعم لا بأس بالقول الأول من حيث جري الآية و انطباقها لا من حيث مورد النزول فإن الآية مكية و لم يكن له (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة من الأزواج غير خديجة (عليها السلام).
و قوله: «لا نسألك رزقا نحن نرزقك» ظاهر المقابلة بين الجملتين أن المراد سؤاله تعالى الرزق لنفسه و هو كناية عن أنا في غنى منك و أنت المحتاج المفتقر إلينا فيكون في معنى قوله: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين:» الذاريات: 56 58، و أيضا هو من جهة تذييله بقوله: «و العاقبة للتقوى» في معنى قوله: «لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم:» الحج - 37، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق للخلق أو لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بسديد.
و قوله: «و العاقبة للتقوى» تقدم البحث فيه كرارا.
و لا يبعد أن يستفاد من الآية من جهة قصر الأمر بالصلاة في أهله مع ما في الآيتين السابقتين من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه بالصلوات الأربع اليومية و الصبر و النهي عن أن يمد عينيه فيما متع به الكفار أن السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الآية.
و فيما روي عن ابن مسعود أن سورة طه من العتاق الأول.
قوله: «و قالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أ و لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى» حكاية قول مشركي مكة و إنما قالوا هذا تعريضا للقرآن أنه ليس بآية دالة على النبوة فليأتنا بآية كما أرسل الأولون و البينة الشاهد المبين أو البين و قيل هو البيان.
و كيف كان فقولهم: «لو لا يأتينا بآية من ربه» تحضيض بداعي إهانة القرآن و تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باقتراح آية معجزة أخرى، و قوله: «أ و لم تأتهم بينة» إلخ، جواب عنه و معناه على الوجه الأول من معنيي البينة أ و لم تأتهم بينة و شاهد يشهد على ما في الصحف الأولى - و هي التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية - من حقائق المعارف و الشرائع و يبينها و هو القرآن و قد أتى به رجل لا عهد له بمعلم يعلمه و لا ملقن يلقنه ذلك.
و على الوجه الثاني: أ و لم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى من أخبار الأمم الماضين الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزة فأتوا بها و كان إتيانها سببا لهلاكهم و استئصالهم لما لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن؟ و لكل من المعنيين نظير في كلامه تعالى.
قوله تعالى: «و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل و نخزى» الظاهر أن ضمير «من قبله» للبينة - في الآية السابقة - باعتبار أنها القرآن، و المعنى: و لو أنا أهلكناهم لإسرافهم و كفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البينة لم تتم عليهم الحجة و لكانت الحجة لهم علينا و لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و هي التي تدل عليها البينة من قبل أن نذل بعذاب الاستئصال و نخزى.
و قيل الضمير للرسول المعلوم من مضمون الآية السابقة بشهادة قولهم: «لو لا أرسلت إلينا رسولا» و هو قريب من جهة اللفظ و المعنى الأول من جهة المعنى و يؤيده قوله: «فنتبع آياتك» و لم يقل فنتبع رسولك.
قوله تعالى: «قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي و من اهتدى» التربص الانتظار، و الصراط السوي الطريق المستقيم، و قوله: «كل متربص» أي كل منا و منكم متربص منتظر فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم و في تقدم دينه و تمام نوره و أنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة و كل منا و منكم يسلك سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا و انتظروا و فيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا و منكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه و من الذين اهتدوا إلى المطلوب و فيه ملحمة و إخبار بالفتح.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لكان لزاما و أجل مسمى» قال: كان ينزل بهم العذاب و لكن قد أخرهم إلى أجل مسمى.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و ابن عساكر عن جرير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها» قال: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح و قبل غروبها صلاة العصر.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار» قال: بالغداة و العشي.
أقول: و هو يؤيد ما قدمناه.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: «و أطراف النهار لعلك ترضى»؟ قال: يعني تطوع بالنهار.
أقول: و هو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لا تمدن عينيك» الآية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا ثم قال: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، و من اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه و لم يشف غيظه، و من لم يعرف أن لله عليه نعمة لا في مطعم و لا في مشرب قصر أجله و دنا عذابه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن راهويه و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الخرائطي في مكارم الأخلاق و أبو نعيم في المعرفة عن أبي رافع قال: أضاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضيفا و لم يكن عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن. فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما و الله إني لأمين في السماء أمين في الأرض و لو أسلفني أو باعني لأديت إليه أذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية «و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم» كأنه يعزيه عن الدنيا.
أقول: و مضمون الآية و خاصة ذيلها لا يلائم القصة.
و فيه، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت «و أمر أهلك بالصلاة» كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيء إلى باب علي ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.
أقول: و رواه في مجمع البيان، عن الخدري و فيه تسعة أشهر مكان ثمانية أشهر، و روى هذا المعنى في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون عنه، (عليه السلام) و رواه القمي أيضا في تفسيره، مرفوعا، و التقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على تحديد أصل إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الشاهد عليه ما رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده عن أبي الحميراء قال: شهدت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين صباحا يجيء إلى باب علي و فاطمة فيأخذ بعضادتي الباب ثم يقول: السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.
و ظاهر الرواية كون الآية مدنية و لم يذكر ذلك أحد فيما أذكر و لعل المراد بيان إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) الباب في المدينة عملا بالآية و لو كانت نازلة بمكة و إن كان بعيدا من اللفظ و في رواية القمي التي أومأنا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها: فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا، و حديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق أخرى أيضا غير ما مرت الإشارة إليه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو عبيد و سعيد بن منصور و ابن المنذر و الطبراني في الأوسط، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في شعب الإيمان، بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة و تلا و أمر أهلك بالصلاة الآية.
أقول: و روى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد، و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن ثابت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الآية.
|