بيان
فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى و هارون (عليهما السلام) إلى فرعون و تبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل، و قد فصل في الآيات خبر ذهابهما إليه و إظهارهما آيات الله و مقابلة السحرة و ظهور الحق و إيمان السحرة و أشير إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل و شق البحر و اتباع فرعون لهم بجنوده و غرقهم.
قوله تعالى: «قال فمن ربكما يا موسى» حكاية لمحاورة موسى و فرعون و قد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون و يدعواه إلى التوحيد و يكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف و ما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه.
و يظهر مما نقل من كلام فرعون إنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها و هارون وزيره و لذا خاطب موسى وحده و سأل عن ربهما معا.
و قد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها «إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك» إلخ، لفظ «ربك» خطابا لفرعون مرتين و هو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما و لغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: «أنا ربكم الأعلى:» النازعات: 24، و قال: «لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين»: الشعراء: 29، فقوله: «فمن ربكما» - و كان الحري بالمقام أن يقول فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك - يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما «ربك» و يسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
و كان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر و أعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها و ربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه بالعبادة و القربان ليقرب الإنسان من الله زلفى و يشفع له عنده فهؤلاء هم الآلهة و الأرباب و ليس الله سبحانه بإله و لا رب و إنما هو إله الآلهة و رب الأرباب فقول القائل: إن لي ربا إنما يعني به أحد الآلهة من دون الله و ليس يعني به الله سبحانه و لا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.
فقول فرعون: «فمن ربكما» ليس إنكارا لوجود خالق الكل و لا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله: «و يذرك و آلهتك»: الأعراف: 127، و إنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها و ربا من هو غيره؟ و هذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه و هما في أول الدعوة فهو يقدر و لو كتقدير المتجاهل أن موسى و أخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة التي يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، و قد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الآلهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها و ربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم و سيأتي قول الملإ: «و يذهبا بطريقتكم المثلى» نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق و التدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.
فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة و التقرب و إنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة و الجن و القديسين من البشر، و كان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة و الأرباب و كان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الآلهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم و كان أكثرهم من الوثنية الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكا متألها و هو يعبد الأصنام و هو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.
و من هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني،: ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا و استدلوا عليه بعدة من الآيات.
و بأن ملكه لم يتجاوز القبط و لم يبلغ الشام أ لا ترى أن موسى (عليه السلام) لما هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم؟ و بأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا و كل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم و من كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر.
و من الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و اختلفوا في كيفية جهله.
فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، و لعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر و أن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي مقراطيس و أتباعه.
و يحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة و يحتمل أنه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، و يحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، و أما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته و الانقياد له و عدم الاشتغال بطاعة غيره.
انتهى بنحو من التلخيص.
و أنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الأقوال و المحتملات و لا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الأمر.
قوله تعالى: «قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» سياق الآية - و هي واقعة في جواب سؤال فرعون: «فمن ربكما يا موسى» - يعطي أن «خلقه» بمعنى اسم المصدر و الضمير للشيء فالمراد الوجود الخاص بالشيء.
و الهداية إراءة الشيء الطريق الموصل إلى مطلوبه أو إيصاله إلى مطلوبه و يعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد و هو نوع من إيصال الشيء إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه.
و قد أطلق الهداية من حيث المهدي و المهدي إليه، و لم يسبق في الكلام إلا الشيء الذي أعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شيء - المذكور قبلا - إلى مطلوبه و مطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده و ينتهي إليها و المطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه و معنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.
فيئول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شيء بما جهز به في وجوده من القوى و الآلات و بين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلا و هو نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى و أعضاء تناسب من الأفعال و الآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه و بدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصها و هو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت و سيرت بما جهزت به من القوى و الأعضاء نحو مطلوبها و هو غاية الوجود الإنساني و الكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع.
و من هنا يظهر معنى عطف قوله: «هدى» على قوله: «أعطى كل شيء خلقه» بثم و أن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشيء و حركته بعد وجوده رتبة و هذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو.
و ظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شيء دون الهداية الخاصة بالإنسان، و ذلك بتحليل الهداية الخاصة و تعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب و الطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شيء جهز بما يربطه بشيء و يحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشيء فكل شيء مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز و الله سبحانه هو الهادي.
فنظام الفعل و الانفعال في الأشياء و إن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شيء و النظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها و انتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى و ذلك بعناية أخرى مصداق لتدبيره، و معلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذي ينتهي و ينتسب إليه تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهي إليه و يقوم به.
فقد تبين أن الكلام أعني قوله: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شيء لا رب غيره فإن خلقه الأشياء و إيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - و ملك تدبير أمرها.
و عند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي و السياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد و طاعة الرسول و قد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، و حمل كلامهما على دعوتهما له إلى ربهما فسأل: من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما و إياه و غيرهم جميعا فأجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» فأجيب بأنه رب كل شيء و أفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، و لو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.
و إنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الإشارة إليه لأن المقام مقام الدعوة و الهداية و الهداية، العامة أشد مناسبة له.
هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الآية الكريمة، و بذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للآية: كقول بعضهم: إن المراد بقوله: «خلقه» مثل خلقه و هو الزوج الذي يماثل الشيء، و المعنى: الذي خلق لكل شيء زوجا، فيكون في معنى قوله: «و من كل شيء خلقنا زوجين».
و قول بعضهم: إن المراد بكل شيء أنواع النعم و هو مفعول ثان لأعطى و بالخلق المخلوق و هو مفعول أول لأعطى، و المعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شيء من النعم.
و قول بعضهم: إن المراد بالهداية الإرشاد و الدلالة على وجوده تعالى و وحدته بلا شريك، و المعنى: الذي أعطى كل شيء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد و دل بذلك على وجود نفسه و وحدته.
و التأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق و تقييدات للفظ الآية من غير مقيد.
قوله تعالى: «قال فما بال القرون الأولى» قيل: البال في الأصل بمعنى الفكر و منه قولهم: خطر ببالي كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، و لا يثنى و لا يجمع، و قولهم: بآلات، شاذ.
لما كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الإنسان إلا بنبوة و معاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب و جزاء يتميز به المحسن من المسيء و لا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه و ما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففي آخرها: «إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب و تولى» و الوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية - و قد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد و السؤال عنه بانيا على الاستبعاد.
فقوله: «فما بال القرون الأولى» أي ما حال الأمم و الأجيال الإنسانية الماضية الذين ماتوا و فنوا لا خبر عنهم و لا أثر كيف يجزون بأعمالهم و لا عامل في الوجود و لا عمل و ليسوا اليوم إلا أحاديث و أساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله: «و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد:» الم السجدة: 10، و ظاهر الكلام أنه مبني على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم و بأعمالهم للموت و الفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام).
قوله تعالى: «قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى» أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: «علمها عند ربي» فأطلق العلم بها فلا يفوته شيء من أشخاصهم و أعمالهم و جعلها عند الله فلا تغيب عنه و لا تفوته، و قد قال تعالى: «و ما عند الله باق» ثم قيد ذلك بقوله: «في كتاب» - و كأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله و قد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته و دقتها فلا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها.
فيئول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل و لم يعلم بها لكنها معلومة لربي محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ و لا تغيير و لا غيبة و زوال.
و قوله: «لا يضل ربي و لا ينسى» نفي للجهل الابتدائي و الجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم و لكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشيء مكان غيره و إنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كانت عليه في العلم أولا، و النسيان خروج الشيء من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، و نفيه هو المناسب لإثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون الأولى و لا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.
و من هنا يظهر أن قوله: «لا يضل ربي و لا ينسى» من تمام بيان الآية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها و إن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار لا يتميز شيء منها من شيء فأجيب بأن شيئا منها و من آثارها و أعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال و لا يغيب عنه بنسيان، و لذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.
و قد أثبت العلم و نفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى و ذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شيء - و الرب هو المالك للشيء المدبر لأمره - يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة و كونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له، و لو فرض شيء منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشيء أيا ما كان و أينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما و لا فاصل و هو الحضور الذي نسميه علما و قد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.
و قد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل و لم يقل: «ربنا» كما في الآية السابقة لأن السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا و أخي إليه هو كذا و كذا، و أما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى و الذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، و الذي يفيد هذا المعنى هو «ربي» لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.
و النكتة في «ربي» الثاني هي نظيرة ما في «ربي» الأول و في كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.
و قد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه و الاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها و من أعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى: «فما بال القرون الأولى» سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول المعارف الإلهية و إقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ و المعاد مما ينكره الوثنية و يشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين و أخبار الماضين، و جواب موسى: «علمها عند ربي» إلخ، محصله إرجاع العلم بها إلى الله و أنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب.
قوله تعالى: «الذي جعل لكم الأرض مهدا - إلى قوله - لآيات لأولي النهى» قد عرفت أن لسؤاله «فما بال القرون الأولى؟» ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الإنسان إلى سعادته في الحياة و هي الحياة الخالدة الأخروية و كذا الجواب عنه بقوله: «علمها عند ربي» إلخ مرتبط فقوله: «الذي جعل لكم الأرض مهدا» مضى في الحديث عن الهداية العامة و ذكر شواهد بارزة من ذلك.
فالله سبحانه أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد و يربى لحياة هي أشرف منه و أرقى، و جعل للإنسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه و بين غايته و هو التقرب منه تعالى و الدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية و أنزل من السماء ماء و هو ماء الأمطار و منه مياه عيون الأرض و أنهارها و بحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا و أصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته و ربوبيته تعالى.
فقوله: «الذي جعل لكم الأرض مهدا» إشارة إلى قرار الإنسان في الأرض لإدامة الحياة و هو من الهداية، و قوله: «و سلك لكم فيها سبلا» إشارة إلى مسالك الإنسان التي يسلكها في الأرض لإدراك مآربه و هو أيضا من الهداية، و قوله: «و أنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا و ارعوا أنعامكم» إشارة إلى هداية الإنسان و الإنعام إلى أكل النبات لإبقاء الحياة، و فيه هداية السماء إلى الإمطار و ماء الأمطار إلى النزول و النبات إلى الخروج.
و الباء في «به» للسببية و فيه تصديق السببية و المسببية بين الأمور الكونية، و المراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا و أصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة الإزدواج بين الذكور و الإناث من النبات و هي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز.
و قوله: «فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى» فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: و الوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب و إبداع الصور المتشتتة و الأزواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة و الصنع العظيم لا يصدر إلا من العظيم و العظماء يتكلمون عنهم و عن غيرهم من أعوانهم و قد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: «أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها»: فاطر: 27، و قوله: «و أنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة»: النمل: 60، و قوله: «و هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء:» الأنعام: 99.
و قوله: «إن في ذلك لآيات لأولي النهى» النهى جمع نهية بالضم فالسكون: و هو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى.
قوله تعالى: «منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى» الضمير للأرض و الآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض ثم إعادته فيها و صيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الإنسان.
قوله تعالى: «و لقد أريناه آياتنا كلها فكذب و أبى» الظاهر أن المراد بالآيات العصا و اليد و سائر الآيات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله: «اذهب أنت و أخوك بآياتي» فالمراد جميع الآيات التي أريها و إن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: «فكذب و أبى» مطلق تكذيبه و إبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة.
قوله تعالى: «قال أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى» الضمير لفرعون و قد اتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة و حقية دعوته، و ثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم و هي أرض مصر، و هي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه و إثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم من بيئتهم و وطنهم بمكيدته و لا حياة لمن لا بيئة له.
قوله تعالى: «فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا و بينك موعدا لا نخلفه نحن و لا أنت مكانا سوى» الظاهر كما يشهد به الآية التالية أن الموعد اسم زمان و إخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، و مكان سوى بضم السين أي واقع المنتصف من المسافة أو مستوي الأطراف من غير ارتفاع و انخفاض قال في المفردات،: و مكان سوى و سواء وسط، و يقال: سواء و سوى و سوى - بضم السين و كسرها - أي يستوي طرفاه، و يستعمل ذلك وصفا و ظرفا، و أصل ذلك مصدر.
انتهى.
و المعنى: فأقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك و إبطال إرادتك فاجعل بيننا و بينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوي الأطراف أو اجعل بيننا و بينك مكانا كذلك.
قوله تعالى: «قال موعدكم يوم الزينة و أن يحشر الناس ضحى» الضمير لموسى و قد جعل الموعد يوم الزينة، و يظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجري بينهم مجرى العيد، و يظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه و يزينون الأسواق، و حشر الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها، و الضحى وقت انبساط الشمس من النهار.
و قوله: «و أن يحشر الناس ضحى» معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت و نحوه و المعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة و يوم حشر الناس في الضحى، و ليس من البعيد أن يكون مفعولا معه و المعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى و يرجع إلى الاشتراط.
و إنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به و يأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة.
قوله تعالى: «فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى» ظاهر السياق أن المراد بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، و المراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة و سائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس و التلبيس عليهم و يمكن أن يكون المراد بجمع كيده جمع ذوي كيده بحذف المضاف و المراد بهم السحرة و سائر عماله و أعوانه و قوله: «ثم أتى» أي ثم أتى الموعد و حضره.
قوله تعالى: «قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب و قد خاب من افترى» الويل كلمة عذاب و تهديد، و الأصل فيه معنى العذاب و معنى ويلكم عذبكم الله عذابا، و السحت بفتح السين استيصال الشعر بالحلق و الإسحات الاستئصال و الإهلاك.
و قوله: «قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا» ضمائر الجمع غيبة و خطابا لفرعون و كيده و هم السحرة و سائر أعوانه على موسى (عليه السلام) و قد مر ذكرهم في الآية السابقة، و أما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر و لا دل عليهم دليل من جهة اللفظ.
و هذا القول من موسى (عليه السلام) موعظة لهم و إنذار أن يفتروا على الله الكذب، و قد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الآيات الإلهية سحرا، و رمي الدعوة الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم و من الافتراء أيضا السحر لكن افتراء الكذب على الله و هو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، و عد الآية المعجزة سحرا و الدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله و كذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شيء منها افتراء على الله.
فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد بأصول الوثنية كألوهية الآلهة و شفاعتها و رجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الآية بذلك، و قد عد ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله: «قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم:» الأعراف: 89.
و قوله: «فيسحتكم بعذاب» تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى يستأصلكم و يهلككم بعذاب بسبب شرككم، و تنكير العذاب للدلالة على شدته و عظمته.
قوله: «و قد خاب من افترى» الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة و قد وضعت الجملة في الكلام وضع الأصل الكلي الذي يتمسك به و هو كذلك فإن الافتراء من الكذب و سببيته سببية كاذبة و الأسباب الكاذبة لا تهتدي إلى مسببات حقة و آثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء و لا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم و الخسران فالآية أشمل معنى من قوله تعالى: «إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون:» يونس: 69.
لإثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الآية الثانية و قد تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله: «و جاءوا على قميصه بدم كذب:» يوسف: 18 في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى: «فتنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى» - إلى قوله - من استعلى» التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشيء من مقره لينقلع منه و التنازع يتعدى بنفسه كما في الآية و بفي كقوله: «فإن تنازعتم في شيء:» النساء: 59.
و النجوى الكلام الذي يسار به، و أصله مصدر بمعنى المناجاة و هي المسارة في الكلام، و المثلى مؤنث أمثل كفضلى و أفضل و هو الأقرب الأشبه و الطريقة المثلى السنة التي هي أقرب من الحق أو من أمنيتهم و هي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم تدار بها و هي عبادة الآلهة و في مقدمتها فرعون إله القبط، و الإجماع - على ما ذكره الراغب - جمع الشيء عن فكر و ترو، و الصف جعل الأشياء على خط مستو كالإنسان و الأشجار و نحو ذلك و يستعمل مصدرا و اسم مصدر و قوله: «ثم ائتوا صفا» يحتمل أن يكون مصدرا، و أن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد و اتفاق من دون أن تختلفوا و تتفرقوا فتضعفوا و كونوا كيد واحدة عليه.
و يظهر من تفريع قوله: «فتنازعوا أمرهم» على ما في الآية السابقة من قوله: «قال لهم موسى» إلخ إن التنازع و الاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثرت فيهم بعض أثرها و من شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض و كان محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من ألوهية الآلهة و شفاعتها فنسبتكم الشركاء و الشفعاء إلى الله افتراء عليه و قد خاب من افترى و هذا برهان واضح لا ستر عليه و لا غبار.
و يظهر من قوله الآتي الحاكي لقول السحرة: «إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا و ما أكرهتنا عليه من السحر» أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة و منهم و ربما أشعر قوله الآتي: «ثم ائتوا صفا» أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم و لعل السياق يساعد على ذلك.
و كيف كان لما رأى فرعون و أياديه تنازع القوم - و فيه خزيهم و خذلانهم - أسروهم النجوى و لم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة و الموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر و طرح خطة سياسية لإخراج أمة القبط من أرضهم و لا ترضى الأمة بذلك ففيه خروج من ديارهم و أموالهم و سقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء و هم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.
و أضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء و الخروج من الديار و الأموال و هو ذهاب طريقتهم المثلى و سنتهم القومية التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن و جيلا بعد جيل و قد اشتد بها عظمهم و نبت عليها لحمهم و العامة تقدس السنن القومية و خاصة ما اعتادت عليها و أذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية.
و هذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبت و الاستقامة على ملة الوثنية لكن لا لأنها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة موسى أوضحت فسادها و كشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها مليتهم و تستند إليها شوكتهم و عظمتهم و تعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا و تركوا مقابلة موسى و استعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة.
فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف و يأتوا صفا حتى يستعلوا و قد أفلح اليوم من استعلى.
فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا و يتفقوا و لا يهنوا في حفظ ملتهم و مدنيتهم و يكروا على عدوهم كرة رجل واحد، و شفع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: «قالوا لفرعون أ ئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم و إنكم إذا لمن المقربين:» الشعراء: 42.
و بأي وجه كان من ترغيب و ترهيب حملوهم على أن يثبتوا و يواجهوا موسى بمغالبته.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيات بالاستمداد من السياق و القرائن المتصلة و الشواهد المنفصلة، و على ذلك فقوله: «فتنازعوا أمرهم بينهم» إشارة إلى اختلافهم إثر موعظة موسى و ما أومأ إليه من الحجة.
و قوله: «و أسروا النجوى» إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى و اجتهادهم في رفع الاختلاف الناشىء من استماعهم وعظ موسى (عليه السلام)، و قوله: «قالوا إن هذان لساحران يريدان» إلخ، بيان النجوى الذي أسروه فيما بينهم و قد مر توضيح معناه.
و قوله: «إن هذان لساحران» القراءة المعروفة «إن» بكسر الهمزة و سكون النون و هي «إن» المشبهة بالفعل خففت فألغيت عن العمل بنصب الاسم و رفع الخبر.
قوله تعالى: «قالوا يا موسى إما أن تلقي و إما أن نكون أول من ألقى» إلى آخر الآية التالية، الحبال جمع حبل و العصي جمع عصا، و قد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات و ثعابين أمثال ما كان يظهر من عصا موسى (عليه السلام).
و هنا حذف و إيجاز كأنه قيل فأتوا الموعد و قد حضره موسى فقيل فما فعلوا؟ فقيل: «قالوا يا موسى إما أن تلقي - أي عصاك - و إما أن نكون أول من ألقى» و هذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، «قال موسى: بل ألقوا» فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به و هو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق و اضطراب و قد قال له ربه فيما قال: «إنني معكما أسمع و أرى».
و قوله: «فإذا حبالهم و عصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى» فيه حذف، و التقدير: فألقوا و إذا حبالهم و عصيهم إلخ، و إنما حذف لتأكيد المفاجاة كأنه (عليه السلام) لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال و العصي.
و الذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر: «سحروا أعين الناس و استرهبوهم:» الأعراف: 116، غير أنه ذكر هاهنا موسى من بينهم و كان ذلك ليكون تمهيدا لما في الآية التالية.
قوله تعالى: «فأوجس في نفسه خيفة موسى» قال الراغب في المفردات،: الوجس الصوت الخفي، و التوجس التسمع، و الإيجاس وجود ذلك في النفس، قال: «فأوجس منهم خيفة» فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر.
انتهى.
فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها و لا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة و يتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر و تحرز و إلا لظهر أثره في ظاهر البشرة و عمل الإنسان قطعا، و إلى ذلك يومىء تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به، و من العجيب قول بعضهم: إن التنكير للتفخيم و كان الخوف عظيما و هو خطأ و لو كان كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته و لم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.
فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم و أنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور و هو كنفس الخطور لا أثر له.
و قيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته و سحرهم للتشابه فيشكوا و لا يؤمنوا و لا يتبعوه و لم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.
و فيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله و وثوقه بأمره و قد قال له ربه قبل ذلك: «بآياتنا أنتما و من اتبعكما الغالبون:» القصص: 35.
و قيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم و لا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعي التساوي و يخيب السعي.
و فيه: أنه خلاف ظاهر الآية فإن ظاهر تفريع قوله: «فأوجس في نفسه خيفة» إلخ، على قوله: «فإذا حبالهم و عصيهم يخيل إليه» إلخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الأمر بإلقاء العصا، و لو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم و عصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام): «قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى» و لقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا.
و كيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه و إن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له و ما أتى به آية معجزة ذات حقيقة و قد استعظم الله سحرهم إذ قال: «فلما ألقوا سحروا أعين الناس و استرهبوهم و جاءوا بسحر عظيم»: الأعراف: 116.
و لذا أيده الله هاهنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة و هو تلقف العصا جميع ما سحروا به.
قوله تعالى: «قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى - إلى قوله - حيث أتى» نهي بداعي التقوية و التأييد و قد علله بقوله: «إنك أنت الأعلى» فالمعنى: أنك فوقهم من كل جهة و إذا كان كذلك لم يضرك شيء من كيدهم و سحرهم فلا موجب لأن تخاف.
و قوله: «و ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا» إلخ أمر بإلقاء العصا لتكون حية و تلقف ما صنعوا بالسحر و التعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير و أعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشيء من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا و إن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شيء ثم التعبير عن حياتهم و ثعابينهم بقوله: «ما صنعوا» يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الأشياء في أساميها و حقائقها و بين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو أن يكون كيدا باطلا و كلمة الله هي العليا و الله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.
و في هذه الجملة أعني قوله: «و ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا» بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه.
و قوله: «إنما صنعوا كيد ساحر و لا يفلح الساحر حيث أتى» تعليل بحسب اللفظ لقوله: «تلقف ما صنعوا» و «ما» مصدرية أو موصولة و بيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لأن ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له و ما معه آية معجزة ذات حقيقة و الحق يعلو و لا يعلى عليه.
و قوله: «و لا يفلح الساحر حيث أتى» بمنزلة الكبرى لقوله: «ما صنعوا كيد ساحر» فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له و لا فلاح و لا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.
فقوله: «و لا يفلح الساحر حيث أتى» نظير قوله: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين:» الأنعام: 144، «و الله لا يهدي القوم الفاسقين»: المائدة: 108، و غيرهما و الجميع من فروع «إن الباطل كان زهوقا:» الإسراء: 81، «و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته:» الشورى: 24، فلا يزال الباطل يزين أمورا و يشبهها بالحق و لا يزال الحق يمحوه و يلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى و سحر السحرة يجري في كل باطل يبدو و حق يلقفه و يزهقه، و قد تقدم في تفسير قوله: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها:» الرعد: 17، كلام نافع في المقام.
قوله تعالى: «فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون و موسى» في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فألقي السحرة و في التعبير بقوله: «فألقي السحرة» بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى إذلال القدرة الإلهية لهم و غشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الأرض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك و إنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟.
و قولهم: «آمنا برب هارون و موسى» شهادة منهم بالإيمان و إنما أضافوه تعالى إلى موسى و هارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى و رسالة موسى و هارون معا و فصل قوله: «قالوا» إلخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا إلخ.
قوله تعالى: «قال آمنتم له قبل أن آذن لكم» إلى آخر الآية، الكبير الرئيس و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى و التصليب تكثير الصلب و تشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع و تشديده و الجذوع جمع جذع و هو ساقة النخل.
و قوله: «آمنتم له قبل أن آذن لكم» تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا و الجملة استفهامية محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، و قوله: «إنه لكبيركم الذي علمكم السحر» رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطئوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله و يأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه و اجتمعوا على مغالبته تخاذلوا و انهزموا عنه و آمنوا و اتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم و أخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: «إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها:» الأعراف: 123، و إنما رماهم بهذا القول تهييجا للعامة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أول يوم.
و قوله: «فلأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف» إلى آخر الآية، إيعاد لهم و تهديد بالعذاب الشديد و لم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟.
قوله تعالى: «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في معناه رفيع في منزلته يغلي و يفور علما و حكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة و قد ملأت هيبة فرعون و أبهته قلوبهم و أذلت زينات الدنيا و زخارفها التي عنده - و ليست إلا أكاذيب خيال و أباطيل وهم - نفوسهم يسمونه ربا أعلى و يقولون حينما ألقوا حبالهم و عصيهم: «بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة و سلطان و لما عنده من زينة الدنيا و زخرفها من قدر و منزلة و غشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن و الملق و اتباع الهوى و التوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا و مكنت فيها التعلق بالحق و الدخول تحت ولاية الله و الاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله و لا يرجون إلا الله و لا يخافون إلا الله عز اسمه.
يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون و بينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يرى إلا نفسه و يضيف إليه أنه رب القبط و له ملك مصر و له جنود مجندة، و له ما يريد و له ما يقضي و ليست في نظر الحق و الحقيقة إلا دعاوي و قد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله و الحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس - و في جبلتها الفهم و القضاء - بشعورها و إدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، و لا يذعن قلوبهم و لا توقن بحق إلا عن إجازته و هو قوله للسحرة: «آمنتم له قبل أن آذن لكم».
و يرى أن لا حقيقة للإنسان إلا هذه البنية الجسمانية التي تعيش ثم تفسد و تفنى و أن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، و ذلك قوله: «فلأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف و لأصلبنكم في جذوع النخل و لتعلمن أينا أشد عذابا و أبقى» و ليتدبر في آخر كلامه.
و أما هؤلاء المؤمنون و قد أدركهم الحق و غشيهم فأصفاهم و أخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها و منزلتها سرابا خياليا و زينة غارة باطلة، و أنهم إذا خيروا بينه و بين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق و الباطل و الحقيقة و السراب، و حاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا الباطل على الحق و السراب على الحقيقة و هم يشهدون ذلك شهادة عيان و ذلك قولهم: «لن نؤثرك - أي لن نختارك - على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا» فليس مرادهم به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها و منالها.
و ما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع و العذاب الشديد و قطع دابر الحياة الدنيا و هو يرى أن ليس للإنسان إلا الحياة التي فيها و فيها سعادته و شقاؤه فإنهم يرون الأمر بالعكس من ذلك و أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا و إن شقي فيها فلا ينفعه شيء.
و على ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، و ذلك قولهم لفرعون - و هو جواب تهديده إياهم بالقتل - «فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل و توضيح لقولهم: «لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا».
و في قولهم: «ما جاءنا من البينات» تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا و تلقفها الحبال و العصي و رجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، و يمكن أن يكون «من» للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحدة و آمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة و لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: «إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا و ما أكرهتنا عليه من السحر و الله خير و أبقى» الخطايا جمع خطيئة و هي قريبة معنى من السيئة و قوله: «و ما أكرهتنا عليه» معطوف على «خطايانا» و «من السحر» بيان له و المعنى و ليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه و فيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم و إما حين تنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى فحملوا على المقابلة و المغالبة.
و أول الآية تعليل لقولهم: «لن نؤثرك» إلخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك و آمنا به ليغفر لنا خطايانا و السحر الذي أكرهتنا عليه، و ذيل الآية: «و الله خير و أبقى» من تمام البيان و بمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: و إنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير و أبقى، أي خير من كل خير و أبقى من كل باق - لمكان الإطلاق - فلا يؤثر عليه شيء و في هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: «و لتعلمن أينا أشد عذابا و أبقى».
و قد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، و ثانيا بربنا، و ثالثا بالله، أما الأول فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود و يتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه و أن ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان منشأ كل ترجيح و المقام مقام الترجيح بينه تعالى و بين فرعون.
و أما الثاني فلأن فيه إخبارا عن الإيمان به و أمس صفاته تعالى بالإيمان و العبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك و التدبير.
و أما الثالث فلأن ملاك خيرية الشيء الكمال و عنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، و على هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى و المعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا، لأنه فطرنا و إنا آمنا بربنا لأنه ربنا و الله خير لأنه الله عز اسمه.
قوله تعالى: «إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى» تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأن من لم يغفر خطاياه كان مجرما و من يأت ربه مجرما «إلخ».
قوله تعالى: «و من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى» إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم و تقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا و لذا يقال درجات الجنة و دركات النار، و التزكي هو التنمي بالنماء الصالح و المراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حق و عمل صالح.
و الآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان و العمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الإجرام الحاصل بكفر أو معصية و الآيات الثلاث الواصفة لتبعة الإجرام و الإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون و وعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع و الصلب و ادعى أنه أشد العذاب و أبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها و لا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت و فيه نجاة المجرم المعذب، و لا يحيى فيها إذ ليس فيها شيء مما تطيب به الحياة و لا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.
و وعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه و الأجر كما حكى الله تعالى: «قالوا ء إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم و إنكم لمن المقربين»: الأعراف: 114 فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك - و في الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - و هذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى - بالإيمان و العمل الصالح و هذا يقابل وعده لهم بالأجر.
قوله تعالى: «و لقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا - إلى قوله - و ما هدى».
الإسراء السير بالليل و المراد بعبادي بنو إسرائيل و قوله: «فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا» قيل المراد الضرب بالعصا كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع و أن «طريقا» مفعول به لأضرب على الاتساع و هو مجاز عقلي و الأصل اضرب البحر ليكون لهم طريقا.
انتهى.
و يمكن أن يكون المراد بالضرب البناء و الإقامة من باب ضربت الخيمة و ضربت القاعدة.
و اليبس - على ما ذكره الراغب - المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، و الدرك بفتحتين تبعة الشيء، و في نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة و جعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: و في قوله: «و أضل فرعون قومه و ما هدى» تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: «و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد:» المؤمن: 29، و على هذا فقوله: «و ما هدى» ليس تأكيدا و تكرارا لمعنى قوله: «و أضل فرعون قومه».
بحث روائي
في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال.
أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثم قرأ: «و لا يفلح الساحر حيث أتى»، قال: لا يأمن حيث وجد.
أقول: و في انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء.
|