بيان
تذكر الآيات عدة من الأحكام مما يلائم حال الإسلام قبل الهجرة مما يصلح به حال المجتمع العام كالأمر بالعدل و الإحسان و النهي عن الفحشاء و المنكر و البغي و ما يلحق بذلك كالأمر بإيتاء ذي القربى و النهي عن نقض العهد و اليمين، و تذكر أمورا أخرى تناسب ذلك و تثبتها.
قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى» ابتدأ سبحانه بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني لما أن صلاح المجتمع العام أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه المصلحة فإن أهم الأشياء عند الإنسان في نظر الطبيعة و إن كان هو نفسه الفردية، لكن سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه، و ما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كل جانب.
و لذلك اهتم في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره و بذل الجهد البالغ في جعل الدساتير و التعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة و الحج و الصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك، كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه و من جهة ظرف حياته.
فقوله: «إن الله يأمر بالعدل» أمر بالعدل و يقابله الظلم قال في المفردات، العدالة و المعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة، و يستعمل باعتبار المضايفة، و العدل - بفتح - العين و العدل - بكسرها يتقاربان لكن العدل - بفتح العين - يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، و على ذلك قوله تعالى: «أو عدل ذلك صياما» و العدل - بكسر العين - و العديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات و المعدودات و المكيلات، فالعدل هو التقسيط على سواء.
قال: و العدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، و لا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا و لا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الإحسان إلى من أحسن إليك و كف الأذى عمن كف أذاه عنك، و عدل يعرف كونه عدلا بالشرع و يمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص و أروش الجنايات و أصل مال المرتد، و لذلك قال: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه»، و قال: «و جزاء سيئة سيئة مثلها» فسمي اعتداء و سيئة.
و هذا النحو هو المعني بقوله: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» فإن العدل هو المساواة في المكافاة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و الإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه و الشر بأقل منه، انتهى موضع الحاجة.
و ما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم إن العدل هو لزوم الوسط و الاجتناب عن جانبي الإفراط و التفريط في الأمور و هو من قبيل التفسير بلازم المعنى فإن حقيقة العدل هي إقامة المساواة و الموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغي أن يعطاه فيتساوى في أن كلا منها واقع موضعه الذي يستحقه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق، و العدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته و يتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس، و العدل في الناس و بينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن بإحسانه، و يعاقب المسيء على إساءته، و ينتصف للمظلوم من الظالم و لا يبعض في إقامة القانون و لا يستثنى.
و من هنا يظهر أن العدل يساوق الحسن و يلازمه إذ لا نعني بالحسن إلا ما من طبعه أن تميل إليه النفس و تنجذب نحوه و إقرار الشيء في موضعه الذي ينبغي أن يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الإنسان و يعترف بحسنه و يقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان، و إن اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة.
و يظهر أيضا أن ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء و السيئة عدلا لا يخلو عن مسامحة، فإن الاعتداء و السيئة الذين يجازى بهما المعتدي و المسيء إنما هما اعتداء و سيئة بالنسبة إليهما و أما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال و خصلة الحسن لكونهما من وضع الشيء موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه.
و كيف كان فالعدل و إن كان منقسما إلى عدل الإنسان في نفسه و إلى عدله بالنسبة إلى غيره، و هما العدل الفردي و العدل الاجتماعي، و اللفظ مطلق لكن ظاهر السياق أن المراد به في الآية العدل الاجتماعي و هو أن يعامل كل من أفراد المجتمع بما يستحقه و يوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، و هذا أمر بخصلة اجتماعية متوجه إلى أفراد المكلفين بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل، و لازمه أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم و تتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع و تدبره.
و قوله: «و الإحسان» الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الإحسان إلى الغير دون الإحسان بمعنى إتيان الفعل حسنا، و هو إيصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة و المقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه و يقابل الشر بأقل منه - كما تقدم - و يوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء.
و الإحسان على ما فيه من إصلاح حال من أذلته المسكنة و الفاقة أو اضطرته النوازل، و ما فيه من نشر الرحمة و إيجاد المحبة يعود محمود أثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع و جلب الأمن و السلامة بالتحبيب.
و قوله: «و إيتاء ذي القربى» أي إعطاء المال لذوي القرابة و هو من أفراد الإحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير كما أن مجتمع الازدواج الذي هو أصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة إنما ابتدأت من مجتمع بيتي عقده الازدواج ثم بسطه التوالد و التناسل و وسعه حتى صار قبيلة و عشيرة و لم يزل يتزايد و يتكاثر حتى عادت أمة عظيمة فالمراد بذي القربى الجنس دون الفرد و هو عام لكل قرابة كما ذكروه.
و في التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بذي القربى الإمام من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المراد بالإيتاء إعطاء الخمس الذي فرضه الله سبحانه في قوله: «و اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين» الآية،: الأنفال: 41 و قد تقدم تفسيرها.
و لعل التعبير بالإفراد حيث قيل: «ذي القربى» و لم يقل: ذوي القربى أو أولي القربى كما في قوله: «و إذا حضر القسمة أولوا القربى و اليتامى و المساكين»: النساء: 8، و قوله: «و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين»: البقرة: 177 يؤيد ذلك.
و احتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى و المساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوي القربى أو اليتامى و المساكين تقضي بالفرق.
على أن الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالإيتاء هو الإحسان ثم بالإحسان مطلق الإحسان.
و الله أعلم.
قوله تعالى: «و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون» قال في المفردات: الفحش و الفحشاء و الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال.
انتهى و لعل الأصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغي يقال: غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل و الصبر و السكوت.
و المنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية.
و البغي الأصل في معناه الطلب و كثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء و الاستكبار على الغير ظلما و عتوا، و ربما كان بمعنى الزنا و المراد به في الآية هو التعدي على الغير ظلما.
و هذه الثلاثة أعني الفحشاء و المنكر و البغي و إن كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر، و غالب البغي فحشاء و منكر لكن النهي إنما تعلق بها بما لها من العناوين لما أن وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض و يبطل الالتيام بينها و يفسد بذلك النظم و ينحل المجتمع في الحقيقة و إن كان على ساقه صورة و في ذلك هلاك سعادة الأفراد.
فالنهي عن الفحشاء و المنكر و البغي أمر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه و تتلاءم أعماله لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، و لا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه لا فحشاء و لا منكرا و عند ذلك تستقر عليهم الرحمة و المحبة و الألفة و ترتكز فيهم القوة و الشدة، و تهجرهم السخطة و العداوة و النفرة و كل خصلة سيئة تؤدي إلى التفرق و التهلكة.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله: «يعظكم لعلكم تذكرون» أي تتذكرون فتعلمون أن الذي يدعوكم إليه فيه حياتكم و سعادتكم.
قوله تعالى: «و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها» إلخ، قال في المفردات: العهد حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال، و سمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا.
قال: و عهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد و أوصاه بحفظه، انتهى.
و ظاهر إضافة العهد إلى الله تعالى في قوله: «و أوفوا بعهد الله» أن المراد به هو العهد الذي يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد و يأتي نظير الكلام في نقض اليمين.
و قوله: «و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها» نقض اليمين نكثه و مخالفة مقتضاه و المراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين و الدليل عليه قوله بعد: «و قد جعلتم الله عليكم كفيلا».
و المراد بتوكيدها إحكامها بالقصد و العزم و كونها لأمر راجح بخلاف قولهم: لا و الله و بلى و الله و غيره من لغو الأيمان، فالتوكيد في هذه الآية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان» المائدة: 89.
و نقض اليمين بحسب الاعتبار أشنع من نقض العهد و إن كان منهيا عنهما جميعا، على أن العناية بالحلف في الشرع الإسلامي أكثر كما في باب القضاء.
و توضيح شناعة نقضه: أن حقيقة معنى اليمين إيجاد ربط خاص بين النسبة الكلامية من خبر أو إنشاء و بين أمر ذي بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه إن كان خبرا و مخالفة مقتضاه إن كان عزما أو أمرا أو نهيا كقولنا: و الله لأفعلن كذا و بالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة و العزة للمقسم به فيئول الأمر إلى أن المقسم به بما له من الكرامة و العزة هو المسئول عن صحة النسبة الكلامية و المقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة على كرامته و عزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطي لمن عاقده أو تعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.
و بهذا يظهر معنى قوله تعالى: «و قد جعلتم الله عليكم كفيلا» فإن الحالف إذا قال: و الله لأفعلن كذا أو لأتركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق على الله سبحانه و جعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فإن نكث و لم يف كان لكفيله أن يؤديه إلى الجزاء و العقوبة، ففي نكث اليمين إهانة و إرزاء بساحة العزة و الكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين و العهد معا من الانقطاع و الانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.
فقوله: «و قد جعلتم الله» إلخ، حال من ضمير الجمع في قوله: «و لا تنقضوا» و قوله: «إن الله يعلم ما تفعلون» في معنى تأكيد النهي بأن العمل مبغوض و هو به عليم.
قوله تعالى: «و لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا» إلى آخر الآية، النقض و يقابله الإبرام إفساد ما أحكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشيء المبرم كحل الشيء المعقود، و النكث النقض، قال في المجمع،: و كل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث حبلا كان أو غزلا، و الدخل بفتحتين في الأصل كل ما دخل الشيء و ليس منه، و يكنى به عن الدغل و الخدعة و الخيانة، كما قيل: و أربى أفعل من الربا و هو الزيادة.
و قوله: «و لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا» في معنى التفسير لقوله في الآية السابقة: «و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها» و هو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه و غزلته من بعد قوة و تجعله أنكاثا لا فتل فيه و لا إبرام.
و نقل عن الكلبي أنها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن و لا يزال ذلك دأبها و اسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، و كانت تسمى خرقاء مكة.
و قوله: «تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة» أي تتخذون أيمانكم وسيلة للغدر و الخدعة و الخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون و تخدعونهم بنقضها، و إنما يفعلون ذلك لتكون أمة - و هم الحالفون - أربى و أزيد سهما من زخارف الدنيا من أمة - و هم المحلوف لهم -.
فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب و «أن تكون أمة» مفعول له بتقدير اللام، و الكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا و محصل المعنى أنكم كمثلها إذ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها و تعقدونها ثم تخونون و تخدعون بنقضها و نكثها و الله ينهاكم عنه.
و ذكر بعضهم أن قوله: «تتخذون أيمانكم» إلخ، جملة استفهامية محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار.
و قوله: «إنما يبلوكم الله به» إلخ، أي إن ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به و أقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا و سلوك سبيل الباطل لإماطة الحق و دحضه و يتبين لكم يومئذ من هو الضال و من هو المهتدي.
قوله تعالى: «و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن يضل من يشاء و يهدي من يشاء» إلخ، لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان أن اختلافهم ليس بناقض للغرض الإلهي في خلقهم و لا أنهم معجزون له سبحانه و لو شاء لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف بينهم و لكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية و الإضلال فهدى قوما و أضل آخرين.
و ذلك أنه تعالى وضع سعادة الإنسان و شقاءه على أساس الاختيار و عرفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة و المعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية و اجتاز للضلال جازاه الله ذلك، و من ركب سبيل الطاعة و اختار الهدى جازاه الله ذلك و سيسألهم جميعا عما عملوا و اختاروا.
و بما تقدم يظهر أن المراد بجعلهم أمة واحدة رفع الاختلاف من بينهم و حملهم على الهدى و السعادة، و بالإضلال و الهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال و الهدى الابتدائيان فإن الجميع على هدى فطري فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع و لا ندم، و الذي شاء الله هداه فهداه هو من بقي على هداه الفطري و جرى على الطاعة أو تاب و رجع عن المعصية صراطا مستقيما و سنة إلهية و لن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا.
و أن قوله: «و لتسألن عما كنتم تعملون» لدفع ما يسبق إلى الوهم أن استناد الضلال و الهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك و تبطل بذلك الرسالة و تلغو الدعوة فأجيب بأن السؤال باق على حاله لما أن اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمد لكم من الضلال و الهدى ما أنتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالإقبال إلى طاعته.
قوله تعالى: «و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها» إلى آخر الآية، قال في المفردات: الصدود و الصد قد يكون انصرافا عن الشيء و امتناعا نحو «يصدون عنك صدودا» و قد يكون صرفا و منعا نحو «و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل». انتهى.
و الآية نهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد النهي عن أصل نقض الأيمان لأن لخصوص اتخاذها دخلا مفسدة مستقلة هي ملاك النهي غير المفسدة التي لأصل نقض الأيمان و قد أشار إلى مفسدة أصل النقض بقوله: «و قد جعلتم الله عليكم كفيلا» إلخ، و يشير في هذه الآية إلى مفسدة اتخاذها دخلا بقوله: «فتزل قدم بعد ثبوتها و تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله و لكم عذاب عظيم».
و الملاكان - كما هو ظاهر - متغايران نعم أحدهما كالمقدمة للآخر كما أن نقض الأيمان كالمقدمة لاتخاذها دخلا فإن الإنسان إذا نقض اليمين لسبب من الأسباب لأول مرة هان عليه أمر النقض و مهد ذلك السبيل إلى النقض ثانيا و ثالثا و جعل الحلف ثم النقض وسيلة خدعة و خيانة فلا يلبث دون أن تكون حليف دغل و خدعة و خيانة و غرور و مكر و كيد و كذب و زور لا يبالي ما قال و ما فعل و يعود جرثومة فساد يفسد المجتمع الإنساني أينما توجه، و يقع في سبيل غير سبيل الله الذي خطته الفطرة السليمة.
و كيف كان فظاهر قوله: «و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم» نهي استقلالي عن الخدعة باليمين بعد النهي الضمني عنه في الآية السابقة، و قوله: «فتزل قدم بعد ثبوتها» تفريع على المنهي عنه دون النهي أي يتفرع على اتخاذها دخلا أن تزل قدم بعد ثبوتها إلخ، و زلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد و التوكيد و الزوال عن الموقف الذي ارتكز فيه فإن ثبات الإنسان و استقامته على ما عزم عليه و اهتم به من كرائم الإنسانية و أصول فضائلها و عليه بناء الدين الإلهي، و حفظ اليمين على توكيده قدم من الأقدام التي يتم بها هذا الأصل الوسيع، و كأنه لذلك جيء بالقدم نكرة في قوله: «فتزل قدم» إلخ.
و قوله: «و تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله و لكم عذاب عظيم» معطوف على قوله: «تزل قدم» إلخ، و بيان نتيجته كما أنه بيان نتيجة و عاقبة لقوله: «لا تتخذوا أيمانكم دخلا» و بذلك يظهر أن قوله: «بما صددتم عن سبيل الله» بمنزلة التفسير لقوله: «فتزل قدم بعد ثبوتها».
و المراد بالصدود عن سبيل الله الإعراض و الامتناع عن السنة الفطرية التي فطر الله الناس عليها و دعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق و الاستقامة و رعاية العهود و المواثيق و الأيمان و التجنب عن الدغل و الخدعة و الخيانة و الكذب و الزور و الغرور.
و المراد بذوق السوء العذاب، و قوله: «و لكم عذاب عظيم» حال عن فاعل «تذوقوا» و يمكن أن يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيئة في الدنيا، و قوله: «و لكم عذاب عظيم» إخبارا عما يحل بهم في الآخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة.
فالمعنى: و لا تتخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه و نقض ما أبرمتموه، و فيه إعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة و التحرز عن الغدر و الخدعة و الخيانة و الدغل و بالجملة الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، و يؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء و الشقاء في حياتكم الدنيا و لكم عذاب عظيم في الأخرى.
و ذكر بعضهم: أن الآية مختصة بالنهي عن نقض بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما استقرت عليه السنة في صدر الإسلام، و أن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصرة الإسلام و أهله فنهاهم الله عن نقض تلك البيعة، و على هذا فالمراد بالصد عن سبيل الله صرف الناس و منعهم عن اتباع دين الله كما أن المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد الإسلام و الضلال بعد الرشد.
و فيه أن السياق لا يساعد على ذلك، و على تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافي عموم الآية.
قوله تعالى: «و لا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون» قال في المفردات:، كل ما يحصل عوضا عن شيء فهو ثمنه، انتهى.
و الظاهر أن الآية نهي عن نقض العهد بعد ما تقدم الأمر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الأيمان، و الآية مطلقة، و المراد بعهد الله العهد الذي عوهد به الله مطلقا، و المراد بالاشتراء به ثمنا قليلا بقرينة ذيل الآية أن يبدل العهد من شيء من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمى المبدل منه ثمنا لأنه عوض كما تقدم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «ما عندكم ينفد و ما عند الله باق» في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: «ما عند الله هو خير لكم» و قد وجهه بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا التي هي حياة مادية قائمة على أساس التبدل و التحول منعوتة بنعت الحركة و التغير زائل نافد، و ما عند الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق لا يزول و لا يفنى و الباقي خير من النافد بصريح حكم العقل.
و اعلم أن قوله: «ما عندكم ينفد و ما عند الله باق» على ما في لفظه من الإطلاق قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء، تحتها جزئيات كثيرة من المعارف الحقيقية.
قوله تعالى: «و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مر مخالفة هوى النفس في نقضه و الاسترسال فيما تشتهيه، صرف الكلام عن ذكر أجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر أجر مطلق الصابرين في جنب الله.
فقوله: «و لنجزين الذين صبروا أجرهم» وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير أنه يجب أن يكون صبرا في جنب الله و لوجه الله فإن السياق لا يساعد على غيره.
و قوله: «بأحسن ما كانوا يعملون» الباء للمقابلة كما في قولنا: بعت هذا بهذا، و ليس المراد بأحسن ما كانوا يعملون الأحسن من أعمالهم في مقابل الحسن منها بأن يميز الله سبحانه بين أعمالهم الحسنة فيقسمها إلى حسن و أحسن ثم يجزيهم بأحسنها و يلغي الحسن كما ذكره بعضهم فإن المقام لا يؤيده، و آيات الجزاء تنفيه و الرحمة الواسعة الإلهية تأباه.
و ليس المراد به الواجبات و المستحبات من أعمالهم قبال المباحات التي أتوا بها فإنها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.
فإن الكلام ظاهر في أن المراد بيان الأجر على الأعمال المأتي بها في ظرف الصبر مما يرتبط به ارتباطا، و واضح أن المباحات التي يأتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الأعمال ثم اختيار الأحسن من بينها.
على أنه لا مطمع لعبد في أن يثيبه الله على ما أتى به من المباحات حتى يبين له أن الثواب في مقابل ما أتى به من الواجبات و المستحبات التي هي أحسن مما أتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا.
و من هنا يظهر أن ليس المراد به النوافل بناء على عدم الإلزام فيها فتكون أحسن ما عمل فإن كون الواجب مشتملا من المصلحة الموجبة للحسن على أزيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعية بحيث لا يرتاب فيه.
بل المراد بذلك أن العمل الذي يأتون به و له في نوعه ما هو حسن و ما هو أحسن فالله سبحانه يجزيه من الأجر على ما أتى به ما هو أجر الفرد الأحسن من نوعه فالصلاة التي يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها أجر الفرد الأحسن من الصلاة و إن كانت ما صلاها غير أحسن و بالحقيقة يستدعي الصبر أن لا يناقش في العمل و لا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته و رداءته كما يفيده قوله تعالى: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب».
و يستفاد من الآية أن الصبر في الله يوجب كمال العمل و في قوله: «و لنجزينهم» إلخ، التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل، و الذي أظنه أنه رجوع إلى السياق السابق في الآيات و كان سياق التكلم مع الغير، و إنما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» و الوجه فيه أن هذه الآية و ما بعدها من الآيات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة من الأوامر و النواهي الإلهية، و الأنسب بالأمر و النهي أن يستندا إلى أعظم مقامات مصدرهما و أقواها ليتأيدا بذلك، و هذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال: إن الملك يأمر بكذا و إن مولاك يقول لك كذا، و لا يقال: فلان بن فلان يأمر أو يقول.
فكان من الأنسب أن يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة، و يقال بالالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» إلخ.
و لذلك استمر السياق على هذا النسق في التكاليف التالية أيضا فقيل: «و أوفوا بعهد الله» إلخ، «إنما يبلوكم الله» إلخ، «و لو شاء الله» إلخ، «و لا تشتروا بعهد الله» إلخ، «و ما عند الله باق».
ثم رجع إلى السياق السابق و هو التكلم مع الغير فقال: «و لنجزين الذين صبروا» و جرى على ذلك حتى إذا بلغ قوله: «فإذا قرأت القرآن» و هو حكم التفت ثانيا فقال: «فاستعذ بالله» و أحسن ما يجلي المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: «و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل» حيث جمع بين الأمرين فأسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلم و الأعلمية إلى الله عز اسمه.
قوله تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة» إلى آخر الآية.
وعد جميل للمؤمنين إن عملوا عملا صالحا و بشرى للإناث أن الله لا يفرق بينهن و بين الذكور في قبول إيمانهن و لا أثر عملهن الصالح الذي هو الإحياء بحياة طيبة و الأجر بأحسن العمل على الرغم مما بنى عليه أكثر الوثنية و أهل الكتاب من اليهود و النصارى من حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها و حط مرتبتها من مرتبة الرجل و وضعها وضعا لا يقبل الرفع البتة.
فقوله: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن» حكم كلي من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أي من كان و قد قيده بكونه مؤمنا و هو في معنى الاشتراط فإن العمل ممن ليس مؤمنا حابط لا يترتب عليه أثر، كما قال تعالى: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله»: المائدة: 5، و قال: «و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون»: هود: 16.
و قوله: «فلنحيينه حياة طيبة» الإحياء إلقاء الحياة في الشيء و إفاضتها عليه فالجملة بلفظها دالة على أن الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، و ليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه و تبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، و لو كان كذلك لقيل: فلنطيبن حياته.
فالآية نظيرة قوله: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122، و تفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة.
و ليس من التسمية المجازية لأن الآيات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار الحياة الحقيقية كقوله تعالى: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22، و كقوله في آية الأنعام المنقولة آنفا: «و جعلنا له نورا يمشي به في الناس» فإن المراد بهذا النور العلم الذي يهتدي به الإنسان إلى الحق في الاعتقاد و العمل قطعا.
و كما أن له من العلم و الإدراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحق و إماطة الباطل ما ليس لغيره، و قد قال سبحانه: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين»: الروم: 47، و قال: «من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون»: المائدة: 69.
و هذا العلم و القدرة الحديثان يمهدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها فيقسمها قسمين حق باق و باطل فان، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارة الفتانة و يعتز بعزة الله فلا يستذله الشيطان بوساوسه و لا النفس بأهوائها و هوساتها و لا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها و فناء نعمتها.
و يتعلق قلبه بربه الحق الذي هو يحق كل حق بكلماته فلا يريد إلا وجهه و لا يحب إلا قربه و لا يخاف إلا سخطه و بعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة لا يدبر أمرها إلا ربه الغفور الودود، و لا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الجميل فقد أحسن كل شيء خلقه، و لا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته.
فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء و الكمال و القوة و العزة و اللذة و السرور ما لا يقدر بقدر، و كيف لا؟ و هو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها و نعمة باقية لا نفاد لها و لا ألم فيها و لا كدورة تكدرها، و خير و سعادة لا شقاء معها، هذا ما يؤيده الاعتبار و ينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.
فهذه آثار حيوية لا تترتب إلا على حياة حقيقية غير مجازية، و قد رتبها الله سبحانه على هذه الحياة التي يذكرها و يخصها بالذين آمنوا و عملوا الصالحات فهي حياة حقيقية جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.
و ليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة و إن كانت غيرها فإنما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الإنسان، كما أن الروح القدسية التي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم إلا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و هو حقيقة قرآنية و به يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله: «حياة طيبة» كأنها - كما اتضح - حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في أثرها.
و للمفسرين في الآية وجوه من التفسير: منها: أن الحياة الطيبة هي الحياة التي تكون في الجنة فلا موت فيها و لا فقر و لا سقم و لا أي شقاء آخر.
و منها: أنها الحياة التي تكون في البرزخ و لعل التخصيص من حمل ذيل الآية على جنة الآخرة.
و منها: أنها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة و الرضا بما قسم الله سبحانه فإنها أطيب الحياة.
و منها: أنها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.
و منها: أنها رزق يوم بيوم.
و وجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبر فلا نطيل بإيرادها.
و قوله: «و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» تقدم الكلام فيه في الآية السابقة، و في معنى الآية قوله تعالى: «و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب»: المؤمن: 40.
قوله تعالى: «فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم» الاستعاذة طلب المعاذ، و المعنى: إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارىء ما دام يقرأ و قد أمر أن يوجدها لنفسه ما دام يقرأ، و أما قول القارىء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لإيجاد معنى الاستعاذة في النفس و ليس بنفسها إلا بنوع من المجاز، و قد قال سبحانه: استعذ بالله، و لم يقل: قل أعوذ بالله.
و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالقراءة إرادتها فهي مجاز مرسل من قبيل إطلاق المسبب و إرادة السبب لا يخلو عن تساهل.
قوله تعالى: «إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون» في مقام التعليل للأمر الوارد في الآية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لأنه ليس له سلطان على من آمن بالله و توكل عليه.
و يظهر من الآية أولا: أن الاستعاذة بالله توكل عليه فإنه سبحانه بدل الاستعاذة في التعليل من التوكل و نفى سلطانه عن المتوكلين.
و ثانيا: أن الإيمان و التوكل ملاك صدق العبودية كقوله تعالى لإبليس: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين»: الحجر: 42، فنفى سلطانه عن عباده و قد بدل العباد في هذه الآية من الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون، و الاعتبار يساعد عليه فإن التوكل و هو إلقاء زمام التصرف في أمور نفسه إلى غيره و التسليم لما يؤثره له منها أخص آثار العبودية.
قوله تعالى: «إنما سلطانه على الذين يتولونه و الذين هم به مشركون» ضمائر الإفراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر أمورهم كما يريد، و هم يطيعونه، و في الذين يشركون به إذ يتخذونه وليا من دون الله و ربا مطاعا غيره فإن الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني»: يس: 61.
و بذلك يظهر أولا: أن ذيل الآية يفسر صدرها، و أن تولي من لم يأذن الله في توليه شرك بالله و عبادة لغيره.
و ثانيا: أن لا واسطة بين التوكل على الله، و تولي الشيطان و عبادته، فمن لم يتوكل على الله فهو من أولياء الشيطان.
و ربما قيل: إن ضمير الإفراد في قوله: «و الذين هم به مشركون» راجع إليه تعالى، و تفيد الآية حينئذ أن سلطانه على طائفتين: المشركين و الذين يتولونه من الموحدين هذا: و لزوم اختلاف الضمائر يدفعه.
قوله تعالى: «و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون» إشارة إلى النسخ و حكمته، و جواب عما اتهموه (صلى الله عليه وآله وسلم) به من الافتراء على الله، و الظاهر من سياق الآيات أن القائلين هم المشركون و إن كانت اليهود هم المتصلبين في نفي النسخ و من المحتمل أن تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا يراجعونهم في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية» قال في المفردات:، الإبدال و التبديل و التبدل و الاستبدال جعل شيء مكان آخر، و هو أعم من العوض فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، و التبديل قد يقال للتغيير مطلقا و إن لم يأت ببدله قال تعالى: «فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم» - إلى أن قال - و قال - تعالى: «فمن بدله بعد ما سمعه» «و إذا بدلنا آية مكان آية» و «بدلناهم بجنتيهم جنتين» «ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة» انتهى موضع الحاجة.
فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في أن مفعوله الأول هو المأخوذ و المطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله: «و إذا بدلنا آية» مكان آية معناه وضعنا الآية الثانية مكان الأولى بالتغيير فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة.
و قوله: «و الله أعلم بما ينزل» كناية عن أن الحق لم يتعد مورده و أن الذين أنزله هو الحقيق بأن ينزل فإن الله أعلم به منهم، و الجملة حالية.
و قوله: «قالوا إنما أنت مفتر» القول للمشركين يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتهمونه بأنه يفتري على الله الكذب فإن تبديل قول مكان قول، و الثبات على رأي ثم العدول عنه مما يتنزه عنه ساحة رب العزة.
و قد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا: افتريت في هذه التبديل و النسخ بل قالوا: «إنما أنت مفتر» فقصروه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الافتراء، و أتوا بالجملة الاسمية و سموه مفتريا، و قد بنوا ذلك على أن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنخ واحد و هو يسند الجميع إلى ربه و يقول: إنما أنا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس إلا مفتريا.
و قوله: «بل أكثرهم لا يعلمون» أي أكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك بقولهم: «إنما أنت مفتر» لا يعلمون حقيقة هذا التبديل و الحكمة المؤدية إليه على ما سينكشف في الجواب أن الأحكام الإلهية تابعة لمصالح العباد و من المصالح ما يتغير بتغير الأوضاع و الأحوال و الأزمنة فمن الواجب أن يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.
فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الأمر و أما الأقل منهم فهم واقفون على حقيقة الأمر و لو إجمالا غير أنهم مستكبرون على الحق معاندون له و إنما يلقون القول إلقاء من غير رعاية جانب الحق.
قوله تعالى: «قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا و هدى و بشرى للمسلمين» قد تقدمت في أول السورة إشارة إلى معنى الروح، و القدس الطهارة و النزاهة و الظاهر أن الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة نزيهة عن الخطإ و الغلط و الضلال، و هو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الأمين، و في موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى: «نزل به الروح الأمين على قلبك»: الشعراء: 194، و قال: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك»،: البقرة: 97.
فقوله: «قل نزله روح القدس من ربك» أمر بالجواب و الأسبق إلى الذهن أن يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الآية الناسخة، و يمكن أن يكون راجعا إلى مطلق القرآن، و في التعبير بالتنزيل دون الإنزال إشارة إلى التدريج.
و كان من طبع الكلام أن يقال: من ربي لكن عدل عنه إلى قوله: «من ربك» للدلالة على كمال العناية و الرحمة في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن، و ليدل على أن المراد بالقول المأمور به إخبارهم بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الألفاظ فافهم.
و قوله: «ليثبت الذين آمنوا» التثبيت تحكيم الثبات و تأكيده بإلقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر ثبتوا على الحق و بتجدد الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأول بالمضي على أعمال لا تطابق مصلحة الوقت فإن من الواضح أن من أمر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فأخذ بسلوكه عن إيمان بالأمر الهادي فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير الأمر الهادي نحو السلوك و استمر على أمره السابق لضعف إيمان السالك و انسلب أركانه لكن لو أمر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة و يضمن السعادة زاد إيمانه ثباتا على ثبات.
ففي تنزيل القرآن بالنسخ و تجديد الحكم حسب تجدد المصلحة تثبيت للذين آمنوا و إعطاء لهم ثباتا على ثبات.
و قوله: «و هدى و بشرى للمسلمين» و هم الذين يسلمون الحكم لله من غير اعتراض فالآية الناسخة بالنسبة إليهم إراءة طريق و بشارة بالسعادة و الجنة.
و تفريق الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين و الهدى و البشرى بالمسلمين إنما هو لما بين الإيمان و الإسلام من الفرق فالإيمان للقلب و نصيبه التثبت في العلم و الإذعان و الإسلام في ظاهر العمل و مرحلة الجوارح و نصيبها الاهتداء إلى واجب العمل، و البشرى بأن الغاية هي الجنة و السعادة.
و قد مر بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»: البقرة: 106 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر» افتراء آخر منهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو قولهم: «إنما يعلمه بشر» و هو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم و ما ورد في الجواب عنه أنه كان هناك رجل أعجمي غير فصيح في منطقه عنده شيء من معارف الأديان و أحاديث النبوة ربما لاقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاتهموه بأنه يأخذ ما يدعيه وحيا منه و الرجل هو الذي يعلمه و هو الذي حكاه الله تعالى من قولهم: «إنما يعلمه بشر» و في القول إيجاز، و تقديره: إنما يعلمه بشر و ينسب ما تعلمه منه إلى الله افتراء عليه، و هو ظاهر.
و من المعلوم أن الجواب عنه بمجرد أن لسان الرجل أعجمي و القرآن عربي مبين لا يحسم مادة الشبهة من أصلها لجواز أن يلقي إليه المطالب بلسانه الأعجمي ثم يسبكها هو (صلى الله عليه وآله وسلم) ببلاغة منطقه في قالب العربية الفصيحة بل هذا هو الأسبق إلى الذهن من قولهم: «إنما يعلمه بشر» حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين و الإملاء، و التعليم أقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ.
و بذلك يظهر أن قوله: «لسان الذي يلحدون إليه - إلى قوله - مبين» ليس وحده جوابا عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.
و ملخص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث أن ما اتهمتموه به أن بشرا يعلمه ثم هو ينسبه إلى الله افتراء إن أردتم أنه يعلمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه و أن القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه أن هذا الرجل لسانه أعجمي و هذا القرآن عربي مبين.
و إن أردتم أن الرجل يعلمه معاني القرآن - و اللفظ لا محالة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - و هو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه أن الذي يتضمنه القرآن معارف حقة لا يرتاب ذو لب فيها و تضطر العقول إلى قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بآيات الله إذ لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله و الله لا يهدي من لا يؤمن بآياته و إذ كان مؤمنا بآيات الله فهو لا يفتري على الله الكذب فإنه لا يفتري عليه إلا من لا يؤمن بآياته، فليس هذا القرآن بمفترى، و لا مأخوذا من بشر و منسوبا إلى الله سبحانه كذبا.
فقوله: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين» جواب عن أول شقي الشبهة و هو أن يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على نحو التلقين، و المعنى: أن لسان الرجل الذي يلحدون أي يميلون إليه و ينوونه بقولهم: «إنما يعلمه بشر» أعجمي أي غير فصيح بين و هذا القرآن المتلو عليكم لسان عربي مبين و كيف يتصور صدور بيان عربي بليغ من رجل أعجمي اللسان.
و قوله: «إن الذين لا يؤمنون» إلى آخر الآيتين جواب عن ثاني شقي الشبهة و هو أن يتعلم منه المعاني ثم ينسبها إلى الله افتراء.
و المعنى: إن الذين لا يؤمنون بآيات الله و يكفرون بها لا يهديهم الله إليه و إلى معارفه الحقة الظاهرة و لهم عذاب أليم، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمن بآيات الله لأنه مهدي بهداية الله، و إنما يفتري الكذب و ينسبه إلى الله الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون المستمرون على الكذب، و أما مثل النبي المؤمن بآيات الله فإنه لا يفتري الكذب و لا يكذب فالآيتان كنايتان عن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهدي بهداية الله مؤمن بآياته و مثله لا يفتري و لا يكذب.
و المفسرون قطعوا الآيتين عن الآية الأولى و جعلوا الآية الأولى هي الجواب الكامل عن الشبهة و قد عرفت أنها لا تفي بتمام الجواب.
ثم حملوا قوله: «و هذا لسان عربي مبين» على التحدي بإعجاز القرآن في بلاغته، و أنت تعلم أن لا خبر في لفظ الآية عن أن القرآن معجز في بلاغته و لا أثر عن التحدي، و نهاية ما فيه أنه عربي مبين لا وجه لأن يفصح عنه و يلفظه أعجمي.
ثم حملوا الآيتين التاليتين على تهديد أولئك الكفرة بآيات الله الرامين لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالافتراء، و وعيدهم بالعذاب الأليم، و قلب الافتراء و الكذب إليهم بأنهم أولى بالافتراء و الكذب بما أنهم لا يؤمنون بآيات الله فإن الله لم يهدهم.
ثم تكلموا بالبناء عليه في مفردات الآيتين بما يزيد في الابتعاد عن حق المعنى.
و قد عرفت أن ذلك يؤدي إلى عدم كفاية الجواب في حسم الإشكال من أصله.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاصي قال: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان - إلى قوله تذكرون». أقول: و رواه أيضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه. و في المجمع، و جاءت الرواية أن عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام و لم يقر الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمله فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا فلما سري عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» فقرأها علي إلى آخرها فقر الإسلام في قلبي. و أتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا فإنه لا يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، و أتيت الوليد بن المغيرة و قرأت عليه هذه الآية فقال: إن كان محمد قاله فنعم ما قال، و إن قاله ربه فنعم ما قال. قال: فأنزل الله: «أ فرأيت الذي تولى - و أعطى قليلا و أكدى» الحديث.
و فيه، عن عكرمة قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخي أعد فأعاد فقال: إن له لحلاوة و إن له لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمعذق و ما هو قول البشر. و في تفسير القمي، بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): في الآية: ليس لله في عباده أمر إلا العدل و الإحسان. و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن عمرو بن عثمان قال: خرج علي (عليه السلام) على أصحابه و هم يتذاكرون المروءة فقال: أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا يا أمير المؤمنين في أي موضع؟ فقال: في قوله عز و جل: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضل. أقول: و رواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصي عنه (عليه السلام)، و رواه في الدر المنثور، عن ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه عنه (عليه السلام) و لفظه: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أ و ما كفاكم الله عز و جل ذاك في كتابه إذ يقول الله: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضل.
أقول: و قد ورد في عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين و تفسير الإحسان بالولاية: و في أخرى إرجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة» الآية، قال: قال (عليه السلام): القنوع. و في المعاني، بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له: إن أبا الخطاب يذكر عنك أنك قلت: إذا عرفت الحق فاعمل بما شئت، فقال: لعن الله أبا الخطاب و الله ما قلت هكذا و لكني قلت له: إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك إن الله عز و جل يقول: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب» و يقول: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى - و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة».
أقول: و هو ما قدمناه في معنى الآية.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: «فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله - إلى قوله يتوكلون» فقال: يا محمد يسلط و الله من المؤمن على بدنه و لا يسلط على دينه قد سلط على أيوب فشوه خلقه و لم يسلط على دينه، و قد يسلط من المؤمنين على أبدانهم و لا يسلط على دينهم. قلت له: قوله عز و جل: «إنما سلطانه على الذين يتولونه - و الذين هم به مشركون» قال: الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم و على أديانهم. أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و إرجاع ضمير «به» إلى الله أحد المعنيين في الآية.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس: في قوله: «إنما يعلمه بشر» قال: قالوا: إنما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي و هو صاحب الكتب، فقال الله: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي - و هذا لسان عربي مبين». و في تفسير العياشي، عن محمد بن عزامة الصيرفي عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى الله منها و ليست بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى 1 و لقد نعلم أنهم يقولون - إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه» و هو لسان أبي فكيهة مولى بني الحضرمي كان «أعجمي» اللسان و كان قد اتبع نبي الله و آمن به، و كان من أهل الكتاب فقالت قريش: هذا و الله يعلم محمدا علمه بلسانه، يقول الله: «و هذا لسان عربي مبين». أقول: و الروايات في هذا الرجل مختلفة ففي هذه الرواية أنه أبو فكيهة مولى بني الحضرمي، و في الرواية السابقة أنه عبدة بن الحضرمي، و عن قتادة أنه عبدة بن الحضرمي و كان يسمى مقيص، و عن السدي أنه كان عبدا لبني الحضرمي نصرانيا، كان قد قرأ التوراة و الإنجيل يقال له أبو بشر، و عن مجاهد أنه ابن الحضرمي كان أعجميا يتكلم بالرومية، و عن ابن عباس أيضا في رواية أنه كان قينا بمكة اسمه بلعام و كان عجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل عليه و يخرج من عنده فقالوا: إنما يعلمه بلعام.
و المتيقن من مضامينها أنه كان رجلا روميا مولى لبني الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب أهل الكتاب رموه بأنه يعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، فأنزل الله: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي».
أقول: و هو لا يلائم كون الآية مكية.
و فيه، أخرج ابن الخرائطي في مساوي الأخلاق و ابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن جراد: أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما يفتري الكذب - الذين لا يؤمنون». و في تفسير العياشي، عن العباس بن الهلال عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنه ذكر رجلا كذابا ثم قال: قال الله: «إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون».
|