بيان
تتمة آيات الأحكام السابقة تذكر فيها محرمات الأكل و محللاته و نهي عن التحليل و التحريم ابتداعا بغير إذن الله و ذكر بعض ما شرع لليهود من الأحكام التي نسخت بعد، و في ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية» و إشارة إلى أن ما أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو دين إبراهيم (عليه السلام) المبني على الاعتدال و التوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.
و في آخرها أمر بالعدل في المعاقبة و ندب إلى الصبر و الاحتساب، و وعد جميل بالنصرة و الكفاية إن اتقوا و أحسنوا.
قوله تعالى: «ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا» إلى آخر الآية، الرغد من العيش هو الواسع الطيب.
هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة، و أتم ذلك كله بنبي بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و أخراهم فكفروا بأنعمه و كذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة و عذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله، و في المثل تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت و الكفر بآياته بعد إذ أنزل.
و فيه توطئة و تمهيد لما سيذكره من محللات الأكل و محرماته و ينهى عن تشريع الحلال و الحرام بغير إذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الآيات فإن كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة.
و قيل: إن هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله و قد وسعها عليهم و كذبوا رسوله و قد أرسله إليهم فابتلوا بالقحط و كان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذكره في المجمع، و نسبه إلى ابن عباس و مجاهد و قتادة.
و فيه أن لا إشكال في أنه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الآيات إنما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة و تمهيدا لما بيناه.
فقوله: «ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا» وصف القرية بثلاثة أوصاف متعاقبة غير أن الأوسط منها و هي الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فإن القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الأشرار و شن الغارات و قتل النفوس و سبي الذراري و نهب الأموال و كذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل و غيرها اطمأنت و سكنت فلم يضطر أهلها إلى الجلاء و التفرق.
و من كمال اطمئنانها أن يأتيها رزقها رغدا من كل مكان و لا يلجأ أهلها إلى الاغتراب و قطع الفيافي و ركوب البحار و تحمل المشاق البالغة في طلب الرزق و جلبه إليها.
فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة: الأمن و الاطمئنان و إتيان رزقها إليها من كل مكان يتم و يكمل لها جميع النعم المادية الصورية، و سيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الآية التالية: «و لقد جاءهم رسول منهم» فهي قرية أتم الله نعمه عليها و أكملها.
و قوله: «فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع» و الخوف التعبير بأنعم الله و هو جمع قلة للإشارة بها إلى الأصناف المذكورة و هي ثلاثة: الأمن و الاطمئنان و إتيان الرزق، و الإذاقة استعارة للإيصال اليسير فإذاقة الجوع و الخوف مشعر بأن الذي يوصلهما قادر على تضعيف ذلك و تكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا؟ و هو الله الذي له القدرة كلها.
ثم إضافة اللباس إلى الجوع و الخوف و فيها دلالة على الشمول و الإحاطة كما يشمل اللباس البدن، و يحيط به، تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع و الخوف الذي أذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الإنسان و هو سبحانه قادر على أن يزيد على ذلك فهو المتناهي في قهره و غلبته و هم المتناهون في ذلتهم و هوانهم.
ثم ختم الآية بقوله: «بما كانوا يصنعون» للدلالة على أن سنة المجازاة في الشكر و الكفر قائمة على ساق.
و المعنى: ضرب الله مثلا مثل قرية كان أهلها آمنين من كل شر و سوء يهددهم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر و الاغتراب فكفر أهلها بهذه النعم الإلهية و لم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته - بسلب هذه النعم - و هو الجوع و الخوف اللذان عماهم و شملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الأنعم جزاء لكفرانهم.
قوله تعالى: «و لقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب و هم ظالمون» و هذا هو النعمة المعنوية التي أضافها إلى نعمة المادية المذكورة، و كان فيها صلاح معاشهم و معادهم و تحذير لهم من الكفران بأنعم الله و شرح ما فيه من الشؤم و الشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذي هو منهم يعرفونه و يدرون أنه إنما يدعوهم لأمر إلهي و يهديهم إلى سبيل الرشاد و سعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.
و بهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الآية من النكات.
قوله تعالى: «فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا إلى آخر الآية تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة، و التقدير إذا كان الحال هذا الحال و كان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب و في تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي لستم بممنوعين منه و أنتم تستطيبونه فكلوا منه و اشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون.
و قد ظهر بذلك: أولا: أن الآية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم أن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على أن الآية نزلت بعد وقعة بدر و المثل السابق مثل مضروب لأهل مكة، و المراد بالرسول الذي كذبوه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بالعذاب الذي أخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.
و هذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الآيات.
على أنه قد تأيد سابقا أنها مكية.
و ثانيا: أن المراد بالحل و الطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الإنسان طبعا و طبعه يستطيبه أي الحل و الطيب بحسب الطبع و ذلك ملاك الحلية الشرعية التي تتبع الحلية بحسب الفطرة فإن الدين فطري لأن الله سبحانه فطر الإنسان مجهزا بجهاز التغذية و جعل أشياء أرضية من الحيوان و النبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله أن يأكل منها و هو الحل.
و ثالثا: أن قوله: «فكلوا» أمر مقدمي بالنسبة إلى قوله: «و اشكروا» نعمة الله» و ذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فإن كون الشيء نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه.
و رابعا: أن قوله: «إن كنتم إياه تعبدون» خطاب للمؤمنين فإنهم هم الذين يعبدون الله و لا يعبدون غيره، و القصر في الجملة الذي يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب، و غيرهم و هم المشركون إنما يعبدون الأصنام و الآلهة من دون الله.
و جعل الخطاب للمشركين و دعوى أن المراد بالعبادة في قوله: «إن كنتم إياه تعبدون» الإطاعة أو أن المعنى إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى، لا يرجع إلى طائل فإن جعل العبادة بمعنى الإطاعة يحتاج إلى قرينة و لا قرينة و المشركون لا يعبدون الله سبحانه و لو بإشراكه في العبادة و لا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه أجل من أن يناله إدراك أو ينتهي إليه توجه.
و كون الخطاب في الآية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لأجلهم و رجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الآية و ما بعدها متوجهة إليهم، و ربما قيل: إن الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن و الكافر و تطبيقه على الآيات لا يخلو من تكلف و إن كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين إشكالا.
قوله تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن الله غفور رحيم» تقدم الكلام في معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية 173 و سورة المائدة الآية 3 و سورة الأنعام الآية 145.
و الآية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في أربعة مواضع من القرآن: في سورتي الأنعام و النحل و هما مكيتان من أوائل ما نزلت بمكة و أواخرها، و في سورتي البقرة و المائدة و هما من أوائل ما نزلت بالمدينة و أواخرها، و هي تدل على حصر محرمات الأكل في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم.
لكن بالرجوع إلى السنة يظهر أن هذه هي المحرمات الأصلية التي عني بها في الكتاب و ما سوى هذه الأربع من المحرمات مما حرمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربه و قد قال تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا»: الحشر: 7، و قد تقدم بعض الروايات الدالة على هذا المعنى.
قوله تعالى: «و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الله الكذب» إلخ، «ما» في قوله: «لما تصف مصدرية و الكذب مفعول «تصف» أي لا تقولوا هذا حلال و هذا حرام بسبب وصف ألسنتكم لغاية افتراء الكذب على الله.
و كون الخطاب في الآيات للمؤمنين - على ما يؤيده سياقها كما مر - أو لعامة الناس يؤيد أن يكون المراد بقوله: «و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام» النهي عن الابتداع بإدخال حلال أو حرام في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي فإن ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين و افتراء على الله و إن لم ينسبه واضعه إليه تعالى.
و ذلك أن الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة و قد تكرر منه سبحانه قوله: «يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا» أو ما يقرب منه، فالدين لله و من زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه و إن سكت عن الإسناد أو نفى ذلك بلسانه.
و ذكر الجمهور أن المراد بالآية النهي عما كان المشركون يحلونه كالميتة و الدم و ما أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة و السائبة و غيرهما و السياق - كما مر - لا يؤيده.
ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهي: «إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله: «متاع قليل و لهم عذاب أليم.
قوله تعالى: «و على الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل» إلخ، المراد بقوله: «ما قصصنا عليك من قبل» - كما قيل - ما قصه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الأنعام - و قد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال - بقوله: «و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» إلى آخر الآية،: الأنعام: 146.
و الآية في مقام دفع الدخل و فيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائلا يقول: فإذا كانت محرمات الأكل منحصرة في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به، و كان ما وراءها حلالا فما هذه الأشياء المحرمة على بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم.
فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك و ما ظلمناهم في تحريمه و لكنهم كانوا يظلمون أنفسهم فنحرم عليهم بعض الأشياء أي إنه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا أنفسهم و عصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» الآية، و لو أنهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم و تابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم و رفع الحظر عنهم و أذن لهم فيما منعهم عنه إنه لغفور رحيم.
فقد ظهر أن الآية متصلة بما قبلها من حديث التحليل و التحريم، و أنها كالجواب عن سؤال مقدر، و أن ما بعدها من قوله: «ثم إن ربك للذين عملوا السوء» الآية، متصل بها متمم لمضمونها.
قوله تعالى: «ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» الجهالة و الجهل واحد و هو في الأصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع و إن لم يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات و هو يعلم بحرمتها لكن الأهواء النفسانية تغلبه و تحمله على المعصية و لا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة و المعصية فله علم بما ارتكب و لذلك يؤاخذ و يعاقب على ما فعل و هو مع ذلك جاهل بحقيقة الأمر و لو تبصر تمام التبصر لم يرتكب.
و المراد بالجهالة في الآية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الأول و كان ما ذكر من عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة و الرحمة.
و الآية - كما تقدمت الإشارة إليه - متصلة بما قبلها متممة لمضمونها، و معنى الآيتين أنا لم نظلم بني إسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها، لهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث ارتكبوا المعاصي و أصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم، و بعد ذلك كله باب المغفرة و الرحمة مفتوح و إن ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا سوءا و هو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا حتى يتبين التوبة و تستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.
و في تقييد التوبة أولا بالإصلاح ثم إرجاع الضمير أخيرا إليها وحدها في قوله: «إن ربك من بعدها لغفور» دلالة على أن شمول المغفرة و الرحمة من تبعات التوبة، و أما الإصلاح فإنما هو لتبيين التوبة و ظهور كونها توبة حقيقية و رجوعا جديا لا مجرد صورة خالية عن المعنى.
و قوله في ذيل الآية: «إن ربك من بعدها» تلخيص لتفصيل قوله في صدرها: «إن ربك للذين» إلخ، و فائدته حفظ فهم السامع عن التشوش و الضلال و إبراز العناية ببعدية المغفرة و الرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله: «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم».
قوله تعالى: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين» الآية، و ما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الأكل في الأربع و تحليل ما وراءها، و هذه الآية إلى تمام أربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل: هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على بني إسرائيل بعض ما أحل لهم من الطيبات، و أما هذه الملة التي أنزلناها إليك فإنما هي الملة التي تحقق بها إبراهيم فاجتباه الله و هداه إلى صراط مستقيم و أصلح بها دنياه و آخرته، و هي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات و تحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لإبراهيم (عليه السلام) منه.
فقوله: «إن إبراهيم كان أمة» قال في المفردات، و قوله: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله» أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، انتهى.
و هو قريب مما نقل عن ابن عباس، و قيل: معناه الإمام المقتدى به، و قيل: إنه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد يوحد الله غيره.
و قوله: «قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين» القنوت: الإطاعة و العبادة أو دوامها، و الحنف: الميل من الطرفين إلى حاق الوسط و هو الاعتدال.
قوله تعالى: «شاكرا لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم» الاجتباء من الجباية و هو الجمع و اجتباء الله الإنسان هو إخلاصه لنفسه و جمعه من التفرق في المذاهب المختلفة.
و في تعقيب قوله: «شاكرا لأنعمه» بقوله: «اجتباه» إلخ، مفصولا إشعار بالعلية و ذلك يؤيد ما تقدم في سورة الأعراف في تفسير قوله: «و لا تجد أكثرهم شاكرين»: الأعراف: 17، أن حقيقة الشكر هو الإخلاص في العبودية.
قوله تعالى: «و آتيناه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين» الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان (عليه السلام) ذا مال كثير و مروة عظيمة.
و قد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الآية 6، و في معنى الهداية و الصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله: «اهدنا الصراط المستقيم»: الآية - 6، و في معنى قوله: «و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: البقرة: 130، فراجع.
و في توصيفه تعالى إبراهيم (عليه السلام) بما وصفه من الصفات إشارة إلى أنها من مواهب هذا الدين الحنيف، فإن انتحل به الإنسان ساقه إلى ما ساق إليه إبراهيم (عليه السلام).
قوله تعالى: «ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين» تكرار اتصافه بالحنف و نفي الشرك لمزيد العناية به.
قوله تعالى: «إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه» إلى آخر الآية، قال في المفردات: أصل السبت القطع و منه سبت السير قطعه و سبت شعره حلقه، و أنفه اصطلمه، و قيل: سمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات و الأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمي بذلك.
و سبت فلان صار في السبت، و قوله: «يوم سبتهم شرعا» قيل: يوم قطعهم للعمل «و يوم لا يسبتون» قيل: معناه لا يقطعون العمل و قيل: يوم لا يكونون في السبت و كلاهما إشارة إلى حالة واحدة، و قوله: «إنما جعل السبت» أي ترك العمل فيه «و جعلنا نومكم سباتا» أي قطعا للعمل و ذلك إشارة إلى ما قال في صفة الليل: «لتسكنوا فيه» انتهى.
فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه و تشريعه، و يمكن أن يكون المراد به المعنى المصدري دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله: «تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا و يوم لا يسبتون لا تأتيهم:» الأعراف: 163.
و كيف كان فقد كان من طبع الكلام أن يقال: إنما جعل السبت للذين حتى، يفيد نوعا من الاختصاص و الملك و أن الله شرع لهم في كل أسبوع أن يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم و هو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل أسبوع يوما يجتمعون فيه للعبادة و الصلاة و هو يوم الجمعة.
فقوله: «إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه» بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم: لي عليك دين و هذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف و التشديد و الابتلاء أي إنما جعل للتشديد عليهم و ابتلائهم و امتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجر أمرهم فيه إلى لعن طائفة منهم و مسخ آخرين و قد أشير إلى ذلك في سورة البقرة الآية 65 و سورة النساء الآية 47.
و الأنسب على هذا أن يكون المراد بقوله: «اختلفوا فيه» أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فإنهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله و ممن رده و ممن احتال للعمل فيه على ما أشير إلى قصصهم في سور البقرة و النساء و الأعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل أسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.
و المعنى إنما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل أسبوع تشديدا و ابتلاء و فتنة و كلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله و من رده و من احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله و إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
و بالبناء على هذا يكون وزان الآية وزان قوله السابق: «و على الذين هادوا حرمنا» إلخ، في أنها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث النسخ، و التقدير و أما جعل السبت لليهود فإنما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله و يفتنهم به و يشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين و بالجملة الآية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الأحكام غير الفطرية على اليهود و نسخه في هذه الشريعة.
و إنما لم يضم إلى قوله سابقا: «و على الذين هادوا حرمنا» إلخ، لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات و استثناء محرمات الأكل، و قد عرفت أن الكلام على اتصاله من قوله: «و على الذين هادوا» إلى قوله: «و ما كان من المشركين» سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الآية و هي ثامنتها الملحقة بها.
و من هنا يظهر الجواب عما اعترض به أن توسيط جعل السبت بين حكاية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) و بين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة إليها و بعبارة أخرى وقوع قوله: «إنما جعل السبت» إلخ، بين قوله: «ثم أوحينا إليك» إلخ، و قوله: «ادع إلى سبيل ربك» إلخ، كالفصل بين الشجر و لحائه.
و محصل الجواب أن قوله: «ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم» الآية من تمام السياق السابق، و قوله: «إنما جعل السبت» الآية، متصل بما تقدمه كما عرفت، و أما قوله: «ادع إلى سبيل ربك» الآية، فهو استئناف و أمر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة إبراهيم حتى يتصل بالآية السابقة نوع اتصال و إن كان سبيل الله هو ملة إبراهيم بعينها لكن للفظ حكم و للمعنى بحسب المآل حكم آخر، فافهم.
و للقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال: إن المراد إنما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه و أخذوا السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به و ربما جعل «في» للتعليل فإن الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من أجل السبت.
و ربما قيل: الاختلاف بمعنى المخالفة فإنهم خالفوا نبيهم في السبت و لم يختلفوا فيه.
و ربما قيل: إنهم أمروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين و وكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه و لم يهدهم الله إليه و وقعوا في السبت.
و ربما قيل: إن المراد أنهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة و طائفة منهم عكست الأمر و فضلت الجمعة عليه.
إلى غير ذلك مما قيل، و الأصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة.
و أنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.
قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن» إلى آخر الآية لا شك في أنه يستفاد من الآية أن هذه الثلاثة الحكمة و الموعظة و المجادلة من طرق التكليم و المفاوضة فقد أمر بالدعوة بأحد هذه الأمور فهي من أنحاء الدعوة و طرقها و إن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الأخص.
و قد فسرت الحكمة - كما في المفردات - بإصابة الحق بالعلم و العقل، و الموعظة كما عن الخليل - بأنه التذكير بالخير فيما يرق له القلب، و الجدال - كما في المفردات - بالمفاوضة على سبيل المنازعة و المغالبة.
و التأمل في هذه المعاني يعطي أن المراد بالحكمة - و الله أعلم - الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه و لا وهن و لا إبهام و الموعظة هو البيان الذي تلين به النفس و يرق له القلب، لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر و العبر و جميل الثناء و محمود الأثر و نحو ذلك.
و الجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه و ينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو و الناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.
فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة و الموعظة و الجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان و الخطابة و الجدل.
غير أنه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة و الجدال بالتي هي أحسن، ففيه دلالة على أن من الموعظة ما ليست بحسنة و من الجدال ما هو أحسن و ما ليس بأحسن و لا حسن و الله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة و من الجدال بأحسنه.
و لعل ما في ذيل الآية من التعليل بقوله: «إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين» يوضح وجه التقييد، فمعناه أنه سبحانه أعلم بحال أهل الضلال في دينه الحق، و هو أعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم أن الذي ينفع في هذا السبيل هو الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن لا غير.
و الاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فإن سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق و العمل الحق و من المعلوم أن الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول، و الدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لإظهار الحق إحياء لحق بإحياء باطل و إن شئت فقل إحياء حق بإماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة.
و من هنا يظهر أن حسن الموعظة إنما هو من حيث حسن أثره في الحق الذي يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ و يستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب و يقشعر به الجلد و يعيه السمع و يخشع له البصر.
و يتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد و العناد و سوقه إلى المكابرة و اللجاج، و استعمال المقدمات الكاذبة و إن تسلمها الخصم إلا في المناقضة و يحترز سوء التعبير و الإزراء بالخصم و بما يقدسه من الاعتقاد و السب و الشتم و أي جهالة أخرى فإن في ذلك إحياء للحق بإحياء الباطل أي إماتة الحق كما عرفت.
و الجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة و لذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها و لم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن.
ثم إن في قوله: «بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن» أخذا بالترتيب من حيث الأفراد فالحكمة مأذون فيها بجميع أفرادها، و الموعظة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة و المأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة، و المجادلة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي أحسن و غيرها و المأذون فيها منها التي هي أحسن، و الآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الأثر و حصول المطلوب و هو ظهور الحق.
فمن الجائز أن يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث و في آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال و يناسب المقام.
و منه يظهر أن قول بعضهم إن ظاهر الآية أن يجمع (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو و أما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل.
و كذا ما ذكره بعضهم أن الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتبة حسب ترتب أفهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص و هم أصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لإدراك الحقائق العقلية و شديدة الانجذاب إلى المبادىء العالية و كثيرة الألفة بالعلم و اليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة و هي البرهان.
و منهم عوام و هم أصحاب نفوس كدرة و استعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات و قوة تعلقهم بالرسوم و العادات قاصرة عن تلقي البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق و هؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.
و منهم أصحاب العناد و اللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق و يكابرون ليطفئوا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الآراء الباطلة، و غلب عليهم تقليد أسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ و العبر، و لا يهديهم سائق البراهين و هؤلاء هم الذين أمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن.
و فيه أنه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة و المجادلة و ربما انتفعت العوام و هم ألفاء العادات و الرسوم بالمجادلة بالتي هي أحسن، و لا دلالة في لفظ الآية على ما ذكر من التخصيص.
و كذا ما ذكره بعضهم أن المجادلة بالتي هي أحسن ليست من الدعوة في شيء بل الغرض منها شيء آخر مغاير لها و هو الإلزام و الإفحام.
قال: و لذلك لم يعطف الجدال في الآية على ما تقدمه بل غير السياق و قيل: «و جادلهم بالتي هي أحسن». و فيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالإفحام و إن كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة و خاصة في الأمور العملية و العلوم غير اليقينية كالفقه و الأصول و الأخلاق و الفنون الأدبية و لا يراد به الإلزام و الإفحام.
على أن في الإلزام و الإفحام دعوة كما أن في الموعظة دعوة و إن اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة و المغالبة.
قوله تعالى: «و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين» قال في المفردات، العقوبة و العقاب و المعاقبة تختص بالعذاب، انتهى.
و الأصل في معناه العقب و هو مؤخر الرجل و عقيب الشيء و عاقبة الأمر ما يليه من ورائه أو آخره، و التعقيب الإتيان بشيء عقيب شيء و معاقبتك غيرك أن تأتي بما يسوءه عقيب إتيانه بما يسوءك فينطبق على المجازاة و المكافأة بالعذاب.
فقوله: «و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» الخطاب فيه للمسلمين - على ما يفيده السياق - و لازمه أن يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين و الكفار، و بقوله: «عوقبتم به» عقاب الكفار إياهم و مجازاتهم لهم بما آمنوا بالله و رفضوا آلهتهم.
و المعنى: و إن أردتم مجازاة الكفار و عذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على إيمانكم و جهادكم في الله.
و قوله: «و لئن صبرتم لهو خير للصابرين» أي صبرتم على مر ما عوقبتم به و لم تعاقبوا و لم تكافئوا لهو خير لكم بما أنكم صابرون لما فيه من إيثار رضا الله و ثوابه فيما أصابكم من المحنة و المصيبة على رضا أنفسكم بالتشفي بالانتقام فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم، و لما في الصفح و العفو من إعمال الفتوة و لها آثارها الجميلة.
قوله تعالى: «و اصبر و ما صبرك إلا بالله» إلى آخر الآية أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و بشرى له أن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فإنه تعالى يذكر أن صبره إنما هو بحول و قوة من ربه ثم يأمره بالصبر و لازم الأمر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله: «و ما صبرك إلا بالله» إشارة إلى أن الله قواك على ما أمرك به.
و قوله: «و لا تحزن عليهم» أي على الكافرين، لكفرهم و قد تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة و غيرها.
و قوله: «و لا تك في ضيق مما يمكرون» الظاهر أن المراد النهي عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال.
قوله تعالى: «إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون» أي إن التقوى و الإحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الإلهية و إبطال مكر أعداء الدين و دفع كيدهم فالآية تعليل لقوله: «و لا تك في ضيق مما يمكرون» و وعد بالنصر.
و هذه الآيات الثلاث أشبه مضمونا بالآيات المدنية منها بالمكية و قد وردت روايات من طرق الفريقين أنها نزلت في منصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أحد و سيأتي في البحث الروائي و إن كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم.
و مما يجب أن يتنبه له أن الآية التي قبل الثلاثة أجمع لغرض السورة من هذه الثلاث، و أن لآيات السورة مع الإغماض عن قوله: «و الذين هاجروا» الآية، و قوله: «من كفر بالله من بعد إيمانه» إلى تمام بضع آيات، و قوله: «و إن عاقبتم» إلى آخر السورة، سياقا واحدا متصلا.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و ضرب الله مثلا» الآية، قال: قال (عليه السلام) نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار و كانت بلادهم خصبة كثيرة الخير، و كانوا يستنجون بالعجين و يقولون: هو ألين لنا، فكفروا بأنعم الله و استخفوا فحبس الله عنهم الثرثار فجدبوا حتى أحوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه: أقول و رواه في الكافي، عنه بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مفصلا، و العياشي عن حفص و زيد الشحام عنه و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد يشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم، و الأمة الرجل فما فوقه إن الله يقول: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين».
أقول: و قد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث.
و في تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لقد كانت الدنيا و ما كان فيها إلا واحد يعبد الله و لو كان معه غيره لأضافه إليه حيث يقول: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا - و لم يك من المشركين» فصبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله تبارك و تعالى آنسه بإسماعيل و إسحاق فصاروا ثلاثة: أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن سماعة عن عبد صالح. و في الدر المنثور، أخرج الشافعي في الأم و البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا و النصارى بعد غد: أقول: و روي مثله عن أحمد و مسلم عن أبي هريرة و حذيفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): و لم ترد الرواية في تفسير الآية.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ليلى الأشعري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تمسكوا بطاعة أئمتكم و لا تخالفوهم فإن طاعتهم طاعة الله و معصيتهم معصية الله فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة و الموعظة الحسنة فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين و قد برئت منه ذمة الله و ذمة رسوله و من ولي من أمركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و جادلهم بالتي هي أحسن» قال: قال (عليه السلام): بالقرآن. و في الكافي، عنه بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة - و جادلهم بالتي هي أحسن»، قال بالقرآن. أقول: ظاهره أنه تفسير «بالتي هي أحسن» و محصله الجدال على سنة القرآن الذي فيه أدب الله.
و في تفسير العياشي، عن الحسن بن حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما صنع بحمزة بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد و إليك المشتكى و أنت المستعان على ما أرى ثم قال: لئن ظفرت لأمثلن و لأمثلن و لأمثلن قال: فأنزل الله: «و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به - و لئن صبرتم لهو خير للصابرين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أصبر أصبر و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم قتل حمزة و مثل به: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين رجلا منهم، فأنزل الله: «و إن عاقبتم» الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بل نصبر يا رب فصبر و نهى عن المثلة.
أقول: و روي أيضا ما في معناه عن أبي بن كعب و أبي هريرة و غيرهما عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
تم و الحمد لله.
|