بيان
عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» الآية.
قوله تعالى: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» «لا تعبدوا» إلخ، نفي و استثناء و «أن» مصدرية و جوز أن يكون نهيا و استثناء و أن مصدرية أو مفسرة، و على أي حال ينحل مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.
و القول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء و هو القضاء التشريعي المتعلق بالأحكام و القضايا التشريعية، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولوي، و هو كما يتعلق بالأمر يتعلق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفية، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه، لم يصح إلا بنوع من التأويل و التجوز.
و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينية و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أن معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء: 48.
و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجن و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان»: يس: 60، و قال: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه»: الجاثية: 23، حتى أن الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.
و لعظم أمر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الأحكام الخطيرة شأنا كعقوق الوالدين و منع الحقوق المالية و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتباع غير العلم و الكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك.
قوله تعالى: «و بالوالدين إحسانا» عطف على سابقه أي و قضى ربك بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا أو أن أحسنوا بالوالدين إحسانا و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.
و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أن عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدة مواضع من كلامه.
و قد تقدم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية 151 من السورة - أن الرابطة العاطفية المتوسطة بين الأب و الأم من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنساني على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنساني بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحل به عقد الاجتماع.
قوله تعالى: «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما» «إما» مركب من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السن و أف كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.
و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شيء من لوازم الحياة و واجباتها.
فالآية تدل على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التام في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولا و فعلا مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف أمه لتغذيته، و لذا قيده بالذل فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذللك قبالهما رحمة بهما.
هذا إن كان الذل بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظا لها.
و قوله: «و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» أي اذكر تربيتهما لك صغيرا فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربياك صغيرا.
قال في المجمع،: و في هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع و إلا لم يكن للأمر به معنى.
انتهى.
و الذي يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الإجابة و هو أدب ديني ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أن وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر و الآية مطلقة.
قوله تعالى: «ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا» السياق يعطي أن تكون الآية متعلقة بما تقدمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول أو فعل يتأذيان به، و إنما لم يصرح به للإشارة إلى أن ذلك مما لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.
فقوله: «ربكم أعلم بما في نفوسكم» أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله: «إن تكونوا صالحين» فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنه كان إلخ، و قوله: «فإنه كان للأوابين غفورا» أي للراجعين إليه عند كل معصية و هو من وضع البيان العام موضع الخاص.
و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنه كان للأوابين غفورا.
قوله تعالى: «و آت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل» تقدم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أن إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لأنها آية مكية من سورة مكية.
قوله تعالى: «و لا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا» قال في المجمع،: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرق كما يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا و إن كثر.
انتهى.
و قوله: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين» تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذر إنك إن تبذر كنت من المبذرين و المبذرون إخوان الشياطين، و كأن وجه المواخاة بينهم أن الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: «و قيضنا لهم قرناء»: حم السجدة: 25، و قوله: «احشروا الذين ظلموا و أزواجهم»: الصافات: 22 أي قرناءهم: و قوله: «و إخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون»: الأعراف: 202.
و من هنا يظهر أن تفسير من فسر الآية بأنهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم.
و أما قوله: «و كان الشيطان لربه كفورا» فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الذي هو أبو الشياطين و هم ذريته و قبيله و اللام حينئذ للعهد الذهني و يمكن أن يكون اللام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث إنه يصرف ما آتاه من قوة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.
و قد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان أولا و إفراده ثانيا فإن الاعتبار أولا بأن كل مبذر أخو شيطانه الخاص فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانيا بإبليس الذي هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان.
قوله تعالى: «و إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا» أصله إن تعرض عنهم و «ما» زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.
و السياق يشهد بأن الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله: «و إما تعرضن عنهم» الإعراض عمن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسد به خلته و ليس المراد به كل إعراض كيف اتفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شيء من المال يبذله له و ليس بآيس من وجدانه بدليل قوله: «ابتغاء رحمة من ربك ترجوها» أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، و لا لأنك فاقد له آيس من حصوله بل لأنك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربك ترجوها يعني الرزق.
و قوله: «فقل لهم قولا ميسورا» أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الرد كما قال تعالى: «و أما السائل فلا تنهر»: الضحى: 10 بل رده بقول سهل لين.
قال في الكشاف،: و قوله: «ابتغاء رحمة من ربك» إما أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا و عدهم وعدا جميلا رحمة لهم و تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم، و إما أن يتعلق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك - فسمى الرزق رحمة - فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب.
انتهى.
قوله تعالى: «و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا» جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئا لبخله و شح نفسه، و بسط اليد كل البسط كناية عن إنفاق الإنسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شيء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.
و قوله: «فتقعد ملوما محسورا» متفرع على قوله: «و لا تبسطها» إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك أن تقعد ملوما لنفسك و غيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.
و قيل: إن قوله: «فتقعد ملوما محسورا» متفرع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوما مذموما و إن أسرفت بقيت متحسرا مغموما.
و فيه أن كون قوله: «و لا تبسطها كل البسط» ظاهرا في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافا و تبذيرا غير ظاهر و إن كان منهيا عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسر و الغم على ما لم يفسد و لا أفسد.
قوله تعالى: «إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر أنه كان بعباده خبيرا بصيرا» ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل لما تقدم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.
و المعنى: أن هذا دأب ربك و سنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط و لا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنه كان بعباده خبيرا بصيرا و ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله و تتخذ طريق الاعتدال و تتجنب الإفراط و التفريط.
و قيل: إنها تعليل على معنى أن ربك يبسط و يقبض، و ذلك من الشئون الإلهية المختصة به تعالى، و ليس لك أن تتصف به و الذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.
قوله تعالى: «و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا» الإملاق الفاقة و الفقر، و قال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان يقال: خطىء يخطأ و خطأة، قال تعالى: «إن قتلهم كان خطأ كبيرا» و قال: «و إن كنا لخاطئين» و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطىء و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنى بقوله: «و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة»، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتفق منه خلافه فهذا مخطىء في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.
و جملة الأمر أن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: أنه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ و هذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.
انتهى بتلخيص.
و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و الحاجة و قوله «نحن نرزقهم و إياكم» تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده: «إن قتلهم كان خطأ كبيرا».
و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفا من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم فإنكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا.
و قد تكرر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنما أفرد بالذكر و اختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة و أشد القسوة، و لأنهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة و العزة.
و في الكشاف،: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يأدونهن خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أن الآيات المتعرضة لوأد البنات آيات خاصة تصرح به و بحرمته كقوله تعالى: «و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت»: التكوير: 9، و قوله: «و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا فهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون»: النحل: 59.
و أما الآية التي نحن فيها و أترابها فإنها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعم، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق أن الآية تكشف عن سنة سيئة أخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و أنثى خوفا من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.
قوله تعالى: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا» نهي عن الزنا و قد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علله بقوله: «إنه كان فاحشة» فأفاد أن الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله: «و ساء سبيلا» فأفاد أنه سبيل سيء يؤدي إلى فساد المجتمع في جميع شئونه حتى ينحل عقده و يختل نظامه و فيه هلاك الإنسانية و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين: «و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا»: الفرقان: 70.
«كلام في حرمة الزنا»
و هو بحث قرآني اجتماعي.
من المشهود أن في كل من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الأنثى إذا أدرك و صحت بنيته ميلا غريزيا إلى الآخر و ليس ذلك مما يختص بالإنسان بل ما نجده من عامة الحيوان أيضا على هذه الغريزة الطبيعية.
و قد جهز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أن هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد و التناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهز بأمور أخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد و تجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذي طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكل ذلك تسخير إلهي يتوسل به إلى بقاء النوع.
و لذلك نرى أن الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنية لسذاجة حياته و قلة حاجته يهتدي حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي - السفاد - ثم يلتزم الزوجان أو الأنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفلان أو تتكفل الأنثى تغذيته و تربيته حتى يدرك و يستقل بإدارة رحى حياته.
و لذلك أيضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنة الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية الغريزة و يتوسل به إلى إنسال الذرية، و هو أصل طبيعي لانعقاد المجتمع الإنساني فإن من الضروري أن الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور.
و ما مر من أن في سنة الازدواج شيء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدون أهلهم إعراضا لأنفسهم و يرون الذب عن الأهل و صونها من تعرض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذب عن أنفسهم أو أشد، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة و ليست بالحسد و الشح.
و لذلك أيضا لم يزالوا على مر القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدونه سنة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدونه إثما اجتماعيا و فاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به و إن كان ربما وجد بين بعض الأقوام الهمجية في بعض الأحيان و على شرائط خاصة بين الحرائر و الشبان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الأمم و الأقوام.
و إنما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسلية و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفة و الحياء و الغيرة و المودة و الرحمة.
غير أن المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية و حرية الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية و الشرائع الدينية و الأخلاق الإنسانية أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربما أضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية أخرى في موارد خاصة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.
فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتى عمت المحصنين و المحصنات و المحارم حتى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفة الميزان و أخذت تضعف الأخلاق الكريمة التي كانت تتصف بها الإنسانية الطبيعية و ترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة و الغيرة و الحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل أضحوكة و سخرية، و لو لا أن في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الأبحاث القرآنية خاصة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءات في هذا الباب.
و الشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم - و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشد النهي و قد كان محرما في ملة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.
و قد نهي عنه في الإسلام و عد من المعاصي الكبيرة و أغلظ في التحريم في المحارم كالأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد أغلظ فيما شرع له من الحد و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو أقيم الحد مرتين أو ثلاثا و الرجم في الزنا مع الإحصان.
و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا» حيث عده أولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: «و ساء سبيلا» و المراد - و الله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: «ء إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل»: العنكبوت: 29، أي و تتركون إتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أن الازدواج و عقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده.
فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلا محنة النفقة و مشقة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد و تعب، و هو مشهود من حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كل نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.
و من هنا أنهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أن الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرية و كذا الإمعان في حال الإنسان أول ما يميل إلى ذلك يعطي أن الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.
و لو كانت الغريزة الإنسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية إنما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشري و استن عليه و لا أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوج رجل برجل أحيانا أو امرأة بامرأة و لم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبدا.
و من جهة أخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة و الرحمة و تعلق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية.
و من التصور الباطل أن يتصور أن البشر سيوفق يوما أن يدير رحى مجتمعه بأصول فنية و طرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإن السنن القومية و القوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعية فلو بطلت أو أبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعه، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنية على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الأمر عليه.
فهجر الغرائز الطبيعية و ذهول المجتمع البشري عن غاياته الأصلية يهدد الإنسانية بهلاك سيغشاها و يهتف بأن أمامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا يحس به كل الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.
ثم إن لهذه الفاحشة أثرا آخر سيئا في نظر التشريع الإسلامي و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.
قوله تعالى: «و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق» إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلا بالحق أي إلا أن يكون قتلا بالحق بأن يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعية، و لعل في توصيف النفس بقوله: «حرم الله» من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الإشارة إليه في ذيل الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام.
و قوله: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا و الضميران في «فلا يسرف» و «إنه» للولي، و المراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور.
و المعنى و من قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه و هو ولي دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الولي في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب أنا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على أنا نصرناه.
و ربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: «فلا يسرف» إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله: «إنه» إلى «من» و المعنى قد جعلنا لولي المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الأول بإقدامه على القتل ظلما فإن المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير «إنه» فقط إلى المقتول.
و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: «و لكم في القصاص حياة»: البقرة: 179 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده» نهي عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر التي أوعد الله عليها النار قال تعالى: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا»: النساء: 10.
و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.
و قوله: «إلا بالتي هي أحسن» أي بالطريقة التي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله: «حتى يبلغ أشده» هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ أشده فتردوه إليه، و بعبارة أخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية 152.
قوله تعالى: «و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا» أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإن من الجائز أن تتمثل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.
قوله تعالى: «و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا» القسطاس بكسر القاف و ضمها هو الميزان قيل: رومي معرب و قيل: عربي، و قيل مركب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس و هو كفة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.
و قوله: «ذلك خير و أحسن تأويلا» الخير هو الذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل هو الحقيقة التي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.
و كونهما أحسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإن معايشهم تقوم في التمتع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، و ارتفع الأمن العام من بينهم.
و أما إذا أقيم الوزن بالقسط فقد أطل عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصادية بإصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقر بينهم الأمن العام.
قوله تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا» القراءة المشهورة «لا تقف» بسكون القاف و ضم الفاء من قفا يقفو قفوا إذا اتبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، و قرىء «لا تقف» بضم القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أن قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتباع أثر الأقدام.
و الآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا و عملا، و تتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به و لا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله اتباعا.
و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية و هو وجوب اتباع العلم و المنع عن اتباع غيره فإن الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلا أصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الذي يصح له أن يقول: إنه هو، و أما المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصح فيها إطلاق القول بأنه هو فافهم ذلك.
و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا و يجده واقعا في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، و ذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، و أما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإن الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيئول اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بأن له علما و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.
و يتحصل من ذلك أنه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنه يعد ما يثق به نفسه و يطمئن إليه قلبه علما و إن لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق.
فله في كل مسألة ترد عليه إما علم بنفس المسألة و إما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه و يدل عليه، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله سبحانه «و لا تقف ما ليس لك به علم» فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم.
فيئول المعنى إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبي و اتباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإن الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتبعه الصواب، و الحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.
و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإن الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظي فيه، و الظهور اللفظي من الأدلة الظنية غير أنه حجة عن دليل علمي و هو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيا عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.
و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره أن العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالآية تمسك بعام مخصوص و هو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.
و فيه أن الآية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير أن موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة إنما هو عمل بتلك الحجج العلمية و الآية باقية على عمومها من غير تخصص، و لو سلم فالعمل بالعام المخصص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص من غير فرق بينهما البتة.
و نظيره الاستشكال فيها بأن الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها و الظهور طريق ظني فلو دلت الآية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، و لازمها حرمة العمل بنفسها.
و يرده ما تقدمت الإشارة إليه أن اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية و هي بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشيء.
و قوله: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا» تعليل للنهي السابق في قوله: «و لا تقف ما ليس لك به علم».
و الظاهر المتبادر إلى الذهن، أن الضميرين في «كان عنه» راجعان إلى «كل» فيكون «عنه» نائب فاعل لقوله: «مسؤلا» مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في الكشاف، أو مغنيا عن نائب الفاعل، و قوله: «أولئك» إشارة إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنما عبر عنها بأولئك المختص بالعقلاء لأن كون كل منها مسئولا عنه يجريه مجرى العقلاء و هو كثير النظير في كلامه تعالى.
و ربما منع بعضهم كون «أولئك» مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير: ذم المنازل بعد منزلة اللوى.
و العيش بعد أولئك الأيام.
و على ذلك فالمسئول هو كل من السمع و البصر و الفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى: «و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون»: يس: 65.
و اختار بعضهم رجوع ضمير «عنه» إلى «كل» و عود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام فيكون المسئول هو القافي يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده كيف استعملها؟ و فيما استعملها؟ و عليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، و كان الأصل أن يقال: كنت عنه مسئولا.
و هو بعيد.
و المعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لأن الله سبحانه سيسأل عن السمع و البصر و الفؤاد و هي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، و المحصل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أن السمع و البصر و الفؤاد إنما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخص بها الحق و يحصل بها على الواقع فيعتقد به و يبني عليه عمله و سيسأل عن كل منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكا علميا؟ و هل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟.
فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به؟ و عن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بينا؟ و عن الفؤاد هل كان ما فكره و قضى به يقينيا لا شك فيه؟ و هي لا محالة تجيب بالحق و تشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرز عن اتباع ما ليس له به علم فإن الأعضاء و وسائل العلم التي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته و لم يكن له به علم و لا يقبل حينئذ له عذر.
و مآله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنه محفوظ عليك في سمعك و بصرك و فؤادك، و الله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى: «حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون - إلى أن قال - و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم و لكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين»: حم السجدة - 20 - 23 و غيرها من آيات شهادة الأعضاء.
غير أن الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان و هو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر و يدرك ما يدرك، و هو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانية فيسألها عما أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.
و قد تبين أن الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه و وجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به و ذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع و البصر و الفؤاد، و لا ضير في كون العلة أعم مما عللتها فإن الأعضاء مسئولة حتى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى: «اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم» الآية.
قال في المجمع، في معنى قوله: «و لا تقف ما ليس لك به علم»: معناه لا تقل: سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عباس و قتادة، و قيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، و قيل: هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية.
و الأصل أنه عام في كل قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يقال، و لا تفعل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يفعل و لا تعتقد إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد انتهى.
و فيه أن الذي ذكره أعم مما تفيده الآية فإنها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء إلا مع العلم و الثاني أعم من الأول فإنه يشمل النهي عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الأول إنما يشمل النهي عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل: و أما ما نقله من الوجوه في أول كلامه فالأحرى بها أن يذكر في تفسير التعليل بعنوان الإشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل.
قوله تعالى: «و لا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا» المرح شدة الفرح بالباطل - كما قيل - و لعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حد الاعتدال فإن الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له و هو لا يتعدى حد الاعتدال، و أما إذا فرح و اشتد منه ذلك حتى خف عقله و ظهر آثاره في أفعاله و أقواله و قيامه و قعوده و خاصة في مشيه فهو من الباطل.
و قوله: «و لا تمش في الأرض مرحا» نهي عن استعظام الإنسان نفسه بأكثر مما هو عليه لمثل البطر و الأشر و الكبر و الخيلاء، و إنما ذكر المشي في الأرض مرحا لظهور ذلك فيه.
و قوله: «إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا» كناية عن أن فعالك هذا و أنت تريد به إظهار القدرة و القوة و العظمة إنما هو وهم تتوهمه فإن هناك ما هو أقوى منك لا يخترق بقدميك و هي الأرض و ما هو أطول منك و هي الجبال فاعترف بذلك أنك وضيع مهين فلا شيء مما يبتغيه الإنسان و يتنافس فيه في هذه النشأة من ملك و عزة و سلطنة و قدرة و سؤدد و مال و غيرها إلا أمور وهمية لا حقيقة لها وراء الإدراك الإنساني سخر الله النفوس للتصديق بها و الاعتماد في العمل عليها لتعمير النشأة و تمام الكلمة، و لو لا هذه الأوهام لم يعش الإنسان في الدنيا و لا تمت كلمته تعالى: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: البقرة: 36.
قوله تعالى: «كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها» الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الواجبات و المحرمات - كما قيل - و الضمير في «سيئه» يرجع إلى ذلك، و المعنى كل ما تقدم كان سيئه - و هو ما نهي عنه و كان معصية من بين المذكورات - عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى.
و في غير القراءة المعروفة «سيئة» بفتح الهمزة و التاء في آخرها و هي على هذه القراءة خبر كان و المعنى واضح.
قوله تعالى: «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة» ذلك إشارة إلى ما تقدم من تفصيل التكاليف و في الآية إطلاق الحكمة على الأحكام الفرعية و يمكن أن يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة إجمالا من سابق الكلام.
قوله تعالى: «و لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا» كرر سبحانه النهي عن الشرك و قد نهى عنه سابقا اعتناء بشأن التوحيد و تفخيما لأمره، و هو كالوصلة يتصل به لاحق الكلام بسابقه، و معنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في الإحتجاج، عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي عن الرضا (عليه السلام): في حديث يذكر فيه الجبر و التفويض و الأمر بين أمرين قال: قلت له: و هل لله مشية و إرادة في ذلك يعني فعل العبد فقال: أما الطاعات فإرادة الله و مشيته فيها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة لها و مشيته في المعاصي النهي عنها و السخط بها و الخذلان عليها الحديث.
و في تفسير العياشي، عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «و بالوالدين إحسانا» فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما و لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين أ ليس الله يقول: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»؟ ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) أما قوله: «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف» قال: إن أضجراك فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما إن ضرباك، و قال «و قل لهما قولا كريما» قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، و قال: «و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة» قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة و رقة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق أيديهما، و لا تتقدم قدامهما: أقول: و رواه الكليني في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عنه (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن حديد بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أدنى العقوق أف، و لو علم الله عز و جل شيئا أهون منه لنهى عنه: أقول: و رواه عنه أيضا بسند آخر و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي البلاد عنه (عليه السلام) و رواه العياشي في تفسيره، عن حريز عنه (عليه السلام)، و الطبرسي في مجمع البيان، عن الرضا عن أبيه عنه (عليه السلام).
و الروايات في وجوب بر الوالدين و حرمة عقوقهما في حياتهما و بعد مماتهما من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل بيته (عليهم السلام) أكثر من أن تحصى.
و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): الأواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا با محمد عليكم بالورع و الاجتهاد و أداء الأمانة و صدق الحديث و حسن الصحبة لمن صحبكم و طول السجود، و كان ذلك من سنن التوابين الأوابين. قال أبو بصير: الأوابون التوابون.
أقول: و روي أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في معنى الآية هم التوابون المتعبدون.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و هناد عن علي بن أبي طالب قال: إذا مالت الأفياء و راحت الأرواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فإنها ساعة الأوابين و قرأ «فإنه كان للأوابين غفورا».
و فيه، أخرج ابن حريز عن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه قال لرجل من أهل الشام: أ قرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أ فما قرأت في بني إسرائيل: «و آت ذا القربى حقه» قال. و إنكم للقرابة الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم: أقول: و رواه في البرهان، عن الصدوق بإسناده عنه (عليه السلام) و عن الثعلبي في تفسيره، عن السدي عن ابن الديلمي عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: «و لا تبذر تبذيرا» قال: من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، و من أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد.
و فيه، عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في الآية قال: بذل الرجل ماله و يقعد ليس له مال قلت: فيكون تبذير في حلال؟ قال: نعم.
و في تفسير القمي، قال: قال الصادق (عليه السلام): المحسور العريان.
و في الكافي، بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاء سائل فقام إلى مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذه بيده فناوله ثم آخر فقال: الله رازقنا و إياك. ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: فاسأله فإن قال: ليس عندنا شيء فقل: أعطني قميصك قال: فأخذ قميصه فرماه إليه و في نسخة أخرى: و أعطاه فأدبه الله تبارك و تعالى على القصد فقال: «و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك - و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا» قال: الإحسار الفاقة: أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن عجلان عنه (عليه السلام)، و روى قصة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القمي في تفسيره، و رواها في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو و عن ابن جرير الطبري عن ابن مسعود.
و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: علم الله عز اسمه نبيه كيف ينفق؟ و ذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدق بها فأصبح و ليس عنده شيء و جاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل و اغتم هو حيثما لم يكن عنده شيء و كان رحيما رقيقا فأدب الله عز و جل نبيه بأمره فقال: «و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك - و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا» يقول: إن الناس قد يسألونك و لا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال.
و في تفسير العياشي، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك» قال: فضم يده و قال: هكذا فقال: «و لا تبسطها كل البسط» فبسط راحته و قال: هكذا.
و في تفسير القمي، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: و ما الإملاق؟ قال: الإفلاس.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة» قال قتادة عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: لا يزني العبد حين يزني و هو مؤمن، و لا يبهت حين يبهت و هو مؤمن، و لا يسرق حين يسرق و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن، و لا يغل حين يغل و هو مؤمن قيل: يا رسول الله و الله إن كنا لنرى أنه يأتي ذلك و هو مؤمن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا فعل شيئا من ذلك نزع الإيمان من قلبه فإن تاب تاب الله عليه.
أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى عن عائشة و أبي هريرة و قد ورد من طرق أهل البيت (عليهم السلام) أن روح الإيمان يفارقه إذ ذاك.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن الله عز و جل يقول في كتابه: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا - فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» فما هذا الإسراف الذي نهى الله عنه؟ قال: نهى أن يقتل غير قاتله أو يمثل بالقاتل. قلت: فما معنى «إنه كان منصورا» قال: و أي نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله و لا تبعة يلزمه في قتله في دين و لا دنيا.
و في تفسير العياشي، عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين قتلا رجلا فقال: يخير وليه أن يقتل أيهما شاء و يغرم الباقي نصف الدية أعني دية المقتول فيرد على ذريته، و كذلك إن قتل رجل امرأة إن قبلوا دية المرأة فذاك و إن أبى أولياؤها إلا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل و قتلوه و هو قول الله: «فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل».
أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد روي في الدر المنثور، عن البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم: أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم و قتلوا غيره فوعظوا في ذلك بقول الله: «و لا تقتلوا إلى قوله فلا يسرف في القتل».
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و زنوا بالقسطاس المستقيم»: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الذي له لسان.
أقول: و ذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فإن الميزان ذا الكفتين كذلك.
و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسمه عليها فليس من جوارحه جارحة إلا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمنها عيناه اللتان ينظر بهما و رجلاه اللتان يمشي بهما. ففرض على العين أن لا تنظر إلى ما حرم الله عليه و أن تغض عما نهاه الله عنه مما لا يحل و هو عمله و هو من الإيمان، قال الله تبارك و تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد - كل أولئك كان عنه مسؤلا» فهذا ما فرض من غض البصر عما حرم الله و هو عمله و هو من الإيمان. و فرض الله على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله و الله فرض عليهما المشي فيما فرض الله فقال: «و لا تمش في الأرض مرحا - إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا» قال: «و اقصد في مشيك و اغضض من صوتك - إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»: أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عنه (عليه السلام) في حديث مفصل.
و فيه، عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: بأبي أنت و أمي إني أدخل كنيفا لي و لي جيران و عندهم جوار يغنين و يضربن بالعود فربما أطيل الجلوس استماعا مني لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل و الله ما أتيتهن إنما هو سماع أسمعه بأذني. فقال له: أ ما سمعت الله يقول: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا» قال بلى و الله فكأني لم أسمع هذه الآية قط من كتاب الله من عجمي و لا عربي لا جرم أني لا أعود إن شاء الله و أني أستغفر الله. فقال: قم و اغتسل و صل ما بدا لك فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك أحمد الله و اسأله التوبة من كل ما يكره فإنه لا يكره إلا كل قبيح، و القبيح دعه لأهله فإن لكل أهلا: أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عنه (عليه السلام) و الكليني في الكافي، عن مسعدة بن زياد عنه (عليه السلام).
و فيه، عن الحسين بن هارون عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا» قال: يسأل السمع عما يسمع و البصر عما يطرف و الفؤاد عما يعقد عليه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم» الآية قال: قال: لا تؤم أحدا مما ليس لك به علم. قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من بهت مؤمنا أو مؤمنة أقيم في طينة خبال أو يخرج مما قال.
أقول: و فسرت طينة خبال في رواية ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) - على ما في الكافي، - بأنها صديد يخرج من فروج المومسات و روي من طرق أهل السنة ما يقرب منها عن أبي ذر و أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و الروايات - كما ترى - بعضها مبني على خصوص مورد الآية و بعضها على عموم التعليل كما أشير إليه في البيان المتقدم.
|