بيان
غرض السورة التذكرة من طريق الإنذار تغلب فيها آيات الإنذار و التخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد اشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين و المكذبين لآيات الله و تضمنت حججا بينة تلزم العقول على توحيده تعالى و الإجابة لدعوة الحق و تنتهي إلى بيان ما سيستقبل الإنسان من أهوال الساعة و مواقف القيامة و سوء حال المجرمين و خسران الظالمين.
و قد افتتحت الآيات - على ما يلوح من السياق - بما فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف به بل هو تنزيل إلهي يذكر الناس بالله و آياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكروا فيؤمنوا به و يتقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا و تذكروا و إلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم و فسقهم و وفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم و تكذيبهم.
و سياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية و في بعض الآثار أن قوله: فاصبر على ما يقولون» الآية: - 130 مدنية و في بعضها الآخر أن قوله: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم» الآية: - 131، مدنية و لا دليل على شيء من ذلك من ناحية اللفظ.
و من غرر الآيات في السورة قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى».
قوله تعالى: «طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» طه حرفان من الحروف المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو الم الر و نظائرهما و قد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجل البحث التفسيري عن إيرادها و الغور في أمثالها، و سنلوح إليها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و الشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: و الشقاوة كالسعادة من حيث الإضافة فكما أن السعادة في الأصل ضربان: سعادة أخروية و سعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب: سعادة نفسية و بدنية و خارجية كذلك الشقاوة على هذه الأضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، و كل شقاوة تعب، و ليس كل تعب شقاوة فالتعب أعم من الشقاوة.
انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
قوله تعالى: «إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض و السماوات العلى» التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشيء و إذ كان الإنسان ينال حقائق الدين الكلية بفطرته كوجوده تعالى و توحده في وجوب وجوده و ألوهيته و ربوبيته و النبوة و المعاد و غير ذلك كانت أمورا مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الإنسان إلى الأرض و إقباله إلى الدنيا و اشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالا لا يدع في قلبه فراغا أنساه ما أودع في فطرته و كان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها و تذكرة له بها بعد نسيانها.
و من المعلوم أن ذلك إعراض و إنما سمي نسيانا بنوع من العناية و هو اشتراكهما في الأثر و هو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتباع الهوى و الانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعا و يدفعها إلى الإقبال إلى الحق دفعا و هو الخشية و الخوف من عاقبة الغفلة و وبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها و تنفع في اتباع الحق صاحبها.
و بما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: «لمن يخشى» و أن المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك بأن كان مستعدا لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنه الخشية فآمن و اتقى.
و الاستثناء في قوله: «إلا تذكرة» استثناء منقطع - على ما قالوا - و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن ليكون مذكرا يتذكر به من من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله و يتقي.
فالسياق على رسله يستدعي كون «تذكرة» مصدرا بمعنى الفاعل و مفعولا له لقوله: «ما أنزلنا» كما يستدعي كون قوله: «تنزيلا» بمعنى اسم المفعول حالا من ضمير «تذكرة» الراجع إلى القرآن، و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن لتذكر الخاشعين بكلام إلهي منزل من عنده.
و قوله: «تنزيلا ممن خلق الأرض و السماوات العلى» العلى جمع عليا مؤنث أعلى كفضلى و فضل، و اختيار خلق الأرض و السماوات صلة للموصول و بيانا لإبهام المنزل لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو و سفل يكونان مبدأ و منتهى لهذا التسيير، و قد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما و إنما الغرض بيان مبدإ التنزيل و منتهاه بخلاف قوله: له ما في السماوات و الأرض و ما بينهما» إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع.
قوله تعالى: «الرحمن على العرش استوى» استئناف يذكر فيه مسألة توحيد الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة و التذكرة و ذلك في أربع آيات «الرحمن - إلى قوله - له الأسماء الحسنى».
و قد تقدم في قوله تعالى «ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار»: الأعراف: 54، أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك و الأخذ بزمام تدبير الأمور و هو فيه تعالى - على ما يناسب ساحة كبريائه و قدسه - ظهور سلطنته على الكون و استقرار ملكه على الأشياء بتدبير أمورها و إصلاح شئونها.
فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شيء و انبساط تدبيره على الأشياء سماويها و أرضيها جليلها و دقيقها خطيرها و يسيرها، فهو تعالى رب كل شيء المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشيء المدبر لأمره، و لذلك عقب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شيء و علمه بكل شيء و ذلك في معنى التعليل و الاحتجاج على الاستواء المذكور.
و معلوم أن «الرحمن» و هو مبالغة من الرحمة التي هي الإفاضة بالإيجاد و التدبير و هو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء و الصفات و لذلك اختص من بينها بالذكر.
و قد ظهر بما تقدم أن «الرحمن» مبتدأ خبره «استوى» و «على العرش» متعلق بقوله «استوى» و المراد بيان الاستواء على العرش و هذا هو المستفاد أيضا من سائر الآيات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله: «ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار:» الأعراف: 54، و قوله: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر:» يونس: 3، و قوله: «ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي:» الم السجدة: 4، و قوله: «ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض»: الحديد: 4، إلى غير ذلك.
و بذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله «الرحمن على العرش» مبتدأ و خبر ثم قوله «استوى» فعل فاعله «ما في السماوات» و قوله «له» متعلق بقوله: «استوى» و المراد باستواء كل شيء له تعالى جريها على ما يوافق إرادته و انقيادها لأمره.
و قد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و سيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى» الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الأرض دون التراب و يبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها و ما يعيش فيها مما نعلمه و نحس به كالإنسان و أصناف الحيوان و النبات و ما لا نعلمه و لا نحس به.
و إذا عم الملك ما في السماوات و الأرض و من ذلك أجزاؤهما عم نفس السماوات و الأرض فليس الشيء إلا نفس أجزائه.
و قد بين في هذه الآية أحد ركني الربوبية و هو الملك، فإن معنى الربوبية كما تقدم آنفا هو الملك و التدبير.
قوله تعالى: «و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى» الجهر بالقول: رفع الصوت به، و الإسرار خلافه، قال تعالى: «و أسروا قولكم أو اجهروا به:» الملك: 13، و السر هو الحديث المكتوم في النفس، و قوله: «و أخفى» أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقي في الآية و لا يصغى إلى قول من قال: إن «أخفى» فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، و المعنى: أنه يعلم السر و أخفى علمه.
هذا.
و في تنكير «أخفى» تأكيد للخفاء.
و ذكر الجهر بالقول في الآية أولا ثم إثبات العلم بما هو أدق منه و هو السر و الترقي إلى أخفى يدل على أن المراد إثبات العلم بالجميع، و المعنى: و إن تجهر بقولك و أعلنت ما تريده - و كأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالبا - أو أسررته في نفسك و كتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيا حتى عليك نفسك فإن الله يعلمه.
فالأصل ترديد القول بين المجهور به و السر و أخفى و إثبات العلم بالجميع ثم وضع إثبات العلم بالسر و أخفى موضع الترديد الثاني و الجواب إيجازا.
فدل على الجواب في شقي الترديد معا و على معنى الأولوية بأوجز بيان كأنه قيل: و إن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه و كيف لا يعلمه؟ و هو يعلم السر و أخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة.
و ذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك و لم ترفع صوتك به، و المراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا و الذي ذكره حق في الإسرار لكن القول لا يسمى سرا إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعول على ما قدمناه من المعنى.
و كيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكل شيء ظاهر أو خفي فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى: «ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها» الآية: الحديد: 4، و معلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه و يحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك و إذنه و بنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري و هذا هو التدبير.
فالآية تثبت عموم التدبير كما أن الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك و مجموع مدلوليهما هو الملك و التدبير و ذلك معنى الربوبية المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى» بمنزلة النتيجة لما تقدم من الآيات و لذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبرا لمبتدإ محذوف و التقدير هذا المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلا هو... إلخ، و إن كان الأقرب بالنظر إلى استقلال الآية و جامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدأ و قوله: «لا إله إلا هو» خبره، و قوله: «له الأسماء الحسنى» خبرا بعد خبر.
و كيف كان فقوله: «الله لا إله إلا هو» يمكن أن يعلل بما ثبت في الآيات السابقة من توحده تعالى بالربوبية المطلقة و يمكن أن يعلل بقوله بعده: «له الأسماء الحسنى».
أما الأول فلأن معنى الإله في كلمة التهليل إما المعبود و إما المعبود بالحق فمعنى الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره و المعبودية من شئون الربوبية و لواحقها فإن العبادة نوع تمثيل و ترسيم للعبودية و المملوكية و إظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكا لعابده مدبرا أمره أي ربا له و إذ كان تعالى رب كل شيء لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه.
و أما الثاني فلأن العبادة لأحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعا في الخير الذي عنده لينال بذلك، و إما خوفا مما في الإعراض عنه و عدم الاعتناء بأمره من الشر و إما لأنه أهل للعبادة و الخضوع.
و الله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شيء شيئا من الخير إلا ما ملكه هو إياه و هو المالك مع ذلك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره و هو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز و له كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.
و الله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شيء و هو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شر لأحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لأن يعبد خوفا من غضبه لو لم يخضع لعظمته و كبريائه.
و الله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده لأن أهلية الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلا لكمال فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع و هو إما جمال تنجذب إليه النفس انجذابا أو جلال يخر عنده اللب و يذهب دونه القلب و له سبحانه كل الجمال و ما من جمال إلا و هو آية لجماله، و له سبحانه كل الجلال و كل ما دونه آيته.
فالله سبحانه لا إله إلا هو و لا معبود سواه لأنه له الأسماء الحسنى.
و معنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الأسماء التي هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أن توصيف الاسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في اصطلاح الصرف صفة كاسم الفاعل و الصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لأن الأعلم إنما شأنها الإشارة إلى الذوات و الاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل و الظالم و العالم و الجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي و العليم و القدير، و كثيرا ما يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى: «قل سموهم» أي صفوهم.
و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: «و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه»: الأعراف: 180، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه.
فالمراد بالأسماء الحسنى ما دل على معان وصفية كالإله و الحي و العليم و القدير دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم و الجائر و الجاهل، و إلى حسنة كالعادل و العالم، و الأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما و إن كان غير خال عن شوب النقص و الإمكان نحو صبيح المنظر و معتدل القامة و جعد الشعر و ما فيه الكمال من غير شوب كالحي و العليم و القدير بتجريد معانيها عن شوب المادة و التركيب و هي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص و العيب و هي التي تليق أن تجري عليه تعالى و يتصف بها.
و لا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: «له الأسماء الحسنى» و تقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده.
و معنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته و الذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدل عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر كقوله: «هو الحي لا إله إلا هو»: المؤمن: 65، و قوله: «و هو العليم القدير»: الروم: 54 و قوله: هو السميع البصير»: المؤمن: 56، و قوله: «إن القوة لله جميعا»: البقرة: 165، و قوله: «فإن العزة لله جميعا»: النساء: 139، و قوله: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء»: البقرة: 255، إلى غير ذلك.
و لا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه و صفاته حتى ما كان منها عين ذاته كالحي و العليم و القدير و كالحياة و العلم و القدرة فإن الشيء ربما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى: «رب إني لا أملك إلا نفسي»: المائدة: 25.
بحث روائي
في المجمع،: «في قوله ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: «طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام): أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عبد بن حميد و ابن المنذر عن الربيع بن أنس و أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورم فأنزل الله تبارك و تعالى: طه بلغة طي يا محمد ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى - إلا تذكرة لمن يخشى».
أقول: و روى ما في معناه في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا» قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا و يضع رجلا فهبط عليه جبريل فقال: «طه» يعني الأرض بقدميك يا محمد «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» و أنزل «فاقرءوا ما تيسر من القرآن».
أقول: و المظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصة بأن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام على قدميه في الصلاة حتى تورمت قدماه ثم جعل يرفع قدما و يضع أخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من الروايات بعض القصة سببا للنزول و إن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كل المساعدة.
نعم يبقى على الرواية أمران: أحدهما: أن في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصة خفاء.
و ثانيهما: ما في الرواية من قوله: «فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمد» و نظيره ما مر في رواية القمي «فأنزل الله: طه بلغة طي يا محمد ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» و معناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ و مفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإ الأرض و ضع قدميك عليها و لا ترفع إحداهما و تضع الأخرى.
فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع رجلا و يضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة و يشتغل بربه من غير شاغل يشغله و على هذا فرفع الكلفة و التعب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتى يزيد ذلك في تعبه و يشدد وجعه فلا يلائم قوله «طه» قوله: «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» و لعل قوله: «يعني الأرض بقدميك» من كلام الراوي و النقل بالمعنى.
على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون «طه» حرفين مقطعتين لا معنى وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية.
و ذكر قوم منهم أن معنى «طه» يا رجل ثم قال بعضهم: إنه لغة نبطية و قيل: حبشية، و قيل: عبرانية، و قيل: سريانية، و قيل: لغة عكل، و قيل: لغة عك، و قيل: هو لغة قريش، و احتمل الزمخشري أن يكون لغة عك و أصله يا هذا قلبت الياء طاء و حذفت ذا تخفيفا فصارت طاها، و قيل: معناه يا فلان، و قرأ قوم طه بفتح الطاء و سكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ و الهاء للسكت و قيل: إنه من أسماء الله و لا عبرة بشيء من هذه الأقوال و لا جدوى في إمعان البحث عنها.
نعم ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في روح المعاني، و عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما عن معاني الأخبار، بإسناده عن الثوري: أن طه اسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في روايات أخرى: أن يس من أسمائه و روى الاسمين معا في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر.
و إذ كانت تسمية سماوية ما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعى و لا يعرف به قبل نزول القرآن و لا أن لطه معنى وصفيا في اللغة و لا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات مع وجود اسمه و اشتهاره به و كان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، و كانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «طه ما أنزلنا عليك» إلخ كما أن سورة يس كذلك «يس و القرآن الحكيم إنك لمن المرسلين» بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة و ظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمرا راجعا إلى شخصه (صلى الله عليه وآله وسلم) متحققا به بعينه فكان وصفا لشخصيته الباطنة مختصا به فكان اسما من أسمائه (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا أطلق عليه و قيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطه أو يس ثم صار علما بكثرة الاستعمال.
هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شرا و من قبيل قوله: أنا ابن جلا و طلاع الثنايا.
إذا أضع العمامة تعرفوني.
يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا.
و في احتجاج الطبرسي، عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى (عليه السلام) عن قول الله: «الرحمن على العرش استوى» فقال: استولى على ما دق و جل.
و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن مازن: أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عز و جل: «الرحمن على العرش استوى» فقال: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء:. أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره، عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في التوحيد، بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه (عليه السلام): و رواه أيضا في الكافي، و التوحيد، بالإسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عنه (عليه السلام): و زادا «لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب استوى من كل شيء».
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): في حديث «الرحمن على العرش استوى» يعني استوى تدبيره و علا أمره.
أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله «استوى» و إلا عاد قوله: «الرحمن على العرش» جملة تامة مركبة من مبتدإ و خبر و لا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدمت الإشارة إليه.
و يؤيد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله: «و علا أمره» بعد قوله: «استوى تدبيره» فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على كون الآية كناية عن الاستيلاء و انبساط السلطان.
و في التوحيد، بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد أشرك. ثم قال: من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شيء فقد زعم أنه محصور، و من زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا.
و فيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل و فيه: قال السائل: فقوله: «الرحمن على العرش استوى»؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، و كذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، و لا أن يكون العرش حاويا له و لا أن يكون العرش ممتازا له و لكنا نقول هو حامل العرش و ممسك العرش، و نقول من ذلك ما قال: «وسع كرسيه السماوات و الأرض». فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته و نفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا و أن يكون عز و جل محتاجا إلى مكان أو إلى شيء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه.
أقول: و قوله (عليه السلام): فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته إلخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و آياته الخارجة عن الحس و ذلك بإرجاعها إلى المحكمات و نفي ما تنفيه المحكمات عن ساحته تعالى و إثبات ما ثبت بالآية و هو أصل المعنى المجرد عن شائبة النقص و الإمكان التي نفاها المحكمات.
فالعرش هو المقام الذي يبتدىء منه و ينتهي إليه أزمة الأوامر و الأحكام الصادرة من الملك و هو سرير مقبب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلز يجلس عليه الملك ثم إن المحكمات من الآيات كقوله تعالى: «ليس كمثله شيء»: الشورى: 11، و قوله: «سبحان الله عما يصفون»: الصافات - 159، تدل على انتفاء الجسم و خواصه عنه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: «الرحمن على العرش استوى»: طه: 5، و قوله: «و رب العرش العظيم»: المؤمنون: 86، كونه سريرا من مادة كذا على هيئة خاصة و يبقى أصل المعنى و هو أنه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في النظام الكوني و هو من مراتب العلم الخارج من الذات.
و المقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم و بعبارة أخرى يدور مداره صدق الاسم و إن تغيرت المصاديق و اختلفت الخصوصيات.
مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم و هو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل و مصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة و يشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة و تضيء ما حولها مثلا، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع و المصابيح النفطية و لم يزل ينتقل من مصداق إلى مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه من مادة المصداق الأولي و لا هيئته شيء أصلا غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة و بذلك يسمى سراجا حقيقة.
و نظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجن مثلا و هو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع و القنبلة الذرية و قد سرى هذا النوع من التحول و التطور إلى كثير من وسائل الحياة و الأعمال التي يعتورها الإنسان في عيشته.
و بالجملة كانت الصحابة لا يتكلمون في غير الأحكام من معارف الدين مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و غيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه و يسكتون عن المعنى الإثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلا في مثل قوله: «الرحمن على العرش استوى» إن الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفي عنه تعالى و أما أن المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، و الأمر مفوض إليه و قد ادعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الأول من الهجرة مجمعون على التفويض، و هو نفي لوازم التشبيه و السكوت عن البحث في أصل المراد.
لكنه مدفوع بأن طريقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المأثورة منهم هي الإثبات و النفي معا و الإمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الإثبات و الدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمة التي لا يسع إنكارها إلا لمكابر.
بل الذي روي عن أم سلمة رضي الله عنها: في معنى الاستواء أنها قالت: «الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الإقرار به إيمان و الجحود به كفر» يدل على أنها كانت ترى هذا الرأي و لو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء مجهول و الكيف غير معقول، إلخ.
نعم الأكثرون من الصحابة و التابعين و تابعيهم من السلف على هذه الطريقة و قد نسبه الغزالي إلى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد، و إلى البخاري و الترمذي و أبي داود السجستاني من أرباب الصحاح و إلى عدة من أعيان السلف.
و كان الذي دعاهم إلى السكوت عن الإثبات - كما ذكره جمع - هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرم الله ابتغاءه في قوله: «و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله»: آل عمران: 7، بناء على الوقف على «إلا الله» بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا - كما نقله الآلوسي - أن كل من فسر فقد أول و من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير.
و قد تقدم في ذيل آية المحكم و المتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل الذي يذكره و يذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ و أن رد المتشابه إلى المحكم و بيانه به ليس من التأويل في شيء و كذا أن التأويل غير التفسير.
ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه و صفاته تعالى و اقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب و السنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش و الكرسي و الحجب و القلم و اللوح و كتب الأعمال و أبواب السماء و غيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش و الكرسي و القلم و اللوح و غير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد و هو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة و الإمكان.
و ذلك أن الذي أوجد أمثال العرش و الكرسي و اللوح و القلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزز به و اتخذنا العرش لنستريح عليه و نتعزز به و نظهر التفرد بالعزة و العظمة و نمثل به التعيين بالملك و السلطان و اتخذنا اللوح و القلم و الكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس و التحرز عن النسيان و نحو ذلك و على هذا النمط.
فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع و البصر و اليد و الساق و الرضا و الأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة و الإمكان و بين الآيات التي تثبت له عرشا و كرسيا و ملأ و حملة لعرشه و لوحا و قلما و هي توهم الحاجة و الإمكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأولى و هو قوله: «ليس كمثله شيء» و بين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية و هو قوله: «و الله هو الغني» مثلا.
نعم ذكر الإمام الرازي اعتذارا عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الأمور أدى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين و أحكام الشرع و هو قول الباطنية.
و أنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الأحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية و أجراها بين الناس تعليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تربيته دفع للضرورة و مكابرة مع البداهة و ليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه و كانت هناك آية محكمة يمكن أن يرد إليها و يرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدا لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حق لإماتة باطل و إن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شيء.
و ألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي يدهش العقول بعظمته على هيئة سرير ذي قوائم و حمله و وضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه و حفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا و يثابوا في الآخرة، و نظيره اللوح و القلم و سائر الآيات العظام الغائبة عن الحس.
و سقوط هذا القول غني عن البيان.
و بعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤولة و هم الذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الأسماء و الصفات بين الإثبات و النفي فينزهونه عن لوازم الحاجة و الإمكان بتأويلها - بمعنى الحمل على خلاف الظاهر - إلى معان توافق الأصول المسلمة من الدين أو المذهب، و هؤلاء منشعبون على شعب: منهم من اكتفى في الإثبات بعين ما نفاه بالدليل و هم الذين يفسرون الأسماء و الصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل و معنى العالم من ليس بجاهل و على هذا السبيل.
و لازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال و البراهين العقلية و ظواهر الكتاب و السنة و نصوصهما تدفعه، و هو من أقوال الصابئة المتسربة في الإسلام.
و منهم من فسرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الأصول المسلمة و هو المسمى عندهم بالتأويل.
و منهم من اكتفى بالمحتملات النقلية و لم يعتبر العقل.
و قد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم و المتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب و السنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب و السنة.
و جل هؤلاء الطوائف الثلاث المسمين بالمؤولة يسلكون في أفعاله تعالى مما لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، و أما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيؤولونه، ففي قوله: «الرحمن على العرش استوى» يؤولون الاستواء إلى مثل الاستيلاء و الاستعلاء و يبقون العرش، و هو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود و هو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبب ذي قوائم، و فيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤولون نزوله بنزول رحمته و يفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، و هكذا.
و قد عرفت فيما مر أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوغ له و لا دليل يدل عليه فلم ينزل الكتاب إلغازا و تعمية ثم الحديث فيه المحكم و المتشابه كالقرآن و إبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث و قد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه.
ثم إن في عملهم بهذه الروايات و تحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر و ذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة و لا قطعية الصدور، و ما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الإمضاء، و قد اتضح في علم الأصول اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقادية و الموضوعات الخارجية.
نعم الخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة و إن كان في غير الأحكام لأن الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه و هذه كلها مسائل مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع.
و في سنن أبي داود، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس و نهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى و نستشفع بالله تعالى عليك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويحك أ تدري ما تقول؟ و سبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أ تدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه و عرشه فوق سماواته لهكذا و قال بأصابعه مثل القبة، و إنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب.
أقول: و متنه لا يخلو من اختلال، و إنما أوردناه لكونه من أصرح الأخبار في جسمية العرش، و هنا روايات تدل على أن له قوائم، و أخرى تدل على أن له حملة أربع، و أخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة، و أخرى تدل على أن الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهري فلاة السماوات و الأرض بالنسبة إلى الكرسي كذلك، و قد تقدم طريقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير أمثال هذه الأخبار و قد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل نظرهم (عليهم السلام).
و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «يعلم السر و أخفى» قال: السر ما أكننته في نفسك و أخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته.
و في المجمع، روي عن السيدين الباقر و الصادق (عليهما السلام): «السر» ما أخفيته في نفسك و «أخفى» ما خطر ببالك ثم أنسيته.
|