بيان
في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا و هو الذي فطر السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة و إجابة دعوتها و يستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، و لم تندب النبوة إلا إلى دين واحد و هو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل و من قبله إبراهيم و من قبله نوح و من جاء بعد موسى و قبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم و نبذة مما أنعم به عليهم كأيوب و إدريس و غيرهما.
فالبشر ليس إلا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه و دين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم و تشتتوا في أديانهم و اختلقوا لهم آلهة دون الله و أديانا غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم و تباينت غاية مسيرهم في الدنيا و الآخرة.
أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم و لا يشاهدون ما يسوؤهم و لن يزالوا في نعمة و كرامة، و أما غيرهم فإلى العذاب و العقاب.
و أما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض و يجعل لهم عاقبة الدار و الطالحون إلى هلاك و دمار و خسران و سعي و بوار.
قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون» - الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد، و الخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات - خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، و المراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد، و تأنيث الإشارة في قوله «هذه أمتكم» لتأنيث الخبر.
و المعنى: أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر و هي أمة واحدة و أنا - الله الواحد عز اسمه - ربكم إذ ملكتكم و دبرت أمركم فاعبدوني لا غير.
و في قوله: «أمة واحدة» إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع الإنساني لما كان نوعا واحدا و أمة واحدة ذات مقصد واحد و هو سعادة الحياة الإنسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية و الألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء و كم يشاء و كيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، و الإنسان حقيقة نوعية واحدة، و النظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض و نظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية.
و هو الله عز اسمه.
و قيل: المراد بالأمة الدين، و الإشارة بهذه إلى دين الإسلام الذي كان دين الأنبياء و المراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، و المعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها و هي ملة اتفقت الأنبياء (عليهم السلام) عليها.
و هو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الإيصال إليه إلا بقرينة صارفة و لا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته و استقامته و تأيده بسائر كلامه تعالى كقوله: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا:» يونس: 19 و هو - كما ترى - يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية و الآية التي تليها.
على أن التعبير في قوله: «و أنا ربكم» بالرب دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد و أنا المالك المدبر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها.
و في الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: «و تقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون» - التقطع على ما قال في مجمع البيان، بمعنى التقطيع و هو التفريق، و قيل: هو بمعناه المتبادر و هو التفرق و الاختلاف و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض، و التقدير فتقطعوا في أمرهم و قيل «تقطعوا» مضمن معنى الجعل و لذا عدي إلى المفعول بنفسه.
و كيف كان فقوله: «و تقطعوا أمرهم بينهم» استعارة بالكناية و المراد به أنهم جعلوا هذا الأمر الواحد و هو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة و هو أمر وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه و ترك شيئا كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين على اختلاف طوائفهم و هذا نوع تقريع للناس و ذم لاختلافهم في الدين و تركهم الأمر الإلهي أن يعبدوه وحده.
و قوله: «كل إلينا راجعون» فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا و هم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: «فمن يعمل من الصالحات» إلخ.
و الفصل في جملة: «كل إلينا راجعون» لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ و ما ذا ينتج؟ فقيل: كل إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا.
قوله تعالى: «فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون» تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي و سيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون».
فقوله: «فمن يعمل من الصالحات» أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات و قد قيد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال: «و هو مؤمن» فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان.
و المراد بالإيمان - على ما يظهر من السياق و خاصة قوله في الآية الماضية: «و أنا ربكم فاعبدون» - الإيمان بالله قطعا غير أن الإيمان بالله لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض - إلى قوله - أولئك هم الكافرون حقا:» النساء: 151.
و قوله: «فلا كفران لسعيه» أي لا ستر على ما عمله من الصالحات و الكفران يقابل الشكر و لذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: «و كان سعيكم مشكورا:» الدهر: 22.
و قوله: «و إنا له كاتبون» أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه فالمراد بقوله: «فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون» إن عمله الصالح لا ينسى و لا يكفر.
و الآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيده آيات حبط الأعمال مع الكفر، و تدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة.
قوله تعالى: «و حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون» الذي يستبق من الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة و يتداركوا ما فوتوه من الصالحات و هو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الآخر قوله: «فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن» إلخ.
فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب و سعي مشكور و إنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا و لا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.
غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: «و حرام على قرية أهلكناها» و لم يقل: و حرام على من أهلكناه لأن فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع و ينتهي إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: «و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا: إسراء: 58.
و يمكن - على بعد - أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة و الهدى كما في قوله: «و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون:» الأنعام: 26 فتكون الآية في معنى قوله: «فإن الله لا يهدي من يضل:» النحل - 37، و المعنى و حرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم و قضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة و حال الاستقامة.
و معنى الآية و القرية التي لم تعمل من الصالحات و هي مؤمنة و أنجز أمرها إلى الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور و العمل المكتوب المقبول.
و أما قوله: «أنهم لا يرجعون» و كان الظاهر أن يقال: إنهم يرجعون فالحق أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشيء - أعني ما يئول إليه حال المتعلق بعد تعلقه به - موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة و في هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل.
و نظيره أيضا قوله: «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك:» الأعراف: 12 حيث إن تعلق المنع بالسجدة يئول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع.
و نظيره أيضا قوله: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا:» الأنعام: 151 حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق و قد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر بتوجيه آخر أيضا.
و للقوم في توجيه الآية وجوه: منها: أن لا زائدة و الأصل أنهم يرجعون.
و منها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون و استدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء: و إن حراما لا أرى الدهر باكيا.
على شجوة إلا بكيت على صخر.
و منها: أن متعلق الحرمة محذوف و التقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة.
و منها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع إلى الدنيا و المعنى - على استقامة اللفظ - و ممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة و أنت خبير بما في كل من هذه الوجوه من الضعف.
قوله تعالى: «حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون» الحدب بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، و النسول الخروج بإسراع و منه نسلان الذئب، و السياق يقتضي أن يكون قوله: «حتى إذا فتحت» إلخ.
غاية للتفصيل المذكور في قوله: «فمن يعمل من الصالحات» إلى آخر الآيتين، و أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج و مأجوج.
و المعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين و نشكر سعيهم و نهلك القرى الظالمة و نحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه يأجوج و مأجوج أي سدهم أو طريقهم المسدود و هم أي يأجوج و مأجوج يخرجون إلى سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم و هو من أشراط الساعة و أمارات القيامة كما يشير إليه بقوله: «فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقا و تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا:» الكهف: 99 و قد استوفينا الكلام في معنى يأجوج و مأجوج و السد المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف.
و قيل: ضمير الجمع للناس و المراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.
و فيه أن سياق ما قبل الجملة «حتى إذا فتحت» إلخ.
و ما بعدها «و اقترب الوعد الحق» لا يناسب هذا المعنى، و كذا نفس الجملة من جهة كونها حالا.
على أن النسول من كل حدب - و قد اشتملت عليه الجملة - لا يصدق على الخروج من القبور و لذا قرأ صاحب هذا القول و هو مجاهد الجدث بالجيم و الثاء المثلثة و هو القبر.
قوله تعالى: «و اقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا» إلخ.
المراد بالوعد الحق الساعة، و شخوص البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب و هو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره و يكون غالبا في الشر الذي يظهر للإنسان بغتة.
و قوله: «يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا» حكاية قول الكفار إذا شاهدوا الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا إغفالا ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة و يغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا: «بل كنا ظالمين».
قوله تعالى: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون» الحصب الوقود، و قيل: الحطب، و قيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعم.
و المراد بقوله: «و ما تعبدون من دون الله» و لم يقل: و من تعبدون - مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بعد: «ما وردوها» - الأصنام و التماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء و الصلحاء و الملائكة كما قيل و يدل على ذلك قوله بعد: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى» إلخ.
و الظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار و فيها القضاء بدخولهم في النار و خلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة و استدلال على بطلان عبادة الأصنام و اتخاذهم آلهة من دون الله.
و قوله: «أنتم لها واردون» اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، و ظاهر السياق أن الخطاب شامل للكفار و الآلهة جميعا أي أنتم و آلهتكم تردون جهنم أو تردون إليها.
قوله تعالى: «لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها و كل فيها خالدون» تفريع و إظهار لحقيقة حال الآلهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، و قوله: «و كل فيها خالدون» أي كل منكم و من الآلهة.
قوله تعالى: «لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون» الزفير هو الصوت برد النفس إلى داخل و لذا فسر بصوت الحمار، و كونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.
و في الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إعراضا عن خطابهم ليبين سوء حالهم لغيرهم، و عليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا لهم و للآلهة معا.
قوله تعالى: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون» الحسنى مؤنث أحسن و هي وصف قائم مقام موصوفه و التقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة أو بالجنة و الموعدة بكل منهما وارد في كلامه تعالى قال: «ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا:» مريم: 72 و قال: «وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات:» التوبة: 72.
قوله تعالى: «لا يسمعون حسيسها» - إلى قوله - توعدون» الحسيس الصوت الذي يحس به، و الفزع الأكبر الخوف الأعظم و قد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ الصور حيث قال: «و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و من في الأرض:» النمل: 87.
و قوله: «و تتلقاهم الملائكة» أي بالبشرى و هي قولهم: «هذا يومكم الذي كنتم توعدون».
قوله تعالى: «يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده إلى آخر الآية، قال في المفردات،: و السجل قيل: حجر كان يكتب فيه ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا قال تعالى: «كطي السجل للكتب» أي كطيه لما كتب فيه حفظا له، انتهى.
و هذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة و أبسطه.
و على هذا فقوله: «للكتب» مفعول طي كما أن السجل فاعله و المراد أن السجل و هو الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيه الكتاب و هو الألفاظ أو المعاني التي لها نوع تحقق و ثبوت في السجل بتوسط الخطوط و النقوش فغاب الكتاب بذلك و لم يظهر منه عين و لا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة الإلهية كما قال: «و السماوات مطويات بيمينه:» الزمر: 67 فتغيب عن غيره و لا يظهر منها عين و لا أثر غير أنها لا تغيب عن عالم الغيب و إن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن السجل و إن غاب عن غيره.
فطي السماء على هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها و قدرت كما قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر: 21 و قال مطلقا: «و إلى الله المصير:» آل عمران: 28 و قال: «إن إلى ربك الرجعى:» العلق: 8.
و لعله بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إن قوله: «كما بدأنا أول خلق نعيده» ناظر إلى رجوع كل شيء إلى حاله التي كان عليها حين ابتدأ خلقه و هي أنه لم يكن شيئا مذكورا كما قال تعالى: «و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:» مريم: 9، و قال «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا»: الدهر: 1.
و هذا معنى ما نسب إلى ابن عباس أن معنى الآية يهلك كل شيء كما كان أول مرة و هو و إن كان مناسبا للاتصال بقوله: «يوم نطوي السماء» إلخ.
ليقع في مقام التعليل له لكن الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء و إرجاعها إلى حالها قبل ظهورها بالوجود.
فظاهر سياق الآيات أن المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله: «كما بدأنا أول خلق نعيده» للتشبيه و «ما» مصدرية و «أول خلق» مفعول «بدأنا» و المراد أنا نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعز علينا.
و قوله: «وعدا علينا إنا كنا فاعلين» أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك و وجب علينا الوفاء به و إنا كنا فاعلين لما وعدنا و سنتنا ذلك.
قوله تعالى: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود (عليه السلام) و قد سمي بهذا الاسم في قوله: «و آتينا داود زبورا:» النساء: 163، إسراء: 55، و قيل: المراد به القرآن، و قيل: مطلق الكتب المنزلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى و لا دليل على شيء من ذلك.
و المراد بالذكر قيل: هو التوراة و قد سماها الله به في موضعين من هذه السورة و هما قوله: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون:» الآية - 7 و قوله: «و ذكرا للمتقين:» الآية - 48 منها، و قيل: هو القرآن و قد سماه الله ذكرا في مواضع من كلامه و كون الزبور بعد الذكر على هذا القول بعدية رتبية لا زمانية و قيل: هو اللوح المحفوظ و هو كما ترى.
و قوله: «إن الأرض يرثها عبادي الصالحون» الوراثة و الإرث على ما ذكره الراغب انتقال قنية إليك من غير معاملة.
و المراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم و استقرار بركات الحياة بها فيهم، و هذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتع الصالح بأمتعتها و زيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستطهر من الشرك و المعصية و يسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله و لا يشركون به شيئا كما يشير إليه قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى قوله - يعبدونني لا يشركون بي شيئا:» النور: 55.
و إما أخروية و هي مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنها من بركات الحياة الأرضية و هي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: «و قالوا الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء:» الزمر: 74 و قوله: «أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس:» المؤمنون: 11.
و من هنا يظهر أن الآية مطلقة و لا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه فهم بين من يخصها بالوراثة الأخروية تمسكا بما يناسبها من الآيات، و ربما استدلوا لتعينه بأن الآية السابقة تذكر الإعادة و لا أرض بعد الإعادة حتى يرثها الصالحون، و يرده أن كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعين فمن الممكن أن تكون معطوفة على قوله السابق: «فمن يعمل من الصالحات» كما سنشير إليه.
و بين من يخصها بالوراثة الدنيوية و يحملها على زمان ظهور الإسلام أو ظهور المهدي (عليه السلام) الذي أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأخبار المتواترة المروية من طرق الفريقين، و يتمسك لذلك بالآيات المناسبة له التي أومأنا إلى بعضها.
و بالجملة الآية مطلقة تعم الوراثتين جميعا غير أن الذي يقتضيه الاعتبار بالسياق أن تكون معطوفة على قوله السابق: «فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن» إلخ.
المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخروي و تكون هذه الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيوي، و يكون المحصل أنا أمرناهم بدين واحد لكنهم تقطعوا و اختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أما في الآخرة فللمؤمنين سعي مشكور و عمل مكتوب و للكافرين خلاف ذلك، و أما في الدنيا فللصالحين وراثة الأرض بخلاف غيرهم.
قوله تعالى: «إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين» البلاغ هو الكفاية، و أيضا ما به بلوغ البغية، و أيضا نفس البلوغ، و معنى الآية مستقيم على كل من المعاني الثلاثة، و الإشارة بهذا إلى ما بين في السورة من المعارف.
و المعنى: أن فيما بيناه في السورة أن الرب واحد لا رب غيره يجب أن يعبد من طريق النبوة و يستعد بذلك ليوم الحساب، و أن جزاء المؤمنين كذا و كذا و جزاء الكافرين كيت و كيت - كفاية لقوم عابدين إن أخذوه و عملوا به كفاهم و بلغوا بذلك بغيتهم.
قوله تعالى: «و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم - و الدليل عليه الجمع المحلى باللام - و ذلك مقتضى عموم الرسالة.
و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم و أخراهم.
و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطبيق إحدى الحياتين على الأخرى.
قوله تعالى: «قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون» أي إن الذي يوحى إلي من الدين ليس إلا التوحيد و ما يتفرع عليه و ينحل إليه سواء كان عقيدة أو حكما و الدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر و ظهوره في الحصر الحقيقي.
قوله تعالى: «فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء» الإيذان - كما قيل - إفعال من الإذن و هو العلم بالإجازة في شيء و ترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم و اشتق منه الأفعال و كثيرا ما يتضمن معنى التحذير و الإنذار.
و قوله: «على سواء» الظاهر أنه حال من مفعول «آذنتكم» و المعنى فإن أعرضوا عن دعوتك و تولوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها لكونكم مساوين في الإعلام أو في الخطر، و قيل: أعلمتكم بالحرب و هو بعيد في سورة مكية.
قوله تعالى: «و إن أدري أ قريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول و يعلم ما تكتمون» تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به.
و المراد بقوله: «ما توعدون» ما يشير إليه قوله: «آذنتكم على سواء» من العذاب المهدد به أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن الإسلام، و ثانيا أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه و بعده و يعلله بقصر العلم بالجهر من قولهم - و هو طعنهم في الإسلام و استهزاؤهم علنا - و ما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر.
و منه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في الظاهر و ما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في هذه الدعوة الإلهية و إضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر قولهم و باطن مكرهم و لا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل و بعده فأنف العلم بخصوصية قربه و بعده عن نفسك و أرجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده.
و قد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الإسلام طعنا و استهزاء، و بما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر و الخدعة.
قوله تعالى: «و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين» من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به و ضمير «لعله» على ما قيل كناية عن غير مذكور و لعله راجع إلى الإيذان المأمور به، و المعنى و ما أدري لعل هذا الإيذان الذي أمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم و يمتعكم إلى حين و أجل استدراجا و إمهالا.
قوله تعالى: «قال رب احكم بالحق و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون» الضمير في «قال» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوتهم إلى الحق و ردهم له و توليهم عنه فكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دعاهم و بلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا و شددوا فيه أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه و قال: «رب احكم بالحق» و تقييد الحكم بالحق توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل: رب احكم بحكمك الحق و المراد ظهور الحق لمن كان و على من كان.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم و قال: «و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون» و كأنه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم و رجوعه إلى الله سبحانه و سؤاله أن يحكم بالحق فهو سبحانه ربه و ربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، و هو كثير الرحمة لا يخيب سائله المنيب إليه، و هو الذي يحكم لا معقب لحكمه و هو الذي يحق الحق و يبطل الباطل بكلماته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمته: «رب احكم بالحق» راجع الذي هو ربه و ربهم و سأله برحمته أن يحكم بالحق و استعان به على ما يصفونه من الباطل و هو نعتهم دينهم بما ليس فيه و طعنهم في الدين الحق بما هو بريء من ذلك.
و قد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من الخطاب إلى الغيبة في «قال» و التعبير عنه تعالى أولا بربي و ثانيا بربنا و توصيفه بالرحمن و المستعان إلى غير ذلك.
بحث روائي
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و حرام على قرية أهلكناها» الآية: روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم» وجد منها أهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري و كفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أ محمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما. فقال: يا محمد أ رأيت الآية التي قرأت آنفا فينا و في آلهتنا خاصة أم الأمم و آلهتهم؟ فقال: بل فيكم و في آلهتكم و في الأمم و في آلهتهم إلا من استثنى الله فقال ابن الزبعري: خصمتك و الله أ لست تثني على عيسى خيرا؟ و قد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى و أمه و أن طائفة من الناس يعبدون الملائكة أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا فضجت قريش و ضحكوا قالت قريش: خصمك ابن الزبعري. فقال رسول الله: قلتم الباطل أ ما قلت: إلا من استثنى الله و هو قوله تعالى: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها - و هم فيما اشتهت أنفسهم خالدون».
أقول: و قد روي الحديث أيضا من طرق أهل السنة لكن المتن في هذا الطريق أمتن مما ورد من طريقهم و أسلم و هو ما عن ابن عباس قال: لما نزلت: إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم - أنتم لها واردون» شق ذلك على أهل مكة و قالوا شتم الآلهة فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: بل لكل من عبد من دون الله فقال ابن الزبعري: خصمت و رب هذه البنية يعني الكعبة. أ لست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح و أن عزير عبد صالح و أن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى و هذه اليهود تعبد عزيرا و هذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة و فرحوا. فنزلت: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى» عزير و عيسى و الملائكة أولئك عنها مبعدون» و نزلت «و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون».
و في هذا المتن أولا: ذكر اسم عزير و الواقعة في أوائل البعثة بمكة و لم يذكر اسمه في شيء من السور المكية و إنما ذكر في سورة التوبة و هي من أواخر ما نزلت بالمدينة.
و ثانيا: قوله: «و هذه اليهود تعبد عزيرا و اليهود لا تعبد عزيرا و إنما قالوا عزير ابن الله تشريفا كما قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه.
و ثالثا: ما اشتمل عليه من نزول قوله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون» بعد اعتراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعموم قوله: «إنكم و ما تعبدون» لكل معبود من دون الله، و نقض ابن الزبعري ذلك بعيسى و عزير و الملائكة و هذا من ورود البيان بعد وقت الحاجة و أشد تأييدا لوقوع التهمة.
و رابعا: اشتماله على نزول قوله: «و لما ضرب ابن مريم مثلا» الآية في الواقعة و لا ارتباط لمضمونها بها أصلا.
و نظيره ما شاع بينهم أن ابن الزبعري اعترض بذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت: و ما تعبدون، و ما لم يعقل، و لم أقل: و من تعبدون.
و فيه من الخلل ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: إني قلت كذا و لم أقل كذا و من الواجب أن يجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يتلفظ في آية قرآنية بمثل «قلت كذا و لم أقل كذا» و نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له و لم يوجد في شيء من كتب الحديث لا مسند و لا غير مسند.
و نظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقص هذه القصة أن ابن الزبعري قال: أ أنت قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك و رب الكعبة أ ليس اليهود عبدوا عزيرا و النصارى عبدوا المسيح و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى» الحديث و ذلك أن الحجة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث تنفع ابن الزبعري أكثر مما تضره فإن الحجة كما تخرج عزيرا و عيسى و الملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الآلهة التي هي أصنام فإنها تشارك المذكورين في أنها لا خبر لها عن عبادة عابديها و لا رضى منها بذلك إذ لا شعور لها فتختص الآية بالشياطين و لا تشمل الأصنام و هو خلاف ما نسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعوى شمول الآية لآلهتهم و تصديقه.
و نظيره في الضعف ما في الدر المنثور، عن البزار عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم - أنتم لها واردون» ثم نسخها قوله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون».
و وجه الضعف ظاهر و لو كان هناك شيء فهو التخصيص.
و في أمالي الصدوق، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: يا علي أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظل العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون فيكم نزلت هذه الآية «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون» و فيكم نزلت «لا يحزنهم الفزع الأكبر - و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون».
أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه و قد وردت روايات كثيرة في جماعة من المؤمنين عدوا ممن تجري فيه الآيتان و خاصة الثانية كمن قرأ القرآن محتسبا، و أم به قوما محتسبا، و رجل أذن محتسبا و مملوك أدى حق الله و حق مواليه رواه في المجمع، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):، و المتحابين في الله و المدلجين في الظلم و المهاجرين روى في الدر المنثور، الأول عن أبي الدرداء، و الثاني عن أبي أمامة، و الثالث عن الخدري جميعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد عد في أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ممن تجري فيه الآية خلق كثير.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن علي: في قوله: «كطي السجل» قال: ملك:. أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن الباقر (عليه السلام) في حديث.
و في تفسير القمي،:: و أما قوله: «يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب» قال: السجل اسم الملك الذي يطوي الكتب، و معنى يطويها يفنيها فتتحول دخانا و الأرض نيرانا.
و في نهج البلاغة، في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه: «كما بدأنا أول خلق نعيده - وعدا علينا إنا كنا فاعلين».
أقول: استشهاده (عليه السلام) بالآية يقبل الانطباق على كل من معنيي الإعادة أعني إعادة الخلق إلى ما بدءوا منه و إعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما كانوا قبل موتهم، و قد تقدم المعنيان في بيان الآية.
و في المجمع، و يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: تحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلا «كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين»: أقول: و روى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوريستي بإسناده عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير القمي،:: و قوله: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر» قال الكتب كلها ذكر «إن الأرض يرثها عبادي الصالحون» قال: القائم و أصحابه قال: و الزبور فيه ملاحم و التحميد و التمجيد و الدعاء.
أقول: و الروايات في المهدي (عليه السلام) و ظهوره و ملئه الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالغة حد التواتر، من أراد الوقوف عليها فليراجع مظانها من كتب العامة و الخاصة.
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أنا رحمة مهداة.
|