بيان
في الآيات تنظير ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من معجزة النبوة و هو القرآن و إعراض المشركين عنه و اقتراحهم آيات أخرى جزافية بما جاء به موسى (عليه السلام) من آيات النبوة و إعراض فرعون عنها و رميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن و السبب في نزوله مفرقة أجزاؤه و ما يلحق بها من المعارف.
قوله تعالى: «و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا» الذي أوتي موسى (عليه السلام) من الآيات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع و هي: العصا و اليد و الطوفان و الجراد و القمل و الضفدع و الدم و السنون و نقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية و خاصة مع ما فيها من محكي قول موسى لفرعون: «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات و الأرض بصائر» و أما غير هذه الآيات كالبحر و الحجر و إحياء المقتول بالبقرة و إحياء من أخذته الصاعقة من قومه و نتق الجبل فوقهم و غير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية.
و لا ينافي ذلك كون الآيات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى و فرعون طول دعوته.
فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه و في التوراة أن التسع هي العصا و الدم و الضفادع و القمل و موت البهائم و برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات و حيوان و الجراد و الظلمة و موت عم كبار الآدميين و جميع الحيوانات.
و لعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات التسع في الآية ليستقيم الأمر بالسؤال من اليهود لأنهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.
و قوله: «إني لأظنك يا موسى مسحورا» أي سحرت فاختل عقلك و هذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: «إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون»: الشعراء: 27 و قيل: المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون و المشئوم بمعنى اليامن و الشائم و أصله استعمال وزن الفاعل في النسبة و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات و الأرض بصائر و إني لأظنك يا فرعون مثبورا» المثبور الهالك و هو من الثبور بمعنى الهلاك، و المعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السموات و الأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل و إني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك و جحودك.
و إنما أخذ الظن دون اليقين لأن الحكم لله و ليوافق ما في كلام فرعون: «و إني لأظنك يا موسى» إلخ و من الظن ما يستعمل في مورد اليقين.
قوله تعالى: «فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه و من معه جميعا» الاستفزاز الإزعاج و الإخراج بعنف، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا» المراد بالأرض التي أمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: «ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم»: المائدة: 21، و غير ذلك كما أن المراد بالأرض في الآية السابقة مطلق الأرض أو أرض مصر بشهادة السياق.
و قوله: «فإذا جاء وعد الآخرة» أي وعد الكرة الآخرة أو الحياة الآخرة و المراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، و قوله: «جئنا بكم لفيفا أي مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض.
و المعنى: و قلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض المقدسة - و كان فرعون يريد أن يستفزهم من الأرض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب و فصل القضاء.
و ليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة و ليتبروا ما علوا تتبيرا» و إن لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، و يكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون و البثوا فيها حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل و الأسر و الجلاء جمعناكم منها و جئنا بكم لفيفا، و ذلك إسارتهم و إجلاؤهم إلى بابل.
و يتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: «فإذا جاء وعد الآخرة» إلخ على قوله: «و قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض» على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: «و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا» لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن و ذكر أوصافه فذكر أنه أنزله إنزالا مصاحبا للحق و قد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول و هذره و لا داخله شيء يمكن أن يفسده يوما و لا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الأوقات و ليس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا رسولا منه تعالى يبشر به و ينذر و ليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شيء من معارفه و أحكامه كل ذلك لأنه حق صادر عن مصدر حق، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال.
فقوله: «و ما أرسلناك» إلخ متمم للكلام السابق، و محصله أن القرآن آية حقة ليس لأحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف و النبي و غيره في ذلك سواء.
قوله تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا» معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق و فرقناه قرآنا، قال في المجمع،: معنى فرقناه فصلناه و نزلناه آية آية و سورة سورة و يدل عليه قوله: «على مكث» و المكث - بضم الميم - و المكث - بفتحها - لغتان.
انتهى.
فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الألفاظ و العبارات التي لا تتلقى إلا بالتدريج و لا تتعاطى إلا بالمكث و التؤدة ليسهل على الناس تعقله و حفظه على حد قوله: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف: 4.
و نزول الآيات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة و آية آية بحسب بلوغ الناس في استعداد تلقي المعارف الأصلية للاعتقاد و الأحكام الفرعية للعمل و اقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل و لا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه و أحكامه واحدا بعد واحد كما لو نزل دفعة و قد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول إلا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.
لكن الأوفق بسياق الآيات السابقة و فيها مثل قولهم المحكي: «حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه» الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة و آية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا و قد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: «و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة»: الفرقان: 32، و قوله حكاية عن أهل الكتاب: «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء»: النساء: 153.
و يؤيده تذييل الآية بقوله: «و نزلناه تنزيلا» فإن التنزيل و هو إنزال الشيء تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالأول.
و مع ذلك فالاعتبار الثاني و هو تفصيل القرآن و تفريقه بحسب النزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأول و هو تفصيله و تفريقه إلى معارف و أحكام متبوعة مختلفة بعد ما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.
و لذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا و آيات بعد ما ألبسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: «لعلكم تعقلون» ثم نوعها أنواعا و رتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك و على حسب حصول استعدادات الناس المختلفة و تمام قابليتهم بكل واحد منها و ذلك في تمام ثلاث و عشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية و يقرن العلم بالعمل.
و سنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالآية و السورة في كلام مستقل إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «قل آمنوا به أو لا تؤمنوا» إلى آخر الآيات الثلاث المراد بالذين أوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله و آياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم إلا أن يقال: إن السياق يفيد كون هؤلاء من أهل الحق و الدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح (عليه السلام) فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا و لم يبدلوا.
و على أي حال المراد من كونهم أوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمة الحق و قبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه و إيراثه إياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا.
و قوله: «يخرون للأذقان سجدا» الأذقان جمع ذقن و هو مجمع اللحيين من الوجه، و الخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: «سجدا» و إنما اعتبرت الأذقان لأن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها للسجدة، و ربما قيل: المراد بالأذقان الوجوه إطلاقا للجزء على الكل مجازا.
و قوله: «و يقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا» أي ينزهونه تعالى عن كل نقص و عن خلف الوعد خاصة و يعطي سياق الآيات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث و هذا في قبال إصرار المشركين على نفي البعث و إنكار المعاد كما تكرر في الآيات السابقة.
و قوله: «و يخرون للأذقان يبكون و يزيدهم خشوعا» تكرار الخرور للأذقان و إضافته إلى البكاء لإفادة معنى الخضوع و هو التذلل الذي يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لإفادة معنى الخشوع و هو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الآية أنهم يخضعون و يخشعون.
و في الآية إثبات خاصة المؤمنين لهم و هي التي أشير إليها بقوله سابقا: و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين كما أن في الآية نفي خاصة المشركين عنهم و هي إنكار البعث.
و في هذه الآيات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لأن إيمان الذين أوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لأن إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته و لا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن و تصديق مصدق فإن آمنوا به فلأنفسهم و إن كفروا به فعليها لا له و لا عليه.
فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن و كفرهم به و عدم اعتنائهم بكونه آية و اقتراحهم آيات أخرى ثم بين له من نعوت الكمال و دلائل الإعجاز في لفظه و معناه و غزارة الأثر في النفوس و كيفية نزوله ما استبان به أنه حق لا يعتريه بطلان و لا فساد أصلا ثم بين في هذه الآيات أنه في غنى عن إيمانهم فهم و ما يختارونه من الإيمان و الكفر.
قوله تعالى: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى» لفظة أو للتسوية و الإباحة فالمراد بقوله «الله» و «الرحمن» الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، و المعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن فالدعاء دعاؤه.
و قوله: «أيا ما تدعوا» شرط و «ما» صلة للتأكيد نظير قوله: «فبما رحمة من الله»: آل عمران: 159.
و قوله: «عما قليل ليصبحن نادمين»: المؤمنون: 40 و «أيا» شرطية و هي مفعول «تدعوا».
و قوله: «فله الأسماء الحسنى» جواب الشرط، و هو من وضع السبب موضع المسبب و المعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لأن الأسماء الحسنى كلها له فالأسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن و منها قبيحة بخلافها و لا سبيل للقبيح إليه تعالى، و الأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لا شوب نقص و قبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه و الحياة التي لا موت معها و العزة التي لا ذلة دونها و منها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة و لله سبحانه الأسماء الحسنى، و هي كل اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمة الدين: إن الله تعالى غني لا كالأغنياء، حي لا كالأحياء، عزيز لا كالأعزة عليم لا كالعلماء و هكذا أي له من كل كمال صرفه و محضه الذي لا يشوبه خلافه.
و الضمير في قوله: «أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى» عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم و رسم، و ليس براجع إلى شيء من الاسمين: الله و الرحمن لأن المراد بهما - كما تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما و لا معنى لأن يقال: أيا من الاسمين تدعوا فإن لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل المعنى أيا من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنها جميعا أسماؤه لأنها أسماء حسنى و له الأسماء الحسنى فهي طرق دعوته و دعوتها دعوته فإنها أسماؤه و الاسم مرآة المسمى و عنوانه فافهم ذلك.
و الآية من غرر الآيات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات و توحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات و تشريك العبادة.
فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب - ترى أنه سبحانه ذات متعالية من كل حد و نعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم و تسمي ذلك تولدا، و ترى الملائكة و الجن مظاهر عالية لأسمائه فهم أبناؤه المتصرفون في الكون، و ترى أن عبادة العابدين و توجه المتوجهين لا يتعدى طور الأسماء و لا يتجاوز مرتبة الأبناء الذين هم مظاهر أسمائه فإنا إنما نعبد فيما نعبد الإله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، و هذه كلها أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة و الجن، و أما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، و أعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك.
فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم، و هو الإله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الآلهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات و لذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته: يا الله يا رحمن قال: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن نعبد إلهين و هو يدعو إلهين.
و الآية الكريمة ترد عليهم ذلك و تكشف عن وجه الخطإ في رأيهم بأن هذه الأسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت و لا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه و تقوم به فليس لها إلا الطريقية المحضة، و يكون دعاؤها دعاءه و التوجه بها توجها إليه، و كيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى و ليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه و وجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم و لا يتعداه.
و يتفرع على هذا البيان ظهور الخطإ في عد الأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجن أبناء له تعالى فإن إطلاق الولد و الابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضي نوع مسانخة و اشتراك بين الولد و الوالد - أو الابن و الأب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته و ساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شيء غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، و الذي لغيره هو له لا لأنفسهم.
و كذا ظهور الخطإ في نسبة التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكة و كذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئا و لا يستقلون دونه بشيء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون، و كذا الجن فيما يعملون و بالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا و هو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره.
و هذا هو الذي تفيده الآية التالية «و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له ولي من الذل» و سنكرر الإشارة إليه إن شاء الله.
و في الآية دلالة على أن لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله - الإله - وصف يفيد معنى المعبودية و إن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم و لا يقال: الرحمن الله الرحيم و في كلامه تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم».
قوله تعالى: «و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا» الجهر و الإخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الأصوات، و ربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات و بالنسبة إلى الإخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، و الإخفات هو المبالغة في خفضه و ما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر و لا في الإخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا و هو الاعتدال و تسميته سبيلا لأنه سنة يستن بها هو و من يقتدي به من أمته المؤمنين به.
هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: «بصلاتك» للاستغراق و المراد به كل صلاة صلاة و أما لو أريد المجموع و لعله الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها و لا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض و تخافت في بعض، و هذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح و المغرب و العشاء و الإخفات في غيرها.
و لعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليا متعاليا و الإخفات يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا.
قوله تعالى: «و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له ولي من الذل و كبره تكبيرا» معطوف على قوله في الآية السابقة: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن» و يرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها من الأسماء و تزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه و هي مملوكة له لا تملك أنفسها و لا شيئا لأنفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال.
ثم أحمده و أثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شيء في ذات و لا صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية و أهل الكتاب من النصارى و اليهود و قدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير و الأحبار، أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون و الثنويون و غيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك و فاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.
و بوجه آخر لا يجانسه شيء حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك.
و الآية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذي يتفرع عليه نفي الولد و الشريك و الولي، و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد و الشريك و الولي صفات سلبية و الذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.
و ختم سبحانه الآية بقوله: «و كبره تكبيرا» و قد أطلق إطلاقا بعد التوصيف و التنزيه فهو تكبير من كل وصف، و لذا فسر «الله أكبر» بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق (عليه السلام)، و لو كان المعنى أنه أكبر من كل شيء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر و هو أعز ساحة أن يشاركه شيء في أمر.
و من لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح و اختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي أنه كان يقرأ: لقد علمت يعني بالرفع قال علي و الله ما علم عدو الله و لكن موسى هو الذي علم.
أقول: و هي قراءة منسوبة إليه (عليه السلام).
و في الكافي، عن علي بن محمد بإسناده قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الأرض إن الله عز و جل يقول «و يخرون للأذقان سجدا».
أقول: و في معناه غيره.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين و هو يدعو إلهين فأنزل الله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن» الآية.
أقول: و في سبب نزول الآية روايات أخر تخالف هذه الرواية و تذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الآية.
و في التوحيد، مسندا و في الاحتجاج، مرسلا عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله عز ذكره و اشتقاقها فقلت: الله مما هو مشتق؟ قال يا هشام: الله مشتق من إله و إله يقتضي مألوها، و الاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئا، و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر و عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أ فهمت يا هشام؟ قال: فقلت: زدني فقال: إن لله تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها و لكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء و كلها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول و الماء اسم المشروب و الثوب اسم الملبوس و النار اسم المحرق.
الحديث.
و في التوحيد، بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، و من عبد الاسم و لم يعبد المعنى فقد كفر، و من عبد الاسم و المعنى فقد أشرك، و من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه و نطق به لسانه في سرائره و علانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين و في حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.
و في توحيد البحار، في باب المغايرة بين الاسم و المعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت، و باللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسد، و بالتشبيه غير موصوف و باللون غير مصبوغ منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، و حجب واحدا منها و هو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت. فالظاهر هو الله و تبارك و سبحان لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما و فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن الرحيم الملك القدوس الخالق البارىء المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارىء المنشىء البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث. فهذه الأسماء و ما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائة و ستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة و هذه الأسماء الثلاثة أركان و حجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، و ذلك قوله عز و جل: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن - أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى»: أقول: و الحديث مروي في الكافي، أيضا عنه (عليه السلام).
و قد تقدم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الألفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الأسماء و أن ما تدل عليه و تشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذة بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة، و على هذا فبعض الأسماء الحسنى عين الذات و هو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي و العليم و القدير، و بعضها زائد على الذات خارج منها و هو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق و الرازق لا تأخذه سنة و لا نوم، هذا في الأسماء و أما أسماء الأسماء و هي الألفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات، و أنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها.
إلا أن هاهنا خلافا من جهتين: إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الأسماء و أسماء الأسماء فحسبوا أن المراد من عينية الأسماء مع الذات عينية أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى و يكون على هذا عبادة الاسم و دعوته هو عين عبادة المسمى، و قد كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين، و الروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه.
و الثانية: ما عليه الوثنية و هو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي و إنما يتعلق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجن و الكمل من الإنس هم المدعوون و هم الآلهة المعبودون دون الله، و قد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن» إلخ رد عليه.
و الرواية الأخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف و نعت أو يحده اسم أو رسم، و هي بما في صدره و ذيله من البيان صريح في أن المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون أسماء الأسماء و قد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا» قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فأنزلت هذه الآية عند ذلك.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس، و روي أيضا عن عائشة: أنها نزلت في الدعاء، و لا بأس به لعدم معارضته، و روي عنها أيضا أنها نزلت في التشهد.
و في الكافي، بإسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: «و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها» قال: المخافتة ما دون سمعك و الجهر أن ترفع صوتك شديدا.
أقول: فيه تأييد المعنى الأول المتقدم في تفسير الآية.
و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) على الإمام أن يسمع من خلفه و إن كثروا؟ فقال: ليقرأ وسطا يقول الله تبارك و تعالى: «و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها».
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آية العز «و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا» الآية كلها.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لم يكن له ولي من الذل» قال: قال: لم يذل فيحتاج إلى ولي ينصره.
«بحث آخر روائي و قرآني»
متعلق بقوله تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث» ثلاثة فصول:
1 -
إن للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء و الحزب و العشر و غير ذلك و الذي ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها و هما السورة و الآية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: «سورة أنزلناها»: النور: 1 و قوله: «قل فأتوا بسورة مثله»: يونس: 38 و غير ذلك.
و قد كثر استعماله في لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصحابة و الأئمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم و هي مجموعة من الكلام الإلهي مبدوءة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، و هو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة و قد ورد 1 عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنها آيات من سورة الأنفال، و إلا بما ورد 2 عنهم (عليهم السلام) أن الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و أن الفيل و الإيلاف سورة واحدة.
و نظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله: «و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا»: الأنفال: 2، و قوله: «كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا»: حم السجدة: 3، و قد روي عن أم سلمة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقف على رءوس الآي و صح أن سورة الحمد سبع آيات، و روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آله.
و الذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع و فصول بالطبع و خاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أعداد الآيات أن الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها و عما بعدها.
و يختلف ذلك باختلاف السياقات و خاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله: «مدهامتان»: الرحمن: 64 و ربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله: «الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان»: الرحمن - 1 4 و قوله: «الحاقة ما الحاقة و ما أدريك ما الحاقة»: الحاقة - 1 3 و ربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية: 282.
2 -
أما عدد السور القرآنية فهي مائة و أربع عشرة سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا و هو مطابق للمصحف العثماني، و قد تقدم كلام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فيه، و أنهم لا يعدون براءة سورة مستقلة و يعدون الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و يعدون الفيل و الإيلاف سورة واحدة.
و أما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي و يميز كل آية من غيرها و لا شيء من الآحاد يعتمد عليه، و من أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم و هم المكيون و المدنيون و الشاميون و البصريون و الكوفيون.
فقد قال بعضهم: إن مجموع القرآن ستة آلاف آية، و قال بعضهم: ستة آلاف و مائتان و أربع آيات، و قيل: و أربع عشرة، و قيل: و تسع عشرة، و قيل: و خمس و عشرون، و قيل: و ست و ثلاثون.
و قد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب، و للمدنيين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع و شيبة بن نصاح، و الآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري و روى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، و ينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، و يضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة و الكسائي و خلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.
و بالجملة لما كانت الأعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبأ به و يجوز الركون إليه و يتميز به كل آية عن أختها لا ملزم للأخذ بشيء منها فما كان منها بينا ظاهر الأمر فهو و إلا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.
و الذي روي عن علي (عليه السلام) من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شيء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه (عليه السلام) و عن غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن البسملة آية من القرآن و هي جزء من كل سورة افتتحت بها و لازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.
و هذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد هاهنا، و ذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية و هي أربعون سورة و ما اختلفوه في عدده أو في رءوس آية من السور و هي أربع و سبعون سورة و كذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل «الر» أينما وقع من القرآن و ما اختلف فيه، و على من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.
3 -
في ترتيب السور نزولا: نقل في الإتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم و الليل إذا يغشى، ثم و الفجر، ثم و الضحى، ثم أ لم نشرح، ثم و العصر، ثم و العاديات ثم إنا أعطيناك، ثم ألهيكم التكاثر، ثم أ رأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم أ لم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم و النجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم و الشمس و ضحاها، ثم و السماء ذات البروج، ثم التين، ثم لإيلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم و المرسلات، ثم ق، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم و السماء و الطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قل أوحي ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة. ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم سورة إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة. ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم الإنسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم التحريم، ثم الجمعة ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة.
و قد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب و ربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة.
و نقل فيه، عن البيهقي في دلائل النبوة، أنه روى بإسناده عن عكرمة و الحسين بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك و ساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة و الأعراف و كهيعص مما نزل بمكة.
و أيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم المائدة قبل الممتحنة.
ثم روى البيهقي بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك الحديث و هو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب و قد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.
و فيه، عن كتاب الناسخ و المنسوخ، لابن حصار: أن المدني باتفاق عشرون سورة، و المختلف فيه اثنا عشرة سورة و ما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى.
و الذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و النور و الأحزاب و سورة محمد و الفتح و الحجرات و الحديد و المجادلة و الحشر و الممتحنة و المنافقون و الجمعة و الطلاق و التحريم و النصر.
و ما اختلفوا في مكيته و مدنيته سورة الرعد و الرحمن و الجن و الصف و التغابن و المطففين و القدر و البينة و الزلزال و التوحيد و المعوذتان.
و للعلم بمكية السور و مدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية و سيرها الروحي و السياسي و المدني في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تحليل سيرته الشريفة، و الروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.
فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات و الاستمداد بما يتحصل من القرائن و الأمارات الداخلية و الخارجية، و على ذلك نجري في هذا الكتاب و الله المستعان.
|