بيان
رجوع و انعطاف على ما انتهى إليه الكلام قبل القصة من بلوغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حزنا و أسفا على عدم إيمانهم بالكتاب النازل عليه و ردهم دعوته الحقة ثم تسليته بأن الدار دار البلاء و الامتحان و ما عليها زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا فليس ينبغي له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتحرج لأجلهم إن لم يستجيبوا دعوته و لم يؤمنوا بكتابه.
بل الذي عليه أن يصبر نفسه مع أولئك الفقراء من المؤمنين الذين لا يزالون يدعون ربهم و لا يلتفت إلى هؤلاء الكفار المترفين الذين يباهون بما عندهم من زينة الحياة الدنيا التي ستعود صعيدا جرزا بل يدعوهم إلى ربهم و لا يزيد على ذلك فمن شاء منهم آمن به و من شاء كفر و لا عليه شيء، و أما الذي يجب أن يواجهوا به إن كفروا أو آمنوا فليس هو أن يتأسف أو يسر، بل ما أعده الله للفريقين من عقاب أو ثواب.
قوله تعالى: «و اتل ما أوحي إليك» إلى آخر الآية في المجمع،: لحد إليه و التحد أي مال انتهى فالملتحد اسم مكان من الالتحاد بمعنى الميل و المراد بكتاب ربك القرآن أو اللوح المحفوظ، و كان الثاني أنسب بقوله: «لا مبدل لكلماته».
و في الكلام على ما عرفت آنفا رجوع إلى ما قبل القصة و عليه فالأنسب أن يكون قوله: «و اتل» إلخ عطفا على قوله: «إنا جعلنا ما على الأرض» إلخ و المعنى لا تهلك نفسك على آثارهم أسفا و اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لأنه لا مغير لكلماته فهي حقة ثابتة و لأنك لا تجد من دونه ملتحدا تميل إليه.
و بذلك ظهر أن كلا من قوله: «لا مبدل لكلماته» و قوله «لن تجد من دونه ملتحدا» في مقام التعليل فهما حجتان على الأمر في قوله: «و اتل» و لعله لذلك خص الخطاب في قوله: «و لن تجد» إلخ بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن الحكم عام و لن يوجد من دونه ملتحد لأحد.
و يمكن أن يكون المراد: و لن تجد أنت ملتحدا من دونه لأنك رسول و لا ملجأ للرسول من حيث إنه رسول إلا مرسله، و الأنسب على هذا أن يكون قوله: «لا مبدل لكلماته» حجة واحدة مفادها: و اتل عليهم هذه الآيات المشتملة على الأمر الإلهي بالتبليغ لأنه كلمة إلهية و لا تتغير كلماته و أنت رسول ليس لك إلا أن تميل إلى مرسلك و تؤدي رسالته، و يؤيد هذا المعنى قوله في موضع آخر: «قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله و رسالاته»: الجن: 23.
قوله تعالى: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه» إلى آخر الآية قال الراغب: الصبر الإمساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، و صبرت فلانا خلفته خلفة لا خروج له منها، و الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل و الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه.
انتهى مورد الحاجة.
و وجه الشيء ما يواجهك و يستقبلك به، و الأصل في معناه الوجه بمعنى الجارحة، و وجهه تعالى أسماؤه الحسنى و صفاته العليا التي بها يتوجه إليه المتوجهون و يدعوه الداعون و يعبده العابدون قال تعالى: «و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها»: الأعراف: 180، و أما الذات المتعالية فلا سبيل إليها، و إنما يقصده القاصدون و يريده المريدون لأنه إله رب علي عظيم ذو رحمة و رضوان إلى غير ذلك من أسمائه و صفاته.
و الداعي لله المريد وجهه إن أراد صفاته تعالى الفعلية كرحمته و رضاه و إنعامه و فضله فإنما يريد أن تشمله و تغمره فيتلبس بها نوع تلبس فيكون مرحوما و مرضيا عنه و منعما بنعمته، و إن أراد صفاته غير الفعلية كعلمه و قدرته و كبريائه و عظمته فإنما يريد أن يتقرب إليه تعالى بهذه الصفات العليا، و إن شئت فقل: يريد أن يضع نفسه موضعا تقتضيه الصفة الإلهية كأن يقف موقف الذلة و الحقارة قبال عزته و كبريائه و عظمته تعالى، و يقف موقف الجاهل العاجز الضعيف تجاه علمه و قدرته و قوته تعالى و هكذا فافهم ذلك.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالوجه هو الرضى و الطاعة المرضية مجازا لأن من رضي عن شخص أقبل عليه و من غضب يعرض عنه، و كذا قول بعضهم: المراد بالوجه الذات و الكلام على حذف مضاف، و كذا قول بعضهم: المراد بالوجه التوجه و المعنى يريدون التوجه إليه و الزلفى لديه هذا.
و المراد بدعائهم ربهم بالغداة و العشي الاستمرار على الدعاء و الجري عليه دائما لأن الدوام يتحقق بتكرر غداة بعد عشي و عشي بعد غداة على الحس فالكلام جار على الكناية.
و قيل: المراد بدعاء الغداة و العشي صلاة طرفي النهار و قيل: الفرائض اليومية و هو كما ترى.
و قوله تعالى: «و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا» أصل معنى العدو كما صرح به الراغب التجاوز و هو المعنى الساري في جميع مشتقاته و موارد استعمالاته قال في القاموس،: يقال: عدا الأمر و عنه جاوزه و تركه انتهى فمعنى «لا تعد عيناك عنهم» لا تجاوزهم و لا تتركهم عيناك و الحال أنك تريد زينة الحياة الدنيا.
لكن ذكر بعضهم أن المجاوزة لا تتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو، و لذا قال الزمخشري في الكشاف،: إن قوله: «لا تعد عيناك عنهم» بتضمين عدا معنى نبا و علا في قولك: نبت عنه عينه و علت عنه عينه إذا اقتحمته و لم تعلق به، و لو لا ذلك لكان من الواجب أن يقال: و لا تعدهم عيناك.
و قوله تعالى: «و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا» المراد بإغفال قلبه تسليط الغفلة عليه و إنساؤه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة حيث إنهم عاندوا الحق فأضلهم الله بإغفالهم عن ذكره فإن كلامه تعالى في قوم هذه حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الآيات من قوله: «إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا».
فلا مساغ لقول من قال: إن الآية من أدلة جبره تعالى على الكفر و المعصية و ذلك لأن الإلجاء مجازاة لا ينافي الاختيار و الذي ينافيه هو الإلجاء ابتداء و مورد الآية من القبيل الأول.
و لا حاجة إلى تكلف التأويل كقول من قال إن المراد بقوله: «أغفلنا قلبه» عرضناه للغفلة أو أن المعنى صادفناه غافلا أو أريد به نسبناه إلى الغفلة أو أن الإغفال بمعنى جعله غفلا لا سمة له و لا علامة و المراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين و لم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة.
فالجميع كما ترى.
و قوله تعالى: «و اتبع هواه و كان أمره فرطا» قال في المجمع،: الفرط التجاوز للحق و الخروج عنه من قولهم: أفرط إفراطا إذا أسرف انتهى، و اتباع الهوى و الإفراط من آثار غفلة القلب، و لذلك كان عطف الجملتين على قوله: «أغفلنا» بمنزلة عطف التفسير.
قوله تعالى: «و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر عطف على ما عطف عليه قوله: «و اتل ما أوحي إليك» و قوله: «و اصبر نفسك» فالسياق سياق تعداد وظائف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبال كفرهم بما أنزل إليه و إصرارهم عليه و المعنى لا تأسف عليهم و اتل ما أوحي إليك و اصبر نفسك مع هؤلاء المؤمنين من الفقراء، و قل للكفار: الحق من ربكم و لا تزد على ذلك فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن و من شاء منهم أن يكفر فليكفر فليس بنفعنا إيمانهم و لا يضرنا كفرهم بل ما في ذلك من نفع أو ضرر و ثواب أو تبعة عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاءوا فقد أعتدنا للظالمين كذا و كذا و للصالحين من المؤمنين كذا.
و من هنا يظهر أن قوله: «فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر» من كلامه تعالى يخاطب به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس داخلا في مقول القول فلا يعبأ بما ذكر بعضهم أن الجملة من تمام القول المأمور به.
و يظهر أيضا أن قول: «إنا أعتدنا للظالمين نارا» إلخ في مقام التعليل لتخييرهم بين الإيمان و الكفر الذي هو تخيير صورة و تهديد معنى، و المعنى أنا إنما نهيناك عن الأسف و أمرناك أن تكتفي بالتبليغ فقط و تقنع بقولك: «الحق من ربكم» فحسب و لم نتوسل إلى إصرار و إلحاح لأنا هيأنا لهم تبعات هذه الدعوة ردا و قبولا و كفى بما هيأناه محرضا و رادعا و لا حاجة إلى أزيد من ذلك و عليهم أن يختاروا لأنفسهم أي المنزلتين شاءوا.
قوله تعالى: «إنا أعتدنا للظالمين نارا» إلى آخر الآية قال في المجمع،: السرادق الفسطاط المحيط بما فيه، و يقال: السرادق ثوب يدار حول الفسطاط، و قال: المهل خثارة الزيت، و قيل: هو النحاس الذائب، و قال: المرتفق المتكأ من المرفق يقال: ارتفق إذا اتكأ على مرفقه انتهى و الشيء النضج يقال: شوى يشوي شيا إذا نضج.
و في تبديل الكفر من الظلم في قوله: «إنا أعتدنا للظالمين» دون أن يقول: للكافرين دلالة على أن التبعة المذكورة إنما هي للظالمين بما هم ظالمون: و قد عرفهم في قوله: «الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون»: الأعراف: 45 و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا» بيان لجزاء المؤمنين على إيمانهم و عملهم الصالح و إنما قال: «إنا لا نضيع» إلخ و لم يقل: و أعتدنا لهؤلاء كذا و كذا ليكون دالا على العناية بهم و الشكر لهم.
و قوله: «إنا لا نضيع» إلخ في موضع خبر إن، و هو في الحقيقة من وضع السبب موضع المسبب و التقدير إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سنوفيهم أجرهم فإنهم محسنون و إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.
و إذ عد في الآية العقاب أثرا للظلم ثم عد الثواب في مقابله أجرا للإيمان و العمل الصالح استفدنا منه أن لا ثواب للإيمان المجرد من صالح العمل بل ربما أشعرت الآية بأنه من الظلم.
قوله تعالى: «أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار» إلى آخر الآية.
العدن هو الإقامة و جنات عدن جنات إقامة و الأساور قيل: جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين و هي حلية المعصم، و ذكر الراغب أنه فارسي معرب و أصله دستواره و السندس ما رق من الديباج، و الإستبرق ما غلظ منه، و الأرائك جمع أريكة و هي السرير، و معنى الآية ظاهر.
«بحث روائي»
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: في قوله: «و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا» قال: نزلت في أمية بن خلف و ذلك أنه دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه و تقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله: «و لا تطع من أغفلنا قلبه» يعني من ختمنا على قلبه «عن ذكرنا» يعني التوحيد «و اتبع هواه» يعني الشرك «و كان أمره فرطا» يعني فرطا في أمر الله و جهالة بالله.
و فيه، أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عيينة بن بدر و الأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس و تغيبت عن هؤلاء و أرواح جبابهم يعنون سلمان و أبا ذر و فقراء المسلمين و كانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حادثناك و أخذنا عنك فأنزل الله: و اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك إلى قوله أعتدنا للظالمين نارا» يهددهم بالنار.
أقول: و روى مثله القمي في تفسيره لكنه ذكر عيينة بن الحصين بن الحذيفة بن بدر الفزاري فقط، و لازم الرواية كون الآيتين مدنيتين و عليه روايات أخر تتضمن نظيرة القصة لكن سياق الآيات لا يساعد عليه.
و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي» قالا: إنما عنى بها الصلاة.
و فيه، عن عاصم الكوزي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول في قول الله: «فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر» قال: وعيد.
و في الكافي، و تفسير العياشي، و غيره عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر» في ولاية علي (عليه السلام).
أقول: و هو من الجري: و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الشعب، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «بماء كالمهل» قال: كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه.
و في تفسير القمي،: في قوله: «بماء كالمهل» قال: قال (عليه السلام): المهل الذي يبقى في أصل الزيت.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ابن آدم خلق أجوف لا بد له من الطعام و الشراب قال تعالى: «و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه».
|