بيان
غرض السورة الكلام حول النبوة بانيا ذلك على التوحيد و المعاد فتفتتح بذكر اقتراب الحساب و غفلة الناس عن ذلك و إعراضهم عن الدعوة الحقة التي تتضمن الوحي السماوي فهي ملاك حساب يوم الحساب و تنتقل من هناك إلى موضوع النبوة و استهزاء الناس بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رميهم إياه بأنه بشر ساحر بل ما أتى به أضغاث أحلام بل مفتر بل شاعر! فترد ذلك بذكر أوصاف الأنبياء الماضين الكلية إجمالا و أن النبي لا يفقد شيئا مما وجدوه و لا ما جاء به يغاير شيئا مما جاءوا به.
ثم تذكر قصص جماعة من الأنبياء تأييدا لما تقدم من الإجمال و هم موسى و هارون و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و نوح و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى.
ثم تتخلص إلى ذكر يوم الحساب و ما يلقاه المجرمون و المتقون فيه، و أن العاقبة للمتقين و أن الأرض يرثها عباده الصالحون ثم تذكر أن إعراضهم عن النبوة إنما هو لإعراضهم عن التوحيد فتقيم الحجة على ذلك كما تقيمها على النبوة و الغلبة في السورة للوعيد على الوعد و للإنذار على التبشير.
و السورة مكية بلا خلاف فيها و سياق آياتها يشهد بذلك.
قوله تعالى: «اقترب للناس حسابهم و هم في غفلة معرضون» الاقتراب افتعال من القرب و اقترب و قرب بمعنى واحد غير أن اقترب أبلغ لزيادة بنائه و يدل على مزيد عناية بالقرب، و يتعدى القرب و الاقتراب بمن و إلى يقال: قرب أو اقترب زيد من عمرو أو إلى عمرو و الأول يدل على أخذ نسبة القرب من عمرو و الثاني على أخذها من زيد لأن الأصل في معنى من ابتداء الغاية كما أن الأصل في معنى إلى انتهاؤها.
و من هنا يظهر أن اللام في «للناس» بمعنى إلى لا بمعنى «من» لأن المناسب للمقام أخذ نسبة الاقتراب من جانب الحساب لأنه الذي يطلب الناس بالاقتراب منهم و الناس في غفلة معرضون.
و المراد بالحساب - و هو محاسبة الله سبحانه أعمالهم يوم القيامة - نفس الحساب لا زمانه بنحو التجوز أو بتقدير الزمان و إن أصر بعضهم عليه و وجهه بعض آخر بأن الزمان هو الأصل في القرب و البعد و إنما ينسب القرب و البعد إلى الحوادث الواقعة فيه بتوسطه.
و ذلك لأن الغرض في المقام متعلق بتذكره نفس الحساب لتعلقه بأعمال الناس إذ كانوا مسئولين عن أعمالهم فكان من الواجب في الحكمة أن ينزل عليهم ذكر من ربهم ينبههم على ما فيه مسئوليتهم، و من الواجب عليهم أن يستمعوا له مجدين غير لاعبين و لا لاهية قلوبهم نعم لو كان الكلام مسوقا لبيان أهوال الساعة و ما أعد من العذاب للمجرمين كان الأنسب التعبير بيوم الحساب أو تقدير الزمان و نحو ذلك.
و المراد بالناس الجنس و هو المجتمع البشري الذي كان أكثرهم مشركين يومئذ لا المشركون خاصة و إن كان ما ذكر من أوصافهم كالغفلة و الإعراض و الاستهزاء و غيرها أوصاف المشركين فليس ذلك من نسبة حكم البعض إلى الكل مجازا بل من نسبة حكم المجتمع إلى نفسه حقيقة ثم استثناء البعض الذي لا يتصف بالحكم كما يلوح إليه أمثال قوله: «و أسروا النجوى الذين ظلموا» و قوله: «فأنجيناهم و من نشاء» على ما هو دأب القرآن في خطاباته الاجتماعية من نسبة الحكم إلى المجتمع ثم استثناء الأفراد غير المتصفة به.
و بالجملة فرق بين أخذ المجتمع موضوعا للحكم و استثناء أفراد منه غير متصفة به و بين أخذ أكثر الأفراد موضوع الحكم ثم نسبة حكمه إلى الكل مجازا و ما نحن فيه من القبيل الأول دون الثاني.
و قد وجه بعضهم اقتراب الحساب للناس بأن كل يوم يمر على الدنيا تصير أقرب إلى الحساب منها بالأمس، و قيل: الاقتراب إنما هو بعناية كون بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر الزمان كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت أنا و الساعة كهاتين، و أما الوجه السابق فإنما يناسب اللفظ الدال على الاستمرار دون الماضي الدال على الفراغ من تحققه و نظيره أيضا توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب.
و قوله: «و هم في غفلة معرضون» ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا و اشتغلوا بالتمتع فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا و هو الغفلة فإن الشيء كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به.
و بهذا يظهر الجواب عن الإشكال بأن الجمع بين الغفلة و هي تلازم عدم التنبه للشيء و الإعراض و هو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين، و محصل الجواب أنهم في غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه و هم معرضون عنه لاشتغالهم عن لوازم العلم بخلافها.
و أجاب عنه الزمخشري بما لفظه: وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم و لا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن و المسيء، و إذا قرعت لهم العصا و نبهوا عن سنة الغفلة و فطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات و النذر أعرضوا و سدوا أسماعهم و نفروا.
انتهى.
و الفرق بينه و بين ما وجهنا به أنه أخذ الإعراض في طول الغفلة لا في عرضه، و الإنصاف أن ظاهر الآية اجتماعهما لهم في زمان واحد، لا ترتب الوصفين زمانا.
و دفع بعضهم الإشكال بأخذ الإعراض بمعنى الاتساع فالمعنى و هم متسعون في غفلة، و آخرون بأخذ الغفلة بمعنى الإهمال و لا تنافي بين الإهمال و الإعراض، و الوجهان من قبيل الالتزام بما لا يلزم.
و المعنى: اقترب للناس حساب أعمالهم و الحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا و عدم التهيؤ له بالتوبة و الإيمان و التقوى.
قوله تعالى: «ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون لاهية قلوبهم» الآية بمنزلة التعليل لقوله: «و هم في غفلة معرضون» إذ لو لم يكونوا في غفلة معرضين لم يلعبوا و لم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم التنبه له و يجب عليهم التهيؤ له، و لذلك جيء بالفصل من غير عطف.
و المراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية و منها القرآن الكريم، و المراد بإتيانه لهم نزوله على النبي و إسماعه و تبليغه، و محدث بمعنى جديد و هو معنى إضافي و هو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإنجيل و الإنجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة و كذلك بعض سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض.
و قوله: «إلا استمعوه» استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و «استمعوه» حال و «هم يلعبون» «لاهية قلوبهم» حالان من ضمير الجمع في «استمعوه» فهما حالان متداخلتان.
و اللعب فعل منتظم الأجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الأطفال و اللهو اشتغالك عما يهمك يقال: ألهاه كذا أي شغله عما يهمه و لذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو و ملاهي، و اللهو من صفة القلب و لذلك قال: «لاهية قلوبهم» فنسبه إلى قلوبهم.
و معنى الآية: و ما يأتيهم - بالنزول و البلوغ - ذكر جديد من ربهم في حال من الأحوال إلا و الحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي إن إحداث الذكر و تجديده لا يؤثر فيهم و لا أثرا قليلا و لا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما وراءها و هذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديده لا يؤثر و قديمه يؤثر و هو ظاهر.
و استدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثا غير قديم، و أولها الأشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله و هو لا ينافي قدمه في نفسه و ظاهر الآية عليهم و للكلام تتمة نوردها في بحث مستقل.
كلام في معنى حدوث الكلام و قدمه في فصول
1 - ما معنى حدوث الكلام و بقائه؟
إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره و تكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه الأول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الأول بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الأول الصادر من المتكلم الأول و إن تكرر إلى ما لا نهاية له.
هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان وجدنا حقيقة الأمر على خلاف ذلك فقول القائل: جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا لأن فيه الجيم أو الألف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه، و المجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة البتة إلا بحسب الوضع و الاعتبار.
ثم إن الذي تكلم به قائل القول الأول ثانيا و الذي تكلم به الناقل الذي ينقله عن صاحبه الأول ثالثا و رابعا و غير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام الأول المفروض من الأصوات المتكونة و ليست عينها إلا بحسب الاعتبار و ضرب من التوسع.
و ليست هذه الأصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم و أمارات بحسب الوضع و الاعتبار تدل على معان ذهنية، و لا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها.
و يتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في الخارج من ظرف الدعوى و الاعتبار، و إنما المتحقق في الخارج حقيقة الأفراد من الصوت التي جعلت علائم بالوضع و الاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة، و إنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية.
و من هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشيء من الحدوث و البقاء فإن الحدوث و هو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني و البقاء و هو كون الشيء موجودا في الآن بعد الآن على نعت الاتصال من شئون الحقائق الخارجية، و لا تحقق للأمور الاعتبارية في الخارج.
و كذا لا يتصف الكلام بالقدم و هو عدم كون وجود الشيء مسبوقا بعدم زماني لأن القدم أيضا كالحدوث في كونه من شئون الحقائق الخارجية دون الأمور الاعتبارية.
على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله، و هو أن الكلام هو المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل و بعضها بعد، و لا يتصور في القدم تقدم و تأخر و إلا كان المتأخر حادثا و هو قديم هذا خلف، فالكلام - بمعنى الحروف المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع - لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الأمر فافهم ذلك.
2 - هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية
بمعنى أن ذات المتكلم هل هي تامة في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الأربعة عن الزوجية في وجه، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا و لا صفة للمتكلم لأنه أمر اعتباري لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى و الوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات خارجية و لا صفة لموصوف خارجي.
نعم الكلام بما أنه عنوان لأمر خارجي و هو الأصوات المؤلفة و هي أفعال خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل وصف له و هو التكلم و التكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع و الإعظام و الإهانة و البيع و الشرى و نحو ذلك.
3 -
من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه و هو الكشف عن المعاني المكنونة في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا، و هذا أمر جار في جل الاعتباريات أو كلها، و قد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود و القنوت و الطوع و الكره و الملك و العرش و الكرسي و الكتاب و غير ذلك.
فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها، و أدق من ذلك أن صفات الشيء الذاتية كلام له يكشف به عن مكنون ذاته، و هذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى الذاتية كالعلم و القدرة و الحياة كلام له تعالى، و أيضا العالم كلامه تعالى.
و بين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه و حدوثه تابع لسنخ وجوده، فالعلم الإلهي كلام قديم بقدم الذات و زيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث، و الوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم و بما أنه في علم الله - و اعتبر علمه كلاما له - قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الأشياء من حادث و قديم.
4 -
تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الآيات التي نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثا و لا قديما.
نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام و القرآن.
و إن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شيء حق قديما بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به.
و من هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن و حدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، و إن أراد به أنه في علمه تعالى و بعبارة أخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لإضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شيء قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي.
على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية أخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه و لو صح لنا عد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور و البطون و العظمة و البهاء و النور و الجمال و الكمال و التمام و البساطة، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
و الذي اعتبره الشرع و ورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله»: البقرة: 253، و قوله: «و كلم الله موسى تكليما»: النساء: 164، و قوله: «و قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه»: البقرة: 75، و قوله: «يحرفون الكلم عن مواضعه:» المائدة: 13، إلى غير ذلك من الآيات.
و أما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي و أنشد في ذلك قول الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد و إنما.
جعل اللسان على الفؤاد دليلا.
و الكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي.
ففيه أنه إن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم و لم يكن أمرا يزيد عليه و صفة مغايرة له و إن أريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها.
و أما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه و لا يضرنا، و الأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.
قوله تعالى: «و أسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون» الإسرار يقابل الإعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان القول و إخفائه فإن إسرار القول يفيد وحدة معنى النجوى فإضافته إلى النجوى تفيد المبالغة.
و ضمير الفاعل في «أسروا النجوى» راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل فعلا لجميعهم و لا لأكثرهم فإن فيهم المستضعف و من لا شغل له به و إن كان منسوبا إلى الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة و الإعراض أوضح النسبة بقوله: «الذين ظلموا» فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان في الذين ظلموا منهم خاصة.
و قوله: «هل هذا إلا بشر مثلكم أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون» هو الذي تناجوا به، و قد كانوا يصرحون بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يعلنون بأنه بشر و أن القرآن سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ما ذا يقابلون به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يجيبون عما يسألهم من الإيمان بالله و برسالته؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم و إن كانوا أعلنوا به بعد الاتفاق على رد الدعوة.
و قد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام الإنكاري و هما قوله: «هل هذا إلا بشر مثلكم» و قد اتخذوه حجة لإبطال نبوته و هو أنه كما تشاهدونه - و قد أتوا باسم الإشارة دون الضمير فقالوا: هل هذا؟ و لم يقولوا: هل هو؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة - بشر مثلكم لا يفارقكم في شيء يختص به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب و الارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله لأنكم بشر مثله، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعي.
و قولهم: «أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون» و هو متفرع بفاء التفريع على نفي النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله، و لا ينبغي لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر و يؤمن بالساحر.
قوله تعالى: «قال ربي يعلم القول في السماء و الأرض و هو السميع العليم» أي أنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا و في أي مكان و هو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم فالأمر إليه و ليس لي من الأمر شيء.
و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم لما أسروا النجوى و قطعوا على تكذيب نبوته و رمي آيته و هو كتابه بالسحر و فيها إرجاع الأمر و إحالته إلى الله سبحانه كما في غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الآية و كذلك سائر الأنبياء كقوله: «قل إنما العلم عند الله و إنما أنا نذير مبين»: الملك: 26، و قوله: «قال إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به:» الأحقاف: 23، و قوله: «قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير مبين»: العنكبوت: 50.
قوله تعالى: «بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون» تدرج منهم في الرمي و التكذيب، فقولهم: أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤى غير منظمة رآها فحسبها نبوة و كتابا فأمره أهون من السحر، و قولهم: «بل افتراه» ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الأمر و اشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد، و قولهم: «بل هو شاعر» ترق من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو و تدبر فيه لكن الشاعر إنما يلفظ ما يتخيله و يروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو و تدبر فربما مدح القبيح على قبحه و ربما ذم الجميل على جماله و ربما أنكر الضروري و ربما أصر على الباطل المحض، و ربما صدق الكذب أو كذب الصدق.
و قولهم: «فليأتنا بآية كما أرسل الأولون» الكلام متفرع على ما تقدمه و المراد بالأولين الأنبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به و هو يعده آية و هو القرآن أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة و لا يقنعنا ذلك فليأتنا بآية كما أتى الأولون من الآيات مثل الناقة و العصا و اليد البيضاء.
و في قوله: «كما أرسل الأولون» و كان الظاهر من السياق أن يقال: كما أتى بها الأولون إشارة إلى أن الآية من لوازم الإرسال فلو كان رسولا فليقتد بالأولين فيما احتجوا به على رسالتهم.
و المشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون؟ فتارة يواجهونه بالتهكم و أخرى يتحكمون و ثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون آية من آيات الأولين و هم لا يؤمنون برسالتهم و لا يعترفون بآياتهم.
و في قولهم: «فليأتنا بآية كما أرسل الأولون»، مع ذلك وعد ضمني بالإيمان لو أتى بآية من الآيات المقترحة.
قوله تعالى: «ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أ فهم يؤمنون» رد و تكذيب لما يشتمل عليه قولهم: «فليأتنا بآية كما أرسل الأولون» من الوعد الضمني بالإيمان لو أتى بشيء مما اقترحوه من آيات الأولين.
و محصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم و لو أنزلنا شيئا مما اقترحوه من آيات الأولين لم يؤمنوا بها و كان فيها هلاكهم فإن الأولين من أهل القرى اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم، و طباع هؤلاء طباع أوليهم في الإسراف و الاستكبار فليسوا بمؤمنين فالآية بوجه مثل قوله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل»: يونس: 74.
و على هذا ففي الآية حذف و إيجاز و التقدير نحو من قولنا: ما آمنت قبلهم أهل قرية اقترحوا الآيات فأنزلناها عليهم و اهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أ فهم يعني مشركي العرب يؤمنون و هم مثلهم في الإسراف فتوصيف القرية بقوله: «أهلكناها» توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» جواب عما احتجوا به على نفي نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: «هل هذا إلا بشر مثلكم»، بأن الماضين من الأنبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية لا تنافي النبوة.
و توصيف «رجالا» بقوله: «نوحي إليهم» للإشارة إلى الفرق بين الأنبياء و غيرهم و محصله أن الفرق الوحيد بين النبي و غيره هو أنا نوحي إلى الأنبياء دون غيرهم و الوحي موهبة و من خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع و إذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم وجوده عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها.
فالآية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته: إحداهما نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية و النبوة.
و الثانية: من طريق الحل و هو أن الفارق بين النبي و غيره ليس وصفا لا يوجد في البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الإلهي و هو كرامة و من خاص من الله يختص به من يشاء فالآية بهذا النظر نظيرة قوله: «قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا - إلى أن قال -: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء:» إبراهيم: 11.
و قوله: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» تأييد و تحكيم لقوله: «و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا» أي إن كنتم تعلمون به فهو و إن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل الذكر و اسألوهم هل كانت الأنبياء الأولون إلا رجالا من البشر؟.
و المراد بالذكر الكتاب السماوي و بأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان المشركون يعظمونهم و ربما شاوروهم في أمره و سألوهم عن مسائل يمتحنونه بها و هم القائلون للمشركين على المسلمين: «هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا:» النساء: 51، و الخطاب في قوله «فاسألوا» إلخ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا و ذلك لتأييد القول و هو شائع في الكلام.
قوله تعالى: «و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين» - إلى قوله - المسرفين» أي هم رجال من البشر و ما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل و لا يشرب و لا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام و هو خاصة ضرورية و يموتون و هو مثل الأكل.
قوله تعالى: «ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم و من نشاء و أهلكنا المسرفين» عطف على قوله المتقدم: «و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا» و فيه بيان عاقبة إرسالهم و ما انتهى إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الآيات، و فيه أيضا توضيح ما أشير إليه من هلاكهم في قوله: «من قرية أهلكناها» و تهديد للمشركين.
و المراد بالوعد في قوله: «ثم صدقناهم الوعد» ما وعدهم من النصرة لدينهم و إعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون»: الصافات: 173، إلى غير ذلك من الآيات.
و قوله: «فأنجيناهم و من نشاء» أي الرسل و المؤمنين و قد وعدهم النجاة كما يدل عليه قوله: «حقا علينا ننج المؤمنين»: يونس: 103، و المسرفون هم المشركون المتعدون طور العبودية، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أ فلا تعقلون» امتنان منه تعالى بإنزال القرآن على هذه الأمة، فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم و هو آخر ما تسعه حوصلة الإنسان من المعارف الحقيقية العالية و أقوم ما يمكن أن يجري في المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية و الخطاب لجميع الأمة.
و قيل: المراد بالذكر الشرف، و المعنى: فيه شرفكم أن تمسكتم به تذكرون به كما فسر به قوله تعالى: «و إنه لذكر لك و لقومك:» الزخرف: 44، و الخطاب لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لأن القرآن إنما نزل بلغتهم و فيه بعد.
قوله تعالى: «و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة» إلى آخر الآيات الخمس، القصم في الأصل الكسر، يقال: قصم ظهره أي كسره، و يكنى به عن الهلاك، و الإنشاء الإيجاد، و الإحساس الإدراك من طريق الحس، و البأس العذاب، و الركض العدو بشدة الوطء، و الإتراف التوسعة في النعمة، و الحصيد المقطوع و منه حصاد الزرع، و الخمود السكون و السكوت.
و المعنى: «و كم قصمنا» و أهلكنا «من قرية» أي أهلها «كانت ظالمة» لنفسها بالإسراف و الكفر «و أنشأنا» و أوجدنا «قوما آخرين فلما أحسوا» و وجدوا بالحس أي أهل القرية الظالمة «بأسنا» و عذابنا «إذا هم منها يركضون» و يعدون هاربين كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا و تقريعا «لا تركضوا و ارجعوا إلى ما أترفتم فيه» من النعم «و مساكنكم» و إلى مساكنكم «لعلكم تسئلون» أي لعل المساكين و أرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم و تختالوا أو تحتجبوا عنهم و هذا كناية عن اعتزازهم و استعلائهم و عد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله.
«قالوا» تندما «يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك» و هي كلمتهم يا ويلنا المشتملة على الاعتراف بربوبيته تعالى و ظلم أنفسهم «دعواهم حتى جعلناهم حصيدا» محصودا مقطوعا «خامدين» ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت و لا يذكر لهم صيت.
و قد وجه قوله: «لعلكم تسئلون» بوجوه أخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها.
بحث روائي
في الاحتجاج، روي عن صفوان بن يحيى قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) لأبي قرة صاحب شبرمة: التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و كل كتاب أنزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا و هدى، و هي كلها محدثة و هي غير الله حيث يقول: «أو يحدث لهم ذكرا» و قال: «و ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون» و الله أحدث الكتب كلها التي أنزلها. فقال أبو قرة: فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فعل الله و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان فعل الله، أ لم تسمع الناس يقولون: رب القرآن؟ و أن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب هذا فلان و هو أعرف به منه قد أظمأت نهاره و أصهرت ليله فشفعني فيه؟ و كذلك التوراة و الإنجيل و الزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم و لا واحد، و أن الكلام لم يزل معه و ليس له بدء.
الحديث.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لاهية قلوبهم» قال: من التلهي.
و فيه،: في قوله: «ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها - أ فهم يؤمنون» قال: كيف يؤمنون و لم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتى هلكوا.
و فيه، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» من المعنون بذلك؟ قال: نحن. قلت: فأنتم المسئولون؟ قال: نعم. قلت: و نحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: فعلينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: فعليكم أن تجيبونا؟ قال: لا ذاك إلينا إن شئنا فعلنا و إن شئنا تركنا ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.
أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان، عن علي و أبي جعفر (عليه السلام) قال: و يؤيده أن الله تعالى سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرا رسولا.
و هو من الجري ضرورة أن الآية ليست بخاصة و الذكر إما القرآن أو مطلق الكتب السماوية أو المعارف الإلهية و هم على أي حال أهله و ليس بتفسير للآية بحسب مورد النزول إذ لا معنى لإرجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن و هم خصماؤهم و لو قبلوا منهم لقبلوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.
و في روضة الكافي، كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ و الزهد في الدنيا يقول فيه: و لقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: «و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة» و إنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: «و أنشأنا بعدها قوما آخرين» فقال عز و جل: «فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون» يعني يهربون قال: «لا تركضوا - و ارجعوا إلى ما أترفتم فيه و مساكنكم - لعلكم تسئلون فلما أتاهم العذاب قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين - فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين» و أيم الله إن هذه عظة لكم و تخويف إن اتعظتم و خفتم.
|