بيان
أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة و أن الله لم يله بإيجاد السماء و الأرض و ما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون و يلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية و إن الله لبالمرصاد.
و إذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه و أقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد و في ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية و هو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم و المتأخر.
و الآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد و قد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.
قوله تعالى: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين» الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها، و هما بعينهما - على ما يعطيه السياق السابق - حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة و هي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.
فمحصل ما تقدم - أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير و الشر و صالح الأعمال و طالحها بهداية إلهية و هي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة و لو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا و كان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.
فمقام الآيتين - كما ترى - مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة - على هذا - من مقتضيات المعاد من غير عكس.
و حجة الآيتين - كما ترى - تعتمد على معنى اللعب و اللهو و اللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم و تأخر و ربح و خسارة و نفع و ضرر كلها بحسب الفرض و التوهم و إذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.
فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها و يقصد لأجلها و كان الله سبحانه لا يزال يوجد و يعدم و يحيي و يميت و يعمر و يخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال و لا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها و يريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به و نتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا و عارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل و نحو ذلك.
فاللعب بنظر آخر لهو، و لذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين» ثم بدله - في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها - لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.
و تلهيه تعالى بشيء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي و دفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، و لا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه و احتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، و خلقه فعله و فعله، خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته.
و بهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء و الأرض و ما بينهما لعبا و لهوا و ما أبدعها عبثا و لغير غاية و غرض، و هو قوله: «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا».
و أما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو و إن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله و يصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها و أمر رافع لتلك الحاجة، و لا سبيل للنقص و الحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب و لا لهو في فعله تعالى و هو خلقه، و أما أنه لا لعب و لا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام و إنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة «لو» الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: «إن كنا فاعلين» فافهم ذلك.
و بهذا البيان يظهر أن قوله: «لو أردنا» إلخ، في مقام التعليل للنفي في قوله: «و ما خلقنا» إلخ، و أن قوله: «من لدنا» معناه من نفسنا، و في مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، و أن قوله: «إن كنا فاعلين» إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة «لو» في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.
و بهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة و يتصل الكلام بالسياق المتقدم و محصله أن للناس رجوعا إلى الله و حسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا و عقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة و دعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد و العمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة و لو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض و غاية فكانت الخلقة لعبا و لهوا منه تعالى و هو غير جائز، و لو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لأن من المحال أن يؤثر غيره فيه و يحتاج إلى غيره بوجه و إذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية و هو المعاد و يستلزم ذلك النبوة و من لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا و أسرفوا و توقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق».
و للقوم في تفسير قوله: «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا» وجوه: منها ما ذكره في الكشاف، و محصله أن قوله: «من لدنا» معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء و ذلك بدلالة «لو» على الامتناع.
و فيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال و اللهو - و معناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه - محال عليه تعالى.
على أن دلالة «من لدنا» على القدرة لا تخلو من خفاء.
و منها قول بعضهم: المراد بقوله: «من لدنا» من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى.
و فيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه و إنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شيء قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الإظهار فيئول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لأن إظهاره محال و هو كما ترى.
و منها قول بعضهم إن المراد باللهو المرأة و الولد و العرب تسمي المرأة لهوا و الولد لهوا لأن المرأة و الولد يستروح بهما و اللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة و ولدا - أو أحدهما - لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: «لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء».
و قيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام و الجسمانيات السافلة، و قيل: لاتخذناه من الحور العين، و كيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة و الولد و هما مريم و المسيح (عليه السلام).
و فيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.
و منها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: «من لدنا» من جهتنا، و معنى الآية: لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم و هذا عين الجد و الحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع و محصله أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد و الحكمة فلو أراد لهوا صار جدا و حكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى.
و فيه أنه و إن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الآية كما هو ظاهر.
و قوله: «إن كنا فاعلين» الظاهر أن «إن» شرطية كما تقدمت الإشارة إليه، و على هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: «لاتخذناه من لدنا» و قال بعضهم: إن «إن» نافية و الجملة نتيجة البيان السابق، و عن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، و قد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية.
قوله تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون» القذف الرمي البعيد، و الدمغ - على ما في مجمع البيان، - شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، و زهوق النفس تلفها و هلاكها، يقال: زهق الشيء يزهق أي هلك.
و الحق و الباطل مفهومان متقابلان، فالحق هو الثابت العين، و الباطل ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقي الحق و زهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، و السراب الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
و قد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق و الباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق و ما ليس كذلك من الباطل و عد الحياة الآخرة حقا و الحياة الدنيا بجميع ما يراه الإنسان لنفسه فيها و يسعى له سعيه من ملك و مال و جاه و أولاد و أعوان و نحو ذلك باطلا و عد ذاته المتعالية حقا و سائر الأسباب التي يغتر بها الإنسان و يركن إليها من دون الله باطلا، و الآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام.
و الذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال: «الحق من ربك:» آل عمران: 60، و قال: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا:» ص: 27، و أما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة و إنما هو لازم نقص بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الإدراك و سائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها، و هي تنتسب إليه تعالى بالإذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء و صفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء و هو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا.
و من هنا يظهر أن لا شيء في الوجود إلا و فيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان و لا سبيل له إليه قال: «إن الله هو الحق:» النور: 25.
و يظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق و الباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض:» الرعد: 17، و تحت هذا معارف جمة.
و قد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله و يحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره و إن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، و الكمال الحق لا يهلك من أصله و إن تكاثرت أضداده، و النصر الإلهي لا يتخطى رسله و إن كانوا ربما بلغ بهم الأمر إلى أن استيئسوا و ظنوا أنهم قد كذبوا.
و هذا معنى قوله تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله: «لو أردنا أن نتخذ لهوا» إلخ، و في قوله: «نقذف» المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية، و في قوله: «نقذف... فيدمغه» دلالة على علو الحق على الباطل، و في قوله: «فإذا هو زاهق» دلالة على مفاجاة القذف و مباغتته في حين لا يرجى للحق غلب و لا للباطل انهزام، و الآية مطلقة غير مقيدة بالحق و الباطل في الحجة أو في السيرة و السنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشيء من ذلك.
و المعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب و التلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة فحجة الحق تبطلها، و إن كان عملا و سنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله و يبطله، و إن كان غير ذلك فغير ذلك.
و قد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، و هو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو و لم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد و اللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية و تشمل ما يقابله.
و قوله: «و لكم الويل مما تصفون» وعيد للناس المنكرين للمعاد و النبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق.
و يظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى و هو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق و يخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض و هو الله الحق عز اسمه قال: «و يعلمون أن الله هو الحق المبين:» النور: 25، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير و يزعم لغيره من القوة و الملك و الأمر كما قال: «لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون:» الأنعام: 94، و قال: «إن القوة لله جميعا:» البقرة: 165»، و قال: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار:» المؤمن: 16، و قال: «و الأمر يومئذ لله:» الانفطار: 19، و الآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة.
قوله تعالى: «و له من في السموات و الأرض» دفع لأحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة و هو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه و الحساب و الجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات و الأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد.
و من المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الإيجاد بمعنى قيام الشيء بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، و الإيجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير و العبادة فكل من في السماوات و الأرض مملوك لله لا مالك غيره.
قوله تعالى: «و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون» إلى آخر الآية التالية، قال في مجمع البيان،: الاستحسار الانقطاع عن الإعياء يقال: بعير حسير أي معي، و أصله من قولهم: حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى.
و المراد بقوله: «و من عنده» المخصوصون بموهبة القرب و الحضور و ربما انطبق على الملائكة المقربين، و قوله: «يسبحون الليل و النهار لا يفترون» بمنزلة التفسير لقوله: «و لا يستحسرون» أي لا يأخذهم عي و كلال بل يسبحون الليل و النهار من غير فتور، و التسبيح بالليل و النهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع.
يصف تعالى حال المقربين من عباده و المكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل و لا يصرفهم صارف، و كأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته و سلطنته المذكورة في صدر الآية.
و ذلك أن السنة الجارية بين الموالي و عبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالإغماض عن كثير من الوظائف و الرسوم الجارية على عامة العبيد، و كان معفوا عن الحساب و المؤاخذة، و ذلك لكون الاجتماع المدني الإنساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة، و الحاجة قائمة دائما، و المولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم، فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك و لذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره و يعفي عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة و مبايعة.
و هذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، و مملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه و لا يختلف الحال فيه بالقرب و البعد و علو المقام و دنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة و الكبرياء و العزة و البهاء عنده أظهر و الإحساس بذلة نفسه و مسكنتها و حاجتها أكثر و يلزمها الإمعان في خشوع العبودية و خضوع العبادة.
فكان قوله: «و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون» إلخ إشارة إلى أن ملكه تعالى - و قد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة و الحساب و الجزاء - على خلاف الملك الدائر في المجتمع الإنساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو الحساب و الجزاء.
و يمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي و المعنى له من في السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوا و سيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده و كرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع.
و قد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: «إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون» استفادة أن المراد بقوله: «الذين عند ربك» أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل.
قوله تعالى: أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون» الإنشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، و في الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات و يحاسبونهم و ليس لله سبحانه من أمر المعاد شيء حتى نخافه و نضطر إلى إجابة رسله و اتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم و لا جناح؟.
و تقييد قوله: «أم اتخذوا آلهة» بقوله «من الأرض» قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن الذي يميتهم ثم يبعثهم؟.
و يمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من الحجارة و الخشب و الفلزات فيكون فيه نوع من التهكم و التحقير و يئول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الآلهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى و عباده و انقطع هؤلاء عنهم و يئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم و تماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الأصنام و التماثيل.
قوله تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون» قد تقدم في تفسير سورة هود و تكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين و الموحدين ليس في وحدة الإله و كثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، و إنما النزاع في الإله بمعنى الرب المعبود و الوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله و يقربوهم إليه زلفى كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان و هكذا و هم آلهة من دونهم و الله سبحانه إله الآلهة و خالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: «و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله:» الزخرف: 87 و قوله: «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم:» الزخرف: 9.
و الآية الكريمة إنما تنفي الآلهة من دون الله في السماء و الأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، و المراد بكون الإله في السماء و الأرض تعلق ألوهيته بالسماء و الأرض لا سكناه فيهما فهو كقوله تعالى: «هو الذي في السماء إله و في الأرض إله:» الزخرف: 84.
و تقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متباينين حقيقة و تباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات و تفسد السماء و الأرض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الأجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد و هو المطلوب.
فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب و العلل و تزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد.
قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض إثر بعض و ينتج الحاصل من ذلك و ما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل و الأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها و تمانعها و تزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط و ارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع و الانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان و يخدمانه في سبيل غرضه و هو تعديل الوزن بواسطة اللسان.
فإن قلت: آثار العلم و الشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا و قد توافقوا على أن لا يختلفوا و لا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة.
قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل و انسياقه إلى غايته، و هذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية و النظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية و هي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية و هو متبوع، فافهم ذلك.
فهذا تقرير حجة الآية و هي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه و يتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدإ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع و اختلفوا في تقريرها و ربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية و خاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة.
قوله تعالى: «فسبحان الله رب العرش عما يصفون» تنزيه له تعالى عن وصفهم و هو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، و قوله: «عما يصفون» «ما» فيه مصدرية و المعنى: عن وصفهم.
و للكلام تتمة ستوافيك.
قوله تعالى: «لا يسأل عما يفعل و هم يسألون» الضمير في «لا يسأل» له تعالى بلا إشكال، و الضمير في «و هم يسألون» للآلهة الذين يدعونهم أو للآلهة و الناس جميعا أو للناس فقط، و أحسن الوجوه أولها لأن ذلك هو المناسب للسياق و الكلام في الآلهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسئولون و الله سبحانه لا يسأل عن فعله.
و السؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ و هو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، و الله سبحانه لما كان حكيما على الإطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، و الحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق و الباطل و أن يقارن فعلهم المصلحة و المفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة.
هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية و هو معنى صحيح في الجملة لكن يبقى عليه أمران: الأمر الأول: أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية.
و لذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالأغراض لأن الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به و ينتفع به و إذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته و يستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له: لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل.
و إن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته و غرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالإنسان البخيل الذي يكثر الإنفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الإنفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها.
و لذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى و كبرياءه و عزته و بهاءه تقهر كل شيء من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شيء من شئون إرادته فغيره تعالى أذل و أحقر من أن يجترىء عليه بسؤال أو مؤاخذة على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله و يؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا.
و إن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره و سخطه كالملوك الجبارين و الطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص و الفتور و لا يعتريه عيب و قصور، و الذي يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله: «الذي أحسن كل شيء خلقه:» الم السجدة: 7، و قوله: «له الأسماء الحسنى:» الحشر: 24، و قوله: «إن الله لا يظلم الناس شيئا:» يونس: 44، إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الإطلاق يئول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل و هو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة، و قوله: لا يسأل عما يفعل و هم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا.
و لو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه التمسك بقوله - و هو متصل بالآية -: «سبحان الله رب العرش عما يصفون» فإن الآية تثبت له الملك المطلق و الملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك - أي لذاته - لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة و إلا لم يكن فرق بينه و بين أدنى رعيته و كانت المصلحة هي المتبعة و لم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، و كذلك المولى متبع و مطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه و يأمره به عن وجه الحكمة و المصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات و سلطنة عليها لذاته.
فالله سبحانه ملك و مالك للكل و الكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و ليس لغيره ذلك، و له أن يسألهم عما يفعلون و ليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة و لا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسيء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، و من ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: «إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم:» المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له و يوجه مغفرتهم بكونه حكيما.
و من هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: «لا يسأل عما يفعل» بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه.
الأمر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق و غاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان،: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، و أنت خبير بأن مآله الاستطراد و لا موجب له.
و نظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: «اقترب للناس حسابهم» و الحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، و هل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر؟ و فيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة.
على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية و الصدر باق على ما كان.
و أنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها من قوله: «سبحان الله رب العرش عما يصفون» فالعرش - كما تقدم - كناية عن الملك فتتصل الآيتان و يكون قوله: «لا يسأل عما يفعل و هم يسألون» بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه و عدم مسئوليته برهان على ربوبيته، و برهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم و مسئوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذي ليس بمسئولين عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة، و الفاعل الذي هو مسئول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة و المصلحة هي التي تملكه و ترفع المؤاخذة عنه، و رب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش و غيره مربوبون له.
بحث في حكمته تعالى و معنى كون فعله مقارنا للمصلحة و هو بحث فلسفي و قرآني
الحركات المتنوعة المختلفة التي تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة و المرض و الحركة الاضطرارية بالحركة اليومية أو السنوية مثلا أفعالا لنا، و من الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه و الإذعان بكونه كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه و نفعه غالبا على ضرره فما في الفعل من جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في فاعلية الفاعل منا و هذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله و غرضه من فعله و قد قطعت الأبحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الأثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير إرادي لا يخلو من غاية.
و كون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل فالمصلحة التي يعدها العقلاء و هم أهل الاجتماع الإنساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على فعله، و هي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، و لولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له.
و من الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل، فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين الكلية الجارية و الأصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها و الأفعال إلى أغراضها و ما تحصل عنده بالتجربة من روابط الأشياء بعضها مع بعض، و لا ريب أن هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه.
و شأن الفاعل الإرادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده من النظام العلمي و يراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله و إن أخطأ في انطباق العلم على المعلوم الخارجي و إن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا و جاهلا و نحوهما.
فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي و اشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج و إنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، و كذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج.
و هذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقة الخارج كأفعالنا الإرادية و أما الفعل الذي هو نفس الخارج و هو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة و فعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه و تبعثه نحوه كما عرفت.
و كل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول «لم فعلت كذا»؟ و المطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي و يشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، و أما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه و لا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، و فعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل و لا نظام آخر فوقه - كما سمعت - حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم.
و أما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالأشياء قبل إيجادها و العلم تابع للمعلوم فللأشياء ثبوت ما في نفسها قبل الإيجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت و لها مصالح مترتبة و استعدادات أزلية على الوجود و الخير و الشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك الثبوت ثم يفيض عليها الوجود هاهنا على ما علم.
فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالأشياء قبل الإيجاد حصوليا و قد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري و ليس هو بتابع للمعلوم بل الأمر بالعكس.
و أما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له و ما لا شيئية له لا ثبوت له.
و أما ثالثا: فلأن إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه و كذا فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال و نقص، و هذه آثار خارجية تختص بالوجودات الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الإيجاد وجودا عينيا بعده و هذا خلف.
هذا ما يعطيه البحث العقلي و يؤيده البحث القرآني و كفى في ذلك قوله تعالى: «و يوم يقول كن فيكون قوله الحق:» الأنعام: 73، فقد عد كلمة «كن» التي هي ما به يوجد الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه و ذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الأشياء الخارجي و هو فعله أيضا فقوله فعله و قوله و فعله وجود الأشياء خارجا، و قال: «الحق من ربك فلا تكن من الممترين:» آل عمران: 60، و الحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة و القول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، و إذا كان الخارج هو فعله تعالى و الخارج هو مبدأ القول و الاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدأ و إليه يعود، و لذا قال: «الحق من ربك» و لم يقل: الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان.
و من هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لأن المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا - بصيغة اسم المفعول - للحق و هذا إنما يجري في غير نفس الحق و أما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة.
قوله تعالى: «أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم» إلى آخر الآية.
«هاتوا» اسم فعل بمعنى ائتوا به، و البرهان الدليل المفيد للعلم، و المراد بالذكر - على ما يستفاد من السياق - الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة و بذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها.
و يمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن و هو ذكر من معه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الأمر بتوحيد العبادة النازل عليه و النازل على من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام)، و ربما فسر الذكر بالخبر و غيره و لا يعبأ به.
و في الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لإثبات المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم و يستغنوا بذلك عن عبادة الله و ولايته المستلزمة للمعاد إليه و حسابه و وجوب إجابة دعوة أنبيائه، و دفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه و قد خاصمهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بالدليل بقوله: «قل هاتوا برهانكم»... إلخ.
و قوله: «قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي» من قبيل المنع مع السند - باصطلاح فن المناظرة - و محصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه.
يقول تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء المتخذين الآلهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع و لا يجوز عقلا أن يركن إليها، و الذي استند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن و هو ذكر من معي و هذه سائر الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما و هي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه تعالى وحده و وجوب عبادته.
أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي و هو ذكر من معي و الوحي النازل على من سبقني من الأنبياء و هو ذكر من قبلي في أمر عبادة الإله يحصر الألوهية و العبادة فيه تعالى.
و قوله: «بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون» رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق و اتباعه.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون» تثبيت لما قيل في الآية السابقة أن الذكر يذكر توحيده و وجوب عبادته و لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر.
و قوله: «نوحي إليه» مفيد للاستمرار، و قوله: «فاعبدون» خطاب للرسل و من معهم من أممهم و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون» ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، و قد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: «سبحانه» ثم ذكر حقيقة حالهم بالإضراب.
و إذ كان قوله بعد: «لا يسبقونه بالقول»... إلخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الآثار و صفائها من جهة الخواص و التبعات و قد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيئول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية و من الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم.
فالمراد بكونهم عبادا - و جميع أرباب الشعور عباد الله - إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، و المراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، و هذا نظير كون العبد مخلصا - بكسر اللام - لربه و مقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا - بفتح اللام - لنفسه، و إنما الفرق بين كرامة الملائكة و البشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، و أما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك.
قوله تعالى: «لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، و ربما يكنى به عن الإرادة و المشية أي إرادته تبع إرادته، و قوله: «و هم بأمره يعملون» الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، و ليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لأمره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا و فعلا.
و بعبارة أخرى إرادتهم و عملهم تابعان لإرادته نظرا إلى كون القول كناية عن الإرادة - فلا يريدون إلا ما أراد و لا يعملون إلا ما أراد و هو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته و عمله مملوكين لمولاه.
هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي، و تفيد الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الإتيان بالفعل المنهي عنه و هم لا يفعلون إلا عن أمر.
و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:» يس: 83، و قوله: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر:» القمر: 50، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجيء استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.
قوله تعالى: «يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون» فسروا «ما بين أيديهم و ما خلفهم» بما قدموا من أعمالهم و ما أخروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.
فقوله: «يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم» استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: «لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول و عمل و ما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك.
و هو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتم البيان.
و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:» مريم: 64، أن الأوجه حمل قوله: «ما بين أيدينا» على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم، و قوله: «و ما خلفنا» على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: «بل عباد مكرمون» - إلى قوله - بأمره يعملون» الذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الذي به وجدوا و الأصل الذي عليه نشئوا و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسرة كريمة.
و قوله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» تعرض لشفاعتهم لغيرهم و هو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبىء عنه قولهم: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله» «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء:» النساء: 48، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيون مشركون، و من عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين.
و قوله: «و هم من خشيته مشفقون» هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأن جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كل شيء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية.
قوله تعالى: «و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين» أي من قال كذا كان ظالما و نجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، و الآية قضية شرطية و الشرطية لا تقتضي تحقق الشرط.
قوله تعالى: «أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كل شيء حي أ فلا يؤمنون» المراد بالرؤية العلم الفكري و إنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس.
و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق الضم و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: «كانتا رتقا ففتقناهما» و قال: الفتق الفصل بين المتصلين و هو ضد الرتق.
انتهى.
و ضمير التثنية في «كانتا رتقا ففتقناهما» للسماوات و الأرض بعد السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجيء الخبر أعني رتقا مفردا لكونه مصدرا و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما.
و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده و نفي ما اتخذوها آلهة من دون الله و عدوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة و الإيجاد لله و الربوبية و التدبير للآلهة.
فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كل ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها التي ذكرها سبحانه.
فقوله: «أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما» المراد بالذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين.
لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية و الجوية بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصله منه غير متميز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعلية ذواتها و آثارها.
و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها و هذه الأجرام العلوية و الأرض التي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلف.
فتكرار انفصال جزئيات المركبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات و آثارها.
فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية و السفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة و لكل منها بقاء محدود و عمر مؤجل و إن اختلفت بالطول و القصر.
هذا لو أريد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض و بالفتق تميز السماوات من الأرض و لو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شيء أو يخرج من الأرض شيء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تم البرهان و ربما أيده قوله بعد: «و جعلنا من الماء كل شيء حي» لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول.
و ذكر بعض المفسرين و ارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه.
و فيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلقون العبادة على ذلك.
و قوله: «و جعلنا من الماء كل شيء حي» ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و «كل شيء حي» مفعوله و المراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال: «و الله خلق كل دابة من ماء:» النور: 45، و لعل ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة.
قوله تعالى: «و جعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم و جعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون» قال في المجمع،: الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفج الطريق الواسع بين الجبلين.
انتهى.
و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم.
و فيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها.
قوله تعالى: «و جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آياتها معرضون» كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: «و حفظناها من كل شيطان رجيم:» الحجر: 17، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد.
قوله تعالى: «و هو الذي خلق الليل و النهار و الشمس و القمر كل في فلك يسبحون» الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل و هو الظل المخروطي الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كل منها.
و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوها و إن كانت حال الأجرام الأخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، التي هي نيرة بالذات و للقمر و سائر السيارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا.
و قوله: «يسبحون» من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنما قال: يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: «و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين:» يوسف: 4.
بحث روائي
في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل و ذلك قول الله: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق».
و فيه، بإسناده عن أيوب بن الحر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أيوب ما من أحد إلا و قد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه و ذلك أن الله يقول في كتابه: «بل نقذف بالحق على الباطل - فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون».
أقول: و الروايتان مبنيتان على تعميم الآية.
و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت و ماروت في حديث: أن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون» و قال عز و جل: «و له من في السماوات و الأرض و من عنده يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون - يسبحون الليل و النهار لا يفترون».
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و مسبحون لا يسأمون، و لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان.
أقول: و به يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حي إلا و هو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عز و جل: «يسبحون الليل و النهار لا يفترون»؟ قال: أنفاسهم تسبيح.
على أن الرواية ضعيفة.
و في التوحيد، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال عز و جل: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا».
أقول: و هو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل.
و فيه، بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): يا بن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا، و منهم من يسقط غير تام، و منهم من يولد أعمى و أخرس و أصم، و منهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، و منهم من يبقى إلى الاحتلام، و منهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك و ما وجهه؟ فقال (عليه السلام): إن الله تبارك و تعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم و هو الخالق و المالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، و من عمره فإنما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى و عادل فيما منع و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون. قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله و كيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا، و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار، فمن وجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى كفر و من أنكر شيئا من أفعاله جحد.
أقول: و هي رواية شريفة تعطي أصلا كليا في الحسنات و السيئات و هو أن الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه و فضله تعالى، و السيئات أمور عدمية تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد.
و ما ذكره (عليه السلام) أنه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته و العبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى و هو المالك لما ملكه و ملك العبد في طول ملكه.
و قوله: «لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا إشارة إلى التقريب الأول الذي قدمناه، و قوله: «و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار» إشارة إلى التقريب الثاني الذي أوردناه في تفسير الآية.
و في نور الثقلين، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوتي أديت إلي فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني و ذلك أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي» قال أبو عبد الله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن و بذكر من قبلي ما قد كان.
و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال (عليه السلام): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن جابر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا قول الله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» فقال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
و في الاحتجاج، و روي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: «أ و لم ير الذين كفروا - إن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما» ما هذا الرتق و الفتق؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقا لا تنزل القطر و كانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر و فتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد و لم يجد اعتراضا و مضى.
أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين.
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
|