بيان
الآيات تأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة و تبين أمورا من حقائق الدعوة و أباطيل الشرك ثم تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة و هو عبادة الله و فعل الخير و تختم بالأمر بحق الجهاد في الله و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر» إلى آخر الآية.
المنسك مصدر ميمي بمعنى النسك و هو العبادة و يؤيده قوله: «هم ناسكوه» أي يعبدون تلك العبادة، و ليس اسم مكان كما احتمله بعضهم.
و المراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم) كالعرب و العجم و الروم لوحدة الشريعة و عموم النبوة.
و قوله: «فلا ينازعنك في الأمر» نهي للكافرين بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن منازعته في المناسك التي أتى بها و هم و إن كانوا لا يؤمنون بدعوته و لا يرون لما أتى به من الأوامر و النواهي وقعا يسلمون له و لا أثر لنهي من لا يسلم للناهي طاعة و لا مولوية لكن هذا النهي لما كان معتمدا على الحجة لم يصر لغوا لا أثر له و هي صدر الآية.
فكأن الكفار من أهل الكتاب أو المشركين لما رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلا نازعوه في ذلك من أين جئت به و لا عهد به في الشرائع السابقة و لو كان من شرائع النبوة لعرفه المؤمنين من أمم الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية.
و معناها أن كلا من الأمم كان لهم منسك هم ناسكوه و عبادة يعبدونها و لا يتعداهم إلى غيرهم لما أن الله سبحانه بدل منسك السابقين مما هو أحسن منه في حق اللاحقين لتقدمهم في الرقي الفكري و استعدادهم في اللاحق لما هو أكمل و أفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حق اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين.
و لما كان نهيهم عن منازعته (صلى الله عليه وآله وسلم) في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم و نهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله: «و ادع إلى ربك» كأنه قيل: طب نفسا و لا تعبأ بمنازعتهم و اشتغل بما أمرت به و هو الدعوة إلى ربك.
و علل ذلك بقوله: «إنك لعلى هدى مستقيم» و توصيف الهدى بالاستقامة و هي وصف الصراط الذي إليه الهداية من المجاز العقلي.
قوله تعالى: «و إن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون» سياق الآية السابقة يؤيد أن المراد بهذا الجدال المجادلة و المراء في أمر اختلاف منسكه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الشرائع السابقة بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، و قد أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون.
و قيل: المراد بقوله: «إن جادلوك» مطلق الجدال في أمر الدين، و قيل: الجدال في أمر الذبيحة و السياق السابق لا يساعد عليه.
و قوله: «فقل الله أعلم بما تعملون» توطئة و تمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي الله أعلم بعملكم و يحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، و إنما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون و تخالفون الحق و أهله - و الاختلاف و التخالف بمعنى كالاستباق و التسابق -.
قوله تعالى: «أ لم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير» تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي إن ما يعملون بعض ما في السماء و الأرض و هو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم.
و قوله: «إن ذلك في كتاب» تأكيد لما تقدمه أي إن ما علمه من شيء مثبت في كتاب فلا يزول و لا ينسى و لا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم، و قوله: «إن ذلك على الله يسير» أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هين عليه.
قوله تعالى: «و يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا و ما ليس لهم به علم» إلخ الباء في «به» بمعنى مع، و السلطان البرهان و الحجة و المعنى و يعبد المشركون من دون الله شيئا - و هو ما اتخذوه شريكا له تعالى - لم ينزل الله معه حجة حتى يأخذوها و يحتجوا بها و لا أن لهم به علما.
قيل: إنما أضاف قوله: «و ما ليس لهم به علم» على قوله: «ما لم ينزل به سلطانا» لأن الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجة و دليل كالضروريات.
و ربما فسر نزول السلطان بالدليل السمعي و وجود العلم بالدليل العقلي أي يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع و لا العقل، و فيه أنه لا دليل عليه و تنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبي كذلك يصدق على تنزيل البرهان على القلوب.
و قوله: «و ما للظالمين من نصير» قيل: هو تهديد للمشركين و المراد أنه ليس لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب.
و الظاهر - على ما يعطيه السياق - أنه في محل الاحتجاج على أن ليس لهم برهان على شركائهم و لا علم، بأنه لو كان لهم حجة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ البرهان نصير لمن يحتج به و العلم نصير للعالم لكنهم ظالمون و ما للظالمين من نصير فليس لهم برهان و لا علم، و هذا من ألطف الاحتجاجات القرآنية.
قوله تعالى: «و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون» إلخ المنكر مصدر ميمي بمعنى الإنكار، و المراد بمعرفة الإنكار في وجوههم معرفة أثر الإنكار و الكراهة، و «يسطون» من السطوة و هي على ما في مجمع البيان،: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال سطا عليه يسطو سطوة و سطاعة و الإنسان مسطو عليه، و السطوة و البطشة بمعنى.
انتهى.
و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا و الحال أنها واضحات الدلالة تعرف و تشهد في وجوه الذين كفروا أثر الإنكار يقربون من أن يبطشوا على الذين يتلون و يقرءون عليهم آياتنا لما يأخذهم من الغيظ.
و قوله: «قل أ فأنبئكم بشر من ذلكم» تفريع على إنكارهم و تحرزهم من استماع القرآن أي قل: أ فأخبركم بما هو شر من هذا الذي تعدونه شرا تحترزون منه و تتقون أن تسمعوه أ فأخبركم به لتتقوه إن كنتم تتقون.
و قوله: «النار وعدها الله الذين كفروا و بئس المصير» بيان للشر أي ذلكم الذي هو شر من هذا هي النار، و قوله: «وعدها الله» إلخ بيان لكونه شرا.
قوله تعالى: «يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له» إلى آخر الآية خطاب للناس جميعا و العناية بالمشركين منهم.
و قوله: «ضرب مثل فاستمعوا له» المثل هو الوصف الذي يمثل الشيء في حالة سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال التي تشتمل على محاورات الحيوانات و الجمادات و مشافهاتها، و ضرب المثل نصبه ليتفكر فيه كضرب الخيمة ليسكن فيها.
و هذا المثل هو قوله: «إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه» و المعنى أنه لو فرض أن آلهتهم شاءوا أن يخلقوا ذبابا و هو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبدا و إن يسلبهم الذباب شيئا مما عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.
فهذا الوصف يمثل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد و على تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب و على تدبير أهون الأمور و هو استرداد ما أخذه الذباب منهم و أضرهم بذلك و كيف يستحق الدعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟.
و قوله: «ضعف الطالب و المطلوب» مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الآلهة و هي الأصنام المدعوة فإن المفروض أنهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون و استنقاذ ما سلبه إياهم فلا يقدرون، و المطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق و يطلب ليستنقذ منه.
و في هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من الحيوانات التي فيها شيء من الشعور و القدرة.
قوله تعالى: «ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز» قدر الشيء هندسته و تعيين كميته و يكنى به عن منزلة الشيء التي تقتضيها أوصافه و نعوته يقال: قدر الشيء حق قدره أي نزله المنزلة التي يستحقها و عامله بما يليق به.
و قدره تعالى حق القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا و يعامل كما يستحقه بأن يتخذ ربا لا رب غيره و يعبد وحده لا معبود سواه لكن المشركين ما قدروه حق قدره إذ لم يتخذوه ربا و لم يعبدوه بل اتخذوا الأصنام أربابا من دونه و عبدوها دونه و هم يرون أنها لا تقدر على خلق ذباب و يمكن أن يستذلها ذباب فهي من الضعف و الذلة في نهايتهما، و الله سبحانه هو القوي العزيز الذي إليه ينتهي الخلق و الأمر و هو القائم بالإيجاد و التدبير.
فقوله: «ما قدروا الله حق قدره» إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيته تعالى و إعراضهم عن عبادته ثم اتخاذهم الأصنام أربابا من دونه يعبدونها خوفا و طمعا دونه تعالى.
و قوله: «إن الله لقوي عزيز» تعليل للنفي السابق و قد أطلق القوة و العزة فأفاد أنه قوي لا يعرضه ضعف و عزيز لا تعتريه ذلة كما قال: «إن القوة لله جميعا:» البقرة: 165، و قال: «فإن العزة لله جميعا:» النساء: 139، و إنما خص الاسمين بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم و هو الضعف و الذلة فهؤلاء استهانوا أمر ربهم إذ عدلوا بينه تعالى و هو القوي الذي يخلق ما يشاء و العزيز الذي لا يغلبه شيء و لا يستذله من سواه و بين الأصنام و الآلهة الذين يضعفون من خلق ذباب و يستذلهم ذباب ثم لم يرضوا بذلك حتى قدموهم عليه تعالى فاتخذوهم أربابا يعبدونهم دونه تعالى.
قوله تعالى: «الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس إن الله سميع بصير» الاصطفاء أخذ صفوة الشيء و خالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشيء كما أن الاختيار تناول خيره و الاجتباء تناول جبايته.
انتهى.
فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلا و من الناس اختياره من بينهم من يصفو لذلك و يصلح.
و هذه الآية و التي بعدها تبينان وجوب جعل الرسالة و صفتها و صفة الرسل و هي العصمة، و للكلام فيها بعض الاتصال بقوله السابق: «لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه» لإنبائه عن الرسالة.
تبين الآية أولا أن لله رسلا من الملائكة و من الناس، و ثانيا أن هذه الرسالة ليست كيفما اتفقت و ممن اتفق بل هي بالاصطفاء و تعيين من هو صالح لذلك.
و قوله: «إن الله سميع بصير» تعليل لأصل الإرسال فإن الناس أعني النوع الإنساني يحتاج حاجة فطرية إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم و كمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونية فالحاجة نحو الهداية عامة، و ظهور الحاجة فيهم و إن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم و استدعاء لما ترتفع به حاجتهم و الله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطرية إلى الهداية و يسمع بسمعه سؤالهم ذلك.
فمقتضى سمعه و بصره تعالى أن يرسل إليهم رسولا و يهديهم به إلى سعادتهم التي خلقوا لنيلها و التلبس بها فما كل الناس بصالحين للاتصال بعالم القدس و فيهم الخبيث و الطيب و الطالح و الصالح، و الرسول رسولان رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى و يؤديه إلى الرسول الإنساني و رسول إنساني يأخذ الوحي من الرسول الملكي و يلقيه إلى الناس و بالجملة قوله: «إن الله سميع بصير» يتضمن الحجة على لزوم أصل الإرسال، و أما معنى الاصطفاء و الحجة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله: «يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم».
قوله تعالى: «يعلم بين أيديهم و ما خلفهم و إلى الله ترجع الأمور» ظاهر السياق أن ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة و الناس، و يشهد وقوع هذا التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا» الآية: مريم: 64، و قوله: «فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم:» الجن: 28.
و الآية - كما ترى - تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم و ما خلفهم لدلالة على أنه تعالى مراقب للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه و بين الناس حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشيء من مكائد الشياطين و تسويلاتهم كل ذلك لأن حملة الوحي من الرسل بعينه و بمشهد منه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و هو بالمرصاد.
و من هنا يظهر أن المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم و بين من يؤدون إليه فما بين أيدي الرسول الملكي هو ما بينه و بين الرسول الإنساني و ما بين يدي الرسول الإنساني هو ما بينه و بين الناس، و المراد بما خلفهم هو ما بينهم و بين الله سبحانه و الجميع سائرون من جانب الله إلى الناس.
فالوحي في مأمن إلهي منذ يصدر من ساحة العظمة و الكبرياء إلى أن يبلغ الناس و لازمه أن الرسل معصومون في تلقي الوحي و معصومون في حفظه و معصومون في إبلاغه للناس.
و قوله: «و إلى الله ترجع الأمور» في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم و ما خلفهم أي كيف يخفى عليه شيء من ذلك؟ و إليه يرجع جميع الأمور و إذ ليس هذا الرجوع رجوعا زمانيا حتى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع و إنما هو مملوكية ذاته له تعالى فلا استقلال له منه و لا خفاء فيه له فافهم ذلك.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون» الأمر بالركوع و السجود أمر بالصلاة و مقتضى المقابلة أن يكون المراد بقوله: «و اعبدوا ربكم» الأمر بسائر العبادات المشرعة في الدين كالحج و الصوم و يبقى لقوله: «و افعلوا الخير» سائر الأحكام و القوانين المشرعة فإن في إقامتها و العمل بها خير المجتمع و سعادة الأفراد و حياتهم كما قال: «استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال: 24.
و في الآية أمر بإجماع الشرائع الإسلامية من عبادات و غيرها.
قوله تعالى: «و جاهدوا في الله حق جهاده» إلى آخر الآية.
الجهاد بذل الجهد و استفراغ الوسع في مدافعة العدو، و يطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربما يتوسع في معنى العدو حتى يشمل كل ما يتوقع منه الشر كالشيطان الذي يضل الإنسان و النفس الأمارة بالسوء و غير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها و الاجتناب عن طاعة الشيطان في وسوسته، و قد سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفة النفس جهادا أكبر.
و الظاهر أن المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعم و خاصة بالنظر إلى تقييده بقوله: في الله و هو كل ما يرجع إليه تعالى، و يؤيده أيضا قوله: و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا: العنكبوت: 69.
و على ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حق جهاده أن يكون متمحضا في معنى الجهاد و يكون خالصا لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حق تقواه في قوله: اتقوا الله حق تقاته: آل عمران - 124.
و قوله: هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج امتنان منه تعالى على المؤمنين بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة الدين من عند أنفسهم و بحولهم غير أن الله من عليهم إذ وفقهم فاجتباهم و جمعهم للدين، و رفع عنهم كل حرج في الدين امتنانا سواء كان حرجا في أصل الحكم أو حرجا طارئا عليه اتفاقا فهي شريعة سهلة سمحة ملة أبيهم إبراهيم الحنيف الذي أسلم لربه.
و إنما سمي إبراهيم أبا المسلمين لأنه (عليه السلام) أول من أسلم لله كما قال تعالى: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين: البقرة: 131، و قال حاكيا عنه (عليه السلام): فمن تبعني فإنه مني: إبراهيم: 36 فنسب اتباعه إلى نفسه، و قال أيضا: و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام: إبراهيم: 35، و مراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعا و قال: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا: آل عمران: 68.
و قوله: هو سماكم المسلمين من قبل و في هذا امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين بعد الامتنان بقوله: هو اجتباكم فالضمير له تعالى و قوله: من قبل أي من قبل نزول القرآن و قوله: و في هذا أي و في هذا الكتاب و في امتنانه عليهم بذكر أنه سماهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم.
و قوله: ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس المراد به شهادة الأعمال و قد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية 143 و غيرها و في الآية تعليل ما تقدم من حديث الاجتباء و نفي الحرج و تسميتهم مسلمين.
و قوله: فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اعتصموا بالله تفريع على جميع ما تقدم مما امتن به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة - و هو إشارة إلى العمل بالأحكام العبادية و المالية - و تعتصموا بالله في جميع الأحوال فأتمروا بكل ما أمر به و تنتهوا عن جميع ما نهى عنه و لا تنقطعوا عنه في حال لأنه مولاكم و ليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال و لا للإنسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره - بوجه على الاحتمالين في معنى المولى -.
فقوله: هو مولاكم في مقام التعليل لما قبله من الحكم، و قوله: فنعم المولى و نعم النصير كلمة مدح له تعالى و تطييب لنفوس المؤمنين و تقوية لقلوبهم بأن مولاهم و نصيرهم هو الله الذي لا مولى غيره و لا نصير سواه.
و اعلم أن الذي أوردناه من معنى الاجتباء و كذا الإسلام و غيره في الآية هو الذي ذكره جل المفسرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا في صدر الكلام و شموله عامة المؤمنين و جميع الأمة.
و قد بينا غير مرة أن الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصا - بفتح اللام - مخصوصا بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، و هذه صفة لا توجد إلا في آحاد معدودين من الأمة دون الجميع قطعا، و كذا الكلام في معنى الإسلام و الاعتصام، و المعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعا.
و على هذا فنسبة الاجتباء و الإسلام و الشهادة إلى جميع الأمة توسع من جهة اشتمالهم على من يتصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل: و جعلكم ملوكا: المائدة: 20، و قوله فيهم: و فضلناهم على العالمين: الجاثية: 16 و نظائره كثيرة في القرآن.
بحث روائي
عن جوامع الجامع،: في قوله تعالى: فلا ينازعنك في الأمر روي أن بديل بن ورقاء و غيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل الله يعنون الميتة.
أقول: سياق الآية لا يساعد عليه.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بياع الأنماط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك و العنبر، و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة، و كان نسر عن يسارها، و كانوا إذا دخلوا خروا سجدا ليغوث و لا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثم يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثم يلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه و ما ملك. قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئا إلا أكله، و أنزل الله عز و جل: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآية.
و فيه، بإسناده عن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): «يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا - و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون - و جاهدوا في الله حق جهاده» قال: إيانا عنى و نحن المجتبون و لم يجعل الله تبارك و تعالى لنا في الدين من حرج فالحرج أشد من الضيق. «ملة أبيكم إبراهيم» إيانا عنى خاصة «هو سماكم المسلمين» الله عز و جل سمانا المسلمين «من قبل» في الكتب التي مضت «و في هذا» القرآن «ليكون الرسول عليكم شهيدا - و تكونوا شهداء على الناس» فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك و تعالى و نحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدق يوم القيامة صدقناه و من كذب كذبناه.
أقول: و الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المعنى كثيرة، و قد تقدم في ذيل الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية «و ما جعل عليكم في الدين من حرج» قال: الضيق.
و في التهذيب، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله عز و جل قال الله: «ما جعل عليكم في الدين من حرج» امسح عليه.
أقول: و في معناها روايات أخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجي و في التمسك بالآية في الحكم دلالة على صحة ما قدمناه في معنى الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و إسحاق بن راهويه في مسنده عن مكحول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تسمي الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام و سمى أمتي المسلمين، و هو المؤمن و سمى أمتي المؤمنين - تم و الحمد لله.
|