بيان
تذكر الآيات أصنافا من الناس من مصر على الباطل مجادل في الحق أو متزلزل فيه و تصف حالهم و تبين ضلالهم و سوء مآلهم و تذكر المؤمنين و أنهم مهتدون في الدنيا منعمون في الآخرة.
قوله تعالى: «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و يتبع كل شيطان مريد» المريد الخبيث و قيل: المتجرد للفساد و المعري من الخير و المجادلة في الله بغير علم التكلم فيما يرجع إليه تعالى من صفاته و أفعاله بكلام مبني على الجهل بالإصرار عليه.
و قوله: «و يتبع كل شيطان مريد» بيان لمسلكه في الاعتقاد و العمل بعد بيان مسلكه في القول كأنه قيل: إنه يقول في الله بغير علم و يصر على جهله و يعتقد بكل باطل و يعمل به و إذ كان الشيطان هو الذي يهدي الإنسان إلى الباطل و الإنسان إنما يميل إليه بإغوائه فهو يتبع في كل ما يعتقده و يعمل به الشيطان فقد وضع اتباع الشيطان في الآية موضع الاعتقاد و العمل للدلالة على الكيفية و ليبين في الآية التالية أنه ضال عن طريق الجنة سالك إلى عذاب السعير.
و قد قال تعالى: «و يتبع كل شيطان» و لم يقل: و يتبع الشيطان المريد و هو إبليس للدلالة على تلبسه بفنون الضلال و أنواعه فإن أبواب الباطل مختلفة و على كل باب شيطانا من قبيل إبليس و ذريته و هناك شياطين من الإنس يدعون إلى الضلال فيقلدهم أولياؤهم الغاوون و يتبعونهم و إن كان كل تسويل و وسوسة منتهيا إلى إبليس لعنه الله.
و الكلمة أعني قوله: «و يتبع كل شيطان» مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في اتباع الباطل إلى حد يقف عليه لبطلان استعداده للحق و كون قلبه مطبوعا عليه فهو في معنى قوله: «و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا:» الأعراف: 146.
قوله تعالى: «كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله و يهديه إلى عذاب السعير» التولي أخذه وليا متبعا، و قوله: «فإنه يضله» إلخ.
مبتدأ محذوف الخبر، و المعنى و يتبع كل شيطان مريد من صفته أنه كتب عليه أن من اتخذه وليا و اتبعه فإضلاله له و هدايته إياه إلى عذاب السعير ثابت لازم.
و المراد بكتابته عليه القضاء الإلهي في حقه بإضلاله متبعيه أولا و إدخاله إياهم النار ثانيا، و هذان القضاءان هما اللذان إشارة إليهما في قوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين:» الحجر: 43 و قد تقدم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب.
و بما تقدم يظهر ضعف ما قيل: إن المعنى من تولى الشيطان فإن الله يضله إذ لا شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدعاة و إنما المذكور في كلامه تعالى القضاء بتسليط إبليس على من تولاه و اتبعه كما تقدم.
على أن لازمه اختلاف الضمائر و رجوع ضمير «فإنه» إلى ما لم يتقدم ذكره من غير موجب.
و أضعف منه قول من قال: إن المعنى كتب على هذا الذي يجادل في الله بغير علم أنه من تولاه فإنه يضله - بإرجاع الضمائر إلى الموصول في «من يجادل» - و هو كما ترى.
و يظهر من الآية أن القضاء على إبليس قضاء على قبيله و ذريته و أعوانه، و أن إضلالهم و هدايتهم إلى عذاب السعير و بالجملة فعلهم فعله، و لا يخفى ما في الجمع بين يضله و يهديه في الآية من اللطف.
قوله تعالى: «يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب - إلى قوله - شيئا» المراد بالبعث إحياء الموتى و الرجوع إلى الله سبحانه و هو ظاهر، و العلقة القطعة من الدم الجامد، و المضغة القطعة من اللحم الممضوغة و المخلقة على ما قيل - تامة الخلقة و غير المخلقة غير تامتها و ينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، و عليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق التصوير.
و قوله: «لنبين لكم» ظاهر السياق أن المراد لنبين لكم أن البعث ممكن و نزيل الريب عنكم فإن مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم إلى الإنسان الحي لا تدع ريبا في إمكان تلبس الميت بالحياة و لذلك وضع قوله: «لنبين لكم» في هذا الموضع و لم يؤخر إلى آخر الآية.
و قوله: «و نقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى» و أي و نقر فيها ما نشاء من الأجنة و لا نسقطه إلى تمام مدة الحمل ثم نخرجكم طفلا، قال في المجمع،: أي نخرجكم من بطون أمهاتكم و أنتم أطفال، و الطفل الصغير من الناس، و إنما وحد و المراد به الجمع لأنه مصدر كقولهم: رجل عدل و رجال عدل، و قيل: أراد ثم نخرج كل واحد منكم طفلا.
انتهى، و المراد ببلوغ الأشد حال اشتداد الأعضاء و القوى.
و قوله: «و منكم من يتوفى و منكم من يرد إلى أرذل العمر» المقابلة بين الجملتين تدل على تقيد الأولى بما يميزها من الثانية و التقدير و منكم من يتوفى من قبل أن يرد إلى أرذل العمر، و المراد بأرذل العمر أحقره و أهونه و ينطبق على حال الهرم فإنه أرذل الحياة إذا قيس إلى ما قبله.
و قوله: لكيلا يعلم من بعد علم شيئا» أي شيئا يعتد به أرباب الحياة و يبنون عليه حياتهم، و اللام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى و المشاعر بحيث لا يبقى له من العلم الذي هو أنفس محصول للحياة شيء يعتد به لها.
قوله تعالى: «و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج» قال الراغب: يقال: همدت النار طفئت، و منه أرض هامدة لا نبات فيها، و نبات هامد يابس، قال تعالى: «و ترى الأرض هامدة» انتهى و يقرب منه تفسيرها بالأرض الهالكة.
و قال أيضا: الهز التحريك الشديد يقال: هززت الرمح فاهتز و اهتز النبات إذا تحرك لنضارته، و قال أيضا: ربا إذا زاد و علا قال تعالى: «فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت» أي زادت زيادة المتربى.
انتهى بتلخيص ما.
و قوله: «و أنبتت من كل زوج بهيج» أي و أنبتت الأرض من كل صنف من النبات متصف بالبهجة و هي حسن اللون و ظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل الفرد فإن كلامه يثبت للنبات ازدواجا كما يثبت له حياة، و قد وافقته العلوم التجريبية اليوم.
و المحصل أن للأرض في إنباتها النبات و إنمائها له شأنا يماثل شأن الرحم في إنباته الحيوي للتراب الصائر نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير إنسانا حيا.
قوله تعالى: «ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير» ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة من خلق الإنسان و النبات و تدبير أمرهما حدوثا و بقاء خلقا و تدبيرا واقعيين لا ريب فيهما.
و الذي يعطيه السياق أن المراد بالحق نفس الحق - أعني أنه ليس وصفا قائما مقام موصوف محذوف هو الخبر - فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شيء حق و يجري في الأشياء النظام الحق فكونه تعالى حقا يتحقق به كل شيء حق هو السبب لهذه الموجودات الحقة و النظامات الحقة الجارية فيها، و هي جميعا تكشف عن كونه تعالى هو الحق.
و قوله: «و أنه يحيي الموتى» معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة من صيرورة التراب الميت بالانتقال من حال إلى حال إنسانا حيا و كذا صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتا حيا و استمرار هذا الأمر بسبب أن الله يحيي الموتى و يستمر منه ذلك.
و قوله: «و أنه على كل شيء قدير» معطوف على سابقه كسابقه و المراد أن ما ذكرناه بسبب أن الله على كل شيء قدير و ذلك أن إيجاد الإنسان و النبات و تدبير أمرهما في الحدوث و البقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود و كما أن إيجادهما و تدبير أمرهما لا يتم إلا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا تتم إلا مع القدرة على كل شيء فخلقهما و تدبير أمرهما بسبب عموم القدرة و إن شئت فقل: ذلك يكشف عن عموم القدرة.
قوله تعالى: «و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور» الجملتان معطوفتان على «أن» في قوله: «ذلك بأن الله».
و أما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن بيان السابقة ينتج نتائج أخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى و نفي شركاء العبادة و كونه تعالى عليما و منعما و جوادا و غير ذلك.
فالذي يعطيه السياق - و المقام مقام إثبات البعث - و عرض هذه الآيات على سائر الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقا على الإطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، و لو لم يكن هناك نشاة أخرى يعيش فيها الإنسان بما له من سعادة أو شقاء و اقتصر في الخلقة على الإيجاد ثم الإعدام ثم الإيجاد ثم الإعدام و هكذا كان لعبا باطلا فكونه تعالى حقا لا يفعل إلا الحق يستلزم نشاة البعث استلزاما بينا فإن هذه الحياة الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة أخرى باقية لا محالة.
فالآية أعني قوله: «فإنا خلقناكم من تراب» إلى قوله - ذلك بأن الله هو الحق» في مجرى قوله: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق:» الدخان: 39 و قوله: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا:» ص: 27 و غيرهما من الآيات المتعرضة لإثبات المعاد، و إنما الفرق أنها تثبته من طريق حقية فعله تعالى و الآية المبحوث عنها تثبته من طريق حقيته تعالى في نفسه المستلزمة لحقية فعله.
ثم لما كان من الممكن أن يتوهم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ دفعه بقوله: «و أنه يحيي الموتى» فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت إنسانا حيا و جعل الأرض الميتة نباتا حيا واقع مستمر مشهود فلا ريب في إمكانه و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: «قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة:» يس: 79 و سائر الآيات المثبتة لإمكان البعث و الإحياء ثانيا من طريق ثبوت مثله أولا.
ثم لما أمكن أن يتوهم أن جواز الإحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلق القدرة به استبعادا له و استصعابا دفعه بقوله: «و أنه على كل شيء قدير» فإن القدرة لما كانت غير متناهية كانت نسبتها إلى الإحياء الأول و الثاني و ما كان سهلا في نفسه أو صعبا على حد سواء فلا يخالطها عجز و لا يطرأ عليها عي و تعب.
و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: «أ فعيينا بالخلق الأول:» ق: 15 و قوله: «إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير:» حم السجدة - 39 و سائر الآيات المثبتة للبعث بعموم القدرة و عدم تناهيها.
فهذه أعني ما في قوله تعالى: «ذلك بأن الله» إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة من الآية السابقة عليها مسوقة جميعا لغرض واحد و هو ذكر ما يثبت به البعث و هو الذي تتضمنه الآية الأخيرة «و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور».
و لم تتضمن الآية إلا بعث الأموات و الظرف الذي يبعثون فيه فأما الظرف و هو الساعة فذكره في قوله: «و أن الساعة آتية لا ريب فيها» و لم ينسب إتيانها إلى نفسه بأن يقال مثلا: و أن الله يأتي بالساعة أو ما في معناه و لعل الوجه في ذلك اعتبار كونها لا تأتي إلا بغتة لا يتعلق به علم قط كما قال: «لا تأتيكم إلا بغتة».
و قال: «قل إنما علمها عند الله:» الأعراف: 187 و قال: «إن الساعة آتية أكاد أخفيها:» طه: 15 فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها و كتمان مرساها مبالغة في إخفائها و تأييدا لكونها مباغتة مفاجئة، و قد كثر ذكرها في كلامه و لم يذكر في شيء منه لها فاعل بل كان التعبير مثل آتية «تأتيهم» «قائمة» «تقوم» و نحو ذلك.
و أما المظروف و هو إحياء الموتى من الإنسان فهو المذكور في قوله: «و أن الله يبعث من في القبور».
فإن قلت: الحجة المذكورة تنتج البعث لجميع الأشياء لا للإنسان فحسب لأن الفعل بلا غاية لغو باطل سواء كان هو الإنسان أو غيره لكن الآية تكتفي بالإنسان فقط.
قلت: قصر الآية النتيجة في الإنسان فقط لا ينافي ثبوت نظير الحكم في غيره لكن الذي تمسه الحاجة في المقام بعث الإنسان على أنه يمكن أن يقال: إن نفي المعاد عن الأشياء غير الإنسان لا يستلزم كون فعلها باطلا منه تعالى لأنها مخلوقة لأجل الإنسان فهو الغاية لخلقها و البعث غاية لخلق الإنسان.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الثلاث و عرضها على سائر الآيات المتعرضة لإثبات المعاد على تفننها، و به يظهر وجه الاكتفاء من النتائج المترتبة عليها بهذه النتائج المعدودة بحسب المترائي من اللفظ خمسا و هي في الحقيقة ثلاث موضوعة في الآية الثانية مستخرجة من الأولى، و واحدة موضوعة في الآية الثالثة مستخرجة من الثلاث الموضوعة في الثانية.
و به يندفع أيضا شبهة التكرار المتوهم من قوله: و «أنه يحيي الموتى» «و أن الساعة آتية» «و أن الله يبعث من في القبور» إلى غير ذلك.
و للقوم في تفسير الآيات الثلاث و تقرير حجتها وجوه كثيرة مختلفة لا ترجع إلى جدوى و قد أضافوا في جميعها إلى حجة الآية مقدمات أجنبية تختل بها سلاسة النظم و استقامة الحجة، و قد طوينا ذكرها فمن أراد الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.
قوله تعالى: «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير» صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف، على ما نقل: إن الأظهر في النظم و الأوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام و الآية السابقة «و من الناس من يجادل إلى قوله: مريد» في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا.
و هو كذلك بدليل قوله هنا ذيلا: «ليضل عن سبيل الله» و قوله هناك: «و يتبع كل شيطان مريد» و الإضلال من شأن المقلد بفتح اللام و الاتباع من شأن المقلد بكسر اللام.
و الترديد في الآية بين العلم و الهدى و الكتاب مع كون كل من العلم و الهدى يعم الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص و بالهدى هدى خاص فقيل: إن المراد بالعلم العلم الضروري و بالهدى الاستدلال و النظر الصحيح الهادي إلى المعرفة و بالكتاب المنير الوحي السماوي المظهر للحق.
و فيه أن تقييد العلم بالضروري و هو البديهي لا دليل عليه.
على أن الجدال سواء كان المراد به مطلق الإصرار في البحث أو الجدل المصطلح و هو القياس المؤلف من المشهورات و المسلمات من طرق الاستدلال و لا استدلال على ضروري البتة.
و يمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية، و بالهدى ما تفيضه الهداية الإلهية لمن أخلص لله في عبادته و عبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أو بالعكس بوجه و بالكتاب المنير الوحي الإلهي من طريق النبوة، و تلك طرق ثلاث إلى مطلق العلم: العقل و البصر و السمع و قد أشار تعالى إليها في قوله: «و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:» إسراء: 36 و الله أعلم.
قوله تعالى: «ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله» إلى آخر الآية، الثني الكسر و العطف بكسر العين الجانب، و ثني العطف كناية عن الإعراض كأن المعرض يكسر أحد جانبيه على الآخر.
و قوله: «ليضل عن سبيل الله» متعلق بقوله: «يجادل» و اللام للتعليل أي يجادل في الله بجهل منه مظهر للإعراض و الاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس و هؤلاء هم الرؤساء المتبوعون من المشركين.
و قوله: «له في الدنيا خزي و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق» تهديد بالخزي - و هو الهوان و الذلة و الفضيحة - في الدنيا، و إلى ذلك آل أمر صناديد قريش و أكابر مشركي مكة، و إيعاد بالعذاب في الآخرة.
قوله تعالى: «ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد» إشارة إلى ما تقدم في الآية السابقة من الإيعاد بالخزي و العذاب، و الباء في «بما قدمت» للمقابلة كقولنا: بعت هذا بهذا أو للسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي و العذاب جزاء ما قدمت يداك أو بسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب معرضا مستكبرا لإضلال الناس و في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لتسجيل اللوم و العتاب.
و قوله: «و أن الله ليس بظلام للعبيد» معطوف على «ما قدمت» أي ذلك لأن الله لا يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله و يعطيه ما يسأله بلسان حاله.
قوله تعالى: «و من الناس من يعبد الله على حرف» إلى آخر الآية الحرف و الطرف و الجانب بمعنى، و الاطمئنان: الاستقرار و السكون، و الفتنة - كما قيل - المحنة و الانقلاب الرجوع.
و هذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين و هو الذي يعبد الله سبحانه بانيا عبادته على جانب واحد دون كل جانب و على تقدير الله على كل تقدير و هو جانب الخير و لازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير على عبادة الله و اطمأن إليها، و إن أصابته فتنة و محنة انقلب و رجع على وجهه من غير أن يلتفت يمينا و شمالا و ارتد عن دينه تشؤما من الدين أو رجاء أن ينجو بذلك من المحنة و المهلكة و كان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها لينالوا بذلك الخير أو ينجو من الشر بشفاعتهم في الدنيا و أما الآخرة فما كانوا يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه خسر الدنيا بوقوعه في المحنة و المهلكة، و خسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه و ارتداده و كفره ذلك هو الخسران المبين.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، و عليه فقوله: «يعبد الله على حرف» من قبيل الاستعارة بالكناية، و قوله: «فإن أصابه خير» إلخ.
تفسير لقوله: «يعبد الله على حرف» و تفصيل له، و قوله: «خسر الدنيا» أي بإصابة الفتنة، و قوله: «و الآخرة» أي بانقلابه على وجهه.
قوله تعالى: «يدعوا من دون الله ما لا يضره و ما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد» المدعو هو الصنم فإنه لفقده الشعور و الإرادة لا يتوجه منه إلى عابده نفع أو ضرر و الذي يصيب عابده من ضرر و خسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التي هي فعل له منسوب إليه.
قوله تعالى: «يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى و لبئس العشير» المولى الولي الناصر، و العشير الصاحب المعاشر.
ذكروا في تركيب جمل الآية أن «يدعوا» بمعنى يقول، و قوله: «لمن ضره أقرب من نفعه» إلخ.
مقول القول، و «لمن» مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء و هو موصول صلته «ضره أقرب من نفعه».
و قوله: «لبئس المولى و لبئس العشير» جواب قسم محذوف و هو قائم مقام الخبر دال عليه.
و المعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى و عشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء و عشير سوء أقسم لبئس المولى و لبئس العشير.
و إنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من العذاب الخالد و الهلاك المؤبد.
قوله تعالى: «إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار» إلخ.
لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار و هم الأئمة المتبوعون المجادلون في الله بغير علم و المقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم و المذبذبون العابدون لله على حرف، و وصفهم بالضلال و الخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس و هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات و وصفهم بكريم المثوى و حسن المنقلب و أن الله يريد بهم ذلك.
و ذكر هؤلاء الأصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم و بيان حالهم تفصيلا.
قوله تعالى: «من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ» قال في المجمع،: السبب كل ما يتوصل به إلى الشيء و منه قيل للحبل سبب و للطريق سبب و للباب سبب انتهى و المراد بالسبب في الآية الحبل، و القطع معروف و من معانيه الاختناق يقال: قطع أي اختنق و كأنه مأخوذ من قطع النفس.
قالوا: إن الضمير في «لن ينصره الله» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك أن مشركي مكة كانوا يظنون أن الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدين أحدوثة كاذبة لا تبتني على أصل عريق فلا يرتفع ذكره، و لا ينتشر دينه، و ليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فنصره الله سبحانه فبسط دينه و رفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا فقرعهم الله سبحانه بهذه الآية و أشار بها إلى أن الله ناصره و لن يذهب غيظهم و لو خنقوا أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثرا.
و المعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا برفع الذكر و بسط الدين و في الآخرة بالمغفرة و الرحمة له و للمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء - كأن يربط طرف الحبل على جذع عال و نحوه - ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده و حيلته هذا ما يغيظ أي غيظة.
و هذا معنى حسن يؤيده سياق الآيات السابقة و ما استفدناه سابقا من نزول السورة بعد الهجرة بقليل و مشركوا مكة بعد على قدرتهم و شوكتهم.
و ذكر بعضهم: أن ضمير «لن ينصره» عائد إلى «من» و معنى القطع قطع المسافة و المراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لإبطال حكم الله، و المعنى من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة و لينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم.
و لعل هؤلاء يعنون أن المراد بالآية أن من الواجب على الإنسان أن يرجو ربه في دنياه و آخرته و إن لم يرجه و ظن أن لن ينصره الله فيهما و غاظه ذلك فليكد ما يكيد فإنه لا ينفعه.
و ذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، و المراد بالنصر الرزق كما يقال: أرض منصورة أي ممطورة و المعنى كما في القول الأول.
و هذا أقرب إلى الاعتبار من سابقه و أحسن لكن يرد على الوجهين جميعا لزوم انقطاع الآية عما قبلها من الآيات.
على أن الأنسب على هذين الوجهين في التعبير أن يقال: من ظن أن لن ينصره الله «إلخ».
لا أن يقال «من كان يظن» الظاهر في استمرار الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول الأول.
قوله تعالى: «و كذلك أنزلناه آيات بينات و أن الله يهدي من يريد» قد تقدم مرارا أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلالة على أن ما في الفرد من الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد و عمرو و هما يتكلمان و يمشيان على قدميهما و يقول كذلك يكون الإنسان أي حكم التكلم و المشي على القدمين جار في جميع الأفراد فمعنى قوله: «و كذلك أنزلناه آيات بينات» أنزلنا القرآن و هو آيات واضحة الدلالات كما في الآيات السابقة من هذه السورة.
و قوله: «و أن الله يهدي من يريد» خبر لمبتدإ محذوف أي و الأمر أن الله يهدي من يريد و أما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الآيات بينات لا يكفي في هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته.
و قيل: الجملة معطوفة على ضمير «أنزلناه» و التقدير و كذلك أنزلنا أن الله يهدي من يريد، و الوجه الأول أوضح اتصالا بأول الآية و هو ظاهر.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و يتبع كل شيطان مريد» قال: المريد الخبيث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد: في قوله: «و من الناس من يجادل في الله بغير علم» قال نزلت في النضر بن الحارث. أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح و الظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في غالب الروايات المتعرضة لأسباب النزول، و على ذلك فالقول بنزول الآية الآتية: «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى» الآية فيه كما نقل عن مجاهد أولى من القول بنزول هذه الآية فيه لأن الرجل من معاريف القوم و هذه الآية كما تقدم في الاتباع و الآية الأخرى في المتبوعين.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «مخلقة و غير مخلقة» قال: المخلقة إذا صارت تاما و «غير مخلقة» قال: السقط.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو الصادق المصدق أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد. فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها و إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها:. أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عنه و عن ابن عباس و أنس و حذيفة بن أسيد.
و في متونها بعض الاختلاف، و في بعضها و هو ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود: يقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، الحديث.
و قد ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما يقرب من ذلك كما في قرب الإسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) و فيه: فإذا تمت الأربعة الأشهر بعث الله تبارك و تعالى إليها ملكين خلاقين يصورانه و يكتبان رزقه و أجله و شقيا أو سعيدا.
الحديث.
و قد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران حديث الكافي عن الباقر (عليه السلام) في تصوير الجنين و كتابة ما قدر له و فيه: أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن لوح يقرع جبهة أمه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان، الحديث و في معناه غيره.
و مقتضى هذا الحديث و ما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شيء و منها الإنسان نصيبا في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير و التبدل إلى ما كتب فيه و نصيبا من لوح المحو و الإثبات الذي يقبل التغير و التبدل فالقضاء قضاءان محتوم و غير محتوم، قال تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب:» الرعد: 39.
و قد تقدم الكلام في معنى القضاء و اتضح به أن لوح القضاء كائنا ما كان ينطبق على نظام العلية و المعلولية و ينحل إلى سلسلتين: سلسلة العلل التامة و معلولاتها و لا تقبل تغييرا و سلسلة العلل الناقصة مع معاليلها و هي القابلة و كأن الصنف الأول من الروايات يشير إلى ما يقضى للجنين من قضاء محتوم و الثاني إلى غيره و قد بينا أيضا فيما تقدم أن حتمية القضاء لفعل العبد لا تنافي اختيارية الفعل فتذكر.
و في الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «مخلقة و غير مخلقة» قال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدم (عليه السلام)، أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء و هم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. و أما قوله: «و غير مخلقة» فهم كل نسمة لم يخلقهم الله عز و جل في صلب آدم حين خلق الذر و أخذ عليهم الميثاق، و هم النطف من العزل و السقط قبل أن ينفخ فيه الروح و الحياة و البقاء.
أقول: و قد تقدم توضيح معنى الحديث في البحث الروائي المتعلق بآية الذر في سورة الأعراف.
و في تفسير القمي، بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.
أقول: و قد تقدم بعض الروايات في هذا المعنى في تفسير سورة النحل في ذيل الآية 70.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث و عام خصب و عام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به، و إن وجدوا عام جدب و عام ولاد سوء و عام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله: «و من الناس من يعبد الله على حرف».
أقول: و هذا المعنى مروي عنه أيضا بغير هذا الطريق.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «و من الناس من يعبد الله على حرف» قال: نعم قوم وحدوا الله و خلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك و لم يعرفوا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد و ما جاء به فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا و عوفينا في أنفسنا و أولادنا علمنا أنه صادق و أنه رسول الله: و إن كان غير ذلك نظرنا. قال الله عز و جل: «فإن أصابه خير اطمأن به» يعني عافية في الدنيا «و إن أصابته فتنة» يعني بلاء في نفسه «انقلب على وجهه» انقلب على شكه إلى الشرك «خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين - يدعوا من دون الله ما لا يضره و ما لا ينفعه» قال: ينقلب مشركا يدعو غير الله و يعبد غيره.
الحديث.
أقول: و رواه الصدوق في التوحيد، باختلاف يسير.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «من كان يظن أن لن ينصره الله» قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا و الآخرة «فليمدد بسبب» قال: فليربط حبلا «إلى السماء» قال: إلى سماء بيته السقف «ثم ليقطع» قال ثم يختنق به حتى يموت.
أقول: هو و إن كان تفسيرا منه لكنه في معنى سبب النزول و لذلك أوردناه.
|