بيان
قصة موسى و العالم الذي لقيه بمجمع البحرين و كان يعلم تأويل الحوادث ذكر الله سبحانه بها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو التذكير الرابع من التذكيرات الواقعة إثر ما أمره في صدر السورة بالصبر و المضي على تبليغ رسالته و السلوة فيما يشاهده من إعراض الناس عن ذكر الله و إقبالهم على الدنيا و بين أن الذي هم مشتغلون به زينة معجلة و متاع إلى حين فلا يشقن عليه ما يجده عندهم من ظاهر تمتعهم بالحياة و فوزهم بما يشتهون فيها فإن وراء هذا الظاهر باطنا و فوق سلطتهم على المشتهيات سلطنة إلهية.
فالتذكير بقصة موسى و العالم كأنه للإشارة إلى أن لهذه الوقائع و الحوادث التي تجري على مشتهى أهل الدنيا تأويلا سيظهر لهم إذا بلغ الكتاب أجله فأذن الله لهم أن ينتبهوا من نومة الغفلة و بعثوا لنشأة غير النشأة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
و موسى الذي ذكر في القصة هو ابن عمران الرسول النبي أحد أولي العزم (عليهم السلام) على ما وردت به الرواية من طرق الشيعة و أهل السنة.
و قيل: هو أحد أسباط يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) و هو موسى بن ميشا بن يوسف و كان من أنبياء بني إسرائيل و يبعده أن القرآن قد أكثر ذكر اسم موسى حتى بلغ مائة و نيفا و ثلاثين و هو يريد ابن عمران (عليه السلام) فلو أريد بما في هذه القصة غيره لضم إليه قرينة صارفة.
و قيل إن القصة أسطورة تخييلية صورت لغاية أن كمال المعرفة يورد الإنسان مشرعة عين الحياة و يسقيه ماءها و هو الحياة الخالدة التي لا موت بعدها أبدا و السعادة السرمدية التي لا سعادة فوقها قط.
و فيه أنه تقدير من غير دليل و ظاهر الكتاب العزيز يدفعه و لا خبر في القصة التي يقصها القرآن عن عين الحياة هذه إلا ما ورد في أقاويل بعض المفسرين و القصاصين من أهل التاريخ من غير أصل قرآني يستند إليه أو وجدان حسي لعين هذه صفتها في صقع من أصقاع الأرض.
و الفتى الذي ذكره الله و أضافه إلى موسى قيل هو يوشع بن نون وصيه، و به وردت الرواية قيل: سمي فتى لأنه كان يلازمه سفرا و حضرا أو لأنه كان يخدمه.
و العالم الذي لقيه موسى و وصفه الله وصفا جميلا بقوله: «عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما» و لم يسمه ورد في الروايات أن اسمه الخضر و كان نبيا من الأنبياء معاصر لموسى (عليه السلام) و في بعضها أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم يمت بعد، و هذا المقدار لا بأس به إذ لم يرد عقل أو نقل قطعي بخلافه و قد طال البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير و تكاثرت القصص و الحكايات في رؤيته و مع ذلك لا تخلو الأخبار و القصص عن أساطير موضوعة أو مدسوسة.
قوله تعالى: «و إذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا» الظرف متعلق بمقدر، و الجملة معطوفة على ما عطف عليه التذكيرات الثلاثة المذكورة سابقا، و قوله: «لا أبرح» بمعنى لا أزال و هو من الأفعال الناقصة حذف خبره إيجازا لدلالة قوله: «حتى أبلغ» عليه و التقدير لا أبرح أمشي أو أسير، و مجمع البحرين قيل: هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي و بحر الفرس من الجانب 1 الغربي، و الحقب الدهر و الزمان و تنكيره يدل على وصف محذوف و التقدير حقبا طويلا.
و المعنى - و الله أعلم - و اذكر إذ قال موسى لفتاه لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي دهرا طويلا.
قوله تعالى: «فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا» الظاهر أن قوله: «مجمع بينهما» من إضافة الصفة إلى الموصوف و أصله بين البحرين الموصوف بأنه مجمعهما.
و قوله: «نسيا حوتهما» الآيتان التاليتان تدلان على أنه كان حوتا مملوحا أو مشويا حملاه ليرتزقا به في المسير و لم يكن حيا و إنما حي هناك و اتخذ سبيله في البحر و رآه الفتى و هو حي يغوص في البحر و نسي أن يذكر ذلك لموسى و نسي موسى أن يسأله عنه أين هو؟ و على هذا فمعنى «نسيا حوتهما» بنسبة النسيان إليهما معا: نسيا حال حوتهما فموسى نسي كونه في المكتل فلم يتفقده و الفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره.
هذا ما ذكروه.
و اعلم أن الآيات غير صريحة في حياة الحوت بعد ما كان ميتا بل ظاهر قوله: «نسيا حوتهما» و كذا قوله: «نسيت الحوت» أن يكونا وضعاه في مكان من الصخرة مشرف على البحر فيسقط في البحر أو يأخذه البحر بمد و نحوه فيغيب فيه و يغور في أعماقه بنحو عجيب كالدخول في السرب و يؤيده ما في بعض الروايات أن العلامة كانت هي افتقاد الحوت لا حياته و الله أعلم.
و قوله: «فاتخذ سبيله في البحر سربا» السرب المسلك و المذهب و السرب و النفق الطريق المحفور في الأرض لا نفاذ فيه كأنه شبه السبيل الذي اتخذه الحوت داخل الماء بالسرب الذي يسلكه السالك فيغيب فيه.
قوله تعالى: «فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا» قال في المجمع،: النصب و الوصب و التعب نظائر، و هو الوهن الذي يكون عن كد انتهى، و المراد بالغداء ما يتغدى به و فيه دلالة على أن ذلك كان في النهار.
و المعنى: و لما جاوزا مجمع البحرين أمر موسى فتاه أن يأتي بالغداء و هو الحوت الذي حملاه ليتغديا به و لقد لقيا من سفرهما تعبا.
قوله تعالى: «قال أ رأيت إذ أوينا إلى الصخرة» إلى آخر الآية يريد حال بلوغهم مجمع البحرين و مكثهم هناك فقد كانت الصخرة هناك و الدليل عليه قوله: «و اتخذ سبيله» إلخ و قد ذكر في ما مر أنه كان بمجمع البحرين، يقول لموسى: لا غداء عندنا نتغدى به فإن غداءنا و هو الحوت حي و دخل البحر و ذهب حينما بلغنا مجمع البحرين و أوينا إلى الصخرة التي كانت هناك و إني نسيت أن أخبرك بذلك.
فقوله: «أ رأيت إذ أوينا إلى الصخرة» يذكره حال أويهما إلى الصخرة و نزولهما عندها ليستريحا قليلا، و قوله: «فإني نسيت الحوت» أي نسيت حال الحوت التي شاهدتها منه فلم أذكرها لك، و الدليل على هذا المعنى - كما قيل - قوله: «و ما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره» فإن «أن أذكره» بدل من ضمير «أنسانيه» و التقدير «و ما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان فهو لم ينس نفس الحوت و إنما نسي أن يذكر حاله التي شاهد منه لموسى.
و لا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن نون النبي و الأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لأنهم معصومون مما يرجع إلى المعصية و أما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى: «و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب»: ص: 41.
و قوله: «و اتخذ سبيله في البحر عجبا» أي اتخاذا عجبا فعجبا وصف قام مقام موصوفه على المفعولية المطلقة، و قيل: إن قوله: «و اتخذ سبيله في البحر» قول الفتى و قوله: «عجبا» من قول موسى، و السياق يدفعه.
و اعلم أن ما تقدم من الاحتمال في قوله: «نسيا حوتهما» الخ جار هاهنا و الله أعلم.
قوله تعالى: «قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا» البغي الطلب، و الارتداد العود على بدء، و المراد بالآثار آثار أقدامهما، و القصص اتباع الأثر و المعنى قال موسى: ذلك الذي وقع من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه فرجعا على آثارهما يقصانها قصصا و يتبعانها اتباعا.
و قوله: «ذلك ما كنا نبغ فارتدا» يكشف عن أن موسى كان مأمورا من طريق الوحي أن يلقى العالم في مجمع البحرين و كان علامة المحل الذي يجده و يلقاه فيه ما وقع من أمر الحوت إما خصوص قضية حياته و ذهابه في البحر أو بنحو الإبهام و العموم كفقد الحوت أو حياته أو عود الميت حيا و نحو ذلك، و لذلك لما سمع موسى من فتاه ما سمع من أمر الحوت قال ما قال، و رجعا إلى المكان الذي فارقاه فوجدا عبدا «إلخ».
قوله تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا» إلخ.
كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها ما تتوسط فيه الأسباب الكونية و تعمل فيه كالنعم الظاهرية بأنواعها، و منها ما لا يتوسط فيه شيء منها كالنعم الباطنية من النبوة و الولاية بشعبها و مقاماتها، و تقييد الرحمة بقوله: «من عندنا» الظاهر في أنها من موهبته لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثاني أعني النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية بحقيقتها به تعالى كما قال: «فالله هو الولي»: الشورى: 9، و كون النبوة مما للملائكة الكرام فيه عمل كالوحي و نحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله: «رحمة من عندنا» حيث جيء بنون العظمة و لم يقل: من عندي هو النبوة دون الولاية، و بهذا يتأيد تفسير من فسر الكلمة بالنبوة و الله أعلم.
و أما قوله: «و علمناه من لدنا علما» فهو أيضا كالرحمة التي من عنده علم لا صنع فيه للأسباب العادية كالحس و الفكر حتى يحصل من طريق الاكتساب و الدليل على ذلك قوله: «من لدنا» فهو علم وهبي غير اكتسابي يختص به أولياءه و آخر الآيات يدل على أنه كان علما بتأويل الحوادث.
قوله تعالى: «قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا» الرشد خلاف الغي و هو إصابة الصواب، و هو في الآية مفعول له أو مفعول به، و المعنى قال له موسى هل أتبعك اتباعا مبنيا على هذا الأساس و هو أن تعلمني مما علمت لأرشد به أو تعلمني مما علمت أمرا ذا رشد.
قوله تعالى: «قال إنك لن تستطيع معي صبرا» نفي مؤكد لصبره (عليه السلام) على شيء مما يشاهده منه في طريق التعليم و الدليل عليه تأكيد الكلام بأن، و إيراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم، و نفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو آكد من أن يقال: لن تصبر، و إيراد النفي بلن و لم يقل: لا تصبر و للفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفي سبب القدرة عليه و هو إحاطة الخبر و العلم بحقيقة الواقعة و تأويلها حتى يعلم أنها يجب أن تجري على ما جرت عليه.
و قد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث حيث قال: «لن تستطيع معي» و لم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل: لن تصبر على ما أعلمه و لن تتحمله و لم يتغير عليه موسى (عليه السلام) حينما أخبره بتأويل ما رأى منه و إنما تغير عليه عند مشاهدة نفس أفعاله التي أراه إياها في طريق التعليم، فللعلم حكم و لمظاهره حكم و نظير ذلك أن موسى (عليه السلام) لما رجع من الميقات إلى قومه و شاهد أنهم عبدوا العجل من بعده امتلأ غيظا و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه و قد كان الله أخبره بذلك و هو في الميقات فلم يأت بشيء من ذلك و قول الله أصدق من الحس و القصة في سورة الأعراف.
فقوله: «إنك لن تستطيع معي» إلخ إخبار بأنه لا يطيق الطريق الذي يتخذه في تعليمه أن اتبعه لا أنه لا يتحمل العلم.
قوله تعالى: «و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا» الخبر العلم و هو تمييز و المعنى لا يحيط به خبرك.
قوله تعالى: «قال ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا» وعده الصبر لكن قيده بالمشية فلم يكذب إذ لم يصبر، و قوله: «و لا أعصي» إلخ عطف على «صابرا» لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشية و لم يخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال.
قوله تعالى: «قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا» الظاهر أن «منه» متعلق بقوله: «ذكرا» و إحداث الذكر من الشيء الابتداء به من غير سابقة و المعنى فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء تشاهده من أمري تشق عليك مشاهدته حتى أبتدىء أنا بذكر منه، و فيه إشارة إلى أنه سيشاهد منه أمورا تشق عليه مشاهدتها و هو سيبينها له لكن لا ينبغي لموسى أن يبتدئه بالسؤال و الاستخبار بل ينبغي أن يصبر حتى يبتدئه هو بالإخبار.
و قد أتى موسى (عليه السلام) من الخلق و الأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبال الخضر - على ما تحكيه هذه الآيات - بأمر عجيب و هو كليم الله موسى بن عمران الرسول النبي أحد أولي العزم صاحب التوراة.
فكلامه موضوع على التواضع من أوله إلى آخره، و قد تأدب معه أولا فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الأمر بل في صورة الاستفهام هضما لنفسه، و سمي مصاحبته اتباعا منه له، ثم لم يورد التعليم في صورة الاشتراط بل قال: على أن تعلمن إلخ، ثم عد نفسه متعلما، ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا إلى مبدإ غير معلوم لم يعينه باسم أو نعت فقال: «علمت» و لم يقل: تعلم، ثم مدحه بقوله: «رشدا» ثم جعل ما يتعلمه بعض علمه فقال: «مما علمت» و لم يقل: ما علمت ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا يأمره و عد نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله: «ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا».
و قد تأدب الخضر معه إذ لم يصرح بالرد أولا بل أشار إليه بنفي استطاعته على الصبر ثم لما وعده موسى بالصبر إن شاء الله لم يأمره بالاتباع بل خلى بينه و بين ما يريد فقال: «فإن اتبعتني»: ثم لم ينهه عن السؤال نهيا مطلقا في صورة المولوية المحضة بل علقه على اتباعه فقال: «فإن اتبعتني فلا تسئلني» حتى يفيد أنه لا يقترح عليه بالنهي بل هو أمر يقتضيه الاتباع.
قوله تعالى: «فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا» الإمر بكسر الهمزة الداهية العظيمة، و قوله: «فانطلقا» تفريع على ما تقدمه، و المنطلقان هما موسى و الخضر و هو ظاهر في أن موسى لم يصحب فتاه في سيره مع الخضر، و اللام في قوله: «لتغرق أهلها» للغاية فإن الغرق و إن كان عاقبة للخرق و لم يقصده الخضر البتة لكن العاقبة الضرورية ربما تؤخذ غاية مقصودة ادعاه لوضوحها كما يقال: أ تفعل كذا لتهلك نفسك؟ و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «قال أ لم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا» إنكار لسؤال موسى و تذكير لما قاله من قبل: «إنك لن تستطيع» إلخ.
قوله تعالى: «قال لا تؤاخذني بما نسيت و لا ترهقني من أمري عسرا» الرهق الغثيان بالقهر و الإرهاق التكليف، و المعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد و غفلتي عنه و لا تكلفني عسرا من أمري، و ربما يفسر النسيان بمعنى الترك، و الأول أظهر و الكلام اعتذار على أي حال.
قوله تعالى: «فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أ قتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا» في الكلام بعض الحذف للإيجاز و التقدير: فخرجا من السفينة و انطلقا.
و في قوله: «حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال» إلخ «فقتله» معطوف على الشرط بفاء التفريع و «قال» جزاء «إذا» على ما هو ظاهر الكلام: و بذلك يظهر أن العمدة في الكلام ذكر اعتراض موسى لا ذكر القتل، و نظيرته الآية اللاحقة «فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية - إلى قوله - قال لو شئت» إلخ بخلاف الآية السابقة: «فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال» فإن جزاء «إذا» فيها «خرقها» و قوله: «قال» كلام مفصول مستأنف.
و على هذا فالآيات مسرودة في صورة قصة واحدة اعترض فيها موسى على الخضر (عليهما السلام) ثلاث مرات واحدة بعد أخرى لا في صورة ثلاث قصص اعترض فيها ثلاث اعتراضات كأنه قيل: وقع كذا و كذا فاعترض عليه ثم اعترض ثم اعترض فالقصة قصة اعتراضاته فهي واحدة لا قصة أعمال هذا و اعتراضات ذاك حتى تكون ثلاثا.
و من هنا يتبين وجه الفرق بين الآيات الثلاث حيث جعل «خرقها» جواب إذا في الآية الأولى، و لم يجعل «قتله» و «وجدا» أو «أقامه» جوابا في الثانية و الثالثة بل جزءا من الشرط معطوفا عليه فافهم ذلك.
و قوله: «أ قتلت نفسا زكية» الزكية الطاهرة، و المراد طهارتها من الذنوب لعدم البلوغ كما يشعر به قوله: «غلاما» و الاستفهام للإنكار، و القائل موسى.
و قوله: «بغير نفس» أي بغير قتل منها لنفس قتلا مجوزا لقتلها قصاصا و قودا فإن غير البالغ لا يتحقق منه القتل الموجب للقصاص، و ربما استفيد من قوله: «بغير نفس» أنه كان شابا بالغا، و لا دلالة في إطلاق الغلام عليه على عدم بلوغه لأن الغلام يطلق على البالغ و غيره فالمعنى أ قتلت بغير قصاص نفسا بريئة من الذنوب المستوجبة للقتل؟ إذ لم يظهر لهما من الغلام شيء يستوجبه.
و قوله: «لقد جئت شيئا نكرا» أي منكرا يستنكره الطبع و لا يعرفه المجتمع و قد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شيء منها بعد و قتل النفس نكرا أو منكرا و هو أفظع و أفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا.
قوله تعالى: «قال أ لم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا» معناه ظاهر و زيادة «لك» نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته و إيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له أول مرة: «إنك لن تستطيع معي صبرا» أو سمعه و حسب أنه لا يعنيه بل يقصد به غيره كأنه يقول: إنما عنيت بقولي: إنك لن تستطيع «إلخ» إياك دون غيرك.
قوله تعالى: «قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا» الضمير في «بعدها» راجع إلى هذه المرة أو المسألة أي إن سألتك بعد هذه المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني أي يجوز لك أن لا تصاحبني.
و قوله: «قد بلغت من لدني عذرا» أي بلغت عذرا و وجدته كائنا ذلك من لدني إذ بلغ عذرك النهاية من عندي.
قوله تعالى: «فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها» إلى آخر الآية الكلام في قوله: «فانطلقا» «فأبوا» «فوجدا» «فأقامه» كالكلام في قوله في الآية السابقة: «فانطلقا» «فقتله».
و قوله: «استطعما أهلها» صفة لقرية و لم يقل: «استطعماهم» لرداءة قولنا: قرية استطعماهم بخلاف مثل قولنا: أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لأن للقرية نصيبا من الإتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لأنه لأهلها خاصة، و على هذا فليس قوله: «أهلها» من وضع الظاهر موضع المضمر.
و لم يقل: حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها لأن القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها الحقيقي و الغرض العمدة - كما عرفت - متعلق بالجزاء أعني قوله: «قال لو شئت لتخذت عليه أجرا» و فيه ذكر أخذ الأجر و هو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله: «أتيا أهل قرية» دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية و هو الذي أغنى أن يقال: لو شئت لتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك.
و المراد بالاستطعام طلب الطعام بالإضافة و لذا قال: «فأبوا أن يضيفوهما» و قوله «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض» الانقضاض السقوط، و إرادة الانقضاض مجاز عن الإشراف على السقوط و الانهدام، و قوله: «فأقامه» أي أثبته الخضر بإصلاح شأنه و لم يذكر سبحانه كيف أقامه؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة؟ غير أن قول موسى: «لو شئت لتخذت عليه أجرا» مشعر بأنه كان بعمل غير خارق فإن المعهود من أخذ الأجر، ما كان على العاديات.
و قوله: «قال لو شئت لتخذت 1 عليه أجرا» تخذ و أخذ بمعنى واحد، و ضمير «عليه» للإقامة المفهومة من «فأقامه» و هو مصدر جائز الوجهين، و السياق يشهد أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الأجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما.
قوله تعالى: «قال هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا» الإشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بيني و بينك أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت فراق بيني و بينك كما قيل، و يمكن أن تكون الإشارة إلى نفس الفراق، و المعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى: «لو شئت لتخذت» إلخ و قوله: «بيني و بينك» و لم يقل بيننا للتأكيد، و إنما قال الخضر هذا القول بعد الاعتراض الثالث لأن موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الأول أو يستمهله كما في الثاني، و أما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال بعد الاعتراض الثاني: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني» إلخ و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «أما السفينة فكانت لمساكين» إلخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا بقوله: «سأنبئك» إلخ و قوله: «أن أعيبها» أي أجعلها معيبة و هذه قرينة على أن المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة.
و قوله: «و كان وراءهم ملك» وراء بمعنى الخلف و هو الظرف المقابل للظرف الآخر الذي يواجهه الإنسان و يسمى قدام و أمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي يغفل عنه الإنسان و فيه من يريده بسوء أو مكروه و إن كان قدامه أو فيه ما يعرض عنه الإنسان أو فيه ما يشغل الإنسان بنفسه عن غيره كأن الإنسان ولى وجهه إلى جهة تخالف جهته قال تعالى: «فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون»: المؤمنون: 7، و قال: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب»: الشورى: 51، و قال: «و الله من ورائهم»: البروج: 20.
و محصل المعنى: أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر و يتعيشون به و كان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أن أحدث فيها عيبا فلا يطمع فيها الجبار و يدعها لهم.
قوله تعالى: «و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا» الأظهر من سياق الآية و ما سيأتي من قوله: «و ما فعلته عن أمري» أن يكون المراد بالخشية التحذر عن رأفة و رحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص المنفي عنه تعالى و عن أنبيائه كما قال: «و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39، و أن يكون المراد بقوله: «أن يرهقهما طغيانا و كفرا» أن يغشيهما ذلك أي يحمل والديه على الطغيان و الكفر بالإغواء و التأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن قوله في الآية التالية: «و أقرب رحما» لا تخلو من تأييد لكون «طغيانا و كفرا» تميزين عن الإرهاق أي وصفين للغلام دون أبويه.
قوله تعالى: «فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما» المراد بكونه خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا و إيمانا بقرينة مقابلته الطغيان و الكفر في الآية السابقة، و أصل الزكاة فيما قيل الطهارة، و المراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم و القرابة فلا يرهقهما، و أما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله «أقرب» منه تلك المناسبة، و هذا - كما عرفت - يؤيد كون المراد من قوله: «يرهقهما طغيانا و كفرا» في الآية السابقة إرهاقه إياهما بطغيانه و كفره لا تكليفه إياهما الطغيان و الكفر و إغشاؤهما ذلك.
و الآية - على أي حال - تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله و يستدعي ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما و قد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما.
قوله تعالى: «و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا» لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الآية غير القرية التي وجدا فيها الجدار فأقامه، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكان العناية متعلقة بالإشارة إلى أنهما و من يتولى أمرهما غير حاضرين في القرية.
و ذكر يتم الغلامين و وجود كنز لهما تحت الجدار و لو انقض لظهر و ضاع و كون أبيهما صالحا كل ذلك توطئة و تمهيد لقوله: «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما» و قوله: «رحمة من ربك» تعليل للإرادة.
فرحمته تعالى سبب لإرادة بلوغهما و استخراجهما كنزهما، و كان يتوقف على قيام الجدار فأقامه الخضر، و كان سبب انبعاث الرحمة صلاح أبيهما و قد عرض أن مات و أيتم الغلامين و ترك كنزا لهما.
و قد طال البحث في التوفيق بين صلاح أبيهما و وجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر في كون أبيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم»: التوبة: 34.
لكن الآية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو الذي دفنه و كنزه، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الأب، على أن من الجائز أن يكون أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة و قتل النفس المحترمة الواردين في القصة و قد جوزهما التأويل بأمر إلهي و هنا بعض روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و في الآية دلالة على أن صلاح الإنسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا و أعقب فيهم السعادة و الخير فهذه الآية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى: «و ليخش الذين لو تركوا من بعدهم ذرية ضعافا خافوا عليهم»: النساء: 9.
و قوله: «و ما فعلته عن أمري» كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره و هو الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه.
و قوله: «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا» أي ما لم تستطع عليه صبرا من اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع و قد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشيء و يؤول إليها و يبتني عليها كتأويل الرؤيا و هو تعبيرها، و تأويل الحكم و هو ملاكه و تأويل الفعل و هو مصلحته و غايته الحقيقية، و تأويل الواقعة و هو علتها الواقعية و هكذا.
فقوله: «ذلك تأويل ما لم تسطع» إلخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع الثلاث و أعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة و القتل من غير سبب موجب في قتل الغلام و سوء تدبير المعاش في إقامة الجدار.
و ذكر بعضهم: أن من الأدب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن ما كان من الأعمال التي لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله: فأردت أن أعيبها و ما جاز انتسابه إلى ربه و إلى نفسه أتى فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله: «فأردنا أن يبدلهما ربهما»، «فخشينا» و ما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته و تدبيره ملكه نسبه إليه كقوله: «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما».
بحث تاريخي في فصلين
1 - قصة موسى و الخضر في القرآن:
أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى و أخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين وجده هناك، و هو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت.
أو يفتقد فيه الحوت.
فعزم موسى أن يلقى العالم و يتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن و أخبر فتاه عما عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين و قد حملا معهما حوتا ميتا و ذهبا حتى بلغا مجمع البحرين و قد تعبا و كانت هناك صخرة على شاطىء البحر فأويا إليها ليستريحا هنيئة و قد نسيا حوتهما و هما في شغل منه.
و إذا بالحوت اضطرب و وقع في البحر حيا، أو وقع فيه و هو ميت، و غار فيه و الفتى يشاهده و يتعجب من أمره غير أنه نسي أن يذكره لموسى حتى تركا الموضع و انطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين و قد نصبا فقال له موسى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
فذكر الفتى ما شاهده من أمر الحوت و قال لموسى: إنا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت و وقع في البحر يسبح فيه حتى غار و كنت أريد أن أذكر لك أمره لكن الشيطان أنسانيه أو إني نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر و غار فيه.
قال موسى: ذلك ما كنا نبغي و نطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده و علمه علما من لدنه فعرض عليه موسى و سأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله.
قال العالم: إنك لن تستطيع معي صبرا على ما تشاهده من أعمالي التي لا علم لك بتأويلها، و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فوعده موسى أن يصبر و لا يعصيه في أمر إن شاء الله فقال له العالم بانيا على ما طلبه منه و وعده به: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.
فانطلق موسى و العالم حتى ركبا سفينة و فيها ناس من الركاب و موسى خالي الذهن عما في قصد العالم فخرق العالم السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق فأدهش ذلك موسى و أنساه ما وعده فقال للعالم: أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال له العالم: أ لم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر قائلا: لا تؤاخذني بما نسيت و لا ترهقني من أمري عسرا.
فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم فلم يملك موسى نفسه دون أن تغير و أنكر عليه ذلك قائلا: أ قتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا.
قال له العالم ثانيا: أ لم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فلم يكن عند موسى ما يعتذر به و يمتنع به عن مفارقته و نفسه غير راضية بها فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر إن أتى به كان له فراقه و استمهله قائلا: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا و قبله العالم.
فانطلقا حتى أتيا قرية و قد بلغ بهما الجوع فاستطعما أهلها فلم يضيفهما أحد منهم و إذا بجدار فيها يريد أن ينقض و يتحذر منه الناس فأقامه العالم.
قال له موسى: لو شئت لتخذت على عملك منهم أجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه و القوم لا يضيفوننا.
فقال له العالم: هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ثم قال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر و يتعيشون بها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها.
و أما الغلام فكان كافرا و كان أبواه مؤمنين، و لو أنه عاش لأرهقهما بكفره و طغيانه فشملتهما الرحمة الإلهية فأمرني أن أقتله ليبدلهما ولدا خيرا منه زكاة و أقرب رحما فقتلته.
و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فشملتهما الرحمة الإلهية لصلاح أبيهما فأمرني أن أقيمه فيستقيم حتى يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما و لو انقض لظهر أمر الكنز و انتهبه الناس.
قال: و ما فعلت الذي فعلت عن أمري بل عن أمر من الله، و تأويلها ما أنبأتك به ثم فارق موسى.
2 - قصة الخضر (عليه السلام)
- لم يرد ذكره في القرآن إلا ما في قصة رحلة موسى إلى مجمع البحرين، و لا ذكر شيء من جوامع أوصافه إلا ما في قوله تعالى.
«فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما»: الآية - 65 من السورة و الذي يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمة أهل البيت في قصته ففي رواية 1 محمد بن عمارة عن الصادق (عليه السلام): أن الخضر كان نبيا مرسلا بعثه الله تبارك و تعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده و الإقرار بأنبيائه و رسله و كتبه، و كان آيته أنه لا يجلس على خشبة يابسة و لا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء و إنما سمي خضرا لذلك، و كان اسمه تاليا بن مالك بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الحديث و يؤيد ما ذكر من وجه تسميته ما في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس و أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما سمي الخضر خضرا لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء.
و في بعض الأخبار كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما (عليهما السلام): الخضر و ذو القرنين كانا عالمين و لم يكونا نبيين الحديث لكن الآيات النازلة في قصته مع موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبيا كيف؟ و فيها نزول الحكم عليه.
و يظهر من أخبار متفرقة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه حي لم يمت بعد و ليس بعزيز على الله سبحانه أن يعمر بعض عباده عمرا طويلا إلى أمد بعيد و لا أن هناك برهانا عقليا يدل على استحالة ذلك.
و قد ورد في سبب ذلك في بعض الروايات 1 من طرق العامة أنه ابن آدم لصلبه و نسىء له في أجله حتى يكذب الدجال، و في بعضها 2 أن آدم (عليه السلام) دعا له بالبقاء إلى يوم القيامة، و في عدة روايات من طرق الفريقين أنه شرب من عين الحياة التي هي في الظلمات حين دخلها ذو القرنين في طلبها و كان الخضر في مقدمته فرزقه الخضر و لم يرزقه ذو القرنين، و هذه و أمثالها آحاد غير قطعية من الأخبار لا سبيل إلى تصحيحها بكتاب أو سنة قطعية أو عقل.
و قد كثرت القصص و الحكايات و كذا الروايات في الخضر بما لا يعول عليها ذو لب كرواية خصيف: 3 أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء: عيسى و إدريس، و اثنان في الأرض الخضر و إلياس فأما الخضر فإنه في البحر و أما صاحبه فإنه في البر.
و رواية 4 العقيلي عن كعب قال: الخضر على منبر بين البحر الأعلى و البحر الأسفل، و قد أمرت دواب البحر أن تسمع له و تطيع، و تعرض عليه الأرواح غدوة و عشية.
و رواية 5 كعب الأحبار: أن الخضر بن عاميل ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند و هو بحر الصين فقال لأصحابه: يا أصحابي ادلوني فدلوه في البحر أياما و ليالي ثم صعد فقالوا: يا خضر ما رأيت؟ فلقد أكرمك الله و حفظ لك نفسك في لجة هذا البحر فقال استقبلني ملك من الملائكة فقال لي: أيها الآدمي الخطاء إلى أين؟ و من أين؟ فقلت: إني أردت أن أنظر عمق هذا البحر. فقال لي: كيف؟ و قد أهوى رجل من زمان داود (عليه السلام) لم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة و ذلك منذ ثلاث مائة سنة، إلى غير ذلك من الروايات المشتملة على نوادر القصص.
«بحث روائي»
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حديث: أن موسى لما كلمه الله تكليما، و أنزل عليه التوراة، و كتب له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء، و جعل آية في يده و عصاه، و في الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم و فلق البحر و غرق الله فرعون و جنوده عملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى الله عز و جل خلق خلقا أعلم مني فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يهلك، و قل له: أن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه و تعلم منه. فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عز و جل فعلم موسى أن ذلك لما حدثته به نفسه فمضى هو و فتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجدا هناك الخضر يعبد الله عز و جل كما قال الله في كتابه: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا - و علمناه من لدنا علما» الحديث.
أقول: و الحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر و ما جرى بينهما مما ذكره الله في كتابه في القصة.
و روى القصة العياشي في تفسيره، بطريقين و القمي في تفسيره، بطريقين مسندا و مرسلا، و رواه في الدر المنثور، بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاري و مسلم و النسائي و الترمذي و غيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و الأحاديث متفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمد بن عمارة، و في أن الحوت الذي حملاه حي عند الصخرة و اتخذ سبيله في البحر سربا لكنها تختلف في أمور كثيرة إضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصة.
منها ما يتحصل من رواية ابن بابويه و القمي: أن مجمع البحرين من أرض الشامات و فلسطين بقرينة ذكرهما أن القرية التي ورداها هي الناصرة التي تنسب إليها النصارى، و في بعضها أن الأرض كانت آذربيجان: و هو يوافق ما في الدر المنثور عن السدي: أن البحرين هما الكر و الرس حيث يصبان في البحر و أن القرية كانت تسمى باجروان و كان أهلها لئاما و روي عن أبي: أنه إفريقية، و عن القرظي أنه طنجة، و عن قتادة أنه ملتقى بحر الروم و فارس.
و منها ما في بعض الروايات أن الحوت كان مشويا و في أكثرها أنه كان مملوحا.
و منها ما في مرسلة القمي و روايات الشيخين و النسائي و الترمذي و غيرهم: أنه كانت عند الصخرة عين الحياة حتى في رواية مسلم و غيره أن الماء كان ماء الحياة من شرب منه خلد و لا يقاربه شيء ميت إلا حي فلما نزلا و مس الحوت الماء حي.
الحديث و في غيرها أن فتى موسى توضأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحي، و في غيرها أنه شرب منه و لم يكن له ذلك فأخذه الخضر و طابقه في سفينة و تركها في البحر فهو بين أمواجها حتى تقوم الساعة و في بعضها أنه كانت عند الصخرة عين الحياة التي كان يشرب منها الخضر و بقية الروايات خالية عن ذكرها.
و منها ما في رواية الصحاح الأربع و غيرها: أن الحوت سقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق الحديث، و في بعض هذه الروايات أن موسى بعد ما رجع أبصر أثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان على الماء حتى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب، و في حديث الطبري عن ابن عباس في القصة: فرجع يعني موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر و يتبعه موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء و يتبع الحوت و جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، الحديث و بعضها خال عن ذلك.
و منها ما في أكثرها أن موسى لقي الخضر عند الصخرة، و في بعضها أنه ذهب من سرب الحوت أو على الماء حتى وجده في جزيرة من جزائر البحر، و في بعضها وجده على سطح الماء جالسا أو متكئا.
و منها اختلافها في أن الفتى هل صحبهما أو تركاه و ذهبا.
و منها اختلافها في كيفية خرق السفينة و في كيفية قتل الغلام و في كيفية إقامة الجدار و في الكنز الذي تحته لكن أكثر الروايات أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه مواعظ، و في الأب الصالح فظاهر أكثرها أنه أبوهما الأقرب، و في بعضها أنه أبوهما العاشر و في بعضها السابع، و في بعضها بينهما و بينه سبعون أبا و في بعضها كان بينهما و بينه سبعمائة سنة، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف.
و في تفسير القمي، عن محمد بن علي بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضا (عليه السلام): يسألونه عن العالم الذي أتاه موسى أيهما كان أعلم؟ و هل يجوز أن يكون على موسى حجة في وقته؟ فكتب في الجواب: أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إما جالسا و إما متكئا فسلم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان الأرض ليس بها سلام. قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، و وكلت بأمر لا أطيقه الحديث.
أقول: و هذا المعنى مروي في أخبار أخر من طرق الفريقين.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن أبي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لما لقي موسى الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: و ما يقول؟ قال: يقول: ما علمك و علم موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري من الماء.
أقول: و قصة هذا الطائر وارد في أغلب روايات القصة.
و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان موسى أعلم من الخضر.
و فيه، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان وصي موسى يوشع بن نون، و هو فتاه الذي ذكره في كتابه.
و فيه، عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: بينما موسى قاعد في ملإ من بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما أرى أحدا أعلم بالله منك قال موسى: ما أرى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر فسأل السبيل إليه و كان له الحوت آية إن افتقده، و كان من شأنه ما قص الله.
أقول: و ينبغي أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «فخشينا» خشي إن أدرك الغلام أن يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبانه من فرط حبهما له.
و فيه، عن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما» قال: إنه ولدت لهما جارية فولدت غلاما فكان نبيا.
أقول: و في أكثر الروايات أنها ولد منها سبعون نبيا و المراد ثبوت الواسطة.
و فيه، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله. ثم ذكر الغلامين فقال: «و كان أبوهما صالحا» أ لم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما؟.
و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله و ماله و إن كان أهله أهل سوء ثم قرأ هذه الآية إلى آخرها «و كان أبوهما صالحا».
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده و ولد ولده و أهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضة.
و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل «و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة - و كان تحته كنز لهما» فقال: أما إنه ما كان ذهبا و لا فضة، و إنما كان أربع كلمات: لا إله إلا الله، من أيقن بالموت لم يضحك، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلا الله.
أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن الكنز الذي كان تحت الجدار كان لوحا مكتوبا فيه الكلمات، و في أكثرها أنه كان لوحا من ذهب، و لا ينافيه قوله في هذه الرواية: «ما كان ذهبا و لا فضة» لأن المراد به نفي الدينار و الدرهم كما هو المتبادر.
و الروايات مختلفة في تعيين الكلمات التي كانت مكتوبة على اللوح لكن أكثرها متفقة في كلمة التوحيد و مسألتي الموت و القدر.
و قد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدر المنثور، عن البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب: في قول الله عز و جل: «و كان تحته كنز لهما» قال: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله عجبا لمن يذكر أن الموت حق كيف يفرح؟ و عجبا لمن يذكر أن النار حق كيف يضحك؟ و عجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن؟ و عجبا لمن يرى الدنيا و تصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها؟.
|