بيان
قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر و الميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، و الأصل في معناه الستر، و سمي به لأنه يستر العقل و لا يدعه يميز الحسن من القبح و الخير من الشر، و يقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، و يقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، و يقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، و سميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطى و تخمر من قبل، و قد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب و التمر و الشعير، ثم زاد الناس في أقسامه تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، و الجميع خمر.
و الميسر لغة هو القمار و يسمى المقامر ياسرا و الأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب و العمل، و قد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، و هو الضرب بالقداح و هي السهام، و تسمى أيضا: الأزلام و الأقلام.
و أما كيفيته فهي أنهم كانوا يشترون جزورا و ينحرونه، ثم يجزءونه ثمانية و عشرين جزءا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام و هي الفذ، و التوأم، و الرقيب، و الحلس، و النافس، و المسبل، و المعلى، و المنيح، و السنيح، و الرغد، فللفذ جزء من الثمانية و العشرين جزءا، و للتوأم جزءان، و للرقيب ثلاثة أجزاء، و للحلس أربعة، و للنافس خمسة، و للمسبل ستة، و للمعلى سبعة، و هو أكثر القداح نصيبا، و أما الثلاثة الأخيرة و هي المنيح و السنيح و الرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، و صاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، و يتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء و السهام.
قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، و قرىء إثم كثير بالثاء المثلثة، و الإثم يقارب الذنب و ما يشبهه معنى و هو حال في الشيء أو في العقل يبطىء الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء و الحرمان في أمور أخرى و يفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى و هذان على هذه الصفة.
أما شرب الخمر فمضراته الطبية و آثاره السيئة في المعدة و الأمعاء و الكبد و الرئة و سلسلة الأعصاب و الشرايين و القلب و الحواس كالباصرة و الذائقة و غيرها مما ألف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما و حديثا، و لهم في ذلك إحصاءات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.
و أما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق و تأديته الإنسان إلى الفحش، و الإضرار و الجنايات، و القتل، و إفشاء السر، و هتك الحرمات، و إبطال جميع القوانين و النواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، و خاصة ناموس العفة في الأعراض و النفوس و الأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول و لا يشعر بما يفعل، و قل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا و نغصت عيشة الإنسان إلا و للخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.
و أما مضرته في الإدراك و سلبه العقل و تصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان و تغييره مجرى الإدراك حين السكر و بعد الصحو فمما لا ينكره منكر و ذلك أعظم ما فيه من الإثم و الفساد، و منه ينشأ جميع المفاسد الآخر.
و الشريعة الإسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، و نهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر، و الميسر، و الغش، و الكذب، و غير ذلك، و من أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال و قول الكذب و الزور من بين الأقوال.
فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل و على رأسها السياسات المبتنية على السكر و الكذب هي التي تهدد الإنسانية، و تهدم بنيان السعادة و لا تأتي بثمرة عامة إلا و هي أمر من سابقتها، و كلما زاد الحمل ثقلا و أعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، و خسر العمل، و لو لم يكن لهذه المحجة البيضاء و الشريعة الغراء إلا البناء على العقل و المنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، و للكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.
و لم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق و الحقيقة، و انعقدت العادات على تناولها و شق تركها و الجري على نواميس السعادة الإنسانية، و لذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، و كلفهم بالرفق و الإمهال.
و من جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق:» الأعراف - 33، و الآية مكية حرم فيها الإثم صريحا، و في الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو و أن في الخمر إثما كبيرا.
و لعل ذلك إنما كان نوعا من الإرفاق و التسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: «و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا:» النحل - 67، و الآية أيضا مكية، و كان الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة و أنتم سكارى:» النساء - 43، و الآية مدنية و هي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب و السكر في أفضل الحالات و في أفضل الأماكن و هي الصلاة في المسجد.
و الاعتبار و سياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة و آيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، و لا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس.
ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: «و يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما» و هذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه و تشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر «فيهما إثم كبير» و تقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.
و من هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: «قل فيهما إثم كبير» لا يدل على أزيد من أن فيه إثما و الإثم هو الضرر، و تحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة و منفعة من جهة أخرى، و لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم و أصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: «إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون».
وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا و ليس الإثم هو الضرر و مجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، و كيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: «و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:» النساء - 47، و قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه:» البقرة - 283، و قوله تعالى: «أن تبوء بإثمي و إثمك:» المائدة - 29، و قوله تعالى: «لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم:» النور - 11، و قوله تعالى: «و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه:» النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات.
و أما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، و لو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، و لفظها صريح في ذلك حيث يقول «و إثمهما أكبر من نفعهما» و إرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.
و أما ثالثا: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم و هي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية!.
على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم و هذه الآية قيدت الإثم بالكبر و لا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام و مصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، و قد وصف القرآن القتل و كتمان الشهادة و الافتراء و غير ذلك بالإثم و لم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر و في الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: «و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:» النساء - 48، و بالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.
ثم نزلت آيتا المائدة: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلوة فهل أنتم منتهون:» المائدة - 91، و ذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر و لم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.
و أما الميسر: فمفاسده الاجتماعية و هدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، و العيان يغني عن البيان، و سنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.
و لنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير و منافع للناس، قد مر الكلام في معنى الإثم، و أما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، و الكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه و هو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، و لو لا المقايسة و الإضافة لم يكن كبر و لا صغر كما لا يكون كثرة و لا قلة، و يشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة و هي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر و الصغر فيها، قال تعالى: «إنها لإحدى الكبر:» المدثر - 35، و قال تعالى: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم:» الكهف - 5، و قال تعالى: «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه:» الشورى - 13، و العظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.
و النفع خلاف الضرر و يطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير و الشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، و المراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع و الشرى و العمل و التفكه و التلهي، و لما قوبل ثانيا بين الإثم و المنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع و إلغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: و إثمهما أكبر من نفعهما و لم يقل من منافعهما.
قوله تعالى: و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة كالعفو بمعنى المغفرة و العفو بمعنى إمحاء الأثر و العفو بمعنى التوسط في الإنفاق، و هذا هو المقصود في المقام، و الله العالم.
و الكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين و الأقربين الآية.
قوله تعالى: يبين الله لكم إلى قوله: في الدنيا و الآخرة، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا و الآخرة، متعلق بقوله: تتفكرون و ليس بظرف له، و المعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدارين و ما يرتبط بكم من حقيقتهما، و أن الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها و تكسبوا ما ينفعكم في مقركم و هو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
و في الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود و معارف المبدإ و المعاد و أسرار الطبيعة، و التفكر في طبيعة الاجتماع و نواميس الأخلاق و قوانين الحياة الفردية و الاجتماعية، و بالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدإ و المعاد و ما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان و شقاوته.
و ثانيا: أن القرآن و إن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله و رسوله من غير أي شرط و قيد، غير أنه لا يرضى أن يؤخذ الأحكام و المعارف التي يعطيها على العمى و الجمود المحض من غير تفكر و تعقل يكشف عن حقيقة الأمر، و تنور يستضاء به الطريق في هذا السير و السري.
و كان المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام و القوانين، و إيضاح أصول المعارف و العلوم.
قوله تعالى: و يسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف و التسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل و لو شاء الله لأعنتكم، و هذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش و الاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، و الأمر على ذلك، فإن هاهنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله «تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا:» النساء - 10، و قوله تعالى: «و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا:» النساء - 2، فالظاهر أن الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، و بذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي، و في قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير، حيث نكر الإصلاح، دلالة على أن المرضي عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كل إصلاح و لو كان إصلاحا في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، و يشعر به قوله تعالى - ذيلا -: و الله يعلم المفسد من المصلح.
قوله تعالى: و إن تخالطوهم فإخوانكم، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد و الاستضعاف و الاستذلال و الاستكبار و أنواع البغي و الظلم، و بذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، و المعادلة بين اليتيم الضعيف و الولي القوي، و بين الغني المثري و الفقير المعدم، و كذا كل ناقص و تام، و قد قال تعالى: «إنما المؤمنون إخوة:» الحجرات - 10.
فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى: «و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا:» النساء - 2، و هذه المحاذاة من الشواهد على أن في الآية نوعا من التخفيف و التسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، و كما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى: و الله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: أن المخالطة إن كانت و هذا هو التخفيف فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، و لا ينبغي عند ذلك الخوف و الخشية فإن ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لا صورة كان من الخير، و لا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح.
قوله تعالى: و الله يعلم المفسد من المصلح إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز، و العنت هو الكلفة و المشقة.
بحث روائي
في الكافي، عن علي بن يقطين: قال: سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله عز و جل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها و لا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرمة فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز و جل يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق إلى أن قال: فأما الإثم فإنها الخمر بعينها و قد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر و الميسر و إثمهما أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهدي إن قال لي: صدقت يا رافضي.
أقول: و قد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية.
و في الكافي، أيضا عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن الله جعل للمعصية بيتا، ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا، فمفتاح المعصية الخمر.
و فيه، أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الخمر رأس كل إثم.
و فيه، عن إسماعيل قال: أقبل أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شاب منهم فقال: يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال (عليه السلام): شرب الخمر.
و فيه، أيضا عن أبي البلاد عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة و يثب على أمه و ابنته، و أخته و هو لا يعقل.
و في الإحتجاج،: سأل زنديق أبا عبد الله (عليه السلام): لم حرم الله الخمر و لا لذة أفضل منها؟ قال: حرمها لأنها أم الخبائث و رأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه و لا يترك معصية إلا ركبها الحديث.
أقول: و الروايات تفسر بعضها بعضا، و التجارب و الاعتبار يساعدانها.
و في الكافي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بايعها، و مشتريها و آكل ثمنها.
و في الكافي، و المحاسن، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.
أقول: و تصديق الروايتين قوله تعالى: «و لا تعاونوا على الإثم و العدوان:» المائدة - 3.
و في الخصال، بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، و منان، و مكذب بالقدر، و مدمن خمر.
و في الأمالي لابن الشيخ، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذبا بعد أو مغفورا له. ثم قال: إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، والغا لسانه من قفاه.
و في تفسير القمي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: حق على الله أن يسقي من يشرب الخمر مما يخرج من فروج المومسات، و المومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد، و الصديد قيح و دم غليظ يؤذي أهل النار حره و نتنه.
أقول: ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى: «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم:» الدخان - 49، و في جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.
و في الكافي، عن الوشاء عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: و يسألونك ما ذا ينفقون الآية: عن ابن عباس: أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله و يسألونك ما ذا ينفقون قل العفو و كان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به و لا مالا يأكل حتى يتصدق به و في الدر المنثور، أيضا عن يحيى: أنه بلغه أن معاذ بن جبل و ثعلبة أتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء و أهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: و يسألونك ما ذا ينفقون. قل العفو.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): العفو الوسط.
و في تفسير العياشي، عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): الكفاف.
و في رواية أبي بصير: القصد.
و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في الآية: الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا - و كان بين ذلك قواما، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.
و في المجمع، عن الباقر (عليه السلام): العفو ما فضل عن قوت السنة.
أقول: و الروايات متوافقة، و الأخيرة من قبيل بيان المصداق.
و الروايات في فضل الصدقة و كيفيتها و موردها و كميتها فوق حد الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إن شاء الله.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و يسألونك عن اليتامى: عن الصادق (عليه السلام) قال: إنه لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى - ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا، أخرج كل من كان عنده يتيم، و سألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى - قل إصلاح لهم خير و إن تخالطوهم - فإخوانكم في الدين - و الله يعلم المفسد من المصلح.
و في الدر المنثور، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: و لا تقربوا مال اليتيم - إلا بالتي هي أحسن، و إن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير - و إن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابهم.
أقول: و روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير و عطاء و قتادة
|