بيان
انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى (عليه السلام) و بين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة، و قد أوتي عيسى الرشد و النبوة و هو صبي كيحيى، و قد أخبر أنه بر بوالدته و ليس بجبار شقي و أن السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه و قد صدق يحيى بعيسى و آمن به.
قوله تعالى: «و اذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا» المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب و جزء الكتاب كتاب و الاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني و تعيينه.
و النبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشيء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، و الانتباذ الاعتزال من الناس و الانفراد.
و مريم هي ابنة عمران أم المسيح (عليه السلام)، و المراد بمريم نبأ مريم و قوله: «إذ» ظرف له، و قوله: «انتبذت» إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، و المعنى و اذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، و كأنه شرقي المسجد.
قوله تعالى: «فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا» الحجاب ما يحجب الشيء و يستره عن غيره، و كأنها اتخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم و تعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا»: آل عمران: 37 و قد مر الكلام في تفسير الآية.
و قيل: إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها و أقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوي الخلق فاستعاذت بالله منه.
و فيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، و قد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.
و قوله: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا» ظاهر السياق أن فاعل «تمثل» ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا و معنى تمثله لها بشرا ترائيه لها، و ظهوره في حاستها في صورة البشر و هو في نفسه روح و ليس ببشر.
و إذ لم يكن بشرا و ليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه و سماه ملكا، و قد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه و سماه جبريل بقوله: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك»: البقرة: 97 و سماه روحا في قوله: «قل نزله روح القدس من ربك»: النحل: 102 و قوله: «نزل به الروح الأمين على قلبك»: الشعراء: 194» و سماه رسولا في قوله: «إنه لقول رسول كريم»: الحاقة: 40»، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.
و أما قوله: «إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم - إلى أن قال - قالت رب أنى يكون لي ولد و لم يمسسني بشر قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون»: آل عمران: 47.
فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم و محاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور هاهنا، و نسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو عادة، و في القرآن منه شيء كثير كقوله تعالى: «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»: المنافقون: 8، و القائل واحد.
و قوله: «و إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء»: الأنفال: 32، و القائل واحد.
و إضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، و قد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى: «يسألونك عن الروح»: الآية الإسراء: 85.
و من التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) و ضمير تمثل عائد على جبريل.
و هو كما ترى.
و من القراءة الردية قراءة بعضهم «روحنا» بتشديد النون على أن روحنا اسم الملك الذي أرسل إلى مريم، و هو غير جبريل الروح الأمين.
و هو أيضا كما ترى.
كلام في معنى التمثل
كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات، و أما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا» الآية: - 17 من السورة، و الآيات التالية التي يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته و لم يصر بذلك بشرا، و إنما ظهر في صورة بشر و ليس ببشر بل ملك و إنما كانت مريم تراها في صورة بشر.
فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر و ليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر و هو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.
و هذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شيء لشيء في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته و هو هو لا صيرورة الشيء شيئا آخر فتمثل الملك بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنسانا، و لو كان التمثل واقعا في نفسه و في الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشيء شيئا آخر و انقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.
و استشكل أمر هذا التمثل بأمور مذكورة في التفسير الكبير و غيره.
أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل، و إن لم تتساقط لزم تداخلها و هو محال.
الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق و امتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل.
الثالث: أنه لو جاز التمثل بصورة الإنسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض و الحشرات و غيرها و معلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل.
الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.
و أجيب عن الأول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة و أجزاء فاضلة و يتمكن بالأجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم و أما على القول بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم و أخرى بالهيكل الصغير.
و أنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الإشكال مبني على كون التمثل تغيرا من المتمثل في نفسه و بطلان صورته الأولى و انتقاله إلى صورة أخرى، و قد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما و هو في نفسه بخلافها.
و الآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا و لا صار بشرا في نفسه و إنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه و في الخارج عن ظرف إدراكها، و نظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق و تمثلهم لإبراهيم و لوط (عليهما السلام) في صورة البشر، و نظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، و قد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية 48 و قد كان سراقة يومئذ بمكة.
و في الروايات من ذلك شيء كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، و تمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج، و تمثله ليحيى (عليه السلام) في صورة عجيبة، و نظير تمثل الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتانة، كما في الرواية، و ما ورد من تمثل المال و الولد و العمل للإنسان عند الموت، و ما ورد من تمثل الأعمال للإنسان في القبر و يوم القيامة.
و من هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في صورة الكلب أو الحية أو العقرب و تمثل الزوج في صورة النعل و تمثل العلاء في صورة الفرس و الفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.
فالمتمثل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني التي لا صورة لها في نفسها و لا شكل، و لا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة و لا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال و الجواب.
و أجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا و بذلك يرتفع الوثوق و يمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال، و كذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلا فيعود الإشكال.
و لعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الآن هو زيد الذي شاهدناه أمس.
و أنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس و المحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد و إن كانت نادرة يبطل العلم الحسي و لا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لأن ندرة التخلف و الخطإ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشك فيه و احتمال المغايرة بين الحس و المحسوس.
على أنه إذا جازت المغايرة و هي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟.
و الحق أن الإشكال و الجواب فاسدان من أصلهما: أما الإشكال فهو مبني على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه و يتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسية بديهية و الغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر و النظر لا بنفس الحس.
فالذي يناله الحس من العين الخارجي شيء من كيفياته و هيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشيء الخارجي ثم التجربة و النظر يعرفان حاله في نفسه و الدليل على ذلك أقسام المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي و هي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيرا و العالي سافلا و المستقيم مائلا و المتحرك ساكنا و عكس ذلك باختلاف المناظر و كذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الإنسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما يمكن و نحكم بتكرر الحس و بالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، و نشاهد الشمس قدر صحفة و هي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الأرض كذا و كذا مرة و أن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الأمر الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه و هو في حسنا قد أحسسناه و هذا معنى بداهة الحس، و أما المحسوس و هو الذي في الخارج عنا و عن حسنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشىء عن فكرنا و نظرنا و هذا ما قلناه إن الذي نعتقده من حال الشيء الخارجي حكم ناشىء عن الفكر و النظر دون الحس هذا.
و قد بين في العلوم الباحثة عن الحس و المحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس.
ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، و هذا السبب ربما كان خارجيا كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها و أشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو فكر شيئا من أمرها في نفسها، و ربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارىء على الإنسان فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام و الخواطر المؤلمة.
و في جميع هذه الأحوال ربما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي و هو الأغلب و ربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص.
فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي في نفسه - على كونها مما لا بد منه في - الجملة لا تستدعي ارتفاع الوثوق و بطلان الاعتماد على الحس فإن الأمر في ذلك يدور مدار ما حصله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك و أصدقها ما صدقته التجربة.
و أما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الإشكال من نيل الحس نفس المحسوس الخارجي بعينه، و أن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادرا.
و أجيب عن الإشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل، و إنما عرف فساده بدلائل السمع.
و فيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الإشكال أن المراد بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة و الامتناع فمن البين أن تمثل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، و إن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.
و أجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه.
و فيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع و الجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الذي أوردناه جوابا عن الإشكال الثاني.
و الله أعلم.
فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشيء للإنسان بصورة يألفها الإنسان و تناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه و يلقي إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم و التخاطب، و كظهور الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة امرأة حسناء لتغره لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء و اللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للأخذ بمجامع القلب و الغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.
فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الإدراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا و خيالا باطلا و رجوعه إلى السفسطة.
قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور و تحتمله أدوات إدراكه و بين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شيء، و السفسطة هي الثاني دون الأول و توخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله.
و الله الهادي.
قوله تعالى: «قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا» ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها و هي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوءها و استعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت.
و اشتراطها بقولها: «إن كنت تقيا» من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط و عليه الوصف للحكم، و التقوى وصف جميل يشق على الإنسان أن ينفيه عن نفسه و يعترف بفقده فيئول المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ و أعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا و من الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي و تقصدني بسوء.
فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى: «و اتقوا الله إن كنتم مؤمنين»: المائدة: 57، و قوله: «و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين»: المائدة: 23.
و ربما احتمل في قوله: «إن كنت» أن تكون إن نافية و المعنى ما كنت تقيا إذ هتكت على ستري و دخلت بغير إذني.
و أول الوجهين أوفق بالسياق.
و القول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.
قوله تعالى: «قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا» جواب الروح لمريم و قد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، و الزكي هو النامي نموا صالحا و النابت نباتا حسنا.
و من لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا و أنه وهب له يحيى، و ذكر مريم و أنه وهب لها عيسى، و ذكر إبراهيم و أنه وهب له إسحاق و يعقوب، و ذكر موسى و أنه وهب له هارون (عليه السلام).
قوله تعالى: «قالت إني يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا» مس البشر بقرينة مقابلته للبغي و هو الزنا كناية عن النكاح و هو في نفسه أعم و لذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: «و لم يمسسني بشر» و الاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد و لم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح و لا من طريق الحرام بالزنا.
و السياق يشهد أنها فهمت من قوله: «لأهب لك غلاما» إلخ، إنه سيهبه حالا و لذا قالت: «و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا» فنفت النكاح و الزنا في الماضي.
قوله تعالى: «قال كذلك قال ربك هو علي هين» إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: «قال ربك هو علي هين»، و قد تقدم في قصة زكريا و يحيى (عليهما السلام) توضيح ما للجملتين.
و قوله: «و لنجعله آية للناس و رحمة منا» ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، و هو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا و كذا و لنجعله آية للناس بخلقته و رحمة منا برسالته و الآيات الجارية على يده و حذف بعض الغرض و عطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: «و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75، و في هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
و قوله: «و كان أمرا مقضيا» إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أو دعاء.
قوله تعالى: «فحملته فانتبذت به مكانا قصيا» القصي البعيد أي حملت بالولد فانفرد و اعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.
قوله تعالى: «فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة» إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه و جاء به بمعنى و هو في الآية كناية عن الدفع و الإلجاء، و المخاض و الطلق وجع الولادة، و جذع النخلة ساقها، و النسي بفتح النون و كسرها كالوتر و الوتر هو الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، و المعنى - أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها و ألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - و التعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة - و قالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا و شيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في.
قوله تعالى: «فناداها من تحتها ألا تحزني» إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في «ناداها» لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، و يؤيده تقييده بقوله: «من تحتها» فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك المنادي مع من يناديه، و يؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).
و قيل: الضمير للروح و أصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة و كان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، و لا دليل على شيء من ذلك من جهة اللفظ.
و لا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: «فناداها» على قوله: «قالت يا ليتني» إلخ، أنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ.
و قوله: «ألا تحزني» تسلية لها لما أصابها من الحزن و الغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر و أشق على المرأة الزاهدة المتنسكة و خاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها و خاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة و النزاهة في حاضر حاله و سابق عهده و خاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها و كانت الحجة للخصم عليها، و لذا أشار أن لا تتكلم مع أحد و تكفل هو الدفاع عنها و تلك حجة لا يدفعها دافع.
و قوله: «قد جعل ربك تحتك سريا» السري جدول الماء، و السري هو الشريف الرفيع، و المعنى الأول هو الأنسب للسياق، و من القرينة عليه قوله: بعد: «فكلي و اشربي» كما لا يخفى.
و قيل: المراد هو المعنى الثاني و مصداقه عيسى (عليه السلام)، و قد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، و على أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليها السلام).
و قوله: «و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا» الهز هو التحريك الشديد، و نقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه و هز به، و المساقطة هي الإسقاط، و ضمير «تساقط» للنخلة، و نسبة الهز إلى الجذع و المساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة و إنما اخضرت و أورقت و أثمرت رطبا جنيا لساعتها، و الرطب هو نضيج البسر، و الجني هو المجني و ذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.
قوله تعالى: «فكلي و اشربي و قري عينا» قرار العين كناية عن المسرة يقال: أقر الله عليك أي سرك، و المعنى: فكلي من الرطب الجني الذي تسقط و اشربي من السري الذي تحتك و كوني على مسرة من غير أن تحزني، و التمتع بالأكل و الشرب من أمارات السرور و الابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام و مريء الشراب و مصيبته شاغلة، و المعنى: فكلي من الرطب الجني و اشربي من السري و كوني على مسرة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، و أما ما تخافين من تهمة الناس و مساءلتهم فالزمي السكوت و لا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.
قوله تعالى: «فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا» المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله: «فلن أكلم اليوم إنسيا» و كذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت و لذا أرسل عذرا إرسال المسلم، و الإنسي منسوب إلى الإنس مقابل الجن و المراد به الفرد من الإنسان.
و قوله: «فإما ترين» إلخ، ما زائدة و الأصل إن ترى بشرا فقولي إلخ، و المعنى: إن ترى بشرا و كلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي إلخ، و المراد بالقول التفهيم بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، و عن الفراء أن العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله: «فقولي إني نذرت للرحمن صوما» بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها و تنذره لله على نفسها فلا يكون إخبارا بما لا حقيقة له.
و قوله: «فإما ترين إلخ، على أي حال متفرع على قوله: «و قري عينا» و المراد لا تكلمي بشرا و لا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم و أدافع خصامهم.
قوله تعالى: «فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم أنى لك هذا لقد جئت شيئا فريا» الضميران في «به» و «تحمله» لعيسى، و الاستفهام إنكاري حملهم عليه ما شاهدوه عن عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد و الاحتجاب و كانت ابنة عمران و من آل هارون القديس، و الفري هو العظيم البديع و قيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر و الآية التالية تؤيد المعنى الأول، و معنى الآية واضح.
قوله تعالى: «يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا» ذكر في المجمع، أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح و على هذا فالمراد بالأخوة الشباهة و معنى «يا أخت هارون» يا شبيهة هارون، و الثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها، و الثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر و الفساد انتهى ملخصا و البغي الزانية، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا» إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم و يكشف لهم عن حقيقة الأمر، و هو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: «فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا على ما تقدم البحث عنه.
و المهد السرير الذي يهيأ للصبي فيوضع فيه و ينوم عليه، و قيل: المراد بالمهد في الآية حجر أمه، و قيل المرباة أي المرجحة، و قيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيئت له مهدا، و الحق أن الآية ظاهرة في ذلك و لا دليل على أنها لم تكن هيئت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها و كلموها بعد ما رجعت إلى بيتها و استقرت فيه و هيئت له مهدا أو مرجحة و تسمى أيضا مهدا.
و قد استشكلت الآية بأن الإتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين و لا استغراب فيه.
و أجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد و منه قريب يلي الحال و إنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، و أما لو كان هو القريب المتصل بالحال و هو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه.
و الوجه للزمخشري في الكشاف،.
و فيه أنه و إن دفع الإشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه و تكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون «كان زائدا مستدركا.
و أجيب عنه ثانيا: بأن قوله: «كيف نكلم» لحكاية الحال الماضية و «من» موصولة و المعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا.
و هذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف،.
و فيه أنه و إن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!.
و أجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و «من كان في المهد» مبتدأ و خبر، و صبيا حال مؤكدة.
و فيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل إن: «كان» الزائدة تدل على الزمان و إن لم تدل على الحدث.
و أجيب عنه رابعا بأن «من» في الآية شرطية و «كان في المهد صبيا» شرطها و قوله: «كيف نكلم» في محل الجزاء و المعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه و الماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.
و فيه أنه تكلف ظاهر.
و يمكن أن يقال: إن «كان» منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط و الجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أو إن كان جيء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتا يقضي مضيه عليه و تحققه فيه و لزومه له كقوله تعالى: «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا»: الإسراء: 93 أي إن البشرية و الرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، و قوله تعالى: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا»: الإسراء: 63 أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه و يكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث و سيلبث في صباه برهة من الزمان.
و الله أعلم.
قوله تعالى: «قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا» شروع منه (عليه السلام) في الجواب و لم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم (عليها السلام) لأن نطقه على صباه و هو آية معجزة و ما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته و أمنة من كل قذارة و خباثة و من نزاهته طهارة مولده.
و قد بدأ بقوله: «إني عبد الله» اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين و تتم الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: «و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه».
و في قوله: «آتاني الكتاب» إخبار بإعطاء الكتاب و الظاهر أنه الإنجيل، و في قوله: «و جعلني نبيا» إعلام بنبوته، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة و الرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة، و ظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب و النبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.
قوله تعالى: «و جعلني مباركا أين ما كنت و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا» كونه (عليه السلام) مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة و البركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع و يدعوهم إلى العمل الصالح و يربيهم تربية زاكية و يبرىء الأكمه و الأبرص و يصلح القوي و يعين الضعيف.
و قوله: «و أوصاني بالصلاة و الزكاة» إلخ، إشارة إلى تشريع الصلاة و الزكاة في شريعته، و الصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه و الزكاة الإنفاق المالي و هذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة و الزكاة و قارن بينهما و ذلك في نيف و عشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس و تطهيرها دون الإنفاق المالي.
قوله تعالى: «و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا» أي جعلني حنينا رءوفا بالناس و من ذلك أني بر بوالدتي و لست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، و الجبار هو الذي يحمل الناس و لا يتحمل منهم، و نقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح و الشقي الذي لا ينتصح.
قوله تعالى: «و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا» تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه و وجوده، و قد تقدم توضيحه في آخر قصة يحيى المتقدمة.
نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، و في هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، و فرق آخر و هو أن المسلم على يحيى هو الله سبحانه و على عيسى هو نفسه.
قوله تعالى: «ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون» الظاهر أن هذه الآية و التي تليها معترضتان، و الآية الثالثة: «و إن الله ربي و ربكم» من تمام قول عيسى (عليه السلام).
و قوله: «ذلك عيسى ابن مريم» الإشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره و شرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته و ما وصفه هو للناس من عبوديته و إيتائه الكتاب و جعله نبيا هو عيسى بن مريم.
و قوله: «قول الحق» منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، و قوله: «الذي فيه يمترون» أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، و المعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه.
و قيل: المراد بقول الحق كلمة الحق و هو عيسى (عليه السلام) لأن الله سبحانه سماه كلمته في قوله: «و كلمته ألقاها إلى مريم»: النساء: 171 و قوله: «يبشرك بكلمة منه»: آل عمران: 45، و قوله: «بكلمة من الله»: آل عمران: 39، و عليه فقول الحق منصوب على المدح، و يؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: «الحق من ربك فلا تكن من الممترين»: آل عمران: 60.
قوله تعالى: «ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» نفي و إبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، و قوله: «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن» حجة أقيمت على ذلك، و قد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.
و ذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، و الله سبحانه غني عن ذلك لا يتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
و أيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير فردا مثله، و الله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج و لا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة و تدريج من غير أن يماثله، و قد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه»، الآية: البقرة: 116 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم» معطوف على قوله: «إني عبد الله» و هو من قول عيسى (عليه السلام)، و من الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، و نظيره في سورة الزخرف حيث قال: «إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم»: الزخرف: 65.
فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف و ابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: إن الله ربي و «ربكم» إلخ على أن سياق الآيات أيضا لا يساعد على شيء من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقه و يتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: «فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم» الأحزاب جمع حزب و هو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب هو قول كل منهم فيه (عليه السلام) خلاف ما يقوله الآخرون، و إنما قال: «من بينهم» لأن فيهم من ثبت على الحق، و ربما قيل «من» زائدة و الأصل اختلف الأحزاب بينهم، و هو كما ترى.
و الويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، و المشهد مصدر ميمي بمعنى الشهود: هذا.
و قد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح (عليه السلام) و كليات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: «أسمع بهم و أبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين» أي ما أسمعهم و أبصرهم بالحق يوم يأتوننا و يرجعون إلينا و هو يوم القيامة فيتبين لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله: «ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون»: الم السجدة: 12.
و أما الاستدراك الذي في قوله: «لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين» فهو لدفع توهم أنهم إذا سمعوا و أبصروا يوم القيامة و انكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة و اليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك و لا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم.
و ذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل و أثره و ما اكتسبوه في أمسهم ليومهم و أما أن يستأنفوا يوم القيامة عملا يتوقعون جزاءه غدا فليس لليوم غد، و بعبارة أخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا و انقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا مضطرين على ما هيئوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق و ظهور الحقيقة.
و ذكر بعضهم أن المراد بالآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمع القوم و يبصرهم ببيان أنهم يوم يحضرون للحساب و الجزاء سيكونون في ضلال مبين.
و هو وجه سخيف لا ينطبق على الآية البتة.
قوله تعالى: «و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون» ظاهر السياق أن قوله: «إذ قضي الأمر» بيان لقوله: يوم الحسرة» ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر و القضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه و أمنية نفسه و مخ سعادته الذي كان يقدر حصوله لنفسه و لا يرى طيبا للعيش دونه لتعلق قلبه به و تولهه فيه، و معلوم أن الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه و إن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرط في جنبه و لذلك عقب الكلام بقوله: «و هم في غفلة و هم لا يؤمنون».
فالمعنى - و الله أعلم - و خوفهم يوما يقضى فيه الأمر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم فينقطعون عن سعادتهم الخالدة التي فيها قرة أعينهم فيتحسرون عليها حسرة لا تقدر بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الذي يهديهم و يوصلهم إليها بالاستقامة و هو الإيمان بالله وحده و تنزيهه عن الولد و الشريك.
و فيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية و الله الهادي.
قوله تعالى: «إنا نحن نرث الأرض و من عليها و إلينا يرجعون» قال الراغب في المفردات،: الوراثة و الإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد و سمي بذلك المنتقل عن الميت - إلى أن قال - و يقال: ورثت مالا عن زيد و ورثت زيدا.
انتهى.
و الآية - كأنها - تثبيت و نوع تقريب لقوله في الآية السابقة: «قضي الأمر» فالمعنى و هذا القضاء سهل يسير علينا فإنا نرث الأرض و إياهم و إلينا يرجعون و وراثة الأرض أنهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى و وراثة من عليها أنهم يموتون فيبقى ما بأيديهم لله سبحانه، و على هذا فالجملتان «نرث الأرض و من عليها» في معنى جملة واحدة «نرث عنهم الأرض».
و يمكن أن نحمل الآية على معنى أدق من ذلك و هو أن يراد أن الله سبحانه هو الباقي بعد فناء كل شيء فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود و آثار الوجود و هو الباقي بعد فناء الإنسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في قوله: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: المؤمن: 16، و قوله: «و نرثه ما يقول و يأتينا فردا»: مريم: 84.
و يرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكل و حشرهم إليه تعالى فيكون قوله: «و إلينا يرجعون» عطف تفسير و بمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب أولي العقل على غيرهم أو لبروز كل شيء يومئذ أحياء عقلاء.
و هذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأول فإن الكلام عليه نظير أن يقال ورثت مال زيد و زيدا.
و اختتام الكلام على قصة عيسى (عليه السلام) بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإن وراثته تعالى من الحجج على نفي الولد فإن الولد إنما يراد ليكون وارثا لوالده فالذي يرث كل شيء في غنى عن الولد.
بحث روائي
في المجمع،: و روي عن الباقر (عليه السلام): أنه يعني جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريا، و قيل: كانت مدة حملها تسع ساعات: و هذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و في بعض الروايات أن مدة حملها كانت ستة أشهر.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «قالت يا ليتني مت قبل هذا» الآية و إنما تمنت الموت إلى أن قال و روي عن الصادق (عليه السلام): لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء.
و فيه،: في قوله تعالى: «قد جعل ربك تحتك سريا» قيل: ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب و قيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الصغير و ابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «قد جعل ربك تحتك سريا» قال النهر.
أقول: و في رواية أخرى فيه عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه نهر أخرجه الله لها لتشرب منه.
و في الخصال، عن علي (عليه السلام) من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شيء و لا تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم: «و هزي إليك بجذع النخلة - تساقط عليك رطبا جنيا فكلي و اشربي - و قري عينا».
أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده. ثم قال: قالت مريم: «إني نذرت للرحمان صوما» أي صوما صمتا و في نسخة أي صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم و غضوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا.
الحديث.
و في كتاب سعد السعود، لابن طاووس من كتاب عبد الرحمن بن محمد الأزدي: و حدثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى نجران فقالوا: أ لستم تقرءون: «يا أخت هارون» و بينهما كذا و كذا؟ فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا قلت لهم: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم و الصالحين منهم.
أقول: و أورد الحديث في الدر المنثور، مفصلا و في مجمع البيان، مختصرا عن المغيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و معنى الحديث أن المراد بهارون في قوله: «يا أخت هارون» رجل مسمى باسم هارون النبي أخي موسى (عليه السلام)، و لا دلالة فيه على كونه من الصالحين كما توهمه بعضهم.
و في الكافي، و معاني الأخبار، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «و جعلني مباركا أين ما كنت» قال: نفاعا.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظ الحديث: قال النبي قول عيسى (عليه السلام): «و جعلني مباركا أين ما كنت» قال: جعلني نفاعا للناس أين اتجهت.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عدي و ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و جعلني مباركا أين ما كنت» قال: معلما و مؤدبا.
و في الكافي، بإسناده عن بريد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) أ كان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل، أ ما تسمع لقوله حين قال: «إني عبد الله - آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أين ما كنت - و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا». قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال و هو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية لله و رحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها و كان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان و كان زكريا الحجة لله عز و جل بعد صمت عيسى بسنتين. ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبي صغير أ ما تسمع لقوله عز و جل: «يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا» فلما بلغ سبع سنين تكلم بالنبوة و الرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى و على الناس أجمعين. و ليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوما واحدا بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم (عليه السلام) و أسكنه الأرض.
الحديث.
و فيه، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاما فقد وهب الله لك فقر عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) و هو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: و ما يضره من ذلك شيء قد قام عيسى بالحجة و هو ابن ثلاث سنين.
أقول: و يقرب منه ما في بعض آخر من الروايات.
و فيه، بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة أ لا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: «و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا».
و في عيون الأخبار، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و منها عقوق الوالدين لأن الله عز و جل جعل العاق جبارا شقيا في قوله حكاية عن عيسى (عليه السلام): «و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا».
أقول: ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) أخذ قوله: «و لم يجعلني جبارا شقيا» عطف تفسير لقوله: «و برا بوالدتي».
و في المجمع، و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنة فيشرفون و ينظرون، و قيل: يا أهل النار فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا و كل قد عرفه. قال: فيقدم فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت: قال: فذلك قوله: «و أنذرهم يوم الحسرة» الآية.
قال: و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ثم جاء في آخره: فيفرح أهل الجنة فرحا لو كان أحد يومئذ ميتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا لماتوا.
أقول: و روى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاري و الترمذي و النسائي و الطبري و غيرهم عن أبي سعيد و أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس.
و في تفسير القمي،: و قوله: «إنا نحن نرث الأرض و من عليها» قال: كل شيء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة.
أقول: و هذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدمة في تفسيرها.
|