بيان
السورة تخاطب المشركين بأصول الدين إنذارا و تخويفا كما كانوا يخاطبون في السور النازلة قبل الهجرة في سياق يشهد بأن لهم بعد شوكة و قوة، و تخاطب المؤمنين بمثل الصلاة و مسائل الحج و عمل الخير و الإذن في القتال و الجهاد في سياق يشهد بأن لهم مجتمعا حديث العهد بالانعقاد قائما على ساق لا يخلو من عدة و عدة و شوكة.
و يتعين بذلك أن السورة مدنية نزلت بالمدينة ما بين هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و غزوة بدر و غرضها بيان أصول الدين بيانا تفصيليا ينتفع بها المشرك و الموحد و فروعها بيانا إجماليا ينتفع بها الموحدون من المؤمنين إذ لم يكن تفاصيل الأحكام الفرعية مشرعة يومئذ إلا مثل الصلاة و الحج كما في السورة.
و لكون دعوة المشركين إلى الأصول من طريق الإنذار و كذا ندب المؤمنين إلى إجمال الفروع بلسان الأمر بالتقوى بسط الكلام في وصف يوم القيامة و افتتح السورة بالزلزلة التي هي من أشراطها و بها خراب الأرض و اندكاك الجبال.
قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم» الزلزلة و الزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة و كأنه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من زل بمعنى زلق فكرر للمبالغة و الإشارة إلى تكرر الزلة، و هو شائع في نظائره مثل ذب و ذبذب و دم و دمدم و كب و كبكب و دك و دكدك و رف و رفرف و غيرها.
الخطاب يشمل الناس جميعا من مؤمن و كافر و ذكر و أنثى و حاضر و غائب و موجود بالفعل و من سيوجد منهم، و ذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكل لاتحاد الجميع بالنوع.
و هو أمر الناس أن يتقوا ربهم فيتقيه الكافر بالإيمان و المؤمن بالتجنب عن مخالفة أوامره و نواهيه في الفروع، و قد علل الأمر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة من طريق الإنذار.
و إضافة الزلزلة إلى الساعة لكونها من أشراطها و أماراتها، و قيل: المراد بزلزلة الساعة شدتها و هولها، و لا يخلو من بعد من جهة اللفظ.
قوله تعالى: «يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت» الذهول الذهاب عن الشيء مع دهشة، و الحمل بالفتح الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن و بالكسر الثقل المحمول في الظاهر كحمل بعير قاله الراغب.
و قال في مجمع البيان،: الحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، و الحمل بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس.
قال في الكشاف،: إن قيل: لم قيل: «مرضعة» دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، و المرضع التي شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل: مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة.
و قال: فإن قلت: لم قيل أولا: ترون ثم قيل: ترى على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، و هي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم انتهى.
و قوله: «و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى» نفى السكر بعد إثباته للدلالة على أن سكرهم و هو ذهاب العقول و سقوطها في مهبط الدهشة و البهت ليس معلولا للخمر بل شدة عذاب الله هي التي أوقعتها فيما وقعت و قد قال تعالى: «إن أخذه أليم شديد:» هود: 102.
و ظاهر الآية أن هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى التي يخبر تعالى عنها بقوله: «و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون:» الزمر: 68 و ذلك لأن الآية تفرض الناس في حال عادية تفاجئهم فيها زلزلة الساعة فتنقلب حالهم من مشاهدتها إلى ما وصف، و هذا قبل النفخة التي تموت بها الأحياء قطعا.
و قيل: إنها تمثيل شدة العذاب أي لو كان هناك راء يراها لكانت الحال هي الحال، و وقوع الآية في مقام الإنذار و التخويف لا يناسبه تلك المناسبة إذ الإنذار بعذاب لا يعلم به لا وجه له.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه من طرق عن الحسن و غيره عن عمران بن حصين قال: لما نزلت «يا أيها الناس اتقوا ربكم - إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله: «و لكن عذاب الله شديد» أنزلت عليه هذه و هو في سفر فقال: أ تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب و ما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار و واحدا إلى الجنة. فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قاربوا و سددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت و إلا أكملت من المنافقين، و ما مثلكم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا. قال: فلا أدري قال: الثلثين، أم لا؟.
أقول: و هي مروية بطرق أخرى كثيرا عن عمران و ابن عباس و أبي سعيد الخدري و أبي موسى و أنس مع اختلاف في المتون و أعدلها ما أوردناه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و ترى الناس سكارى» قال: يعني ذاهبة عقولهم من الحزن و الفزع متحيرين.
|