بيان
الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة و هو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الأبد، و تذكر أن الحياة الدنيا التي غرتهم و صرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون.
ثم تختم السورة بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة «رب اغفر و ارحم و أنت خير الراحمين» و قد افتتحت السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة.
قوله تعالى: «حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون» «حتى» متعلق بما تقدم من وصفهم له تعالى بما هو منزه منه و شركهم به، و الآيات المتخللة اعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به و يصفونه بما هو منزه منه و هم مغترون بما نمدهم به من مال و بنين حتى إذا جاء أحدهم الموت.
و قوله: «قال رب ارجعون» الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض روحه و «رب» استغاثة معترضة بحذف حرف النداء و المعنى قال - و هو يستغيث بربه - ارجعون.
و قيل: إن الخطاب للرب تعالى و الجمع للتعظيم كقول امرأة فرعون له على ما حكاه الله: «قرة عين لي و لك لا تقتلوه».
و قيل: هو من جمع الفعل و يفيد تعدد الخطاب، و المعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل.
بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
أي قف قف نبك.
و في الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل عليه كلامه تعالى، و أشذ منه جمع الفعل بالمعنى الذي ذكر.
قوله تعالى: «لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها» «لعل» للترجي و هو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم: «فارجعنا نعمل صالحا: السجدة: 12، و ربما ذكروه بلفظ التمني كقولهم: «يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا»: الأنعام: 27.
و قوله: «أعمل صالحا فيما تركت» أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه في البر و الإحسان و كل ما فيه رضا الله سبحانه.
و قيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت و العمل الصالح أعم من العبادات المالية و غيرها من صلاة و صوم و حج و نحوها، و هو حسن غير أن الأول هو الأظهر.
و قوله: «كلا إنها كلمة هو قائلها» أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكلمة «ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت» كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.
قوله تعالى: «و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله: «بينهما برزخ لا يبغيان»: الرحمن: 20، و المراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطا بهم و سمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام الإنسان و يقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الإنسان ليمر عليه و هذا معنى قول بعضهم: إن في وراء «معنى الإحاطة، قال تعالى: «و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا»: الكهف: 79.
و المراد بهذا البرزخ عالم القبر و هو عالم المثال الذي يعيش فيه الإنسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق و تدل عليه آيات أخر و تكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و كذا من طرق أهل السنة، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الأول من الكتاب.
و قيل: المراد بالآية أن بينهم و بين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة و معلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم و إياس لهم من الرجوع إليها من أصله.
و فيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا و بين يوم يبعثون لا بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا، و لو كان المراد أن الموت حاجز بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا لغا التقييد بقوله: «إلى يوم يبعثون» لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا و لا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل التقييد و إن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة.
على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإياسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقا المفهوم من «كلا» بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: «إلى يوم يبعثون» فافهمه.
قوله تعالى: «فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون المراد به النفخة الثانية التي تحيا فيها الأموات دون النفخة الأولى التي تموت فيها الأحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الأنساب و التساؤل و ثقل الميزان و خفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.
و قوله: «فلا أنساب بينهم» نفي لآثار الأنساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ الأنساب و اعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الإنسان إلى الحياة الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، و المجتمع المنزلي يستعقب التعارف و التعاطف و أقسام التعاون و التعاضد و سائر الأسباب التي تدوم بها العيشة الدنيوية و يوم القيامة ظرف جزاء الأعمال و سقوط الأسباب التي منها الأعمال فلا موطن فيه للأسباب الدنيوية التي منها الأنساب بلوازمها و خواصها و آثارها.
و قوله: «و لا يتساءلون» ذكر لأظهر آثار الأنساب، و هو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للإعانة و الاستعانة في الحوائج لجلب المنافع و دفع المضار.
و لا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: «و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون»: الصافات: 27، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها و تساؤل أهل النار بعد دخولها و هذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب و القضاء.
قوله تعالى: «فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون» إلى آخر الآيتين.
الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون و هو العمل الذي يوزن يومئذ، و قد تقدم الكلام في معنى الميزان و ثقله و خفته في تفسير سورة الأعراف.
قوله تعالى: «تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون» قال في المجمع:، اللفح و النفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا و أعظم من النفح، و هو ضرب من السموم للوجه و النفح ضرب الريح الوجه، و الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان.
انتهى.
و المعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم و تنكشف عن أسنانهم كالرءوس المشوية.
قوله تعالى: «أ لم تكن آياتي تتلى عليكم» إلخ أي يقال لهم: أ لم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون.
قوله تعالى: «قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوما ضالين» الشقوة و الشقاوة و الشقاء خلاف السعادة و سعادة الشيء ما يختص به من الخير، و شقاوته فقد ذلك و إن شئت فقل: ما يختص به من الشر.
و قوله: «غلبت علينا شقوتنا» أي قهرنا و استولت علينا شقوتنا، و في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل عليه قولهم بعد: «ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون» إذ هو وعد منهم بالحسنات و لو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن للوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.
و قد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة و الشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل و كانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم و سيئات أعمالهم لأنهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة و الشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم و ارتباطها بها إنما هي من جهة سوء اختيارهم و سيئات أعمالهم.
و بالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة و لحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله: «أ لم تكن آياتي تتلى عليكم» إلخ.
ثم عقبوا قولهم: «غلبت علينا شقوتنا» بقولهم: «و كنا قوما ضالين» تأكيدا لاعترافهم، و إنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب و الرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه و ظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب و هم يعلمون أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و التوبة و الاعتراف بالذنب من الأعمال لكن ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ و ينكرون أشياء مع ظهور الحق و معاينته لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم، قال تعالى: «يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم»: المجادلة: 18 و قال: «ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا»: المؤمن: 74.
قوله تعالى: «ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون» سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه، و مرادهم أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب و عمل صالحا.
قوله تعالى: «قالوا اخسئوا فيها و لا تكلمون» قال الراغب: خسأت الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر و ذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى.
ففي الكلام استعارة بالكناية، و المراد زجرهم بالتباعد و قطع الكلام.
قوله تعالى: «إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الراحمين» هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا و كان إيمانهم توبة و رجوعا إلى الله كما سماه الله في كلامه توبة، و كان سؤالهم شمول الرحمة - و هي الرحمة الخاصة بالمؤمنين البتة - سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا الجنة، و قد توسلوا إليه باسمه خير الراحمين.
فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و ذلك عين ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و إنما الفرق بينهما من حيث الموقف.
قوله تعالى: «فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري و كنتم منهم تضحكون» ضمائر الخطاب للكفار و ضمائر الغيبة للمؤمنين، و السياق يشهد أن المراد من «ذكري» قول المؤمنين: «ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا» إلخ، و هو معنى قول الكفار في النار.
و قوله: «حتى أنسوكم ذكري» أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين و الضحك منهم ذكري، ففي نسبة الإنساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشئون إلا أن يتخذوهم سخريا.
قوله تعالى: «إني جزيتهم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون» المراد باليوم يوم الجزاء، و متعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للإيجاز أي صبروا على ذكري مع سخريتكم منهم لأجله، و قوله: «إنهم هم الفائزون» مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم.
و هذه الآيات الأربع «قال اخسئوا» - إلى قوله - «هم الفائزون» إياس قطعي للكفار من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب و سؤال الرجوع إلى الدنيا و محصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول و هو الاعتراف و السؤال فإنه عمل إنما كان ينفع في دار العمل و هي الدنيا، و قد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة إلى الفوز و كنتم تسخرون و تضحكون منهم حتى تركتموه و بدلتموه من سخريتهم حتى إذا كان اليوم و هو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل و بقيتم صفر الأكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم و هو يوم الجزاء دون العمل.
قوله تعالى: «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين» مما يسأل الله الناس عنه يوم القيامة مدة لبثهم في الأرض و قد ذكر في مواضع من كلامه و المراد به السؤال عن مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة»: الروم: 55، و قوله: «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار»: الأحقاف: 35، و غيرهما من الآيات، فلا محل لقول بعضهم: إن المراد به المكث في الدنيا، و احتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في الدنيا و البرزخ.
قوله تعالى: «قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين» ظاهر السياق أن المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا و قد استقلوا اللبث في الأرض حينما قايسوه بالبقاء الأبدي الذي يلوح لهم يوم القيامة و يعاينونه.
و يؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، و في موضع آخر بعشية أو ضحاها.
و قوله: «فاسئل العادين» أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه و فسر بالملائكة العادين للأيام و ليس ببعيد.
قوله تعالى: قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون» القائل هو الله سبحانه، و في الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور و فيه توطئة لما يلحق به من قوله: «لو أنكم كنتم تعلمون» بما فيه من التمني.
و المعنى: قال الله: الأمر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث و لم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، و التمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب أو المقام.
و جعل بعضهم «لو» في الآية شرطية و الجملة شرطا محذوف الجزاء و تكلف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم و هو بعيد عن السياق كما هو ظاهر و أبعد منه جعل «لو» وصلية مع أن «لو» الوصلية لا تجيء بغير واو العطف.
قوله تعالى: «أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا - إلى قوله - رب العرش الكريم - بعد ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من الحساب و الجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث.
فقوله: «أ فحسبتم» إلخ، معناه فإذا كان الأمر على ما أخبرناكم من تحسركم عند معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب و الجزاء فهل تظنون أنما خلقناكم عبثا تحيون و تموتون من غير غاية باقية في خلقكم و أنكم إلينا لا ترجعون؟.
و قوله: «فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم» إشارة إلى برهان يثبت البعث و يدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالأوصاف الأربعة: أنه ملك و أنه حق و أنه لا إله إلا هو و أنه رب العرش الكريم.
فله أن يحكم بما شاء من بدء و عود و حياة و موت و رزق نافذا حكمه ماضيا أمره لملكه، و ما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق و لا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله - أي لا معبود - إلا هو، و الإله معبود لربوبيته فإذا لا إله غيره فهو رب العرش - الكريم عرش العالم - الذي هو مجتمع أزمة الأمور و منه يصدر الأحكام و الأوامر الجارية فيه.
فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم و يوجد منه كل شيء و لا يحكم إلا بحق و لا يفعل إلا حقا فللأشياء رجوع إليه و بقاء به و إلا لكانت عبثا باطلة و لا عبث في الخلق و لا باطل في الصنع.
و الدليل على اتصافه بالأوصاف الأربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره.
قوله تعالى: «و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون»، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى لا دعاؤه تعالى و دعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله تعالى و إنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، و يمكن أن يكون المراد بالدعاء الإثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.
و قوله: «لا برهان له به» قيد توضيحي لإله آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الإله الآخر مطلقا.
و قوله: «فإنما حسابه عند ربه» كلمة تهديد و فيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - و هو النار كما صرحت به الآيات السابقة - فإنه يصيبه لا محالة، و مرجعه إلى نفي الشفعاء و الإياس من أسباب النجاة و تممه بقوله: «إنه لا يفلح الكافرون».
قوله تعالى: «و قل رب اغفر و ارحم و أنت خير الراحمين» خاتمة السورة و قد أمر فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا و أن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: «إنه كان فريق من عبادي يقولون» إلخ، الآيتان 109 و 111 من السورة.
و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: «قد أفلح المؤمنون» و قد تقدم الكلام في معنى الآية.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن و لا مسلم، و هو قوله تعالى: «رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخر غيرها عنه (عليه السلام) و عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.
و في تفسير القمي،: قوله عز و جل: «و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» قال: البرزخ هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة، و هو قول الصادق (عليه السلام): و الله ما أخاف عليكم إلا البرزخ و أما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم:. أقول: و روي الذيل في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد عنه (عليه السلام).
و فيه، قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
و في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش. فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يقولون: ربنا أقم الساعة لنا، و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأولنا.
و فيه، بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تتعارف و تتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان؟ و ما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى.
أقول: أخبار البرزخ و تفاصيل ما يجري على المؤمنين و غيرهم فيه كثيرة متواترة، و قد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم.
في مجمع البيان، و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كل حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي و نسبي.
أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، و قد رواها في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: أن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري، و عن عدة منهم عن عمر بن الخطاب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي و عن ابن عساكر عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: كل نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي و صهري.
و في المناقب، في حديث طاووس عن زين العابدين (عليه السلام): خلق الله الجنة لمن أطاع و أحسن و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان ولدا قرشيا أ ما سمعت قول الله تعالى: «فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم و لا يتساءلون» و الله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح.
أقول: سياق الآية كالآبي عن التخصيص و لعل من آثار نسبه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة.
و في تفسير القمي،: و قوله عز و جل: «تلفح وجوههم النار» قال: تلهب عليهم فتحرقهم «و هم فيها كالحون» أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «ربنا غلبت علينا شقوتنا» قال: بأعمالهم شقوا. و في العلل، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليهما السلام): يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب. قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء. قال: مه يا ابن أخ خلقنا للبقاء و كيف تفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن إنما نتحول من دار إلى دار. و في تفسير القمي،: قوله تعالى: «قال كم لبثتم إلى قوله فاسئل العادين» قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الأيام، و يكتبون ساعاتنا و أعمالنا التي اكتسبنا فيها. و في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قال لأهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي و رضواني و جنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين. ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري و سخطي امكثوا فيها خالدين.
أقول: و في انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق و بما تشهد به الآيات النظائر خفاء، و قد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.
|