بيان
لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له و لا مخلص منه، و رد عليهم كل عذر يمكنهم أن يعتذروا به، و بين أن السبب الوحيد لكفرهم بالله و اليوم الآخر هو اتباع الهوى و كراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية و على رجوع الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للإنكار إليها.
و عقب ذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الذي أوعدوا به، و أن يعوذ به من همزات الشيطان و أن يحضروه كما فعلوا بهم.
قوله تعالى: و هو الذي أنشأ لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون» افتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع و البصر و هما نعمتان خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء و إبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الأنواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات و الجماد و العناصر.
و بحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا و يتسع مجال فعاليته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره و شره و نافعه و ضاره و يعطي معهما الحركة الإرادية إلى ما يريده و عما يكرهه، و يستقر في عالم حديث طري فيه مجالي الجمال و اللذة و العزة و الغلبة و المحبة مما لا خبر عنه فيما قبله.
و إنما اقتصر من الحواس بالسمع و البصر - قيل - لأن الاستدلال يتوقف عليهما و يتم بهما.
ثم ذكر سبحانه الفؤاد و المراد به المبدأ الذي يعقل من الإنسان و هو نعمة خاصة بالإنسان من بين سائر الحيوان و مرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع درجة و أعلى منزلة و أوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا الإنسان يدرك بهما ما غاب و ما حضر و ما مضى و ما غبر من أخبار الأشياء و آثارها و أوصافها بعلاج و غير علاج.
ثم يرقى بفؤاده أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات و الجزئيات فيتعقل الكليات فيحصل القوانين الكلية، و يغور متفكرا في العلوم النظرية و المعارف الحقيقية، و ينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات و الأرض.
ففي ذلك كله من عجيب التدبير الإلهي بإنشاء السمع و الأبصار و الأفئدة ما لا يسع الإنسان أن يستوفي شكره.
و قوله: «قليلا ما تشكرون» فيه بعض العتاب و معناه تشكرون شكرا قليلا فقوله: «قليلا» وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.
قوله تعالى: «و هو الذي ذرأكم في الأرض و إليه تحشرون» قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم.
و قال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها.
انتهى.
فالمعنى: أنه لما جعلكم ذوي حس و عقل أظهر وجودكم في الأرض متعلقين بها ثم يجمعكم و يرجعكم إلى لقائه.
قوله تعالى: «و هو الذي يحيي و يميت و له اختلاف الليل و النهار أ فلا تعقلون» معنى الآية ظاهر، و قوله: «و هو الذي يحيي و يميت» مترتب بحسب المعنى على الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم و أظهر وجودكم في الأرض إلى حين حتى تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الإحياء و الإماتة إذ العلم متوقف على الحياة و الحشر متوقف على الموت.
و قوله: «و له اختلاف الليل و النهار» مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت لا تتم إلا بمرور الزمان و ورود الليل بعد النهار و النهار بعد الليل حتى ينقضي العمر و يحل الأجل المكتوب، هذا لو أريد باختلاف الليل و النهار و ورود الواحد منها بعد الواحد، و لو أريد به اختلافهما في الطول و القصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل و النهار و قصرهما و بذلك يتم أمر إرزاق الحيوان و تدبير معاشها كما قال: «و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين»: حم السجدة: 10.
فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع و البصر و الفؤاد و هو الحس و العقل للإنسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة و سكونا في الأرض إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، و هو يستتبع حياة و موتا، و ذلك يستتبع عمرا متقضيا بانقضاء الزمان و رزقا يرتزق به.
فالآيات الثلاث تتضمن إشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الإنسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربه، و الله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لأن هذا التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق و الإيجاد و لا ينحاز عنه، و هو نظام الفعل و الانفعال الجاري بين الأشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لأمرهم و إليه يحشرون، و قوله: «أ فلا تعقلون» توبيخ لهم و حث على التنبه فالإيمان.
قوله تعالى: «بل قالوا مثل ما قال الأولون» إضراب عن نفي سابق يدل عليه الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا و كذا.
و في تشبيه قولهم بقول الأولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق و أوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى و هو نفي المعاد، و الإخلاص إلى الأرض و الانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخراهم و أولاهم.
قوله تعالى: «قالوا أ ءذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ ءنا لمبعوثون» بيان لقوله: «قالوا» في الآية السابقة و الكلام مبني على الاستبعاد.
قوله تعالى: «لقد وعدنا نحن و آباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين» الأساطير الأباطيل و الأحاديث الخرافية و هي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة و أعاجيب جمع أعجوبة و إطلاق الأساطير و هو جمع على البعث و هو مفرد بعناية أنه مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالإحياء و الجمع و الحشر و الحساب و الجنة و النار و غيرها، و الإشارة بهذا إلى حديث البعث و قوله: من قبل، متعلق بقوله: «وعدنا» على ما يعطيه سياق الجملة.
و المعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن و آباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها و نظمها الأناسي الأولون في صورة إحياء الأموات و حساب الأعمال و الجنة و النار و الثواب و العقاب.
و الدليل على كونها أساطير أن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا و يخوفوننا بقيام الساعة و لو كان حقا غير خرافي لوقع.
و من هنا يظهر أولا أن قولهم: «من قبل» لتمهيد الحجة على قولهم بعده «إن هذا إلا أساطير الأولين».
و ثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: «أ ءذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ ءنا لمبعوثون» مبنية على الاستبعاد و هذه الآية متضمنة للإنكار مبنيا على حجة واهية.
قوله تعالى: «قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون» لما ذكر استبعادهم للبعث ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك و الربوبية و السلطنة، و وجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث و هم معترفون به تعالى بمعنى أنه الموجد للعالم و رب الأرباب و الآلهة المعبودون دونه من خلقه، و لذا أخذ وجوده تعالى مسلما في ضمن الحجة.
فقوله: «قل لمن الأرض و من فيها» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم عن مالك الأرض و من فيها من أولي العقل من هو؟ و معلوم أن السؤال إنما هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل الشيء المملوك عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع و هو يقبل الصحة و الفساد و يقع موردا للبيع و الشرى، و ذلك لأن الكلام مسوق لإثبات صحة جميع التصرفات التكوينية و ملاكها الملك التكويني الحقيقي دون التشريعي الاعتباري.
قوله تعالى: «سيقولون لله قل أ فلا تذكرون» إخبار عن جوابهم و هو أن الأرض و من فيها مملوكة لله، و لا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، و العلة الموجدة للأرض و من فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتى باعتراف الوثنيين.
و قوله: «قل أ فلا تذكرون» أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم تذكرهم بالحجة الدالة على إمكان البعث، و المعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الأرض و من فيها لم لا تتذكرون أن له - لمكان مالكيته - أن يتصرف في أهلها بالإحياء بعد الإماتة.
قوله تعالى: «قل من رب السماوات السبع و رب العرش العظيم» أمره ثانيا أن يسألهم عن رب السماوات السبع و رب العرش العظيم من هو؟.
و المراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الأمور و يصدر عنه كل تدبير، و تكرار لفظ الرب في قوله: «و رب العرش العظيم» للإشارة إلى أهمية أمره و رفعة محله كما وصفه الله بالعظمة، و قد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب.
ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع و قولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار و من رب الدار فقوله تعالى: «من رب السماوات السبع؟ سؤال عن مالكها، و لذا حكى الجواب عنهم بقوله: «سيقولون لله» على المعنى و لو أنه أجيب عنه فقيل: «الله» كما في القراءة الأخرى كان جوابا على اللفظ.
و فيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب الشيء هو مالكه المدبر لأمره بالتصرف فيه فيكون الربوبية أخص من الملك، و لو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين «قل لمن الأرض و من فيها» - إلى قوله - سيقولون لله» إذ كان معنى السؤال: من رب الأرض و من فيها، و من المعلوم أنهم كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الله للأرض و من فيها فكان جوابهم إثبات الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه و هذا بخلاف السؤال عن مالك الأرض و من فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لأنهم كانوا يرون الإيجاد لله و الملك لازم الإيجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.
ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الإشكال إلى ترتب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها «قل من رب السماوات السبع - إلى قوله - سيقولون لله» فإن جل الوثنيين من الصابئين و غيرهم يرون للسماوات و ما فيها من الشمس و القمر و غيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: «سيقولون لله» إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به.
و الذي يحسم أصل الإشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا يبنون آراءهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال الصابئين و البرهمائيين و البوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع و أقسام كأمر السماء و الأرض و أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و غير ذلك و يثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله و يعدونه شفيعا مقربا ثم يتخذون له صنما يمثله.
و أما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية و القاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنية على قواعد مضبوطة و ربما كانوا يرون للمعمورة من الأرض و سكانها آلهة دون الله لها أصنام و ربما رأوا نفس الأصنام المصنوعة آلهة، و أما السماوات و السماويات و كذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه و الله ربها كما يلوح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: «يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى»: المؤمن: 37، فإن ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى - و هو الله تعالى - إله السماء و بالجملة السماوات و ما فيهن و من فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم الملائكة أرباب لما دون السماوات.
و أما الصابئون و من يحذو حذوهم فإنهم - كما سمعت - يرون للسماوات و ما فيهن من النجوم و الكواكب آلهة و أربابا من دون الله و هم الملائكة و الجن و هم يرون الملائكة و الجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، و حينما يعدونهم ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم و هو العالم السماوي العلوي الذي فيه تتقدر الأمور و منه ينزل القضاء و به تستمد الأسباب الطبيعية، و هو بما فيه من الملائكة و غيرهم مربوب لله سبحانه و إن كان من فيه آلهة للعالم الحسي و أربابا لمن فيه و الله رب الأرباب.
إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما عرفت.
و إن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يرى للسماء إلها دون الله كان المراد بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة و الجن دون السماوات المادية، و يؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الأحكام المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم و آلهتهم، و من المعلوم أن لا رب لمقام هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شيء دونه.
و هذا العالم العلوي هو عندهم عالم الأرباب و الآلهة لا رب له إلا الله سبحانه فالسؤال عن ربه و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه.
فمعنى الآية - و الله أعلم - قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار الأمور و أقضيتها و رب العرش العظيم الذي منه يصدر الأحكام لعامة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم؟ فإنهم و ما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله و هو الذي ملكهم ما ملكوه.
قوله تعالى: «سيقولون لله قل أ فلا تتقون» حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن السماوات السبع و العرش العظيم لله سبحانه.
و المعنى: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الأمر و العرش العظيم منه يصدر الأمر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه إذ تنكرون البعث و تعدونه من أساطير الأولين و تسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم به؟ فإن له تعالى أن يصدر الأمر ببعث الأموات و إنشاء النشأة الآخرة للإنسان و ينزل الأمر به من السماء.
و من لطيف تعبير الآية التعبير بقوله: «لله» فإن الحجة تتم بالملك و إن لم يعترفوا بالربوبية.
قوله تعالى: «قل من بيده ملكوت كل شيء و هو يجير و لا يجار عليه إن كنتم تعلمون الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة و الحكم، و يفيد مبالغة في معناه و الفرق بين الملك بالفتح و الكسر و بين المالك أن المالك هو الذي يملك المال و الملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك و له التصرف بالحكم في المال و مالكه.
و قد فسر تعالى ملكوته بقوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس - 83، فملكوت كل شيء هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن و بعبارة أخرى وجوده عن إيجاده تعالى.
فكون ملكوت كل شيء بيده كناية استعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق عليه الشيء به تعالى كما قال: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62، فملكه تعالى محيط بكل شيء و نفوذ أمره و مضي حكمه ثابت على كل شيء.
و لما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك و نفوذ الأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الأسباب و العلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما يريده تمم قوله: «بيده ملكوت كل شيء» بقوله: «و هو يجير و لا يجار عليه» و هو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشيء شيء من الملك في عرض ملكه و لو بالمنع و الإخلال و الاعتراض فله الملك و له الحكم.
و قوله: «و هو يجير و لا يجار عليه» من الجوار، و هو في أصله قرب المسكن ثم جعلوا للجوار حقا و هو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار و اشتق منه الأفعال يقال: استجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء.
و هذا جار في جميع أفعاله تعالى فما من شيء يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا و هو يحفظه على ما يريد و بمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع - لو فرض - إنما هو بإذن منه و مشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه و تحديدا لفعل منه بفعل آخر، و ما من سبب من الأسباب يفعل فعلا إلا و له تعالى أن يتصرف فيه بما لا يريده لأنه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من بعضه.
فالمراد بقوله: «و هو يجير و لا يجار عليه» أنه يمنع السوء عمن قصد به و لا يمنعه شيء إذا أراد شيئا بسوء عما أراد.
و معنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شيء بما له من الخواص و الآثار و هو يحمي من استجار به و لا يحمى عنه شيء إذا أراد شيئا بسوء؟ إن كنتم تعلمون.
قوله تعالى: «سيقولون لله قل فأنى تسحرون» قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشيء للإنسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.
و المعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإلى متى يخيل لكم الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة و يعيد الأموات للحساب و الجزاء بأمر يأمره و هو قوله: «كن».
و اعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، و المالك المتصرف هو الرب.
قوله تعالى: «بل أتيناهم بالحق و إنهم لكاذبون» إضراب عن النفي المفهوم من الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، و المعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على البعث و هم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسان الرسل بالحق و إنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم و نفيهم للبعث.
قوله تعالى: «ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض» إلخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون الملائكة أو بعضهم و بعض الجن و بعض القديسين من البشر أولادا لله سبحانه و تبعهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، و هذا النوع من الولادة و البنوة مبني على اشتمال الابن على شيء من حقيقة اللاهوت و جوهره و انفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله.
و أما البنوة الادعائية بالتبني و هو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شيء من حقيقة الأب كقول اليهود نحن أبناء الله و أحباؤه، و ليس الولد بهذا المعنى مرادا لأن الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، و لا يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية و إن كان التسمي و التسمية بها ممنوعا.
فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شيء بنحو التبعض و الاشتقاق يكون مشتملا بنحو على شيء من حقيقة الموجد لا تسمية شيء موجود ابنا و ولدا لغرض من الأغراض كما ذكره بعضهم.
و الولد - كما عرفت - أخص مصداقا عندهم من الإله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله: «ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله» ترق من نفي الأخص إلى نفي الأعم و لفظة «من» في الجملتين زائدة للتأكيد.
و قوله: «إذا لذهب كل إله بما خلق» حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها و ربوبيتها، و معنى ربوبية الإله في شطر من الكون و نوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شيء غير نفسه حتى إلى من فوض إليه الأمر، و من البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمران متباينان.
و لازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير و تنقطع رابطة الاتحاد و الاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و السهل و الجبل و الأرض و السماء و غيرها و كل منها عن كل منها، و فيه فساد السماوات و الأرض و ما فيهن، و وحدة النظام الكوني و التئام أجزائه و اتصال التدبير الجاري فيه يكذبه.
و هذا هو المراد بقوله: «إذا لذهب كل إله بما خلق» أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشح منه من التدبير.
و قوله: «و لعلا بعضهم على بعض» محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة أخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر و البحر و التدبيرين الجاريين في الماء و النار، و منها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم و تدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الأرضي و تدبير النبات الذي فيه، و كتدبير العالم السماوي و تدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، و كتدبير العالم المادي برمته و تدبير نوع من الأنواع المادية.
فبعض التدبير و هو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني و لا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.
و لازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه و أخص منه و أخس و استعلاء الإله على الإله محال.
لا لأن الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا و المحدودية تفضي إلى التركيب، و كل ذلك من لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف - كما قرره المفسرون - فإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، و هي مربوبة لله سبحانه و أرباب لما دونها و الله سبحانه رب الأرباب و إله الآلهة و هو الواجب الوجود بالذات وحده.
بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره و تأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير و الحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الأسباب التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلها غير إله بل سببا يدبر به الأمر هذا خلف.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية، و للمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها و تنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، و القوم لا يقولون في شيء من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، و قد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوه مؤلفة من مقدمات لا إشارة في الآية إلى جلها و لا إيهام، و فرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية عادية لا عقلية، و الدليل إقناعي لا قطعي.
ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: «لذهب كل إله بما خلق» حيث نسب الخلقة إليها و قد تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الإيجاد و ذلك لأن بعض الخلق من التدبير فإن خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل و التدبير مختلطان و قد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله: «و الله خلقكم و ما تعملون»: الصافات: 96، و قوله: «و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون»: الزخرف: 12.
فالقوم يرون أن كلا من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا أفعاله، و أما إعطاء الوجود للأشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد و لا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل و الإيجاد من المتكلمين.
و قد ختم الآية بالتنزيه بقوله: «سبحان الله عما يصفون».
قوله تعالى: «عالم الغيب و الشهادة فتعالى عما يشركون» صفة لاسم الجلالة في قوله: «سبحان الله عما يصفون» و تأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه بالشركة - على ما يعطيه السياق - فيكون في معنى قوله: «قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و لا في الأرض سبحانه و تعالى عما يشركون»: يونس: 18.
و يرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم لنفسه شريكا كما أن قوله: «شهد الله أنه لا إله إلا هو»: آل عمران: 18 احتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.
و قيل: إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص و ضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة و هو نوع جهل و قصور.
انتهى.
و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الإله الواجب الوجود بالذات، و الوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك.
على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع.
و قوله: «فتعالى عما يشركون» تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء.
قوله تعالى: «قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين» لما فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله و إنكار البعث و الاستهزاء بالرسل و أقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب.
فقوله: «قل رب إما تريني ما يوعدون» أمر بالدعاء و الاستغاثة، و تكرار «رب» لتأكيد التضرع و ما في قوله: «إما تريني» زائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على الشرط و أصله: إن ترني.
و في قوله: «ما يوعدون» دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الإيعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيوي.
و ما في قوله: «رب فلا تجعلني في القوم الظالمين» من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له.
قوله تعالى: «و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون» تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، و لعل المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر و قد أراه الله ذلك و أراه المؤمنين و شفى به غليل صدورهم.
قوله تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون» أي ادفع السيئة التي تتوجه إليك منهم بالحسنة و اختر للدفع من الحسنات أحسنها، و هو دفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساءوا إليك بالإيذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الإحسان ثم ببعض الإحسان في الجملة و لو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.
و قوله: «نحن أعلم بما يصفون» نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يسوءنه ما يلقاه و لا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون.
قوله تعالى: «و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين و أعوذ بك رب أن يحضرون»، قال في مجمع البيان،: الهمزة شدة الدفع، و منه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد و دفع، و همزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي انتهى.
و في تفسير القمي، عنه (عليه السلام): أنه ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين.
و في الآيتين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين و من أن يحضروه، و فيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك و التكذيب من همزات الشياطين و إحاطتهم بهم بالحضور.
|