بيان
قوله تعالى: و يسألونك عن المحيض قل هو أذى «إلخ»، المحيض مصدر كالحيض، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا و محيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء، و لذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.
و الأذى هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما أن الضرر مقابل النفع و ليس بصحيح، يقال: دواء مضر و ضار، و لو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، و أيضا قال تعالى: «لن يضروكم إلا أذى:» آل عمران - 111، و لو قيل لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام، و أيضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى: «إن الذين يؤذون الله و رسوله:» الأحزاب - 57، و قوله تعالى: «لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم:» الصف - 5، فالظاهر أن الأذى هو الطارىء على الشيء غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.
و تسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي و ينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للإرضاع، و أما على قولهم: إن الأذى هو الضرر فقد قيل: إن المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، و المعنى: يسألونك عن إتيانهن في هذه الحال فأجيب بأنه ضرر و هو كذلك فقد ذكر الأطباء أن الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم و إعداده للحمل، و الوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل و غيره.
قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن، الاعتزال هو أخذ العزلة التجنب عن المخالطة و المعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته و وضعته في جانب بالتفريق بينه و بين سائر الأنصباء، و القرب مقابل البعد يتعدى بنفسه و بمن، و المراد بالاعتزال ترك الإتيان من محل الدم على ما سنبين.
و قد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، و يفارق النساء في المحيض في المأكل و المشرب و المجلس و المضجع، و في التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، و أمر من قرب منهن في المجلس و المضجع و المس و غيره ذلك، و أما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، و أما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيء من ذلك غير أن العرب القاطنين بالمدينة و حواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض و التشديد في أمر معاشرتهن في هذا الحال، و غيرهم ربما كانوا يستحبون إتيان النساء في المحيض و يعتقدون أن الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء و ذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.
و كيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، و إن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، و يؤكده قوله تعالى ثانيا: و لا تقربوهن، إلا أن قوله تعالى أخيرا فأتوهن من حيث أمركم الله - و من المعلوم أنه محل الدم - قرينة على أن قوله: فاعتزلوا و لا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح.
و المراد به الإتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة و المعاشرة و لا مطلق التمتع و الاستلذاذ.
فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود و الأعمال المطلق الذي عليه النصارى، و هو المنع عن إتيان محل الدم و الإذن فيما دونه و في قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر و كان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه و الوجه فيه أن المحيض الأول أريد به المعنى المصدري و الثاني زمان الحيض فالثاني غير الأول، و لا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.
قوله تعالى: حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، الطهارة و تقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الإسلام ذات أحكام و خواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، و قد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الأصول.
و أصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم و لغاتهم، و من هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.
فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات و البلوغ بها إلى مقاصد الحياة و الاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة و الخاصية و الجدوى، و يرغب فيه لذلك، و أوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي و التوليد.
و ربما عرض للشيء عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، و عمدة ذلك الطعم و الرائحة و اللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع و انسلاب رغبته عنه، و هذا هو المسمى بالنجاسة و بها يستقذر الإنسان الشيء فيجتنبه، و ما يقابله و هو كون الشيء على حاله الأولى من الفائدة و الجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة و النجاسة وصفان وجوديان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفة توجب كراهتها و استقذارها.
و قد كان أول ما تنبه الإنسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للأمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة و النفرة فيها كالأنساب و الأفعال و الأخلاق و العقائد و الأقوال.
هذا ملخص القول في معنى الطهارة و النجاسة عند الناس، و أما النظافة و النزاهة و القدس و السبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشيء بعد قذارة سابقة و يختص استعمالها بالمحسوسات، و النزاهة أصلها البعد، و أصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، و القدس و السبحان يختصان بالمعقولات و المعنويات، و أما القذارة و الرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة، لكن الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذور تترك ناحية من الإبل و تستبعد و يقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه و لا ينازلهم، و رجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس، و يقال: قذرت الشيء بالكسر و تقذرته و استقذرته إذا كرهته، و على هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشيء تبعد الإنسان عنه، و كذلك الرجس و الرجز بكسر الراء، و كان الأصل في معناه الهول و الوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.
و قد اعتبر الإسلام معنى الطهارة و النجاسة، و عممهما في المحسوس و المعقول، و طردهما في المعارف الكلية، و في القوانين الموضوعة، قال تعالى: «و لا تقربوهن حتى يطهرن» الآية، و هو النقاء من الحيض و انقطاع الدم، و قال تعالى: «و ثيابك فطهر:» المدثر - 4، و قال تعالى: «و لكن يريد ليطهركم:» المائدة - 6، و قال تعالى: «أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم:» المائدة - 41، و قال تعالى:، لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة - 79.
و قد عدت الشريعة الإسلامية عدة أشياء نجسة كالدم و البول و الغائط و المني من الإنسان و بعض الحيوان و الميتة و الخنزير أعيانا نجسة، و حكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة و في الأكل و في الشرب، و قد عد من الطهارة أمورا كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، و كالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء و الغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.
و قد مر بيان أن الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، و ينشر الأصل الواحد في فروعه.
و من هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، و بعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للإنسان، و بعد ذلك أصول الأخلاق الفاضلة، و بعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا و الآخرة، و على هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: «يريد ليطهركم:» المائدة - 6، و قوله تعالى: «و يطهركم تطهيرا:» الأحزاب - 33، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.
و لنرجع إلى ما كنا فيه فقوله تعالى: حتى يطهرن، أي ينقطع عنهن الدم، و هو الطهر بعد الحيض و قوله تعالى: فإذا تطهرن أي، يغسلن محل الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله، أمر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، و هو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهي البارع، و تقييد الأمر بالإتيان بقوله أمركم الله، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا و لهوا فقيده بكونه مما أمر الله به أمرا تكوينيا للدلالة على أنه مما يتم به نظام النوع الإنساني في حياته و بقائه فلا ينبغي عده من اللغو و اللهو بل هو من أصول النواميس التكوينية.
و هذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله، تماثل قوله تعالى: «فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله لكم:» البقرة - 187، و قوله تعالى: «فأتوا حرثكم أنى شئتم و قدموا لأنفسكم:» البقرة - 223، من حيث السياق، فالظاهر أن المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء و القوى الهادية إلى التوليد، كما أن المراد بالكتابة في قوله تعالى: و ابتغوا ما كتب الله لكم أيضا ذلك، و هو ظاهر، و يمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإيجاب الكفائي المتعلق بالأزواج و التناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد.
و قد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، و هو من أوهن الاستدلال و أرداه، فإنه مبني: إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهن و هو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، و إما على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضد الخاص و هو مقطوع الضعف.
على أن الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب و لو كان بالأمر في قوله تعالى: من حيث أمركم الله، فهو إن كان أمرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، و إن كان أمرا تشريعيا كان للإيجاب الكفائي، و الدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للأمر الإيجابي العيني المولوي.
قوله تعالى: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه و التطهر هو الأخذ بالطهارة و قبولها فهو انقلاع عن القذارة و رجوع إلى الأصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه و نواهيه، و خاصة في مورد الطهارة و النجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى و الانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة و المفسدة، و توبة و رجوع إليه عز شأنه، و لمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، و قوله: فأتوهن من حيث أمركم الله، و الآية أعني قوله: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة و الطهارة كما مر بيانه، و لا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهرين، كما جيء بصيغة المبالغة في قوله: التوابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة و الطهارة من حيث النوع و من حيث العدد جميعا، أعني: أن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر و نهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، و يحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال و الوضوء و الغسل أو التطهر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقة، و يحب تكرار التوبة و تكرار التطهر.
قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الحرث مصدر بمعنى الزراعة و يطلق كالزراعة على الأرض التي يعمل فيها الحرث و الزراعة، و أنى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، و ربما استعمل في المكان أيضا قال تعالى: «يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله:» آل عمران - 37، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم، و إن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، و كيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه و خاصة من حيث تقييده بقوله: شئتم، و هذا هو الذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف و مشيته.
ثم إن تقديم قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم، على هذا الحكم و كذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية للإطلاق الزماني و لا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن الآية، و إن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، و الدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه أن ينسخه آية الحرث، و هو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى و أنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض و المحيض أذى دائما، و دلالتها أيضا على أن تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة و الله سبحانه يحب التطهر دائما، و يمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و يتم نعمته عليكم:» المائدة - 6.
و من المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، المشتمل أولا على التوسعة، و هو سبب كان موجودا مع سبب التحريم و عند تشريعه و لم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع و ثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه و بشر المؤمنين، و من هذا البيان يظهر: أن آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.
فمحصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الإنساني نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور و تحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة و إبقائها كذلك النساء يحتاج إليهن النوع في بقاء النسل و دوام النوع لأن الله سبحانه جعل تكون الإنسان و تصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال و فيهم بعض المادة الأصلية مائلة منعطفة إليهن، و جعل بين الفريقين مودة و رحمة، و إذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض و لم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله و بما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى و قدموا لأنفسكم.
و من غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع و الآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، و نظيره تفسير قوله تعالى و قدموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.
قوله تعالى: و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه و بشر المؤمنين، قد ظهر: أن المراد من قوله: قدموا لأنفسكم و خطاب الرجال أو مجموع الرجال و النساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح و التناسل، و الله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان و بقائه إلا حياة دينه و ظهور توحيده و عبادته بتقويهم العام، قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون:» الذاريات - 56، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم و بقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض و انهماكهم في شهوات البطن و الفرج، و تيههم في أودية الغي و الغفلة.
فالمراد بقوله: قدموا لأنفسكم و إن كان هو الاستيلاد و تقدمه أفراد جديدي الوجود و التكون إلى المجتمع الإنساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت و الفناء، و ينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل و حدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها و خيراتها إلى أنفسهم و إلى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس - 12.
و بهذا الذي ذكرنا يتأيد: أن المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: «يوم ينظر المرء ما قدمت يداه:» النبأ - 40، و قال تعالى أيضا: «و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا و أعظم أجرا:» المزمل - 20، فقوله تعالى: «و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه «إلخ»، مماثل السياق لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون:» الحشر - 18، فالمراد و الله أعلم بقوله تعالى: و قدموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، و منه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، و بقوله تعالى: و اتقوا الله، التقوى بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث و عدم التعدي عن حدود الله و التفريط في جنب الله و انتهاك محارم الله، و بقوله تعالى: و اعلموا أنكم ملاقوه «إلخ»، الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء و سوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، و إطلاق الأمر بالعلم و إرادة لازمه و هو المراقبة و التحفظ و الاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: «و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه:» الأنفال - 24، أي اتقوا حيلولته بينكم و بين قلوبكم و لما كان العمل الصالح و خوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: و بشر المؤمنين، كما صدر آية الحشر بقوله: يا أيها الذين آمنوا.
بحث روائي
في الدر المنثور،: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الدارمي و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن المنذر و أبو حاتم و النحاس في ناسخه و أبو حيان و البيهقي في سننه عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت و لم يؤاكلوها و لم يشاربوها و لم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فأنزل الله: و يسألونك عن المحيض قل هو أذى - فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جامعوهن في البيوت و اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن خضير و عباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود قالت: كذا و كذا أ فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا أنه لم يحد عليهما.
و في الدر المنثور، عن السدي: في قوله: و يسألونك عن المحيض، قال: الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح: أقول: و روي مثله عن مقاتل أيضا.
و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله الآية، قال (عليه السلام): هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.
و في الكافي،: سئل عن الصادق (عليه السلام): ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال (عليه السلام): كل شيء ما عدا القبل بعينه.
و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): في المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها، قال (عليه السلام): إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء، قبل أن تغتسل، و في رواية: و الغسل أحب إلي.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة جدا و هي تؤيد قراءة يطهرن بالتخفيف و هو انقطاع الدم كما قيل: إن الفرق بين يطهرن و يتطهرن أن الثاني قبول الطهارة، ففيه معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأول فإنه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، و المراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، و إن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الإتيان بعد الغسل كما أفاده (عليه السلام) بقوله: و الغسل أحب إلي، لا حرمة الإتيان قبله أعني فيما بين الطهارة و التطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهي، فافهم ذلك.
و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف و الأحجار ثم أحدث الوضوء و هو خلق كريم فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و صنعه فأنزل الله في كتابه: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين.
أقول: و الأخبار في هذا المعنى كثيرة، و في بعضها: أن أول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية و جرت به السنة.
و فيه، عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل عليه حمران بن أعين و سأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرك أطال الله بقاك و أمتعنا بك: إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا و تسلو أنفسنا عن الدنيا و هون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس و التجار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هي القلوب، مرة تصعب و مرة تسهل ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما إن أصحاب محمد قالوا: يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال: فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): و لم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا و رغبتنا وجلنا و نسينا الدنيا و زهدنا حتى كنا نعاين الآخرة و الجنة و النار و نحن عندك، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، و حتى كأنا لم نكن على شيء، أ فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، و الله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، و مشيتم على الماء، و لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب أ ما سمعت قول الله عز و جل: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، و قال تعالى: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه: أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية و هو الانصراف عن الدنيا و الإشراف على ما عند الله سبحانه، و قد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى: «الذين إذا أصابتهم مصيبة»: البقرة - 156.
و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا أنكم تذنبون «إلخ»، إشارة إلى سر القدر، و هو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الأفعال و جزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الأسماء من الاقتضاءات، و سيجيء الكلام فيه في ذيل قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر - 21، و سائر آيات القدر، و قوله أ ما سمعت قول الله عز و جل: إن الله يحب التوابين «إلخ»، من كلام أبي جعفر (عليه السلام)، و الخطاب لحمران، و فيه تفسير التوبة و التطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي و إزالة قذارات الذنوب عن النفس، و رينها عن القلب، و هذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب، نظير ما ورد في قوله تعالى: «لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة - 79، من الاستدلال به على أن علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت، و الاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة.
و كما أن الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر - 21، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل إلا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، و سيجيء له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية:» آل عمران - 7.
و من هنا يستأنس ما مرت إليه الإشارة: أن المراد بالتوبة و التطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو إرجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه.
و يظهر أيضا: معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي، من قوله (عليه السلام): أنزل الله على إبراهيم (عليه السلام) الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة أشياء: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و طم الشعر، و السواك، و الخلال، و أما التي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء، و هي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، و الأخبار في كون هذه الأمور من الطهارة كثيرة، و فيها: أن النورة طهور.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية،: عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: أي شيء تقولون في إتيان النساء في أعجازهن؟ قلت بلغني أن أهل المدينة لا يرون به بأسا، قال (عليه السلام): إن اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، يعني من خلف أو قدام، خلافا لقول اليهود في أدبارهن.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام): في الآية فقال (عليه السلام): من قدامها و من خلفها في القبل.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك و قال: و إياكم و محاش النساء، و قال: إنما معنى نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي ساعة شئتم.
و فيه، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) في مثله، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها و المرأة لعبة لا تؤذى و هي حرث كما قال الله.
أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة، مروية في الكافي، و التهذيب، و تفسيري العياشي، و القمي، و هي تدل جميعا: أن الآية لا تدل على أزيد من الإتيان من قدامهن، و على ذلك يمكن أن يحمل قول الصادق (عليه السلام) في رواية العياشي عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إتيان النساء في أعجازهن قال: لا بأس ثم تلا هذه الآية: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.
أقول: الظاهر أن المراد بالإتيان في أعجازهن هو الإتيان من الخلف في الفرج، و الاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم.
و في الدر المنثور،: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة، و كانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل: «فأتوا حرثكم أنى شئتم» أي قائما و قاعدا و مضطجعا بعد أن يكون في صمام واحد.
أقول: و قد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، و قد مرت الرواية فيه عن الرضا (عليه السلام).
و قوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الإتيان في الفرج فقط، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الإتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قول أئمة أهل البيت و إن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم (عليهم السلام) إلا أنهم (عليهم السلام) لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط: قال: «إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين:» الحجر - 71، حيث عرض «(عليه السلام)» عليهم بناته و هو يعلم أنهم لا يريدون الفروج و لم ينسخ الحكم بشيء من القرآن.
و الحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبد الله بن عمر و مالك بن أنس و أبي سعيد الخدري و غيرهم: أنهم كانوا لا يرون به بأسا و كانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية حتى إن المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه.
ففي الدر المنثور، عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك على المصحف يا نافع! فقرأ حتى أتى على، نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله «نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم» الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها.
أقول: و روي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: و قال ابن عبد البر: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.
و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن راهويه و أبو يعلى و ابن جرير و الطحاوي في مشكل الآثار و ابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، الآية.
و فيه، أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني، قال: سألت مالك بن أنس عن وطي الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه.
و فيه، أيضا: أخرج الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم، قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني: وطي المرأة في دبرها ثم قرأ: نساؤكم حرث لكم، ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟ و في سنن أبي داود، عن ابن عباس قال: إن ابن عمر و الله يغفر له أوهم أنما كان هذا الحي من الأنصار و هم أهل وثن مع هذا الحي من يهود و هم أهل كتاب، و كان يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم و كان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، و ذلك أثر ما تكون المرأة، و كان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، و كان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، و يتلذذون مقبلات و مدبرات و مستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك و إلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عز و جل: نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي مقبلات و مدبرات و مستلقيات، يعني بذلك موضع الولد: أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، بطرق أخرى أيضا عن مجاهد، عن ابن عباس.
و فيه، أيضا: أخرج ابن عبد الحكم: أن الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال: أ رأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها الأعكان جمع. عكنة بضم العين: ما انطوى و ثنى من لحم البطن أ في ذلك حرث: قال: لا، قال، أ فيحرم؟ قال: لا قال: فكيف تحتج بما لا تقولون به؟ و فيه، أيضا: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا و مجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: أ لا تشفيني من آية المحيض؟ قال: بلى فاقرأ: و يسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهن من حيث أمركم الله فقال: ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم؟ فقال: أي، ويحك، و في الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا، و لكن أنى شئتم من الليل و النهار.
أقول: و استدلاله كما ترى مدخول، فإن آية المحيض لا تدل على أزيد من حرمة الإتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الأدبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على أنك قد عرفت أن آية الحرث أيضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الأدبار، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس: الاستدلال على حرمة الإتيان من محاشيهن بالأمر الذي في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله الآية، و قد عرفت فيما مر من البيان أنه من أفسد الاستدلال، و أن الآية تدل على حرمة الإتيان من محل الدم ما لم يطهرن و هي ساكتة عما دونه، و أن آية الحرث أيضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث، و المسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات.
|