بيان
تشير الآيات إلى نبذة من قصة إبراهيم (عليه السلام) و هي محاجته أباه في أمر الأصنام بما آتاه الله من الهدى الفطري و المعرفة اليقينية و اعتزاله إياه و قومه و آلهتهم فوهب الله له إسحاق و يعقوب و خصه بكلمة باقية في عقبه و جعل له و لأعقابه ذكرا جميلا باقيا مدى الدهر.
قوله تعالى: «و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا» الظاهر أن الصديق اسم مبالغة من الصدق فهو الذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول لا مناقضة بين قوله و فعله، و كذلك كان إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد في عالم وثني و هو وحده فحاج أباه و قومه و قاوم ملك بابل و كسر الآلهة و ثبت على ما قال حتى ألقي في النار ثم اعتزلهم و ما يعبدون كما وعد أباه أول يوم فوهب الله له إسحاق و يعقوب إلى آخر ما عده تعالى من مواهبه.
و قيل: إن الصديق اسم مبالغة للتصديق، و معناه: أنه كان كثير التصديق للحق يصدقه بقوله و فعله، و هذا المعنى و إن وافق المعنى الأول بحسب المال لكن يبعده ندرة مجيء صيغة المبالغة من المزيد فيه.
و النبي على وزن فعيل مأخوذ من النبإ سمي به النبي لأنه عنده نبأ الغيب بوحي من الله، و قيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره.
قوله تعالى: «إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا» ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره و ذكر نبئه و قصته كما تقدم نظيره في قوله: «و اذكر في الكتاب مريم» و أما قول من قال بكونه ظرفا لقوله: «صديقا» أو قوله: «نبيا» فهو تكلف يستبشعه الطبع السليم.
و قد نبه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أولا أن طريقه الذي يسلكه بعبادة الأصنام لغو باطل، و ثانيا أن له من العلم ما ليس عنده فليتبعه ليهديه إلى طريق الحق لأنه على خطر من ولاية الشيطان.
فقوله: «يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر» إلخ، إنكار توبيخي لعبادته الأصنام و قد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها «ما لا يسمع» إلخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول و يعطي الحجة في طي المدعى و هو أن عبادة الأصنام لغو باطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع و تمثيل التذلل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، و الأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع و لا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: «لا يسمع و لا يبصر».
و ثانيهما: أن العبادة و الدعاء و رفع الحاجة إلى شيء إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا أو يدفع عنه ضررا فيتوقف و لا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، و الأصنام لا قدرة لها على شيء فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: «و لا يغني عنك شيئا».
و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: «يا أبت» لم يكن والده و إنما كان عمه أو جده لأمه أو زوج أمه بعد وفاة والده فراجع.
و المعروف من مذهب النحاة في لفظ «يا أبت» أن التاء عوض من ياء المتكلم و مثله «يا أمت» و يختص التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت و قالت أمت.
قوله تعالى: «يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا» لما بين له بطلان عبادته للأصنام و لغويتها و كان لازم معناه أنه سالك طريق غير سوي عن جهل نبهه أن له علما بهذا الشأن ليس عنده و عليه أن يتبعه حتى يهديه إلى صراط - و هو الطريق الذي لا يضل سالكه لوضوحه - سوي هو في غفلة من أمره، و لذا نكره إذ قال: «أهدك صراطا سويا» و لم يقل: أهدك الصراط السوي كأنه يقول: إذ كنت تسلك صراطا و لا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير السوي بجهالة بل اتبعني أهدك صراطا سويا فإني لذو علم بهذا الشأن.
و في قوله: «قد جاءني من العلم» دليل على أنه أوتي العلم بالحق قبل دعوته و محاجته هذه و فيه تصديق ما قدمناه في قصته (عليه السلام) من سورة الأنعام أنه أوتي العلم بالله و مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قبل أن يلقى أباه و قومه و يحاجهم.
و المراد بالهداية في قوله: «أهدك صراطا سويا» الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب فإنه شأن الإمام و لم يجعل إماما، بعد و قد فصلنا القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: «قال إني جاعلك للناس إماما»: البقرة: 134.
قوله تعالى: «يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا» إلى آخر الآيتين الوثنيون يرون وجود الجن - و إبليس من الجن - و يعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة و القديسين من البشر، غير أنه ليس المراد بالنهي النهي عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان» الآية: يس: 60، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به و مما يأمر به عبادة غير الله.
لما دعاه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر و لا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك و تدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها في صلاح و فلاح و لا رجاء لسلامة و سعادة.
و ذلك أن عبادتها - و المستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه كل رحمة - و التقرب إليها إنما هي من الشيطان و تسويله، و الشيطان عصي للرحمن لا يأمر بشيء فيه رضاه و إنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه و سخطه و العكوف على معصيته و خاصة في أخص حقوقه و هي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته و هي الهداية إلى السعادة و ينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه و هو ولي الشيطان و هو الهلاك.
فمعنى الآيتين - و الله أعلم - يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأن الشيطان عصي مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة و نعمة فهو لا يأمر إلا بما فيه معصيته و الحرمان عن رحمته، و إنما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شيء من عذاب خذلانه و ينقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولي أمرك إلا الشيطان فتكون وليا للشيطان و الشيطان مولاك.
و قد ظهر مما تقدم: أولا: أن المراد بالعبادة في قوله: «لا تعبد الشيطان» عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخل في الحكم.
و ثانيا: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإن لوصف الرحمة المطلقة دخلا في الحكمين فإن كونه تعالى مصدرا لكل رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريته لكل رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة.
و ثالثا: أن المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أن المراد به العذاب الأخروي لا يساعد عليه السياق.
قوله تعالى: «قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا» الرغبة عن الشيء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكف عن الفعل بعد النهي، و الرجم: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و الملي: الدهر الطويل.
و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذله و هو الرجم الذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.
قوله تعالى: «قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا» الحفي على ما ذكره الراغب: البر اللطيف و هو الذي يتتبع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحدا بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفى و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه.
قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدده و فيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربه و أن يعتزلهم و ما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا.
أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم و طرده لكلمة حق قالها، قال تعالى: «و إذا مروا باللغو مروا كراما»: الفرقان: 72، و قال: «و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»: الفرقان: 63، و أما ما قيل: إنه كان سلام توديع و تحية مفارقة و هجرة امتثالا لقوله: «و اهجرني مليا» ففيه أنه اعتزله و قومه بعد مدة غير قصيرة.
و أما استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله: «يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا» إنه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه و لو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله: «إني أخاف» بل كان يحتمل أن يكون جاهلا مستضعفا لو ظهر له الحق اتبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء قال تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يجدون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا»: النساء: 99، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله: «إنه كان بي حفيا» و قوله تعالى: «إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك و ما أملك لك من الله من شيء: الممتحنة - 4.
و يؤيد ما ذكر قوله تعالى: «ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم»: التوبة: 114، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، و ليس ذلك إلا الجاهل غير المعاند.
و يؤيد هذا النظر قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى أن قال - لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» إلخ،: الممتحنة: 8.
و مما قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه و إنما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه.
و فيه: أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه.
و منها: أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته و إيمانه.
و هو كما ترى.
و منها: أن معنى «سأستغفر لك ربي» سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا.
و هو كسابقه تقييد من غير مقيد.
و منها: أنه وعد الدعاء بالمسبب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان.
و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلو عن بعد لأن في الكلام استعطافا و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمل فيه.
و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم»: إبراهيم: 36.
قوله تعالى: «و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله و أدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا» وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا و إنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء و التوجه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرد التفضل منه تعالى.
على أن الأمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء.
قوله تعالى: «فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق و يعقوب» إلى آخر الآيتين.
لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة في الشجرة الإسرائيلية و لذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من الأنبياء، و يؤيد ذلك أيضا قوله: «و كلا جعلنا نبيا».
و قوله: «و وهبنا لهم من رحمتنا» من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا»: الأنبياء: 73، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات» الآية: الأنبياء: 73 على ما سيجيء من معناه أو مطلق الولاية الإلهية.
و قوله: «و جعلنا لهم لسان صدق عليا» اللسان - على ما ذكروا - هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذم و إذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه، و العلي هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر.
|