بيان
قوله تعالى: و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا إلى آخر الآية، العرضة بالضم من العرض و هو كإرائة الشيء للشيء حتى يرى صلوحه لما يريده و يقصده كعرض المال للبيع و عرض المنزل للنزول و عرض الغذاء للأكل، و منه ما يقال للهدف: أنه عرضة للسهام، و للفتاة الصالحة للازدواج أنها عرضة للنكاح، و للدابة المعدة للسفر أنها عرضة للسفر و هذا هو الأصل في معناها، و أما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق و كذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات و تواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.
و الأيمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمعنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف و العهد و البيعة و نحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للإصبع التي يسب بها.
و معنى الآية و الله أعلم: و لا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها أيمانكم التي عقدتموها بحلفكم أن لا تبروا و تتقوا و تصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما أمر به من البر و التقوى و الإصلاح بين الناس، و يؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إن شاء الله.
و على هذا يصير قوله تعالى: أن تبروا «إلخ»، بتقدير، لا، أي أن لا تبروا، و هو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى «يبين الله لكم أن تضلوا:» النساء - 17، أي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا، و يمكن أن لا يكون بتقدير، لا، و قوله تعالى: أن تبروا، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: و لا تجعلوا، من النهي أي ينهاكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا و تتقوا و تصلحوا بين الناس، و يمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الإكثار من الحلف بالله سبحانه، و المعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أداكم إلى أن لا تبروا و لا تتقوا و لا تصلحوا بين الناس، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم ما حلف به و يصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، و كذا يهون خطبه و ينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق و يعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول، و لا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حد قوله تعالى: «و لا تطع كل حلاف مهين:» القلم - 10، و الأنسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله و لا تجعلوا، كما مر.
و في قوله تعالى: و الله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني غير أن المعنى الأول أظهرها كما لا يخفى.
قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إلى آخر الآية، اللغو من الأفعال ما لا يستتبع أثرا، و أثر الشيء يختلف باختلاف جهاته و متعلقاته، فلليمين أثر من حيث إنه لفظ، و أثر من حيث إنه مؤكد للكلام، و أثر من حيث إنه عقد و أثر من حيث حنثه و مخالفة مؤداه، و هكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين و بين المؤاخذة على ما كسبته القلوب و خاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف، و هو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شيء من قول: لا و الله و بلى و الله.
و الكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما و أصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الإنسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الإنسان بعمل من أعماله من خير أو شر ككسب المدح و الفخر و حسن الذكر بحسن الخلق و الخدمات النوعية و كسب الخلق الحسن و العلم النافع و الفضيلة بالأعمال المناسبة لها، و كسب اللوم و الذم، و اللعن و الطعن، و الذنوب و الآثام، و نحوها بالأعمال المستتبعة لذلك، فهذا هو معنى الكسب و الاكتساب، و قد قيل في الفرق بينهما إن الاكتساب اجتلاب الإنسان المنفعة لنفسه، و الكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده و كسب الولي للمولى عليه و نحو ذلك.
و كيف كان فالكاسب و المكتسب هو الإنسان لا غير.
كلام في معنى القلب في القرآن
و هذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس و الروح، فإن التعقل و التفكر و الحب و البغض و الخوف و أمثال ذلك و إن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الأذن و الإبصار إلى العين و الذوق إلى اللسان، لكن الكسب و الاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الإنسان البتة.
و نظير هذه الآية قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه:» البقرة - 283، و قوله تعالى: «و جاء بقلب منيب:» ق - 33.
و الظاهر: أن الإنسان لما شاهد نفسه و سائر أصناف الحيوان و تأمل فيها و رأى أن الشعور و الإدراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، و الحياة المدلول عليها بحركة القلب و نبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدأ الحياة هو القلب، أي أن الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب و إن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، و أن الآثار و الخواص الروحية كالإحساسات الوجدانية مثل الشعور و الإرادة و الحب و البغض و الرجاء و الخوف و أمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح، و هذا لا ينافي كون كل عضو من الأعضاء مبدأ لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر و العين للإبصار و السمع للوعي و الرئة للتنفس و نحو ذلك، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.
و ربما يؤيد هذا النظر: ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلا أنها تفقد الإدراك و لا تشعر بشيء و تبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية و وقوف القلب عن ضربانه.
و ربما أيده أيضا: أن الأبحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الأحكام البدنية أعني عرش الأوامر التي يمتثلها الأعضاء الفعالة في البدن الإنساني، إذ لا ريب أنها في عين التشتت و التفرق من حيث أنفسها و أفعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد وحدة حقيقية.
و لا ينبغي أن يتوهم أن ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن أمر الدماغ و ما يخصه من الفعل الإدراكي، فإن الإنسان قد تنبه لما عليه الرأس من الأهمية منذ أقدم الأزمنة، و الشاهد عليه ما نرى في جميع الأمم و الملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدإ الحكم و الأمر بالرأس، و اشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس و الرئيس و الرئاسة، و رأس الخيط، و رأس المدة، و رأس المسافة، و رأس الكلام، و رأس الجبل، و الرأس من الدواب و الأنعام، و رئاس السيف.
فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الإدراك و الشعور و ما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب و البغض و الرجاء و الخوف و القصد و الحسد و العفة و الشجاعة و الجرأة و نحو ذلك إلى القلب، و مرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح و كما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال: أحببته و أحبته روحي و أحبته نفسي و أحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب و أريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لأنحاء الإدراك و الأفعال و الصفات الروحية.
و في القرآن شيء كثير من هذا الباب، قال تعالى: «يشرح صدره للإسلام:» الأنعام - 125، و قال تعالى: «إنك يضيق صدرك»: الحجر - 97، و قال تعالى: «و بلغت القلوب الحناجر:» الأحزاب - 10، و هو كناية عن ضيق الصدر، و قال تعالى: «إن الله عليم بذات الصدور:» المائدة - 7، و ليس من البعيد أن تكون هذه الإطلاقات في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر و إن لم يتضح كل الاتضاح بعد.
و قد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الإدراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الإدراك و للدماغ الوساطة.
و لنرجع إلى الآية و لا يخلو قوله تعالى: و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الإضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين و هو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه و لكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره و هو الإثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي و إضراب في إضراب للإشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى: «إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله:» البقرة - 284، و قال تعالى: «و لكن يناله التقوى منكم:» الحج - 37.
و في قوله تعالى: و الله غفور حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنه مما لا ينبغي صدوره من المؤمن.
و قد قال تعالى: «و قد أفلح المؤمنون إلى أن قال و الذين هم عن اللغو معرضون:» المؤمنون - 3.
قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم «إلخ»، الإيلاء من الألية بمعنى الحلف، و غلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا و إضرارا، و هو المراد في الآية، و التربص هو الانتظار، و الفيء هو الرجوع.
و الظاهر أن تعدية الإيلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد و نحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، و يشعر به تحديد التربص بالأربعة أشهر فإنها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا، و منه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع إيقاعه، و يشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: فإن الله سميع عليم، فإن السمع إنما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.
و في قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، دلالة على أن الإيلاء لا عقاب عليه على تقدير الفيء.
و أما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة، قال تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية:» المائدة - 89.
فالمعنى أن من آلى من امرأته يتربص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حق الزوجية و هو المباشرة و كفر و باشر فلا عقاب عليه و إن عزم الطلاق و أوقعه فهو المخلص الآخر، و الله سميع عليم.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية، قال (عليه السلام): هو قول الرجل: لا و الله و بلى و الله و فيه، أيضا عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): في الآية يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه و ما أشبه ذلك أو لا يكلم أمه.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين أن لا أفعل.
أقول: و الرواية الأولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين، و الثانية و الثالثة بالمعنى الآخر، و يقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الإثم الحديث، فكان المراد أنه ينبغي أن لا يحلف بل يصلح و يحمل الإثم و الله يغفر له، فيكون مصداقا للعامل بالآية.
و في الكافي، عن مسعدة عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية، قال: اللغو قول الرجل: لا و الله و بلى و الله و لا يعقد على شيء.
أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، عنه (عليه السلام) من غير الطريق، و في المجمع، عنه و عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي، أيضا عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول و لا حق في الأربعة أشهر، و لا إثم عليه في الكف عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسها فما سكتت و رضيت فهو في حل و سعة، فإن رفعت أمرها قيل له: إما أن تفيء فتمسها و إما أن تطلق، و عزم الطلاق أن يخلي عنها، فإذا حاضت و طهرت طلقها، و هو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزل الله في كتابه و سنة رسول الله.
و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و الإيلاء أن يقول: و الله لا أجامعك كذا و كذا أو يقول: و الله لأغيظنك ثم يغاظها، الحديث.
أقول: و في خصوصيات الإيلاء و بعض ما يتعلق به خلاف بين العامة و الخاصة، و البحث فقهي مذكور في الفقه.
|