بيان
عود إلى ما قبل قوله: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» الآيتين و مضى في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا» بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم و قد خص بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوة و آخر في المبدإ.
ففي هذه الآيات أعني قوله: «و يقول الإنسان - إلى قوله - و نذر الظالمين فيها جثيا» و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.
قوله تعالى: «و يقول الإنسان ء إذا ما مت لسوف أخرج حيا» إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفار من الوثنيين و من يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الذين كفروا «إلخ»، و فيه أنه لا يلائم قوله الآتي: «فو ربك لنحشرنهم و الشياطين - إلى قوله - صليا».
و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك و قد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي و هو يذكر أن الله خلقه من قبل و لم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا: «أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا» أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.
و لعل التعبير بالمضارع في قوله: «و يقول الإنسان» للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.
قوله تعالى: «أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا» الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر: «و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة - إلى أن قال - أ و ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم»: يس: 81.
فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإن مثل الشيء غيره، قيل: إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا و شخصية الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا و تعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا و هذا كما أن شخصية الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن و تبدله بتغير أجزائه و تبدلها حالا بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.
و إلى هذا يشير قوله تعالى: «و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد - إلى أن قال - قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:» الم السجدة: 11» أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون و لا تفتقدون.
قوله تعالى: «فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا» الجثي في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنهم يحضرون زمرا و جماعات متراكما بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.
و ضمير الجمع في «لنحشرنهم» و «لنحضرنهم» للكفار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من المؤمن و الكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي: «و إن منكم إلا واردها» كذلك و فيه أن لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.
و المراد بقوله: «لنحشرنهم و الشياطين» جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال: «فسوف يلقون غيا» و الشياطين أولياؤهم قال تعالى: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين:» الحجر: 42، و قال: «إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون»: الأعراف: 27، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال: «و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين، و لن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون»: الزخرف: 39.
و المعنى: فأقسم بربك لنجمعنهم - يوم القيامة - و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلة أو و هم جماعات و زمرة زمرة.
و في قوله: «فو ربك» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و لعل النكتة فيه ما تقدم في قوله: «بأمر ربك» و نظيره قوله الآتي: «كان على ربك حتما».
قوله تعالى: «ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا» النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتي على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان و الظاهر أن قوله: «أيهم أشد على الرحمن عتيا» جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله: «أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب»: الإسراء: 57.
و المعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن و هم الرؤساء و أئمة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.
و في قوله: «على الرحمن» التفات و النكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شيء و هم لم يلقوا منه إلا الرحمة و التمرد على من هذا شأنه عظيم.
قوله تعالى: «ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا» الصلي في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.
قوله تعالى: «و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا» الخطاب للناس عامة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية: «ثم ننجي الذين اتقوا» و الضمير في «واردها» للنار، و ربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك.
و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى: «و لما ورد ماء مدين» و الورد الماء المرشح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى: «فأوردهم النار» «و بئس الورد المورود» «إلى جهنم وردا» «أنتم لها واردون» «ما وردوها» و الوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى: «فأرسلوا واردهم» أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.
و إلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلوا عليه بقوله تعالى: «و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون»: القصص: 23، و قوله: «فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه»: يوسف: 19، و قوله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها»: الأنبياء: 102.
و فيه أن استعماله في مثل قوله: «و لما ورد ماء مدين» و قوله: «فأرسلوا واردهم» في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى، و أما قوله: «أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها» فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله: «ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها»، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار: كوني بردا و سلاما على إبراهيم.
و قال آخرون و لعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها»: الأنبياء: 99، و قوله في فرعون: «يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار»: هود: 98، و يدل عليه قوله في الآية التالية: «ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا» أي نتركهم باركين على ركبهم و إنما يقال نذر و نترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه و لعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية.
و هؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتقين مدعيا أن قوله: «منكم» بمعنى منهم على حد قوله: «و سقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء»: الدهر: 22، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله: «ثم ننجي الذين اتقوا» الآية.
و فيه أن كون الورود في مثل قوله: «لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها» بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله: «فأوردهم النار» فإن شأن فرعون و هو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أما إدخالهم فيها فليس إليه.
و أما قوله: «ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها» فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله: «نذر» لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله «واردها» مستعملا في معنى الدخول و كذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.
و أما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ «واردها» في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار و إنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا»: النور: 21.
قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلا الشر و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله: «كان على ربك حتما مقضيا» فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.
و الحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللغة - فقوله: «و إن منكم إلا واردها» إنما يدل على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية: «ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا» على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.
و قوله: «كان على ربك حتما مقضيا» ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه و إنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.
قوله تعالى: «ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا» قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله: «و نذر الظالمين فيها» يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه، و أما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.
و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم.
و معنى الآيتين: ما من أحد منكم - متق أو ظالم - إلا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا» قال: فقال: لا مقدرا و لا مكتوبا.
و في المحاسن، بإسناده عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: «أ و لا يذكر الإنسان» الآية، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.
أقول: المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثم أثبته الله حين أراد كونه و أما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شيء بنص القرآن.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا» قال: قال: على ركبهم.
و فيه، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل: «و إن منكم إلا واردها» قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.
و في المجمع، عن السدي قال: سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه.
و فيه، و روى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومىء بإصبعيه إلى أذنيه و قال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر حتى يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال: لجهنم ضجيجا من بردها ثم ينجي الله الذين اتقوا و يذر الظالمين فيها جثيا.
أقول: و الرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة.
و فيه، و روي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
و فيه، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه سئل عن المعنى فقال: إن الله يجعل النار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.
أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الكتب و الجوامع،، غير أنه لم يذكر في الرواية الثانية - فيما عندنا من نسخة الدر المنثور، - قوله: الورود الدخول.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال: لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة لكم و لكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية «و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا» فقد علمت أني وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟.
و اعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنه حمل الآية عليه.
و قال في مجمع البيان،: و قيل: إن الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار: أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها، و لا يدخل أحدا النار حتى يطلعه على الجنة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنة و نعيمها.
انتهى.
كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه و عدم جوازه على الله سبحانه
قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: «و لا يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26 في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنه يملك كل شيء ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض و أن كل شيء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شيء مما يتعلق به.
فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لأن القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة و أما إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة و لا يوجد في المجتمع الإنساني ملك مطلق و لا حرية مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الإنسان لو تعداه و يقبح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله.
و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد و لا محدود على ما يدل عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكل شيء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكل شيء لم يستقم حكمه في كل شيء و لا قضاؤه عند كل واقعة، و الاستدلال على محدودية ملكه تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل ذم عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشيء بحكم ما يباينه.
على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كل شيء و إن شئت فقل: كون كل شيء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شيء من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شيء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي و حق مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الإيجاد كعناوين المعاصي التي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقق شيء من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه.
و يتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم أو يجوز و بالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف و مآله إلى مملوكية ذاته و هو محال.
و ما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ و من الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكما لذاته بل لغيره هف.
و إن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي و لا موجود واقعي و إنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجية عاد الأمر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مر بطلانه.
و إما أمر حقيقي موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلا من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر و أنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة أخرى ينتهي الأمر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلا من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره و هو العدل مثلا واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.
فقد اتضح بهذا البحث أمور: الأول: أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: «فعال لما يريد»: البروج: 16، و قال: «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41 غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا.
و معنى كونه تعالى مشرعا آمرا و ناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسماة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال و أعمال هي الملاءمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهزة و الأوضاع و الأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل: تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة.
و هذه القوانين التي تهتف بها الفطرة و يعلمها الوحي السماوي هي الشريعة و إذ هي تنتهي إليه تعالى فالأمر الذي فيها أمره و النهي الذي فيها نهيه و كل حكم فيها حكمه، و فيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و أمور يستقبحها و يستشنعها و يذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا.
فلا ضير في وجوب شيء عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على نفسه، و هذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أن من سنته تعالى التكوينية أن يريد و يفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و إن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.
الثاني: أن هذا الوجوب تشريعي و هناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع عنها معنى العدل.
و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا و قرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلا لكنه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكنا بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقية كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا.
و المغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات و ليس إلا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمرا عينيا و قد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم تأثير غير الذات الواجبية فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشإ انتزاعها.
و المغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن أخذت جزءا من العلة التامة و إنما تتم بانضمام أمر أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا و إن كان بالنسبة إلى علته التامة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريا لا ممكنا.
و الثالث: أن قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقلي، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم قائلين إن من شأنه الإدراك دون الحكم.
و ذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكي بعينه فعلا للعقل قائما به و هو معنى الحكم و القضاء، و أما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء.
|