بيان
هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا و لو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة و جمال و زينة، فالذي هم عليه من الكفر و قد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون و قد غشيهم رثاثة الحال و فقد المال و عسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: «و كم أهلكنا» إلخ، و قوله: «قل من كان في الضلالة» إلخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.
قوله تعالى: «و إذا تتلى عليهم آياتنا» إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، و الندي هو المجلس و قيل خصوص مجلس المشاورة، و معنى «قال الذين كفروا للذين آمنوا» أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، و قيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم و صرفهم عن الإيمان، و الأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار و المؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله: «قال الذين كفروا» من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.
و قوله: «أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا» أي للاستفهام و الفريقان هما الكفار و المؤمنون، و كان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما و أحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد و الفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال و كنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد و ارتياب.
و المعنى: و إذا تتلى على الناس - و هم الفريقان الكفار و المؤمنون - آياتنا و هي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم و هم الذين كفروا للفريق الآخر و هم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن و أحسن من حيث المجلس - و لا محالة هم الكفار - يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم و ملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه.
قوله تعالى: «و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا و رءيا» القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، و الأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير و لا واحد له من لفظه، و الرئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر و ليس بالمصدر و إنما المصدر الرأي و الرؤية يدل على ذلك قوله: «يرونهم مثليهم رأي العين» فالرأي: الفعل، و الرئي: المرئي كالطحن و الطحن و السقي و السقي و الرمي و الرمي.
انتهى.
و لما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم و بطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما و أحسن نديا في الدنيا و قد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها و إنما سعادته في سعادتها و الأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له و لا أنها تغني عنه شيئا.
على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة و لا تقيه من غضب الله إن حل به يوما و ما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله و لا طيب في عيش يهدده الهلاك و لا في نعمة كانت في معرض النقمة و الخيبة.
أشار إلى الجواب عنه بقوله: «و كم أهلكنا قبلهم» و الظاهر أن الجملة حالية و كم خبرية لا استفهامية، و المعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية - نحن خير منكم مقاما و أحسن نديا - استخفافا للمؤمنين و الحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة و المناظر.
و قد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون و عقبه بحديث غرقه و هلاكه، قال: «و نادى فرعون في قومه قال يا قوم أ ليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي أ فلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين و لا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب - إلى أن قال - فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا و مثلا للآخرين»: الزخرف: 56.
قوله تعالى: «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا» إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله: «من كان في الضلالة» تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، و بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد و الاستدراج الذي هو إضلال بعد الضلال.
و قوله: «فليمدد» صيغة أمر غائب و يئول معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشيء معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه.
و المد و الأمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أن أكثر ما جاء الأمداد في المحبوب و المد في المكروه و المراد أن من استقرت عليه الضلالة و استمر هو عليها - و المراد به الكفار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة و المباهتة فيظهر له الحق عند ذلك و لن ينتفع به.
فقوله: «حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب و إما الساعة فسيعلمون» إلخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام و المراد به أن ينصرف عن الحق و اتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به و هو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.
كما قال تعالى: «فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده»: المؤمن: 85، و قال: «يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا»: الأنعام: 158.
و في إرجاع ضمير الجمع في قوله: «رأوا ما يوعدون» إلى «من» رعاية جانب معناه كما أن في إرجاع ضمير الإفراد في قوله: «فليمدد له» إليه رعاية جانب لفظه.
و قوله: «فسيعلمون من هو شر مكانا و أضعف جندا» قوبل به قولهم السابق: «أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا» أما مكانهم حين يرون العذاب - و الظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله و قد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم و أما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، و أما ضعف جندهم فلأنه لا عاصم لهم اليوم من الله و يعود كل ما هيئوه لأنفسهم من عدد و عدة سدى لا أثر له.
قوله تعالى: «و يزيد الله الذين اهتدوا هدى» إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة التي تبقى محفوظة عند الله و تستعقب جميل الشكر و عظيم الأجر و قد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.
و الثواب جزاء العمل قال في المفردات،: أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - و الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو - إلى أن قال - و الثواب يقال في الخير و الشر لكن الأكثر المتعارف في الخير.
انتهى و المرد اسم مكان من الرد و المراد به الجنة.
و الآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة و تذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة و تنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به و هؤلاء أحد الفريقين في قولهم: «أي الفريقين خير مقاما» إلخ.
و هذه الآية تبين حال الفريق الآخر و هم المؤمنون و أن الله سبحانه يمد المهتدين منهم و هم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة و هي خير أجرا و خير دارا و هي الجنة و دائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة و هي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.
و في قوله: «عند ربك» إشارة إلى أن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب و مرد حكم إلهي لا يخطىء و لا يغلط البتة.
و هاتان الآيتان - كما ترى - جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم: «أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا».
قوله تعالى: «أ فرأيت الذي كفر بآياتنا و قال لأوتين مالا و ولدا» كما أن سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق و استغواء و استخفافا للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع و قد افتتحت بكلمة التعجيب و اشتملت بقول يشبه القول السابق و اختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم و لحق بهم قائلا لأوتين مالا و ولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كان في الإيمان بالله شؤما و في اتخاذ الآلهة ميمنة.
فرده الله سبحانه بقوله: «أطلع الغيب» إلخ.
و أما ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الأرت حين طالبه دينا كان له عليه، و أن معنى الجملة لأوتين مالا و ولدا في الجنة فأؤدي ديني فشيء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لأوتين مالا و ولدا إذا بعثت و عند ذلك أؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء و التهكم و لا معنى لرد الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: «أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا» إلخ.
و نظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الآية عامة فيمن له هذه الصفة.
فقوله: «أ فرأيت الذي كفر بآياتنا» مسوق للتعجيب، و كلمة «أ فرأيت» كلمة تعجيب و قد فرعه بفاء التفريع على ما تقدمه من قولهم: «أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا» لأن كفر هذا القائل و قوله: «لأوتين مالا و ولدا» من سنخ كفرهم و مبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء و سعادة الحياة و عزة الدنيا و نعمتها و لا خير إلا ذلك عند الكفار و في ملتهم.
و من هنا يظهر أن لقوله: «و قال لأوتين مالا و ولدا» نوع ترتب على قوله «كفر بآياتنا» و أنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزة و القدرة و ترزقه الخير و السعادة في الدنيا و قد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم و نون التأكيد في قوله: «لأوتين».
قوله تعالى: «أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا» رد سبحانه عليه قوله: «لأوتين مالا و ولدا بكفري» بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله و لا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه في ذلك، و قد جيء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاري.
قوله تعالى: «كلا سنكتب ما يقول و نمد له من العذاب مدا» كلا كلمة ردع و زجر و ذيل الآية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب إيتاء المال و الولد على الكفر بآيات الله و محصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال و الولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره و رجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لأنه هو تبعة قوله لا إيتاء المال و الولد و سنكتب قوله و نرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالآية نظيرة قوله: «فليدع ناديه سندع الزبانية»: العلق: 18.
و من هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير، على أن قوله الآتي: «و نرثه ما يقول» لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: «و نرثه ما يقول و يأتينا فردا» المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت و يفنى و يترك قوله: لأوتين بكفري مالا و ولدا، و قد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.
و قوله: «و يأتينا فردا» أي وحده و ليس معه شيء مما كان ينتصر به و يركن إليه بحسب وهمه فمحصل الآية أنه سيأتينا وحده و ليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال و نمد له من العذاب مدا.
هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الآيات «لأوتين مالا و ولدا» ناظرا إلى الإيتاء في الدنيا، و أما بناء على كونه ناظرا إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسروها تعجب من الذي كفر بآياتنا و هو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة و قال: أقسم لأوتين إذا بعثت مالا و ولدا في الجنة، أ علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة؟ - و قيل: أ نظر في اللوح المحفوظ - أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا الله حتى يدخل به الجنة - و قيل: أ قدم عملا صالحا كلا و ليس الأمر كما قال - سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله و نمد له من العذاب مدا و نرثه ما يقول أي ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إياه و إبطالنا ملكه و يأتينا أي يأتي الآخرة فردا ليس عنده شيء من مال و ولد و عدة و عدد.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «أ فرأيت الذي كفر بآياتنا - و قال لأوتين مالا و ولدا» إنه العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي و كان أحد المستهزءين، و كان لخباب بن الأرت على العاص بن وائل حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: أ لستم تزعمون أن في الجنة الذهب و الفضة و الحرير؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني و بينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و الترمذي و البيهقي في الدلائل و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و ابن مردويه عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلا قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا و الله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا و الله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني و لي ثم مال و ولد فأعطيك فأنزل الله: «أ فرأيت الذي كفر بآياتنا إلى قوله و يأتينا فردا».
أقول: و روى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب.
و أيضا عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يسم خبابا و أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة.
و قد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإن الروايات صريحة في أن الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء و السخرية على أن النقل القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث و النشور.
ثم الآيات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج و لو كانت كلمة استهزاء من غير جد لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي و إلا كان هزلا فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.
و لو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: «لأوتين مالا و ولدا» على وجه الإلزام و التبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه و كفاه أن يقول لأوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال و ولد و لم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأن في الجنة توالدا و تناسلا و لا وقعت في شيء من القرآن إشارة إلى ذلك.
هذا أولا.
و لم يكن للقسم و التأكيد البالغ في قوله: «لأوتين» وجه إذ الإلزام و التبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد.
و هذا ثانيا.
و لم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله «لأوتين» من دون أن يقيده بالجنة أو الآخرة دفعا للبس نكتة ظاهرة.
و هذا ثالثا.
و لم يصلح للرد عليه و إبطاله إلا قوله تعالى: كلا سنكتب ما يقول و نمد له من العذاب» إلى آخر الآيتين، و أما قوله: «أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا» فغير وارد عليه البتة إذ الإلزام و التبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى يتوقف عن منشإ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب و إنما على التزام الخصم الذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه.
و هذا رابعا.
و اعلم أنه ورد في ذيل قوله: «و الباقيات الصالحات» الآية أخبار عن النبي و أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و قد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائي في ذيل الآية 46 من سورة الكهف.
|