بيان
شروع في قصة موسى (عليه السلام) و قد ذكرت في السورة فصول أربعة منها و هي: اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى و أمره بدعوة فرعون.
ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد و إرسال بني إسرائيل معه و إقامته الحجة و إيتاؤه المعجزة.
ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر و تعقيب فرعون و غرقه و نجاة بني إسرائيل.
ثم عبادة بني إسرائيل العجل و ما انتهى إليه أمرهم و أمر السامري و عجله، و قد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها.
و وجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكرة بالتوحيد و وعيد بالعذاب فالقصة تبتدىء بوحي التوحيد و تنتهي بقول موسى: «إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو» الآية و تذكر هلاك فرعون و طرد السامري و قد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى و انتهت إلى مثل قوله: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى».
قوله تعالى: «و هل أتاك حديث موسى» الاستفهام للتقرير و الحديث، القصة.
قوله تعالى: «إذ رءا نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا» إلى آخر الآية المكث اللبث، و الإيناس إبصار الشيء أو وجدانه و هو من الأنس خلاف النفور و لذا قيل: إنه إبصار شيء يؤنس به فيكون إبصارا قويا، و القبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود و نحوه و الهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، و المراد - على أي حال - من قام به الهداية.
و سياق الآية و ما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر و معه أهله و هم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة و قد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق و إلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.
و في قوله: «قال لأهله امكثوا» إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: «إني آنست نارا» مع ما يشتمل عليه من التأكيد و التعبير بالإيناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله و يؤيد ذلك قوله أيضا أولا: «إذ رءا نارا»، و كذا قوله: «لعلي آتيكم» إلخ يدل على أن في الكلام حذفا و التقدير امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.
قوله تعالى: «فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك - إلى قوله - طوى» طوى اسم لواد بطور و هو الذي سماه الله سبحانه بالواد المقدس، و هذه التسمية و التوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: «إني أنا ربك» يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب و موطن الحضور و المناجاة فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك و أنت بمحضر مني و قد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب و اخلع نعليك.
و على هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة و الأزمنة كالكعبة المشرفة و المسجد الحرام و سائر المساجد و المشاهد المحترمة في الإسلام و الأعياد و الأيام المتبركة فإنما ذلك قدس و شرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك و عبادة مقدسة شرعت فيها و إلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان و لا بين أجزاء الزمان.
و لما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: «يا موسى إني أنا ربك» فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه و الكلام كلامه و ذلك أنه كان وحيا منه تعالى و قد صرح تعالى بقوله: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء»: الشورى: 51، أن لا واسطة بينه تعالى و بين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي و إذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه و لا توهمه إلا الله و لم يجد الكلام إلا كلامه و لو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الإنسان و بين ربه غيره.
و هذا حال النبي و الرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة و الرسالة لم يختلجه شك و لا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة و لو افتقر إلى شيء من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.
فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: «و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا».
و قوله في موضع آخر: «من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة» يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).
قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة و إنما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام و احتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا و وحيا من الملك، و إن التفت إليه تعالى كان وحيا منه و إن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، و من الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: «فاستمع لما يوحى» فسماه وحيا، و قد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.
و بالجملة قوله: «إني أنا ربك فاخلع نعليك» إلخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور و مقام المشافهة و قد خلى به و خصه من نفسه بمزيد العناية، و لذا قيل: إني أنا ربك، و لم يقل: أنا الله أو أنا رب العالمين، و لذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا: «إني أنا الله» تكرار، لأن الأول تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، و الثاني من الوحي.
و في قوله: «نودي» حيث طوي ذكر الفاعل و لم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، و فيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجاة.
قوله تعالى: «و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى» الاختيار مأخوذ من الخير، و حقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.
فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية إلهية و هي إعطاء النبوة و الرسالة و يشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار «فاستمع لما يوحى» فقد تعلقت المشية الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة و الرسالة و كان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره و أصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).
و قوله: «و أنا اخترتك» على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوته و رسالته فهو إنشاء لا إخبار، و لو كان إخبارا لقيل: و قد اخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة و الرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته و رسالته فقال: «فاستمع لما يوحى» و الاستماع لما يوحى الإصغاء إليه.
قوله تعالى: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري» هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة و الرسالة معا أما النبوة ففي هذه الآية و الآيتين بعدها، و أما الرسالة فتؤخذ من قوله «و ما تلك بيمينك يا موسى» و تنتهي في قوله: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» و قد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا»: مريم: 51.
و قد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا و هما ركن الاعتقاد و ركن العمل، و أصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد و النبوة و المعاد و قد ذكر منها التوحيد و المعاد و طوي عن النبوة لأن الكلام مع النبي نفسه و أما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: «فاعبدني» فتمت بذلك أصول الدين و فروعه في ثلاث آيات.
فقوله: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا» عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال: إنني أنا الله و لم يقل: إن الله هو أنا لأن مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشيء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: «إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخي» و اسم الجلالة و إن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى «الله» فالمتكلم حاضر مشهود و المسمى باسم «الله» كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.
و قوله: «لا إله إلا أنا فاعبدني» كلمة التوحيد مرتبة على قوله: «إنني أنا الله» لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شيء و به يقوم و إليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الإله المعبود بالحق لا إله غيره و لذا فرع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال: «فاعبدني».
و قوله: «و أقم الصلاة لذكري» خص الصلاة بالذكر - و هو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه - لأن الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي و يتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.
و على هذا المعنى فقوله: «لذكري» من إضافة المصدر إلى مفعوله و اللام للتعليل و هو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع و اشرب لتروي و هذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.
و قد تكاثرت الأقوال في قوله: «لذكري» فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم و قيل: بالصلاة، و قيل: بقوله: «فاعبدني» ثم اللام قيل: للتعليل، و قيل للتوقيت و المعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: «أقم الصلوة لدلوك الشمس»: الإسراء: 78.
ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة، و قيل الذكر القلبي الذي يقارنها و يتحقق بها أو يترتب عليها و يحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، و قيل: المراد الأعم من القلبي و القالبي.
ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، و قيل: من إضافة المصدر إلى فاعله و المراد صل لأن أذكرك بالثناء و الإثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية و أمري بها.
و قيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، و المعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، و قيل: لا قصر.
و قيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، و المراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، و قيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ و إن كان حقا في نفسه.
و قيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها و الكلام على تقدير مضاف و الأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فأطلق المسبب و أريد به السبب إلى غير ذلك و الوجوه الحاصلة بين غث و سمين.
و الذي يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.
قوله تعالى: «إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى» تعليل لقوله في الآية السابقة: «فاعبدني» و لا يناقض ذلك كون «فاعبدني» متفرعا على كلمة التوحيد المذكورة قبله لأن وجوب عبادته تعالى و إن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله و يتميز فيه المحسن من المسيء و المطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا و الأمر و النهي سدى لا أثر لهما، و لذلك كانت مقضية قضاء حتما و تكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.
و قوله: «أكاد أخفيها» ظاهر إطلاق الإخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها و أكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة و أشد في المفاجاة و لا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: «لا تأتيكم إلا بغتة»: الأعراف: 187، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة و المعصية، و أصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار و لو أخفي و كتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.
و قيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي و هو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شيء، قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ و عزي إلى الرواية.
و قوله: «لتجزى كل نفس بما تسعى» متعلق بقوله: «آتية» و المعنى واضح.
قوله تعالى: «فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها و اتبع هواه فتردى» الصد الصرف، و الردى الهلاك، و الضميران في «عنها» و «بها» للساعة، و معنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن و هو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، و كذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.
و قوله: «و اتبع هواه» كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: «من لا يؤمن بها» أي إن عدم الإيمان بها مصداق اتباع الهوى و إذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام علية الهوى لعدم الإيمان بها، و استفيد من ذلك بالالتزام أن الإيمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى و المنجي من الردى.
فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية و الجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الإيمان بها و ذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها و يعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.
و لعل الإتيان في قوله: «و اتبع هواه» بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الإيمان.
قوله تعالى: «و ما تلك بيمينك يا موسى» شروع في وحي الرسالة و قد تم وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية و الاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى و كانت عصاه، ليسميها و يذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).
و الظاهر أن المشار إليه بقوله: «تلك» العودة أو الخشبة، و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و ما ذلك بجعل المشار إليه هو الشيء لمكان التجاهل بكونها عصا و إلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: «فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر:» الأنعام: 78.
و يمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها و حقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف و الخواص و يؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا و خواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه و هي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها و خواصها، و هذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: «القارعة ما القارعة و ما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث»: القارعة: 4، و قوله: «الحاقة ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة:» الحاقة: 3.
قوله تعالى: «قال هي عصاي أتوكأ عليها و أهش بها على غنمي و لي فيها مآرب أخرى» العصا معروفة و هي من المؤنثات السماعية، و التوكي و الاتكاء على العصا الاعتماد عليها، و الهش هو خبط ورق الشجرة و ضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، و المآرب جمع مأربة مثلثة الراء و هي الحاجة، و المراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها.
و معنى الآية ظاهر.
و إطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا و خواصها قيل: لأن المقام و هو مقام المناجاة و المسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة و لذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة و هذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.
و قد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام و جوابه و ليس الكلام عليه من باب الإطناب و خاصة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: «و لي فيها مآرب أخرى».
قوله تعالى: «قال ألقها يا موسى - إلى قوله - سيرتها الأولى» السيرة الحالة و الطريقة و هي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.
أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه و هو قوله: «قال ألقها يا موسى» فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد و جلادة و ذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له و هو قوله: «فألقاها فإذا هي حية تسعى» و قد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله: «رآها تهتز كأنها جان»: القصص: 31، و عبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: «فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين»: الأعراف: 107، الشعراء: 32 و الثعبان: الحية العظيمة.
و قوله: «قال خذها و لا تخف سنعيدها سيرتها» أي حالتها «الأولى» و هي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية و قد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: «فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب يا موسى أقبل و لا تخف»: القصص: 31، و الخوف و هو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب و اضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف و الأنبياء (عليهم السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39.
قوله تعالى: «و اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى» الضم الجمع، و الجناح جناح الطائر و اليد و العضد و الإبط و لعل المراد به المعنى الأخير ليئول إلى قوله في موضع آخر: «أدخل يدك في جيبك» و السوء كل رداءة و قبح قيل: كني به في الآية عن البرص و المعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.
و قوله: «آية أخرى» حال من ضمير تخرج و فيه إشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى و اليد البيضاء آية أخرى و قال تعالى في ذلك: «فذانك برهانان من ربك إلى فرعون و ملإيه»: القصص: 32.
قوله تعالى: «لنريك من آياتنا الكبرى» اللام للتعليل و الجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.
قوله تعالى: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» هذا هو أمر الرسالة و كانت الآيات السابقة: «و ما تلك بيمينك» إلخ مقدمة له.
قوله تعالى: «قال رب اشرح لي صدري - إلى قوله - إنك كنت بنا بصيرا» الآيات - و هي إحدى عشرة آية - متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة و هي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و إدارة أمورهم لا في أمر النبوة.
و يؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقي إليه قوله: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» و هو أمر الرسالة.
نعم الآيات الأربع الأول: «رب اشرح لي صدري» إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة و هي تلقي عقائد الدين و أحكامه العملية عن ساحة الربوبية.
فقوله: «رب اشرح لي صدري» و الشرح البسط و الجملة من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية كأن صدر الإنسان و قد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة و الإدراك ثم يختزن فيه السر و إذا كان أمرا عظيما يشق على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه و احتاج إلى انشراح حتى يسعه.
و قد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة و قد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة و القوة و على رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته و ينادي أنا ربكم الأعلى، و كان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف و الإسارة بين آل فرعون ثم الجهل و انحطاط الفكر، و كان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد و المصائب و يشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة من الفظائع و الفجائع و هو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم و يأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي و استقائه في ماء مدين و في لسانه - و هو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة و التبليغ - عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.
فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة و لما ستستقبله من العظائم و الشدائد في مسيره في الدعوة فقال: «رب اشرح لي صدري.
ثم قال: «و يسر لي أمري» و هو الأمر الذي قلده من الرسالة و لم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته و يتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة و إنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر و الخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده و الدليل على ذلك قوله: «و يسر لي».
و وجه الدلالة أن قوله: «لي» و المقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: و يسر لي، و أنا الذي أوقفتني هذا الموقف و قلدتني ما قلدتني أمري الذي قلدتنيه و من المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، و نظير الكلام يجري في قوله: «اشرح لي» فمعناه اشرح لي و أنا الذي أمرتني بالرسالة و قبالها شدائد و مكاره «صدري» حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي و دهمتني، و لو قيل: رب اشرح صدري و يسر أمري فاتت هذه النكتة.
و قوله: «و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي» سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه و التنكير في «عقدة» للدلالة على النوعية فله وصف مقدر و هو الذي يلوح من قوله: «يفقهوا قولي» أي عقدة تمنع من فقه قولي.
و قوله: «و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي» سؤال له آخر و هو رابع الأسئلة و آخرها، و الوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، و قيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لأن الملك يلتجىء إليه في آرائه و أحكامه.
و بالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله و يبينه أنه هارون أخي و إنما يسأل ذلك لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير و يكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى و هذا معنى قوله - و هو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا - «اشدد به أزرى و أشركه في أمري».
فمعنى قوله: «و أشركه في أمري» سؤال إشراك في أمر كان يخصه و هو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه و لا يشاركه فيه أحد سواه و لا له أن يستنيب فيه غيره و أما تبليغ الدين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين و على العالم أن يبلغ الجاهل و على الشاهد أن يبلغ الغائب و لا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه و أخاه و كل من آمن به من الإرشاد و التعليم و البيان و التبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه و سائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة و حجية الكلمة.
و أما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك و إنما كان يخاف التفرد في التبليغ و إدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك، و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: «و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني»: القصص: 34.
على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) و لم يكن نبيا.
و قوله: «كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا» ظاهر السياق و قد ذكر في الغاية تسبيحهما معا و ذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا و ذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة و هي شرح صدره و تيسير أمره و حل عقدة من لسانه و يترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح و الذكر تنزيههما معا لله سبحانه و ذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه و يذكراه معا بين الناس في مجامعهم و نواديهم و أي مجلس منهم حلا فيه و حضرا فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله و رفض الشركاء.
و بذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الأمر خطير و قد غر هذا الطاغية و ملأه و أمته عزهم و سلطانهم و نشب الشرك و الوثنية بأعراقه في قلوبهم و أنساهم ذكر الله من أصله و قد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزة فرعون و شوكة ملئه و اندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون و ارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله و لا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة و الدعوة في نجاحه و مضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا و إلى ذكرك بالربوبية و الألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا و هذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي و أيدني به و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا لعل السعي ينجع و الدعوة تنفع.
و بهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: «كي نسبحك» إلخ، بما تقدمه.
و ثانيا: وجه ورود قوله: «كثيرا» مرتين و أنه ليس من التكرار في شيء إذ كل من التسبيح و الذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، و لو قيل كي نسبحك و نذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين و هو غير مراد.
و ثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الآلهة من دون الله و إبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، و هو المراد بالذكر، موقعها.
فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، و قد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها و لا في نقلها.
و قوله: «إنك كنت بنا بصيرا» هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: «كي نسبحك كثيرا» إلخ، أي أنك كنت بصيرا بي و بأخي منذ خلقتنا و عرفتنا نفسك و تعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح و الذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي و أيدتني به و أشركته في أمري تم أمر الدعوة و سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و المراد بقوله «بنا» على هذا هو و أخوه.
و يمكن أن يكون المراد بالضمير في «بنا» أهله، و المعنى: أنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح و ذكر فإن جعلت هارون أخي، و هو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و هذا الوجه أحسن من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق: «و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي» أيضا فافهم ذلك.
قوله تعالى: «قال قد أوتيت سؤلك يا موسى» إجابة لأدعيته جميعا و هو إنشاء نظير ما مر من قوله: «و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى».
قوله تعالى: «و لقد مننا عليك مرة أخرى - إلى قوله - كي تقر عينها و لا تحزن» يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.
ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منه على موسى.
فقوله: «و لقد مننا عليك مرة أخرى» امتنان بما صنعه به أول عمره و قد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبىء عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و رد مكره إليه و تربية عدوه في حجره، و أما موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال: «يا موسى إني أنا ربك» إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له.
و قوله: «إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى» المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: «و أوحى ربك إلى النحل»: النحل: 68، و أما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن و لا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى»: يوسف: 109 و قوله: «أن اقذفيه في التابوت» إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و «أن» للتفسير، و قيل: مصدرية متعلق بأوحي و التقدير أوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدرية و الجملة بدل من: «ما يوحى».
و التابوت الصندوق و ما يشبهه و القذف الوضع و الإلقاء و كأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليم إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليم البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل شاطىء البحر و جانبه من البر، و الصنع و الصنيعة الإحسان.
و قوله: «فليلقه اليم» أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه و مفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، و كذا قوله: «يأخذه عدو لي» إلخ و هو جزاء مترتب على هذا الأمر.
و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا أمك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليم و البحر و هو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطىء يأخذه عدو لي و عدو له و هو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.
و قوله: «و ألقيت عليك محبة مني و لتصنع على عيني» ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: «و لا تحزن» فصل ثان تال للفصل السابق متمم له و المجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: «و لقد مننا عليك مرة أخرى».
فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدو الله و عدوه و الفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه و استقراره في حجرها لتقر عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: «فرددناه إلى أمه كي تقر عينها و لا تحزن و لتعلم أن وعد الله حق»: القصص: 13، و لازم هذا المعنى كون الجملة أعني قوله: «و ألقيت عليك» إلخ، معطوفا على قوله: «أوحينا إلى أمك».
و معنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية و في تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها.
و اللام في قوله: «و لتصنع على عيني» للغرض، و الجملة معطوفة على مقدر و التقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك.
و ربما قيل: إن المراد بقوله: «و لتصنع على عيني» الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه و جعل تربيته في حجرها.
و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.
و قوله: «إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها و لا تحزن» الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله: «و لتصنع» و المعنى: و ألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرأى مني و تحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر و لا تحزن.
و قوله: «فرجعناك» بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلم بالغير و ليس بالتفات.
قوله تعالى: «و قتلت نفسا فنجيناك من الغم إلى آخر الآية، إشارة إلى من أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين و هو قصة قتله (عليه السلام) القبطي و ائتمار الملإ أن يقتلوه و فراره من مصر و تزوجه هناك ببنت شعيب النبي و بقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، و القصة مفصلة مذكورة في سورة القصص.
فقوله: «و قتلت نفسا» هو قتله القبطي بمصر، و قوله: «فنجيناك من الغم» و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب و ورد عليه و قص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
و قوله: «و فتناك فتونا» أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختبارا، قال الراغب من المفردات،: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال: «يوم هم على النار يفتنون» «ذوقوا فتنكم» أي عذابكم، قال: و تارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: «ألا في الفتنة سقطوا» و تارة في الاختبار، نحو: «و فتناك فتونا» و جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة و رخاء و هما في الشدة أظهر معنى و أكثر استعمالا و قد قال فيهما: «و نبلوكم بالشر و الخير فتنة» انتهى موضع الحاجة من كلامه.
و قوله: «فلبثت سنين في أهل مدين» متفرع على الفتنة.
و قوله: «ثم جئت على قدر يا موسى» لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر و هو ما حصله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين.
و على هذا فمجموع قوله: «و قتلت نفسا فنجيناك» - إلى قوله - يا موسى» من واحد و هو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعلية الكمال.
و ربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، و الوجهان مبنيان على فصل قوله: «فلبثت» إلى آخر الآية عما قبله و لذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: «فلبثت سنين في أهل مدين» الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، و فيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.
و قال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير و المراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أن القدر و القدر بسكون الدال و فتحها - كما صرحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد.
على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين.
و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر و هي سخيفة لا جدوى فيها.
و ختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.
قوله تعالى: «و اصطنعتك لنفسي» الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقق إحسانه إليه و ثبته فيه، و نقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه.
انتهى.
و على هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه و يظهر موقع قوله: «لنفسي» أتم ظهور و أما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، و المعنى على أي حال و جعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا و ينطبق ذلك على قوله: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا»: مريم: 51.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إن المراد بقوله: «لنفسي» لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.
و يظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم و من الممكن أن يكون معطوفا على قوله: «جئت على قدر» عطف تفسير.
و الاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، - فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.
و فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد اللطف و تقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: «و اصطنعتك لنفسي».
قوله تعالى: «اذهب أنت و أخوك بآياتي و لا تنيا في ذكري» تجديد للأمر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا.
و أمرهما أن يذهبا بآياته و لم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أما القول بأن المراد هما الآيتان و الجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيرة مما لا ينبغي الركون إليه.
و قوله: «و لا تنيا في ذكري» نهي عن الوني و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل.
قوله تعالى: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى» جمعهما في الأمر ثانيا فخاطب موسى و هارون معا و كذلك في النهي الذي قبله في قوله: «و لا تنيا» و قد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: «اذهب أنت و أخوك» و ليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف و يؤيده سياق قوله بعد: «قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا» إلخ.
و المراد بقوله: «فقولا له قولا لينا» المنع من أن يكلماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة.
و قوله: «لعله يتذكر أو يخشى» رجاء لتذكره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا و التزاما لما تقتضيه حجة المذكر و إيمانه به و الخشية من مقدمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.
و استدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا إلى أن «لعل» من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس و قدماء المفسرين فالآية تدل على تحتم وقوع أحد الأمرين التذكر أو الخشية و هو مدار النجاة.
و فيه أنه ممنوع و لا تدل عسى و لعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره و هو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدس و إنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف و اطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا و كذا و أما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم و ربما قام بمقام التخاطب.
و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض.
و هو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الإرسال وجه صحة الأمر بالشيء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشيء أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و إنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة و الائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أما المجبرة - و هو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة و قطع المعذرة.
و إن كان المراد بسر الإرسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:» الإسراء: 82، و لو ألغي التكميل في جانب الشقاء لغا الامتحان فيه فلم تتم الحجة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتم الحجة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر.
قوله تعالى: «قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى» الفرط التقدم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترىء عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: «قال خذها و لا تخف».
و استشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: «سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما»: القصص: 35»، يدل على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله «سنشد عضدك بأخيك» فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.
و أجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك.
«و لهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون»: الشعراء - 14، و الذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدم.
على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معا في هذا المورد، و قد تقدم احتمال أن يكون قوله: «اذهبا إلى فرعون» إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.
قوله تعالى: «قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى» أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: «لا تخافا» تأمين، و قوله: «إنني معكما أسمع و أرى» تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلا فنفس الحضور و العلم يعم جميع الأشياء و الأحوال.
و قد استدل بعضهم بالآية على أن السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: «إنني معكما» دال على العلم و لو دل «أسمع و أرى» عليه أيضا لزم التكرار و هو خلاف الأصل.
و هو من أوهن الاستدلال، أما أولا: فلما عرفت أن مفاد «إنني معكما» هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم.
و أما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة.
و أما ثالثا: فلأن المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.
قوله تعالى: «فأتياه فقولا إنا رسولا ربك» إلى آخر الآية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بين تمام ما يكلفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أولا لموسى: «اذهب إلى فرعون إنه طغى»، ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته و أجيب إليها: «اذهب أنت و أخوك» «اذهبا إلى فرعون إنه طغى»، ثم قوله لما ذكرا خوفهما و أجيبا بالأمن: «فأتياه فقولا» إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.
فقوله: «فأتياه فقولا إنا رسولا ربك» تبليغ أنهما رسولا الله، و في قوله بعد: «و السلام على من اتبع الهدى» إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.
و قوله: «فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم» تكليف فرعي متوجه إلى فرعون.
و قوله: «قد جئناك بآية من ربك» استناد إلى حجة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها.
و قوله: «و السلام على من اتبع الهدى» كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية و هو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى.
و قوله: «إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب و تولى» في مقام التعليل لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لأن الله سبحانه أوحي إلينا أن العذاب و هو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - و تولى و أعرض عنها.
و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزين به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: «فأتياه» و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشيء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل: «فقولا» و لم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، و قيل: «إنا رسولا ربك» و «بآية من ربك» فقرع سمعه مرتين بأن له ربا و هو الذي كان ينادي بقوله: «أنا ربكم الأعلى»، و قيل: «و السلام على من اتبع الهدى» و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله: «إن العذاب على من كذب و تولى» من غير خطاب.
و هذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: «لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى» من كمال الإحاطة و العزة و القدرة التي لا يقوم لها شيء.
و ليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: «إنا رسولا ربك» إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق و لا احتشام و تأثر من ظاهر سلطانه الباطل و عزته الكاذبة.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «آتيكم منها بقبس» يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد «أو أجد على النار هدى» كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.
و في الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «فاخلع نعليك - إنك بالواد المقدس طوى» قال: كانتا من جلد حمار ميت.
أقول: و رواه أيضا في تفسير القمي، مرسلا و مضمرا، و روى هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن علي.
و قد ورد ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «أقم الصلاة لذكري» قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين:، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام):، و يعضده ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك:، رواه مسلم في الصحيح:.
أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى مسندة و غير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة و عن الصادقين (عليهما السلام) من طرق الشيعة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «أكاد أخفيها» روي عن ابن عباس «أكاد أخفيها عن نفسي» و هي كذلك في قراءة أبي:، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام):.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسر لي أمري و أن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
أقول و روي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضا في المجمع، عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا منه.
و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحق و لا يجوز حمله على النبوة و لا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.
و مثله: فيما ذكر ما صح من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته «أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» انتهى.
قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنما نبحث عن المراد بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعائه لعلي (عليه السلام): «و أشركه في أمري» طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (صلى الله عليه وآله وسلم) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر.
فمراده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر في قوله: «و أشركه في أمري» ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، و هو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالأمر في قوله: «و أشركه في أمري» ليس هو النبوة و إلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أمري» بلا معنى يفيده.
و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحق - كما ذكره - قطعا لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة و يشاركه فيه غيره و حجة الكتاب و السنة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني»: يوسف: 108، و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - و قد رواه العامة و الخاصة -: فليبلغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.
على أن الإضافة في قوله: «أمري» تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية.
نعم التبليغ الابتدائي و هو تبليغ الوحي لأول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره و في قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: «و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني» إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما أبهم من كلامه و يفصل ما أجمل و يبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه.
فهذا النوع من التبليغ و ما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي و الإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو المراد أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى.
و قد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس. فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت: يذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: «و ألقيت عليك محبة مني» فأحبته القبطية الموكلة بها.
و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز و جل لموسى «اذهبا إلى فرعون إنه طغى و قولا له قولا لينا - لعله يتذكر أو يخشى» فقال: أما قوله: «فقولا له قولا لينا» أي كنياه و قولا له: يا أبا مصعب و كان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: «لعله يتذكر أو يخشى» فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب و قد علم الله عز و جل أن فرعون لا يتذكر و لا يخشى إلا عند رؤية البأس، أ لا تسمع الله عز و جل يقول: «حتى إذا أدركه الغرق - قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل - و أنا من المسلمين»؟ فلم يقبل الله إيمانه و قال: «الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين»:. أقول: و روى صدر الحديث في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن علي:.
و تفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.
و روى ذيل الحديث أيضا في الكافي، بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي (عليه السلام) و فيه تأييد ما قدمنا أن لعل مستعملة في الآية للترجي.
|