بيان
الآيات في أحكام الطلاق و العدة و إرضاع المطلقة ولدها، و في خلالها شيء من أحكام الصلاة.
قوله تعالى: و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أصل الطلاق التخلية عن وثاق و تقييد ثم استعير لتخلية المرأة عن حبالة النكاح و قيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.
و التربص هو الانتظار و الحبس، و قد قيد بقوله تعالى: بأنفسهن، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة أعني عدة الطلاق، و هو حبس المرأة نفسها عن الإزدواج تحذرا عن اختلاط المياه، و يزيد على معنى العدة الإشارة إلى حكمة التشريع، و هو التحفظ عن اختلاط المياه و فساد الأنساب، و لا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين و الأحكام إنما تدور مدار المصالح و الحكم الغالبة دون العامة، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزله قولنا: يعتددن احترازا من اختلاط المياه و فساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن، و الجملة خبر أريد به الإنشاء تأكيدا.
و القروء جمع القرء، و هو لفظ يطلق على الطهر و الحيض معا، فهو على ما قيل من الأضداد، غير أن الأصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف و التحويل و نحوه، و على هذا فالأظهر أن يكون معناه الطهر لكونه حالة جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، و بهذه العناية أطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القراءة، و قد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، و يشعر بأن الأصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه»: القيامة - 18، و قوله تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث:» بني إسرائيل - 106، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن، و لم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو ما يشبههما، و به سمي القرآن قرآنا.
قال الراغب في مفرداته: و القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر و لما كان اسما جامع للأمرين: الطهر و الحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لأن كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان و الطعام، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، و ليس القرء اسما للطهر مجردا و لا للحيض مجردا، بدليل أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، و كذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى.
قوله تعالى: و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه و نحو ذلك و في تقييده بقوله: إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر مع عدم اشتراط أصل الحكم بالإيمان نوع ترغيب و حث لمطاوعة الحكم و التثبت عليه لما في هذا التقييد من الإشارة إلى أن هذا الحكم من لوازم الإيمان بالله و اليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الإسلامية فلا استغناء في الإسلام عن هذا الحكم، و هذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس إن أردت خيرا، و قولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء و البرء.
قوله تعالى: و بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا، البعولة جمع البعل و هو الذكر من الزوجين ما داما زوجين و قد استشعر منه معنى الاستعلاء و القوة و الثبات في الشدائد لما أن الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل أصلا يشتق منه الألفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها، و للأرض المستعلية بعل، و للصنم بعل، و للنخل إذا عظم بعل و نحو ذلك.
و الضمير في بعولتهن للمطلقات إلا أن الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الأعم منها و من البائنات، و المشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة، و التقييد بقوله إن أرادوا إصلاحا، للدلالة على وجوب أن يكون الرجوع لغرض الإصلاح لا لغرض الإضرار المنهي عنه بعد بقوله: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، الآية.
و لفظ أحق اسم تفضيل حقه أن يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الأول حق في المطلقة و لسائر الخطاب حق، و الزوج الأول أحق بها لسبق الزوجية، غير أن الرد المذكور لا يتحقق معناه إلا مع الزوج الأول.
و من هنا يظهر: أن في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى، و المعنى و بعولتهن أحق بهن من غيرهم، و يحصل ذلك بالرد و الرجوع في أيام العدة، و هذه الأحقية إنما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، و هذه هي القرينة على أن الحكم مخصوص بالرجعيات، لا أن ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، و الآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، و أما غير المدخول بها و الصغيرة و اليائسة و الحامل فلحكمها آيات أخر.
قوله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجة، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، و قد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثني عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل أعني الطلاق و ما يلحق به على سنن الفطرة و السلامة، فالمعروف تتضمن هداية العقل، و حكم الشرع، و فضيلة الخلق الحسن و سنن الأدب.
و حيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة و الخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة و لم يتعدوا طور الخلقة، و من أحكام الاجتماع المبني على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده و أجزاؤه فيكون ما عليهم مثل ما لهم إلا أن ذلك التساوي إنما هو مع حفظ ما لكل من الأفراد من الوزن في الاجتماع و التأثير و الكمال في شئون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، و للمحكوم محكوميته، و للعالم علمه، و للجاهل حاله، و للقوي من حيث العمل قوته، و للضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها بإعطاء كل ذي حق حقه، و على هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة و على المرأة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحياة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح و التناسل.
و الإسلام يرى في ذلك أن للرجال عليهن درجة، و الدرجة المنزلة.
و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: و للرجال عليهن درجة، قيد متمم للجملة السابقة، و المراد بالجميع معنى واحد و هو: أن النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن و بين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن فجعل لهن مثل ما عليهن، من الحكم، و سنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها.
قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أن الدفعة و الكرة و النزلة مثلها وزنا و معنى و اعتبارا.
و التسريح أصله الإطلاق في الرعي مأخوذ من سرحت الإبل و هو أن ترعيه السرح، و هو شجر له ثمر يرعاه الإبل، و قد استعير في الآية لإطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة، و التخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجيء.
و المراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرتان، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة و لذا أردفه بقوله بعد: فإمساك «إلخ»، و أما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية.
و المراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها و بين البينونة و تركها بعد كل من التطليقتين الأوليين حتى تبين بانقضاء العدة و إن كان الأظهر أنه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الإطلاق في تفريع قوله: فإمساك «إلخ»، و على هذا فيكون قوله تعالى بعد: فإن طلقها «إلخ»، بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الإجمالي.
و في تقييد الإمساك بالمعروف و التسريح بالإحسان من لطيف العناية ما لا يخفى، فإن الإمساك و الرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للإضرار بها و هو منكر غير معروف، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك، يريد بذلك إيذاءها و الإضرار بها و هو إضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه، بل الإمساك الذي يجوزه الشرع أن يرجع إليها بنوع من أنواع الالتيام، و يتم به الأنس و سكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل و المرأة.
و كذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط و الغضب، و يتصور بصورة الانتقام، و الذي يجوزه هذه الشريعة أن يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس و لا ينكره الشرع، و هو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، و هذا التعبير هو الأصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه، و أما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيد التسريح بالإحسان و هو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
بيانه: أن التقييد بالمعروف و الإحسان لنفي ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود، و المطلوب بتقييد الإمساك بالمعروف نفي الإمساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، و المطلوب في مورد التسريح نفي أن يأخذ الزوج بعض ما آتاه للزوجة من المهر، و لا يكفي فيه تقييد التسريح بالمعروف كما فعل في الآية الآتية فإن مطالبة الزوج بعض ما آتاه زوجته و أخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالإحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، و ليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية و الالتيام النكاحي، و لو قيل: أو تسريح بمعروف و لا يحل لكم «إلخ»، فاتت النكتة.
قوله تعالى: إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، الخوف هو الغلبة على ظنهما أن لا يقيما حدود الله، و هي أوامره و نواهيه من الواجبات و المحرمات في الدين، و ذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما و ما يستوجبه حوائجهما و التباغض المتولد بينهما من ذلك.
قوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كأنه للإشارة إلى لزوم أن يكون الخوف خوفا يعرفه العرف و العادة، لا ما ربما يحصل بالتهوس و التلهي أو بالوسوسة و نحوها، و لذلك عدل أيضا عن الإضمار فقيل ألا يقيما حدود الله، و لم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس.
و أما نفي الجناح عنهما مع أن النهي في قوله: و لا يحل لكم أن تأخذوا «إلخ»، إنما تعلق بالزوج فلأن حرمة الأخذ على الزوج توجب حرمة الإعطاء على الزوجة من باب الإعانة على الإثم و العدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية، فلا جناح على الزوج أن يأخذ الفدية، و لا جناح على الزوجة أن تعطي الفدية و تعين على الأخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها و من يتعد حدود الله «إلخ»، المشار إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين و هي أحكام فقهية مشوبة بمسائل أخلاقية، و أخرى علمية مبتنية على معارف أصلية، و الاعتداء و التعدي هو التجاوز.
و ربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الأحكام الفقهية و الأصول الأخلاقية، و الاقتصار في العمل بمجرد الأحكام الفقهية و الجمود على الظواهر و التقشف فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع و إماتة لغرض الدين و سعادة الحياة الإنسانية فإن الإسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، و شريعة العمل دون الفرض، و لم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط و السقوط إلا بالاقتصار على أجساد الأحكام و الإعراض عن روحها و باطن أمرها، و يدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: «و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية:» البقرة - 231.
و في الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: و لا يحل لكم، و قوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثم إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثم إلى المفرد في قوله: فأولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب و تنبيهه للتيقظ و رفع الكسل في الإصغاء.
قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة و هو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، و قد نفى الحل عن نفس الزوجة مع أن المحرم إنما هو عقدها أو وطؤها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا، و ليشعر قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، على العقد و الوطء جميعا، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة و الزوج الأول أن يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين، و هو التراجع، و ليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأوليين، و ذلك إن ظنا أن يقيما حدود الله.
و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: و تلك حدود الله، لأن المراد بالحدود غير الحدود.
و في الآية من عجيب الإيجاز ما يبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها و اختلاطها من غير أن يوجب تعقيدا في الكلام، و لا إغلاقا في الفهم.
و قد اشتملت هذه الآية و التي قبلها على عدد كثير من الأسماء المنكرة و الكنايات من غير رداءة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة أسماء منكرة، و قوله تعالى: مما آتيتموهن شيئا كنى به عن المهر، و قوله تعالى: فإن خفتم، كنى به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة، و قوله تعالى: فيما افتدت به، كنى به عن مال الخلع، و قوله تعالى: فإن طلقها، أريد به التطليقة الثالثة، و قوله تعالى: فلا تحل له، أريد به تحريم العقد و الوطء، و قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، أريد به العقد و الوطء معا كناية مؤدبة، و قوله تعالى: أن يتراجعا، كنى به عن العقد.
و في الآيتين حسن المقابلة بين الإمساك و التسريح، و بين قوله إن يخافا ألا يقيما حدود الله و بين قوله: إن ظنا أن يقيما حدود الله، و التفنن في التعبير في قوله: فلا تعتدوها و قوله: و من يتعد.
قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله: لتعتدوا، المراد ببلوغ الأجل الإشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، و الدليل على أن المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، إذ لا معنى للإمساك و لا التسريح بعد انقضاء العدة و في قوله تعالى: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع.
قوله تعالى: و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الإمساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة، و لا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر و إعانته في رفع حوائج الغرائز، و الإمساك خاصة رجوع إلى الاتصال و الاجتماع بعد الانفصال و الافتراق، و فيه جمع الشمل بعد شتاته، و أين ذلك من الرجوع بقصد المضارة.
فمن يفعل ذلك أي أمسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الإنسانية.
على أنه اتخذ آيات الله هزوا يستهزىء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم من الأحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على أجرام الأفعال أخذا و إعطاء و إمساكا و تسريحا و غير ذلك، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع، و يتم بها سعادة الحياة الإنسانية، و خلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس، و تطهر بها الأرواح، و تصفو بها المعارف العالية: من التوحيد و الولاية و سائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الأحكام و نبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا.
و المراد بالنعمة في قوله تعالى: و اذكروا نعمة الله عليكم، نعمة الدين أو حقيقة الدين و هي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى: «و أتممت عليكم نعمتي:» المائدة - 3، و قوله تعالى: «و ليتم نعمته عليكم:» المائدة - 6، و قوله تعالى: «فأصبحتم بنعمته إخوانا:» آل عمران - 103.
و على هذا يكون قوله تعالى بعده: و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به، كالمفسر لهذه النعمة، و يكون المراد بالكتاب و الحكمة ظاهر الشريعة و باطنها أعني أحكامها و حكمها.
و يمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهية، التكوينية و غيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم و خاصة المزايا و محاسن التألف و السكونة بين الزوجين و ما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الأحكام و حكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة، و لا تفسدوا كمال حياتكم و نعمة وجودكم، و اتقوا الله و لتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شيء عليم، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم، و لا تجترءوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.
قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، العضل المنع، و الظاهر أن الخطاب في قوله: فلا تعضلوهن، لأوليائهن و من يجري مجراهم ممن لا يسعهن مخالفته، و المراد بأزواجهن، الأزواج قبل الطلاق، فالآية تدل على نهي الأولياء و من يجري مجراهم عن منع المرأة أن تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا و لجاجا كما يتفق كثيرا، و لا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي.
أما أولا: فلأن قوله: فلا تعضلوهن، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره.
و أما ثانيا: فلأن اختصاص الخطاب بالأولياء فقط لا دليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم، و أن النهي نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح و المنافع كما قال تعالى: ذلكم أزكى لكم و أطهر.
و ربما قيل: إن الخطاب للأزواج جريا على ما جرى به قوله: و إذا طلقتم النساء، و المعنى: و إذا طلقتم النساء يا أيها الأزواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن، و ذلك بأن يخفى عنهن الطلاق لتضار بطول العدة و نحو ذلك.
و هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهن، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: أن ينكحن أو أن ينكحن أزواجا و هو ظاهر.
و المراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهن، انقضاء العدة، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لأحد من الأولياء و غيرهم أن يمنع ذلك و بعولتهن أحق بردهن في ذلك.
على أن قوله تعالى: أن ينكحن، دون أن يقال: يرجعن و نحوه ينافي ذلك.
قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله و اليوم الآخر، هذا كقوله فيما مر: و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر الآية، و إنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالإيمان بالله و اليوم الآخر، و هو التوحيد، لأن دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق، و يقضي بالوصل دون الفصل.
و في قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، و الأصل في هذا الكلام خطاب المجموع أعني خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده في غير جهات الأحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها، و قوله فأولئك هم الظالمون، و قوله: و بعولتهن أحق بردهن في ذلك، و قوله: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظا لقوام الخطاب، و رعاية لحال من هو ركن في هذه المخاطبة و هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، و غيره فمخاطب بوساطته، و أما الخطابات المشتملة على الأحكام فجميعها موجهة نحو المجموع، و يرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه و تضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه.
قوله تعالى: ذلكم أزكى لكم و أطهر، الزكاة هو النمو الصالح الطيب، و قد مر الكلام في معنى الطهارة، و المشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى أزواجهن، أو نفس رجوعهن إلى أزواجهن، و المآل واحد، و ذلك أن فيه رجوعا من الانثلام و الانفصال إلى الالتيام و الاتصال، و تقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية، و فيه تربية لملكة العفة و الحياء فيهن و هو أستر لهن و أطهر لنفوسهن، و من جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الأجانب إذا منعن عن نكاح أزواجهن.
و الإسلام دين الزكاة و الطهارة و العلم، قال تعالى: «و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة:» آل عمران - 164، و قال تعالى: «و لكن يريد ليطهركم:» المائدة - 7.
قوله تعالى: و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، أي إلا ما يعلمكم كما قال تعالى.
«و يعلمهم الكتاب و الحكمة»: آل عمران - 164، و قال تعالى: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء،: البقرة - 255، فلا تنافي بين هذه الآية و بين قوله تعالى: و تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية أي يعلمون بتعليم الله.
قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.
الوالدات هن الأمهات، و إنما عدل عن الأمهات إلى الوالدات لأن الأم أعم من الوالدة كما أن الأب أعم من الوالد و الابن أعم من الولد، و الحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة و الولد و المولود له، و أما تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لا في جميعها كما سيجيء بيانها في آية التحريم من سورة النساء إن شاء الله كان عليه أن يقوم بمصالح حياته و لوازم تربيته، و منها كسوة أمه التي ترضعه، و نفقتها، و كان على أمه أن لا تضار والدة لأن الولد مولود له.
و من أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين: أنه إنما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لأن الأولاد للآباء و لذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، و أنشد المأمون بن الرشيد: و إنما أمهات الناس أوعية.
مستودعات و للآباء أبناء.
انتهى ملخصا، و كأنه ذهل عن صدر الآية و ذيلها حيث يقول تعالى: أولادهن و يقول: بولدها، و أما ما أنشده من شعر المأمون فهو و أمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى و تقدس.
و قد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللغة، و أمر التشريع، حكم الاجتماع و أمر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية.
و جملة الأمر في الولد أن التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده إليهما معا، و الاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الأمم: فبعض الأمم يلحقه بالوالدة، و بعضهم بالوالد و الآية تقرر قول هذا البعض، و تشير إليه بقوله: المولود له كما تقدم، و الإرضاع إفعال من الرضاعة و الرضع و هو مص الثدي بشرب اللبن منه، و الحول هو السنة سميت به لأنها تحول و إنما وصف بالكمال لأن الحول و السنة لكونه ذا أجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيرا ما يقال: أقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه أياما.
و في قوله تعالى: لمن أراد أن يتم الرضاعة، دلالة على أن الحضانة و الإرضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها و البلوغ إلى آخر المدة أيضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك و إن لم تشأ التكميل فلها ذلك، و أما الزوج فليس له في ذلك حق إلا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن أرادا فصالا «إلخ».
قوله تعالى: و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر، و الرزق و الكسوة هما النفقة و اللباس، و قد نزلهما الله تعالى على المعروف و هو المتعارف من حالهما، و قد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج، و هو قوله تعالى: لا تكلف نفس إلا وسعها، و قد فرع عليه حكمين آخرين، أحدهما: حق الحضانة و الإرضاع الذي للزوجة و ما أشبهه فلا يحق للزوج أن يحول بين الوالدة و ولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك مضارة و حرج عليها، و ثانيهما: نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية و نحو ذلك، و ذلك قوله تعالى: لا تضار والدة بولدها و لا مولود له بولده، و النكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله.
بولده دون أن يقول به رفع التناقض المتوهم، فإنه لو قيل: و لا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها و كان ظاهر المعنى: و لا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لأن إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع و التكوين معا أي أن الولد لهما معا تكوينا فهو ولده و ولدها و له فحسب تشريعا لأنه مولود له.
قوله تعالى: و على الوارث مثل ذلك، ظاهر الآية: أن الذي جعل على الوالد من الكسوة و النفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، و قد قيل في معنى الآية أشياء أخر لا يوافق ظاهرها، و قد تركنا ذكرها لأنها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك، و الذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الأخبار، و هو الموافق أيضا لظاهر الآية.
قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور إلى آخر الآية، الفصال الفطام، و التشاور: الاجتماع على المشورة، و الكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة و نفي الحرج عن البين، فالحضانة و الرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير، بل هو حق يمكنها أن تتركه.
فمن الجائز أن يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما و لا بأس، و كذا من الجائز أن يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه بالامتناع عن إرضاعه، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض و نحوه إذا سلم لها ما تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها، و هو قوله تعالى: و إن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله بما تعملون بصير، أمر بالتقوى و أن يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الأعمال، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة و لذلك قال تعالى: و اعلموا أن الله بما تعملون بصير، و هذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن الآية من قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله بكل شيء عليم، فإن تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، و المضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الأثر بعد.
قوله تعالى: و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا، التوفي هو الإماتة، يقال: توفاه الله إذا أماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول، و يذرون مثل يدعون بمعنى يتركون و لا ماضي لهما من مادتهما، و المراد بالعشر الأيام حذفت لدلالة الكلام عليه.
قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدة، و قوله: فلا جناح «إلخ» كناية عن إعطاء الاختيار لهن في أفعالهن فإن اخترن لأنفسهن الازدواج فلهن ذلك، و ليس لقرابة الميت منعهن عن شيء من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة و العمى أو الشح و الحسد فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع و ليس لأحد أن ينهى عن المعروف.
و قد كانت الأمم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها و إقبارها معه، و بين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، و بين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، و بين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة و الامتزاج فيها، و هو مبني على أساس الأنس و الألفة، و للحب حرمة يجب رعايتها، و هذا و إن كان معنى قائما بالطرفين، و مرتبطا بالزوج و الزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب و ألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياة و الاحتجاب و العفة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه الأقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها، و قد عين الإسلام هذا التربص بما يقرب من ثلث سنة، أعني أربعة أشهر و عشرا.
قوله تعالى: و الله بما تعملون خبير، لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة الوفاة و على تشريع حق الازدواج لهن بعدها، و كان كل ذلك تشخيصا للأعمال مستندا إلى الخبرة الإلهية كان الأنسب تعليله بأن الله خبير بالأعمال مشخص للمحظور منها عن المباح، فعليهن أن يتربصن في مورد و أن يخترن ما شئن لأنفسهن في مورد آخر، و لذا ذيل الكلام بقوله: و الله بما تعملون خبير.
قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح.
و الفرق بين التعريض و الكناية أن للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إني حسن المعاشرة و أحب النساء، أي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش و صرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك: فلان كثير الرماد تريد أنه سخي.
و الخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم و المراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب و لا يقال: خطيب و يقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم، و خاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب و خطيب من الخطباء.
و الإكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الإكنان بما يستر في النفس كما قال: أو أكننتم في أنفسكم، و الكن بما يستر بشيء من الأجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى: «كأنهن بيض مكنون:» الصافات - 49، و قال تعالى: «كأمثال اللؤلؤ المكنون:» الواقعة - 23، و المراد بالآية نفي البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء أمور في القلب في أمرها.
قوله تعالى: علم الله أنكم ستذكرونهن، في مورد التعليل لنفي الجناح عن الخطبة و التعريض فيها، و المعنى: أن ذكركم إياهن أمر مطبوع في طباعكم و الله لا ينهى عن أمر تقضي به غريزتكم الفطرية و نوع خلقتكم، بل يجوزه، و هذا من الموارد الظاهرة في أن دين الإسلام مبني على أساس الفطرة.
قوله تعالى: و لا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، العزم عقد القلب على الفعل و تثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره إلا أن يبطل من رأس، و العقدة من العقد بمعنى الشد.
و في الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال، كان حبالة النكاح تصير الزوجين واحدا متصلا، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو أمر قلبي إشارة إلى أن سنخ هذه العقدة و العلقة أمر قائم بالنية و الاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إلا ظرف الاعتقاد و الإدراك، نظير الملك و سائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة الآية:» البقرة - 213، ففي الآية استعارة و كناية، و المراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم و هو التربص الذي فرضه الله على المعتدات.
فمعنى الآية: و لا تجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن، و هذه الآية تكشف أن الكلام فيها و في الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء الآية إنما هو في خطبة المعتدات و في عقدهن، و على هذا فاللام في قوله: النساء للعهد دون الجنس و غيره.
قوله تعالى: و اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم «إلخ» إيراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، أعني العلم و المغفرة و الحكم يدل على أن الأمور المذكورة في الآيتين و هي خطبة المعتدات و التعريض لهن و مواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء و إن كان قد أجاز ما أجازه منها.
قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، المس كناية عن المواقعة، و المراد بفرض الفريضة تسمية المهر، و المعنى: أن عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق و كذا عدم ذكر المهر.
قوله تعالى: و متعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره متاعا بالمعروف، التمتيع إعطاء ما يتمتع به، و المتاع و المتعة ما يتمتع به، و متاعا مفعول مطلق لقوله تعالى: و متعوهن، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره و على المقتر قدره، و الموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال و كأنه من الأفعال المتعدية التي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما و المقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، و القدر بفتح الدال و سكونها بمعنى واحد.
و معنى الآية: يجب عليكم أن تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف و إنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله و يتقدر به وضعه من التمتيع، و على المقتر قدره من التمتيع، و هذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها، و الدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها و لا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها.
قوله تعالى: حقا على المحسنين، أي حق الحكم حقا على المحسنين، و ظاهر الجملة و إن كان كون الوصف أعني الإحسان دخيلا في الحكم، و حيث ليس الإحسان واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي، إلا أن النصوص من طرق أهل البيت تفسر الحكم بالوجوب، و لعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان الآية فأوجب الإحسان على المسرحين و هم المطلقون فهم - المحسنون، و قد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين و هم المطلقون، و الله أعلم.
قوله تعالى: و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن «إلخ»، أي و إن أوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن و قد فرضتم لهن فريضة و سميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور أيضا، أو الزوج فإن عقدة النكاح بيده أيضا، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت، و العفو على أي حال أقرب للتقوى لأن من أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الإعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه أقوى و أقدر.
قوله تعالى: و لا تنسوا الفضل بينكم «إلخ»، الفضل هو الزيادة كالفضول غير أن الفضل هو الزيادة في المكارم و المحامد و الفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، و في الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي أن يؤثره الإنسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، و المراد به الترغيب في الإحسان و الفضل بالعفو عن الحقوق و التسهيل و التخفيف من الزوج للزوجة و بالعكس، و النكتة في قوله تعالى: إن الله بما تعملون بصير، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهن الآية.
قوله تعالى: حافظوا على الصلوات إلى آخر الآية، حفظ الشيء ضبطه و هو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، و الوسطى مؤنث الأوسط، و الصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، و لا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، و إنما تفسيره السنة، و سيجيء ما ورد من الروايات في تعيينه.
و اللام في قوله تعالى: قوموا لله، للغاية و القيام بأمر كناية عن تقلده و التلبس بفعله، و القنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى: «كل له قانتون:» البقرة - 116، و قال تعالى: «و من يقنت منكن لله و لرسوله:» الأحزاب - 31، فمحصل المعنى: تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له و لأجله.
قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا إلى آخر الآية، عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، و إن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين، و الرجال جمع راجل و الركبان جمع راكب، و هذه صلاة الخوف.
و الفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي إن المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من أصله بل إن لم تخافوا شيئا و أمكنت لكم وجبت عليكم و إن تعسر عليكم فقدروها بقدر ما يمكن لكم، و إن زال عنكم الخوف بتجدد الأمن ثانيا عاد الوجوب و وجب عليكم ذكر الله سبحانه.
و الكاف في قوله تعالى: كما علمكم، للتشبيه و قوله: ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة و التعليم، و المعنى على هذا: فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الأمن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين.
قوله تعالى: و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا وصية لأزواجهم.
وصية مفعول مطلق لمقدر، و التقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم و يتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي.
و تعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة، أعني الأربعة أشهر و عشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نساؤهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن، غير أن هذا لما كان حقا لهن و الحق يجوز تركه كان لهن أن يطالبن به، و أن يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة و من يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، و هذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت أن يوصي للوالدين و الأقربين بالمعروف، قال تعالى: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين بالمعروف حقا على المتقين:» البقرة - 180.
و مما ذكرنا يظهر أن الآية منسوخة بآية عدة الوفاة و آية الميراث بالربع و الثمن.
قوله تعالى: و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، الآية في حق مطلق المطلقات، و تعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب.
قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، الأصل في معنى العقل العقد و الإمساك و به سمي إدراك الإنسان إدراكا يعقد عليه عقلا، و ما أدركه عقلا، و القوة التي يزعم أنها إحدى القوى التي يتصرف بها الإنسان يميز بها بين الخير و الشر و الحق و الباطل عقلا، و يقابله الجنون و السفه و الحمق و الجهل باعتبارات مختلفة.
و الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، و الحسبان، و الشعور، و الذكر، و العرفان، و الفهم، و الفقه، و الدراية، و اليقين، و الفكر، و الرأي، و الزعم، و الحفظ، و الحكمة، و الخبرة، و الشهادة، و العقل، و يلحق بها مثل القول، و الفتوى، و البصيرة و نحو ذلك.
و الظن هو التصديق الراجح و إن لم يبلغ حد الجزم و القطع، و كذا الحسبان، غير أن الحسبان كان استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن و أصله من نحو قولنا: عد زيدا من الأبطال و حسبه منهم أي ألحقه بهم في العد و الحساب.
و الشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، و يغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، و منه إطلاق المشاعر للحواس.
و الذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك.
و العرفان و المعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن و لذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق.
و الفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.
و الفقه: هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه و الاستقرار في التصديق.
و الدراية: هو التوغل في ذلك التثبت و الاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم و خباياه و مزاياه، و لذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر و تعظيمه، قال تعالى: «الحاقة ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة:» الحاقة - 2، و قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر، و ما أدراك ما ليلة القدر:» القدر - 2.
و اليقين: هو اشتداد الإدراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال و الوهن.
و الفكر نحو سير و مرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.
و الرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر و التروي، غير أنه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله و ما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية، و يقرب منه البصيرة، و الإفتاء، و القول، غير أن استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأن القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه.
و الزعم: هو التصديق من حيث إنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا.
و العلم كما مر: هو الإدراك المانع من النقيض.
و - الحفظ -: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير و الزوال.
و الحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها و إتقانها.
و - الخبرة -: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفى على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها.
و الشهادة: هو نيل نفس الشيء و عينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم و الإرادة و الحب و البغض و ما يضاهي ذلك.
و الألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة و الحركة و التغير، و لذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم و الحفظ و الحكمة و الخبرة و الشهادة، فلا يقال فيه تعالى: إنه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك.
و أما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص و الفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه: «و الله بكل شيء عليم:» النساء - 15، و قال تعالى: «و ربك على كل شيء حفيظ:» سبأ - 21، و قال تعالى: «و الله بما تعملون خبير»: البقرة - 234، و قال تعالى: «هو العليم الحكيم:» يوسف - 83، و قال تعالى: «إنه على كل شيء شهيد:» فصلت - 53.
و لنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث إن فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحق و الباطل في النظريات، و الخير و الشر و المنافع و المضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، و بأخرى باطنه يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة، و الحب و البغض، و الرجاء، و الخوف، و نحو ذلك، ثم يتصرف فيها بالترتيب و التفصيل و التخصيص و التعميم، فيقضي فيها في النظريات و الأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، و في العمليات و الأمور المربوطة بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية، و هذا هو العقل.
لكن ربما تسلط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة و الغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط و التفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق و إن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض و ليس بقاض، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، و أنه و إن سمى عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة و سنن الصواب.
و على هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه و يركب به هداه إلى حقائق المعارف و صالح العمل، و إذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا، و إن عمل في الخير و الشر الدنيوي فقط، قال تعالى «و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير:» الملك - 10.
و قال تعالى: «أ فلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور:» الحج - 46.
فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الإنسان بالقيام عليه بنفسه، و السمع في الإدراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، و قال تعالى: «و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه:» البقرة - 130، و قد مر أن الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمن الحديث.
فقد تبين من جميع ما ذكرنا: أن المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامة فطرته، و به يظهر معنى قوله سبحانه: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، فبالبيان يتم العلم، و العلم مقدمة للعقل و وسيلة إليه كما قال تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون:» العنكبوت - 43.
بحث روائي
في سنن أبي داود، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، قالت: طلقت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق: «و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فكانت أول من أنزلت فيها العدة للطلاق.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء،: عن زرارة، قال: سمعت ربيعة الرأي و هو يقول: إن من رأيي أن الأقراء التي سمى الله في القرآن إنما هي الطهر فيما بين الحيضتين و ليس بالحيض، قال فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فحدثته بما قال ربيعة فقال: و لم يقل برأيه إنما بلغه عن علي (عليه السلام) فقلت: أصلحك الله أ كان علي (عليه السلام) يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاءت دفعته، قلت: أصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها و حلت للأزواج، الحديث.
أقول: هذا المعنى مروي بعدة طرق عنه (عليه السلام)، و قوله: قلت: أصلحك الله أ كان علي (عليه السلام) يقول ذلك إنما استفهم ذلك بعد قوله (عليه السلام): إنما بلغه عن علي، لما اشتهر بين العامة عن علي أنه كان يقول إن القروء في الآية هي الحيض دون الأطهار كما في الدر المنثور، عن الشافعي و عبد الرزاق و عبد بن حميد و البيهقي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة و تحل للأزواج، لكن أئمة أهل البيت ينكرون ذلك و ينسبون إليه (عليه السلام): أن الأقراء الأطهار دون الحيض كما مرت في الرواية، و قد نسبوا هذا القول إلى عدة أخرى من الصحابة غيره (عليه السلام) كزيد بن ثابت و عبد الله بن عمر و عائشة و رووه عنهم.
و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية: الحبل و الحيض.
و في تفسير القمي،: و قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر و الحيض و الحبل.
و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: و للرجال عليهن درجة، قال: قال (عليه السلام) حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال.
أقول: و هذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مر و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: الطلاق مرتان - فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان و التسريح بالإحسان هو التطليقة الثالثة.
و في التهذيب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه و هو خاطب من الخطاب: إن شاءت نكحته، و إن شاءت فلا، و إن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تمضي أقراؤها، فتكون عنده على التطليقة الماضية، الحديث.
و في الفقيه، عن الحسن بن فضال، قال: سألت الرضا عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة لعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال (عليه السلام): إن الله عز و جل إنما أذن في الطلاق مرتين فقال عز و جل: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، يعني في التطليقة الثالثة، و لدخوله فيما كره الله عز و جل من الطلاق الذي حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق و لا تضار النساء، الحديث.
أقول: مذهب أئمة أهل البيت: أن الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد لا يقع إلا تطليقة واحدة، و إن قال طلقتك ثلاثا على ما روته الشيعة، و أما أهل السنة و الجماعة فرواياتهم فيه مختلفة: بعضها يدل على وقوعه طلاقا واحدا، و بعضها يدل على وقوع الثلاثة، و ربما رووا ذلك عن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام)، لكن يظهر من بعض رواياتهم التي رواها أرباب الصحاح كمسلم و النسائي و أبي داود و غيرهم: أن وقوع الثلاث بلفظ واحد مما أجازه عمر بعد مضي سنتين أو ثلاثة من خلافته، ففي الدر المنثور:، أخرج عبد الرزاق و مسلم و أبو داود و النسائي و الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر. طلاق الثلاث واحدا فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فأمضاه عليهم.
و في سنن أبي داود، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة و نكح امرأة من مزينة فجاءت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني و بينه فأخذت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حمية فدعا بركانه و إخوته ثم قال لجلسائه: أ ترون فلانا يشبه منه كذا و كذا و فلان منه كذا و كذا قالوا نعم، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد يزيد: طلقها ففعل، قال: راجع امرأتك أم ركانة فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت أرجعها و تلا: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.
و في الدر المنثور، عن البيهقي عن ابن عباس، قال: طلق ركانة امرأة ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف طلقتها؟ قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: نعم فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي أمر الله بها: فطلقوهن لعدتهن.
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخرى أيضا و الكلام على هذه الإجازة نظير الكلام المتقدم في متعة الحج.
و قد استدل على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإن المرتين و الثلاث لا يصدق على ما أنشىء بلفظ واحد كما في مورد اللعان بإجماع الكل، و في المجمع،: في قوله تعالى: أو تسريح بإحسان، قال: فيه قولان، أحدهما: أنه الطلقة الثالثة، و الثاني أنه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة،: عن السدي و الضحاك، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و الأخبار كما ترى تختلف في معنى قوله: أو تسريح بإحسان.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا - إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله الآية،: عن الصادق (عليه السلام) قال: الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، و لأخرجن بغير إذنك، و لأوطئن فراشك غيرك و لا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا أو تطلقني، فإذا قالت ذلك فقد حل له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها و كل ما قدر عليه مما تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك طلقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، و هو خاطب من الخطاب، فإن شاءت زوجته نفسها، و إن شاءت لم تفعل، فإن زوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين و ينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإذا ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك، و قال (عليه السلام): لا خلع و لا مباراة و لا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، و المختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلقها يحل للأول أن يتزوج بها، و قال: لا رجعة للزوج على المختلعة و لا على المباراة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها.
و في الفقيه، عن الباقر (عليه السلام) قال: إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حل له أن يأخذ منها، و ليس له عليها رجعة. و في الدر المنثور،: أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة، قال: كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته، و كان رجلا دميما فجاءت و قالت: يا رسول الله إني لا أراه، فلو لا مخافة الله لبزقت في وجهه فقال لها: أ تردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته و فرق بينهما، فكان ذلك أول خلع كان في الإسلام.
و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: و تلك حدود الله فلا تعتدوها الآية فقال إن الله غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى الله منه بريء فذلك قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها و في الكافي، عن أبي بصير قال: المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، قال: هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة، و هي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره و يذوق عسيلتها.
أقول: العسيلة الجماع، قال في الصحاح،: و في الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل، و صغرت بالهاء لأن الغالب في العسل التأنيث و يقال: إنما أنث لأنه أريد به العسلة و هي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب: ذهبة، انتهى.
و قوله (عليه السلام): و يذوق عسيلتها، كالاقتباس من كلمة رسول الله لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتك، في قصة رفاعة.
ففي الدر المنثور،: عن البزاز و الطبراني و البيهقي: أن رفاعة بن سموال طلق امرأته فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله قد تزوجني عبد الرحمن و ما معه إلا مثل هذه، و أومأت إلى هدبة من ثوبها، فجعل رسول الله يعرض عن كلامها ثم قال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة: لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتك.
أقول: و الرواية من المشهورات، رواها جمع كثير من الرواة من أرباب الصحاح و غيرهم من طرق أهل السنة، و الجماعة و بعض الخاصة، و ألفاظ الروايات و إن كانت مختلفة لكن أكثرها تشتمل على هذه اللفظة.
و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام): عن تزويج المتعة أ يحلل؟ قال: لا لأن الله يقول فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره - فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، و المتعة ليس فيه طلاق.
و فيه، أيضا عن محمد بن مضارب قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن الخصي يحلل؟ قال: لا يحلل.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا الآية، قال: قال (عليه السلام): إذا طلقها لم يجز له أن يراجعها إن لم يردها.
و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها، و ليس له فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه، إلا أن يطلق ثم يراجع و هو ينوي الإمساك.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و لا تتخذوا آيات الله هزوا الآية،: عن عمر بن الجميع رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث، قال: و من قرأ القرآن من هذه الأمة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، الحديث.
في صحيح البخاري،: في قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، الآية أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عنه و عن عدة من أرباب الصحاح كالنسائي و ابن ماجة و الترمذي و ابن داود و غيرهم.
و في الدر المنثور، أيضا عن السدي، قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة و انقضت عدتها فأراد مراجعتها فأبى جابر فقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية و كانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله و إذا طلقتم النساء، الآية.
أقول: لا ولاية للأخ و لا لابن العم على مذهب أئمة أهل البيت فلو سلمت إحدى الروايتين كان النهي في الآية غير مسوق لتحديد ولاية، و لا لجعل حكم وضعي بل للإرشاد إلى قبح الحيلولة بين الزوجين أو لكراهة أو حرمة تكليفية متعلقة بكل من يعضلهن عن النكاح لا غير.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهن، الآية: عن الصادق (عليه السلام)، قال: و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، قال: ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالوالد أحق به من العصبة و إن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، و قالت الأم: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإن له أن ينزعه منها، إلا أن ذلك أجبر له و أقدم و أرفق به أن يترك مع أمه.
و فيه، أيضا عنه: في قوله تعالى: لا تضار والدة الآية، قال (عليه السلام): كانت المرأة ممن ترفع يدها إلى الرجل إذا أراد مجامعتها فتقول: لا أدعك، إني أخاف أن أحمل على ولدي، و يقول الرجل للمرأة: لا أجامعك إني أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي، فنهى الله أن يضار الرجل المرأة و المرأة الرجل.
و فيه، أيضا عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: و على الوارث مثل ذلك قال: هو في النفقة: على الوارث مثل ما على الوالد.
و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في الآية، قال لا ينبغي للوارث أيضا أن يضار المرأة فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، و يضار ولدها إن كان لهم عنده شيء، و لا ينبغي له أن يقتر عليه.
و فيه، أيضا عن حماد عن الصادق (عليه السلام) قال: لا رضاع بعد فطام، قال: قلت له: جعلت فداك و ما الفطام؟ قال: الحولين الذي قال الله عز و جل.
أقول: قوله: الحولين، حكاية لما في لفظ الآية و لذا وصفه (عليه السلام) بقوله: الذي قال الله.
و في الدر المنثور،: أخرج عبد الرزاق في المصنف و ابن عدي عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يتم بعد حلم، و لا رضاع بعد فصال، و لا صمت يوم إلى الليل، و لا وصال في الصيام، و لا نذر في معصية، و لا نفقة في المعصية، و لا يمين في قطيعة رحم، و لا تعرب بعد الهجرة، و لا هجرة بعد الفتح، و لا يمين لزوجة مع زوج، و لا يمين لولد مع والد، و لا يمين لمملوك مع سيده، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك.
و في تفسير العياشي، عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية: و الذين يتوفون منكم - و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا جئن النساء يخاصمن رسول الله و قلن: لا نصبر، فقال لهن رسول الله: كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دبرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتقتها، ثم اكتحلت بها، ثم تزوجت فوضع الله عنكن ثمانية أشهر.
و في التهذيب، عن الباقر (عليه السلام): كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة، و على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر و عشرا.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر و صارت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر و عشرا؟ فقال: أما عدة المطلقة ثلاث قروء فلأجل استبراء الرحم من الولد، و أما عدة المتوفى عنها زوجها فإن الله شرط للنساء شرطا و شرط عليهن: و أما ما شرط لهن ففي الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فلن يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر لعلمه تبارك و تعالى أنها غاية صبر المرأة من الرجل، و أما ما شرط عليهن فإنه أمرها أن تعتد إذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا فأخذ له منها عند موته ما أخذ لها منه في حياته.
أقول: و هذا المعنى مروي أيضا عن الرضا و الهادي (عليهما السلام) بطرق أخرى و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لا جناح عليكم - فيما عرضتم به من خطبة النساء، الآية: المرأة في عدتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، و لا تقول: إني أصنع كذا أو كذا أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع و كل أمر قبيح، و في رواية أخرى تقول لها و هي في عدتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرك و لو قد مضى عدتك لا تفوتيني إن شاء الله، و لا تستبقي بنفسك، و هذا كله من غير أن يعزموا عقدة النكاح.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر عنهم (عليهم السلام).
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، الآية،: عن الصادق (عليه السلام)، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها و إن لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره و ليس لها عدة و تزوج من شاءت من ساعتها.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء.
أقول: و فيه تفسير المتاع بالمعروف.
و في الكافي، و التهذيب، و تفسير العياشي، و غيرها عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): في قوله تعالى: الذي بيده عقدة النكاح، قالا: هو الولي.
أقول: و الروايات فيه كثيرة، و قد ورد في بعض الروايات من طرق أهل السنة و الجماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام): أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج.
في الكافي، و الفقيه، و تفسير العياشي، و القمي،: في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات و الصلوة الوسطى الآية بطرق كثيرة عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): أن الصلاة الوسطى هي الظهر.
أقول: هذا هو المأثور عن أئمة أهل البيت في الروايات المروية عنهم لسانا واحدا.
نعم في بعضها أنها الجمعة إلا أن المستفاد منها أنهم أخذوا الظهر و الجمعة نوعا واحدا لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي، و تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) و اللفظ لما في الكافي: قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات و الصلوة الوسطى، و هي صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي وسط النهار، و وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة و صلاة العصر، قال: و نزلت هذه الآية و رسول الله في سفره فقنت فيها رسول الله و تركها على حالها في السفر و الحضر و أضاف للمقيم ركعتين، و إنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام، الحديث، و الرواية كما ترى تعد الظهر و الجمعة صلاة واحدة و تحكم بأنها هي الصلاة الوسطى و لكن معظم الروايات مقطوعة، و ما كان منها مسندا فمتنه لا يخلو عن تشويش كرواية الكافي، و هي مع ذلك غير واضحة الانطباق على الآية، و الله العالم.
و في الدر المنثور،: أخرج أحمد و ابن المنيع و النسائي و ابن جرير و الشاشي و الضياء من طريق الزبرقان: أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت و هم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف و الصفان، و الناس في قائلتهم و تجارتهم فأنزل الله: حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهن.
أقول: و روي هذا السبب عن زيد بن ثابت و غيره بطرق أخرى.
و اعلم: أن الأقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف روايات القوم: فقيل إنها صلاة الصبح و رووه عن علي (عليه السلام) و بعض الصحابة، و قيل: إنها صلاة الظهر و رووه عن النبي و عدة من الصحابة، و قيل: إنها صلاة العصر و رووه عن النبي و عدة من الصحابة، و قد روى السيوطي في الدر المنثور، فيه بضعا و خمسين رواية، و قيل: إنها صلاة المغرب، و قيل إنها مخفية بين الصلوات كليلة القدر بين الليالي، و روي فيهما روايات عن الصحابة، و قيل: إنها صلاة العشاء و قيل: إنها الجمعة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و قوموا لله قانتين، قال: هو الدعاء في الصلاة حال القيام،: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و روي ذلك عن بعض الصحابة.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية: إقبال الرجل على صلاته و محافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها و لا يشغله شيء.
أقول: و لا منافاة بين الروايتين و هو ظاهر.
في الكافي، عن الصادق: في قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية، إذا خاف من سبع أو لص يكبر و يومىء إيماء.
و في الفقيه، عنه (عليه السلام): في صلاة الزحف، قال: تكبير و تهليل ثم تلا الآية.
و فيه، عنه (عليه السلام): إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصا أو سبعا فصل الفريضة و أنت على دابتك.
و فيه، عن الباقر (عليه السلام): الذي يخاف اللصوص يصلي إيماء على دابته.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا - وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج، قال (عليه السلام): هي منسوخة، قلت: و كيف كانت؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع و الثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها.
و فيه، عن معاوية بن عمار قال: سألته عن قول الله: و الذين يتوفون «إلخ»، قال: منسوخة نسختها آية يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا، و نسختها آية الميراث.
و في الكافي، و تفسير العياشي،: سئل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يطلق امرأته يمتعها؟ قال: نعم، أ ما يحب أن يكون من المحسنين أ ما يحب أن يكون من المتقين؟
بحث علمي
من المعلوم أن الإسلام - و الذي شرعه هو الله عز اسمه - لم يبن شرائعه على أصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنا في قضاء العقل في شرائعه ربما احتجنا إلى التأمل في الأحكام و القوانين و الرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة و القرون الخالية، ثم البحث عن السعادة الإنسانية و تطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم و مسالكهم حتى نزن به مكانته و مكانتها، و نميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها، و هذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل و سيرها، و استحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل و المذاهب في الحياة.
و لذلك فإنا نحتاج في البحث عما يراه الإسلام و يعتقده في.
1 - هوية المرأة و المقايسة بينها و بين هوية الرجل.
2 - وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الإنساني.
3 - حقوقها و الأحكام التي شرعت لأجلها.
4 - الأساس الذي بنيت عليه الأحكام المربوطة بها.
إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام و ما كانت الأمم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة و غيرها، و الاستقصاء في ذلك و إن كان خارجا عن طوق الكتاب، لكنا نذكر طرفا منه:
حياة المرأة في الأمم غير المتمدنة
كانت حياة النساء في الأمم و القبائل الوحشية كالأمم القاطنين بإفريقيا و أستراليا و الجزائر المسكونة بالأوقيانوسية و أمريكا القديمة و غيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهلية من الأنعام و غيرها بالنسبة إلى حياة الإنسان.
فكما أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقا أن يمتلك الأنعام و سائر الحيوانات الأهلية و يتصرف فيها كيفما شاء و في أي حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها و وبرها و لحمها و عظمها و دمها و جلدها و حليبها و حفظها و حراستها و سفادها و نتاجها و نمائها، و في حمل الأثقال، و في الحرث، و في الصيد، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا تحصى كثرة.
و ليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة و آمال القلوب في المأكل و المشرب و المسكن و السفاد و الراحة إلا ما رضي به الإنسان الذي امتلكها و لن يرض إلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها و له فيه نفع في الحياة، و ربما أدى ذلك إلى تهكمات عجيبة و مجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في أمر نفسه: فمن مظلوم من غير أي جرم كان أجرمه، و مستغيث و ليس له أي مغيث يغيثه، و من ظالم من غير مانع يمنعه، و من سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش و ألذه عنده، و من شقي من غير استحقاق كحمار الحمل و فرس الطاحونة.
و ليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الإنسان المالك لها حقا لنفسه فمن تعدى إليها لا يؤاخذ إلا لأنه تعدى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه، كل ذلك لأن الإنسان يرى وجودها تبعا لوجود نفسه و حياتها فرعا لحياته و مكانتها مكانة الطفيلي.
كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأمم و القبائل حياة تبعية، و كانت النساء مخلوقة عندهم «لأجل الرجال» بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود و الحياة لهم من غير استقلال في حياة، و لا في حق فكان آباؤهن ما لم ينكحن، و بعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الإطلاق.
كان للرجل أن يبيع المرأة ممن شاء و كان له أن يهبها لغيره، و كان له أن يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، و كان له أن يسوسها حتى بالقتل، و كان له أن يخلي عنها، ماتت أو عاشت، و كان له أن يقتلها و يرتزق بلحمها كالبهيمة و خاصة في المجاعة و في المآدب، و كان له ما للمرأة من المال و الحق و خاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع و شرى و أخذ و رد.
و كان على المرأة أن تطيع الرجل، أباها أو زوجها، في ما يأمر به طوعا أو كرها، و كان عليها أن لا تستقل عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، و كان عليها أن تلي أمور البيت و الأولاد و جميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، و كان عليها أن تتحمل من الأشغال أشقها كحمل الأثقال و عمل الطين و ما يجري مجراهما و من الحرف و الصناعات أرداها و سفسافها، و قد بلغ عجيب الأمر إلى حيث إن المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، و نام الرجل على فراشها أياما يتمرض و يداوي نفسه، هذه كليات ما له و عليها، و لكل جيل من هذه الأجيال الوحشية خصائل و خصائص من السنن و الآداب القومية باختلاف عاداتها الموروثة مناطق حياتها و الأجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشئون.
حياة المرأة في الأمم المتمدنة قبل الإسلام
نعني بهم الأمم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين و الهند و مصر القديم و إيران و نحوها.
تشترك جميع هؤلاء الأمم: في أن المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال و حرية، لا في إرادتها و لا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية و القيمومة، لا تنجز شيئا من قبل نفسها و لا كان لها حق المداخلة في الشئون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.
و كان عليها: أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب و غير ذلك.
و كان عليها: أن تختص بأمور البيت و الأولاد، و كان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها و يريد منها.
و كانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالا بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدنة، فلم تكن تقتل و تؤكل لحمها، و لم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك و إن لم تكن لها أن تتصرف فيها بالاستقلال، و كان للرجل أن يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد و كان لها تطليق من شاء منهن، و كان للزوج أن يتزوج بعد موت الزوجة و لا عكس غالبا و كانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالبا.
و لكل أمة من هذه الأمم مختصات بحسب اقتضاء المناطق و الأوضاع: كما أن تمايز الطبقات في إيران ربما أوجب تميزا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك و الحكومة أو نيل السلطنة و نحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من أم أو بنت أو أخت أو غيرها.
و كما أنه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعا من اشتراء نفسها و مملوكيتها، و كانت هي ممنوعة من الإرث و من أن تشارك الرجال حتى أبنائها في التغذي، و كان للرجال أن يتشارك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها، و الانتفاع من أعمالها، و يلحق الأولاد بأقوى الأزواج غالبا.
و كما أن النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد توفي أزواجهن أبدا، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات، و هن في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب و كذا ثيابها و كل ما لامستها بالبشرة.
و يمكن أن يلخص شأنها في هذه الأمم: أنها كالبرزخ بين الحيوان و الإنسان يستفاد منها استفادة الإنسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إلا أن يمد الإنسان المتوسط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه غير أنها تحت الولاية و القيمومة دائما.
و هاهنا أمم أخرى
كانت الأمم المذكورة آنفا أمما تجري معظم آدابهم و رسومهم الخاصة على أساس اقتضاء المناطق و العادات الموروثة و نحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرا لكن هناك أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة و الروم و اليونان.
أما الكلدة و الآشور فقد حكم فيهم شرع «حامورابي» بتبعية المرأة لزوجها و سقوط استقلالها في الإرادة و العمل، حتى أن الزوجة لو لم تطع زوجها في شيء من أمور المعاشرة أو استقل بشيء فيها كان له أن يخرجها من بيته، أو يتزوج عليها و يعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضا، و لو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان له أن يرفع أمرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.
و أما الروم فهي أيضا من أقدم الأمم وضعا للقوانين المدنية، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم أخذوا في تكميله تدريجا، و هو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصة به، و لرب البيت و هو زوج المرأة و أبو أولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، و كان له الاختيار التام و المشية النافذة في جميع ما يريده و يأمر به على أهل البيت من زوجة و أولاد حتى القتل لو رأى أن الصلاح فيه، و لا يعارضه في ذلك معارض، و كانت النساء نساء البيت كالزوجة و البنت و الأخت أردأ حالا من الرجال حتى الأبناء التابعين محضا لرب البيت، فإنهن لم يكن أجزاء للاجتماع المدني فلا تسمع لهن شكاية، و لا ينفذ منهن معاملة، و لا تصح منهن في الأمور الاجتماعية مداخلة لكن الرجال أعني الإخوة و الذكور من الأولاد حتى الأدعياء فإن التبني و إلحاق الولد بغير أبيه كان معمولا شائعا عندهم و كذا في يونان و إيران و العرب كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقا لأنفسهم.
و لم يكن أجزاء أصيلة في البيت بل كان أهل البيت هم الرجال، و أما النساء فتبع، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث و نحوها مختصة بما بين الرجال، و أما النساء فلا قرابة بينهن أنفسهن كالأم مع البنت و الأخت مع الأخت، و لا بينهن و بين الرجال كالزوجين أو الأم مع الابن أو الأخت مع الأخ أو البنت مع الأب و لا توارث فيما لا قرابة رسمية، نعم القرابة الطبيعية و هي التي يوجبها الاتصال في الولادة كانت موجودة بينهم، و ربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، و ولاية رئيس البيت و ربه لها.
و بالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع المجتمع المدني و البيتي زمام حياتها و إرادتها بيد رب البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما، يفعل بها ربها ما يشاء و يحكم فيها ما يريد، فربما باعها، و ربما وهبها، و ربما أقرضها للتمتع، و ربما أعطاها في حق يراد استيفاؤه منه كدين و خراج و نحوهما، و ربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، و بيده تدبير مالها إن ملكت شيئا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليها لا بالإرث لأنها كانت محرومة منه، و بيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها و بيد زوجها تطليقها.
و أما اليونان فالأمر عندهم في تكون البيوت و ربوبية أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم.
فقد كان الاجتماع المدني و كذا الاجتماع البيتي عندهم متقوما بالرجال، و النساء تبع لهم، و لذا لم يكن لها استقلال في إرادة و لا فعل إلا تحت ولاية الرجال، لكنهم.
جميعا ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال و لا تحكم لهن إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، و لا تثاب لحسناتها و لا تراعى جانبها إلا بالتبع و تحت ولاية الرجل.
و هذا بعينه من الشواهد الدالة على أن جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزءا ضعيفا من المجتمع الإنساني ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير أن للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يعتنى بشأنها، و تذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، و يحتلب الرجال درها إذا أحسنت أو نفعت، و لا تترك على حيال إرادتها صونا من شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ أسيرا مسترقا يعيش طول حياته تحت القهر، أن جاء بالسيئة يؤاخذ بها و إن جاء بالحسنة لم يشكر لها.
و هذا الذي سمعته: أن الاجتماع كان متقوما عندهم بالرجال هو الذي ألزمهم أن يعتقدوا أن الأولاد بالحقيقة هم الذكور، و أن بقاء النسل ببقائهم، و هذا هو منشأ ظهور عمل التبني و الإلحاق بينهم، فإن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوما بالخراب، و النسل مكتوبا عليه الفناء و الانقراض، فاضطر هؤلاء إلى اتخاذ أبناء صونا عن الانقراض و موت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناء لأنفسهم فكانوا أبناء رسما يرثون و يورثون و يرتب عليهم آثار الأبناء الصلبيين، و كان الرجل منهم إذا زعم أنه عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض أقاربه كأخيه و ابن أخيه فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولدا يدعوه لنفسه، و يقوم بقاء بيته.
و كان الأمر في التزويج و التطليق في اليونان قريبا منهما في الروم، و كان من الجائز عندهم تعدد الزوجات غير أن الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية و الباقية غير رسمية.
حال المرأة عند العرب و محيط حياتهم محيط نزول القرآن
و قد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة و هي منطقة حارة جدبة الأرض، و المعظم من أمتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة و المدنية، يعيشون بشن الغارات، و هم متصلون بإيران من جانب و بالروم من جانب و ببلاد الحبشة و السودان من آخر.
و لذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش، و ربما وجد خلالها شيء من عادات الروم و إيران، و من عادات الهند و مصر القديم أحيانا.
كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالا في الحياة و لا حرمة و لا شرافة إلا حرمة البيت و شرافته، و كانت لا تورث النساء، و كانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد بعدد معين كاليهود، و كذا في الطلاق، و كانت تئد البنات، ابتدأ بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدة من بناتهم، و القصة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثم سرت السجية في غيرهم، و كانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل منهم بنت يعدها عارا لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، لكن يسره الابن مهما كثر و لو بالدعاء و الإلحاق حتى أنهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه، و ربما نازع رجال من صناديدهم و أولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.
و ربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم و خاصة للبنات في أمر الازدواج فكان يراعي فيه رضى المرأة و انتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات.
و كيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة أهل المدنية من الروم و إيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، و الشركة في الأمور العامة الاجتماعية كالحكم و الحرب و أمر الازدواج إلا استثناء، و من معاملة أهل التوحش و البربرية، فلم يكن حرمانهن مستندا إلى تقديس رؤساء البيوت و عبادتهم، بل من باب غلبة القوي و استخدامه للضعيف.
و أما العبادة فكانوا يعبدون جميعا رجالا و نساء أصناما يشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب و أرباب الأنواع، و تتميز أصنامهم بحسب تميز القبائل و أهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب و الملائكة و هم بنات الله سبحانه بزعمهم و يتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم، و من أشياء مختلفة كالحجارة و الخشب، و قد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة أنهم اتخذوا لهم صنما من الحيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم: أكلت حنيفة ربها.
زمن التقحم و المجاعة.
لم يحذروا من ربهم.
سوء العواقب و التباعة.
و ربما عبدوا حجرا حتى إذا وجدوا حجرا أحسن منه طرحوا الأول و أخذوا بالثاني، و إذا لم يجدوا شيئا جمعوا حفنة من تراب ثم جاءوا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها.
و قد أودعت هذا الحرمان و الشقاء في نفوس النساء ضعفا في الفكرة يصور لها أوهاما و خرافات عجيبة في الحوادث و الوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير و التاريخ.
فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني من أدواره المختلفة قبل الإسلام و زمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التام، و يستنتج من جميع ذلك: أولا: أنهم كانوا يرونها إنسانا في أفق الحيوان العجم، أو إنسانا ضعيف الإنسانية منحطا لا يؤمن شره و فساده لو أطلق من قيد التبعية، و اكتسب الحرية في حياته، و النظر الأول أنسب لسيرة الأمم الوحشية و الثاني لغيرهم، و ثانيا: أنهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، و إنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترق الذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله و لا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين، و ثالثا: أنهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها، و رابعا: أن أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف و بعبارة أخرى قريحة الاستخدام، هذا في الأمم غير المتمدنة، و أما الأمم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، و لا يؤمن شرها، و ربما اختلط الأمر اختلاطا باختلاف الأمم و الأجيال.
ما ذا أبدعه الإسلام في أمرها
لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، و تحبسها في سجن الذلة و الهوان حتى صار الضعف و الصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها و عظمها و عليها كانت تحيا و تموت، و عادت ألفاظ المرأة و الضعف و الهوان كاللغات المترادفة بعد ما وضعت متباينة، لا عند الرجال فقط بل و عند النساء - و من العجب ذلك - و لا ترى أمة من الأمم وحشيها و مدنيها إلا و عندهم أمثال سائرة في ضعفها و هوان أمرها، و في لغاتهم على اختلاف أصولها و سياقاتها و ألحانها أنواع من الاستعارة و الكناية و التشبيه مربوطة بهذه اللفظة المرأة يقرع بها الجبان، و يؤنب بها الضعيف، و يلام بها المخذول المستهان و المستذل المنظلم، و يوجد من نحو قول القائل: و ما أدري و ليت أخال أدري.
أ قوم آل حصن أم نساء.
مئات و ألوف من النظم و النثر في كل لغة.
و هذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانية في أمر المرأة و إن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير و التواريخ من مذاهب الأمم و الملل في أمرها، فإن الخصائل الروحية و الجهات الوجودية في كل أمة تتجلى في لغتها و آدابها.
و لم يورث من السابقين ما يعتني بشأنها و يهم بأمرها إلا بعض ما في التوراة و ما وصى به عيسى بن مريم (عليهما السلام) من لزوم التسهيل عليها و الإرفاق بها.
و أما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمرا ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، و خالفهم جميعا في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم و أعفت آثارها، و ألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقادا و ما كانت تسير فيها سيرتها عملا.
أما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان و أن كل إنسان ذكرا أو أنثى فإنه إنسان يشترك في مادته و عنصره إنسانان ذكر و أنثى و لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم:» الحجرات - 13، فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلفا من إنسانين ذكر و أنثى هما معا و بنسبة واحدة مادة كونه و وجوده، و هو سواء كان ذكرا أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما، و لم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل.
و إنما أمهات الناس أوعية.
و لا قال مثل ما قاله الآخر: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا.
بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
بل جعل تعالى كلا مخلوقا مؤلفا من كل.
فعاد الكل أمثالا، و لا بيان أتم و لا أبلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى.
و قال تعالى: «أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض:» آل عمران - 195، فصرح أن السعي غير خائب و العمل غير مضيع عند الله و علل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبر صريحا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، و هو أن الرجل و المرأة جميعا من نوع واحد من غير فرق في الأصل و السنخ.
ثم بين بذلك أن عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه، و لا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إن عليهن سيئاتهن، و للرجال حسناتهن من منافع وجودهن، و سيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح.
و إذا كان لكل منهما ما عمل و لا كرامة إلا بالتقوى، و من التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، و العلم النافع، و العقل الرزين، و الخلق الحسن، و الصبر، و الحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علما، أو الرزينة عقلا، أو الحسنة خلقا أكرم ذاتا و أسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى و الفضيلة.
و في معنى الآية السابقة و أوضح منها قوله تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»: النحل - 97، و قوله تعالى: «و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب:» المؤمن - 40، و قوله تعالى: «و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون نقيرا»: النساء - 124.
و قد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله و هو من أبلغ الذم: «و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا و هو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون»: النحل - 59، و لم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عارا على المولود له، و عمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها، و ذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها و أبيها، و لذلك كانوا يئدون البنات و قد سمعت السبب الأول فيه فيما مر و قد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: «و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت «: التكوير - 9.
و قد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، و لم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدون الزنا عارا لازما على المرأة و بيتها و إن تابت دون الزاني و إن أصر، مع أن الإسلام قد جمع العار و القبح كله في المعصية، و الزاني و الزانية سواء فيها.
و أما وزنها الاجتماعي: فإن الإسلام ساوى بينها و بين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة و العمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل و الشرب و غيرهما من لوازم البقاء، و قد قال تعالى: «بعضكم من بعض:» آل عمران - 195، فلها أن تستقل بالإرادة و لها أن تستقل بالعمل و تمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق، «لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت».
فهما سواء فيما يراه الإسلام و يحقه القرآن و الله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي: إحداهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع و نمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث، و تمتاز بذلك من الرجل. و الثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية و رقة الشعور، و لذلك أيضا تأثير في أحوالها و الوظائف الاجتماعية المحولة إليها.
فهذا وزنها الاجتماعي، و بذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، و إليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما و ما يختص به أحدهما في الإسلام، قال تعالى: «و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن و اسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما:» النساء - 32، يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، و أن من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، و فضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، و منه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائنا من كان كفضل الإيمان و العلم و العقل و التقوى و سائر الفضائل التي يستحسنها الدين، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، و اسألوا الله من فضله، و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوامون، على ما سيجيء بيانه.
و أما الأحكام المشتركة و المختصة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية و الحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث و لا كسب و لا معاملة و لا تعليم و تعلم و لا اقتناء حق و لا دفاع عن حق و غير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك.
و عمدة هذه المورد: أنها لا تتولى الحكومة و القضاء، و لا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور و الإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلا، و لها نصف سهم الرجل في الإرث، و عليها: الحجاب و ستر مواضع الزينة، و عليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها، و تدورك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل: الأب أو الزوج، و أن عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، و أن لها حق تربية الولد و حضانته.
و قد سهل الله لها أنها محمية النفس و العرض حتى عن سوء الذكر، و أن العبادة موضوعة عنها أيام عادتها و نفاسها، و أنها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.
و المتحصل من جميع ذلك: أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم بأصول المعارف و العلم بالفروع الدينية أحكام العبادات و القوانين الجارية في الاجتماع، و أما في جانب العمل فأحكام الدين و طاعة الزوج فيما يتمتع به منها، و أما تنظيم الحياة - الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة و كذا الورود فيما يقوم به نظام البيت و كذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم و اتخاذ الصناعات و الحرف المفيدة - للعامة و النافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك، و لازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية و نحو ذلك كلها فضلا لها تتفاضل به، و فخرا لها تتفاخر به، و قد جوز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.
و السنة النبوية تؤيد ما ذكرناه، و لو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفا من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع زوجته خديجة و مع بنته سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) و مع نسائه و مع نساء قومه و ما وصى به في أمر النساء و المأثور من طريقة أئمة أهل البيت و نسائهم كزينب بنت علي و فاطمة و سكينة بنتي الحسين و غيرهن على جماعتهم السلام، و وصاياهم في أمر النساء.
و لعلنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.
و أما الأساس الذي بنيت عليه هذه الأحكام و الحقوق فهو الفطرة، و قد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء و نزيده هاهنا إيضاحا فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع و ما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية و التكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهاؤها بالأخرة إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خاليا عنه في زمان، و إن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم و العاهة.
فالاجتماع بجميع شئونه و جهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة و إن اختلف القسمان من حيث إن الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.
فهذه حقيقة، و قد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث و قد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، و قال تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى: الأعلى - 3، و قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقويها»: الشمس - 8، إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالأشياء و من جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها و حياتها إلى ما خلقت له و جهزت بما يكفيه و يصلح له من الخلقة، و الحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة و الفطرة انطباقا تاما، و تنتهي وظائفها و تكاليفها إلى الطبيعة انتهاء صحيحا، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم - 30.
و الذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف و الحقوق الاجتماعية بين الأفراد - على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يساوي بينهم في الحقوق و الوظائف من غير أن يحبا بعض و يضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد الصبي مثلا على صباوته و السفيه على سفاهته ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشئون و الدرجات، فإن في تسوية حال الصالح و غير الصالح إفسادا لحالهما معا.
بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي و يفسر به معنى التسوية أن يعطى كل ذي حق حقه و ينزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد و الطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقا، أو يهمل أو يبطل حق بغيا أو تحكما و نحو ذلك، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجة الآية، كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن و بين الرجال.
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال و النساء في أصول المواهب الوجودية أعني، الفكر و الإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر و الإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شئون حياتها الفردية و الاجتماعية عدا ما منع عنه مانع و قد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال و الحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة و العمل عن الرجال و ولايتهم و قيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها و خلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: «فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف» الآية،: البقرة - 234.
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ و القلب و الشرائين و الأعصاب و القامة و الوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، و استوجب ذلك أن جسمها ألطف و أنعم كما أن جسم الرجل أخشن و أصلب، و أن الإحساسات اللطيفة كالحب و رقة القلب و الميل إلى الجمال و الزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.
و لذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف و التكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقل، و الإحساس، فخص مثل الولاية و القضاء و القتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل و الحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، و خص مثل حضانة الأولاد و تربيتها و تدبير المنزل بالمرأة، و جعل نفقتها على الرجل، و جبر ذلك له بالسهمين في الإرث و هو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا و عينا و ثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، و الانتفاع و التمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن.
و سنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الإرث إن شاء الله تعالى ثم تمم ذلك بتسهيلات و تخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة إليها.
فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، و كفاية مئونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها و كسلها و تثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال و الأشغال فتنمو على ذلك نماء رديا و تنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع، و قد أيدت التجربة ذلك.
قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، و إجراء ذلك بالسيرة الصالحة و التربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتا حسنا أمر آخر، و الذي أصيب به الإسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين و القوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام، و توقفت التربية ثم رجعت القهقرى.
و من أوضح ما أفاده التجارب القطعي: أن مجرد النظر و الاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ و التربية الصالحين، و المسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم و العمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم و إنما كنت أقاتلكم لأتأمر عليكم و قد فعلت، و هذا غيره من الأمويين و العباسيين فمن دونهم.
و لو لا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ و الله متم نوره و لو كره الكافرون لقضي عليه منذ عهد قديم.
حرية المرأة في المدنية الغربية
لا شك أن الإسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، و إعطائها الاستقلال في الإرادة و العمل، و أن أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام - و إن أساءوا التقليد و المحاذاة - فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية و هي متوسطة متخللة، و من المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.
و بالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل و المرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.
و الرأي العام عندهم تقريبا: أن تأخر المرأة في الكمال و الفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها و مكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.
و يتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، و لو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه و لو في بعض الأحيان و لتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة و غيرها إلى مثل ما في الرجل.
و يؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، و لم يزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية و القضاء و القتال تقدم الرجال و تؤخر النساء، و أما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إن شاء الله تعالى.
بحث علمي آخر
عمل النكاح من أصول الأعمال الاجتماعية، و البشر منذ أول تكونه و تكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، و قد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتداء أو بالأخرة.
و قد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقه الفحولة و الأناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل و المرأة - و هو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور و الإناث - لم يوضع هباء باطلا، و من البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث و كذا العكس، و أن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل و إبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة و جميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها، و لذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، و وضع عليه أحكام العفة و المواقعة و اختصاص الزوجة بالزوج و أحكام الطلاق و العدة و الأولاد و الإرث و نحو ذلك.
و أما القوانين الآخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي و نحو ذلك، و لذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من أحكام العفة و نحو ذلك.
و هذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات و المحاذير الاجتماعية على ما سنبين إن شاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة و الفطرة أصلا، فإن غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع و تشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة و أعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع و التعاون فالجميع يقوم بالجميع، و الأشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الأشغال و نحو من أنحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال و الأعمال.
و هذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع و التعاون بين الفرد و الفرد أيا ما كانا، و أما الاجتماع الكائن من رجل و امرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل و التوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة و الفطرة بالنسبة إليه.
و لو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون و الاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الأحكام الاجتماعية بشيء أصلا إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة و التعاون، و في ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا و إبطال أحكام الأنساب و المواريث كما التزمته الشيوعية، و في ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور و الإناث من الإنسان، و سنزيده إيضاحا في محل يناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، و أما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلامية، و قد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه، و أما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجيء الكلام فيها في سورة الطلاق إن شاء الله العزيز.
و قد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن.
|