بيان
قصة دخول آدم و زوجه الجنة و خروجهما منها بوسوسة من الشيطان و قضائه تعالى عند ذلك بتشريع الدين و سعادة من اتبع الهدى و شقاء من أعرض عن ذكر الله.
و قد وردت القصة في هذه السورة بأوجز لفظ و أجمل بيان، و عمدة العناية فيها - كما يشهد به تفصيل ذيلها - متعلقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين و الجزاء بالثواب و العقاب، و يؤيده أيضا التفريع بعدها بقوله: «و كذلك نجزي من أسرف و لم يؤمن بآيات ربه» إلخ، نعم للقصة تعلق ما أيضا من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدم: «و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى».
و القصة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة و غيرها مما ذكرت فيها كالبقرة و الأعراف - تمثل حال الإنسان بحسب طبعه الأرضي المادي فقد خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم و غمره في نعمه التي لا تحصى و أسكنه جنة الاعتدال و منعه عن تعديه بالخروج إلى جانب الإسراف باتباع الهوى و التعلق بسراب الدنيا و نسيان جانب الرب تعالى بترك عهده إليه و عصيانه و اتباع وسوسة الشيطان الذي يزين له الدنيا و يصور له و يخيل إليه أنه لو تعلق بها و نسي ربه اكتسب بذلك سلطانا على الأسباب الكونية يستخدمها و يستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة و أنها باقية له و هو باق لها، حتى إذا تعلق بها و نسي مقام ربه ظهرت له سوآت الحياة و لاحت له مساوىء الشقاء بنزول النوازل و خيانة الدهر و نكول الأسباب و تولي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود أخرى و يميل من عذاب إلى ما هو أشد منه و يعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتى يؤمر بالخروج من جنة النعمة و الكرامة إلى مهبط الشقاء و الخيبة.
فهذه هي التي مثلت لآدم (عليه السلام) إذ أدخله الله الجنة و ضرب له بالكرامة حتى آل أمره إلى ما آل إلا أن واقعته (عليه السلام) كانت قبل تشريع أصل الدين و جنته جنة برزخية ممثلة في عيشة غير دنيوية فكان النهي لذلك إرشاديا لا مولويا و مخالفته مؤدية إلى أمر قهري ليس بجزاء تشريعي كما تقدم تفصيله في تفسير سورتي البقرة و الأعراف.
قوله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما» المراد بالعهد الوصية و بهذا المعنى يطلق على الفرامين و الدساتير العهود، و النسيان معروف و ربما يكنى به عن الترك لأنه لازمه إذ الشيء إذا نسي ترك، و العزم القصد الجازم إلى الشيء قال تعالى: «فإذا عزمت فتوكل على الله:» آل عمران: 159 و ربما أطلق على الصبر و لعله لكون الصبر أمرا شاقا على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ و أثبت فسمي الصبر باسم لازمه قال تعالى: «إن ذلك لمن عزم الأمور».
فالمعنى و أقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية و لم نجد له قصدا جازما إلى حفظها أو صبرا عليها و العهد المذكور - على ما يظهر من قصته (عليه السلام) في مواضع من كلامه تعالى - هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله: «لا تقربا هذه الشجرة:» الأعراف: 19.
قوله تعالى: «و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى» معطوف على مقدر و التقدير اذكر عهدنا إليه و اذكر وقتا أمرنا الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس حتى يظهر أنه نسي و لم يعزم على حفظ الوصية، و قوله: «أبى» جواب سؤال مقدر تقديره ما ذا فعل إبليس؟ فقيل: أبى.
قوله تعالى: «فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى» تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلما أبى قلنا إرشادا لآدم إلى ما فيه صلاح أمره و نصحا: إن هذا الآبي عن السجدة - إبليس - عدو لك و لزوجك إلخ.
و قوله: «فلا يخرجنكما من الجنة» توجيه نهي إبليس عن إخراجهما من الجنة إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده و الاستهانة بمكره أي لا تطعه أو لا تغفل عن كيده و تسويله حتى يتسلط عليكما و يقوى على إخراجكما من الجنة و إشقائكما.
و قد ذكر الإمام الرازي في تفسيره وجوها لسبب عداوة إبليس لآدم و زوجه و هي وجوه سخيفة لا فائدة في الإطناب بنقلها، و الحق أن السبب فيها هو طرده من حضرة القرب و رجمه و جعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على ما حكاه الله: «قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين»: الحجر: 39.
و قوله: «قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا:» الإسراء: 62، و معلوم أن تكريم آدم عليه هو تكريم نوع الإنسان عليه كما أن أمره بالسجدة له كان أمرا بالسجدة لنوع الإنسان فأصل السبب هو تقدم الإنسان و تأخر الشيطان ثم الطرد و اللعن.
و قوله: «فتشقى» تفريع على خروجهما من الجنة و المراد بالشقاء التعب أي فتتعب إن خرجتما من الجنة و عشتما في غيرها و هو الأرض عيشة أرضية لتهاجم الحوائج و سعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام و الشراب و اللباس و المسكن و غيرها.
و الدليل على أن المراد بالشقاء التعب الآيتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره: «إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى».
و هو أيضا دليل على أن النهي إرشادي ليس في مخالفته إلا الوقوع في المفسدة المترتبة على نفس الفعل و هو تعب السعي في رفع حوائج الحياة و اكتساب ما يعاش به و ليس بمولوي تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد و تستتبع مؤاخذة أخروية.
على أنك عرفت أنه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الأمر بالخروج من الجنة و الهبوط إلى الأرض.
و أما إفراد قوله: «فتشقى» و لم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلأن العهد إنما نزل على آدم (عليه السلام) و كان التكليم متوجها إليه، و لذلك جيء بصيغة الإفراد في جميع ما يرجع إليه كقوله: «فنسي و لم نجد له عزما» «فتشقى» «ألا تجوع فيها و لا تعرى» «لا تظمؤا فيها و لا تضحى» «فوسوس إليه» إلخ «و عصى» إلخ «ثم اجتباه ربه فتاب عليه» نعم جيء بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله: «عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما» «فأكلا منها فبدت لهما» «و طفقا يخصفان عليهما» «قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو» فتدبر و قيل إن إفراد: «تشقى» من جهة أن نفقة المرأة على المرء و لذا نسب الشقاء و هو التعب في اكتساب المعاش إلى آدم و فيه.
أن الآيتين التاليتين لا تلائمان ذلك و لو كان كما قال لقيل: إن لكما أن لا تجوعا إلخ، و قيل: إن الإفراد لرعاية الفواصل و هو كما ترى.
قوله تعالى: «إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى» يقال: ضحى يضحى كسعى يسعى ضحوا و ضحيا إذا أصابته الشمس أو برز لها و كأن المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر و البرد.
و قد رتبت الأمور الأربعة على نحو اللف و النشر المرتب لرعاية الفواصل و الأصل في الترتيب أن لا تجوع فيها و لا تظمأ و لا تعرى و لا تضحى.
قوله تعالى: «فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى» الشيطان هو الشرير لقب به إبليس لشرارته، و المراد بشجرة الخلد الشجرة المنهية و البلى صيرورة الشيء خلقا خلاف الجديد.
و المراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة، و المراد بملك لا يبلى سلطنة لا تتأثر عن مرور الدهور و اصطكاك المزاحمات و الموانع فيئول المعنى إلى نحو قولنا هل أدلك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة و ملكا دائما فليس قوله: «لا يبلى» تكرارا لإفادة التأكيد كما قيل.
و الدليل على ما ذكره ما في سورة الأعراف في هذا المعنى من قوله: «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين:» الأعراف: 20» و لا منافاة بين جمع خلود الحياة و دوام الملك هاهنا بواو الجمع و بين الترديد بينهما في سورة الأعراف لإمكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلو لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع هاهنا باعتبار الاتصاف بهما جميعا و الترديد هناك باعتبار تعلق النهي كأنه قيل: إن في هذه الشجرة صفتين و إنما نهاكما ربكما عنها إما لهذه، أو لهذه أو إنما نهاكما ربكما عنها أن لا تخلدا في الجنة مع ملك خالد أو أن لا تخلدا بناء على أن الملك الخالد يستلزم حياة خالدة فافهم ذلك و كيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية و الجمع في أخرى.
قوله تعالى: «فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» تقدم تفسيره في سورة الأعراف.
قوله تعالى: «و عصى آدم ربه فغوى» الغي خلاف الرشد الذي هو بمعنى إصابة الواقع و هو غير الضلال الذي هو الخروج من الطريق، و الهدى يقابلهما و يكون بمعنى الإرشاد إذا قابل الغي كما في الآية التالية و بمعنى إراءة الطريق، أو الإيصال إلى المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضي تفسير الغي في الآية بمعنى الضلال.
و معصية آدم - ربه كما أشرنا إليه آنفا و قد تقدم تفصيله - إنما هي معصية أمر إرشادي لا مولوي و الأنبياء (عليهم السلام) معصومون من المعصية و المخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم من جهة تلقيه فلا يخطئون، و من جهة حفظه فلا ينسون و لا يحرفون، و من جهة إلقائه إلى الناس و تبليغه لهم قولا فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم و فعلا فلا يخالف فعلهم قولهم و لا يقترفون معصية صغيرة و لا كبيرة لأن في الفعل تبليغا كالقول، و أما المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز المأمور خيرا أو منفعة من خيرات حياته و منافعها بانتخاب الطريق الأصلح كما يأمر و ينهى المشير الناصح نصحا فإطاعته و معصيته خارجتان من مجرى أدلة العصمة و هو ظاهر.
و ليكن هذا معنى قول القائل إن الأنبياء (عليهم السلام) على عصمتهم يجوز لهم ترك الأولى و منه أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة و الآية من معارك الآراء و قد اختلفت فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمة الأنبياء و كل يجر النار إلى قرصته.
قوله تعالى: «ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى» الاجتباء - كما تقدم مرارا - بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه فيه أحد و جعله من المخلصين بفتح اللام، و على هذا المعنى يتفرع عليه قوله: «فتاب عليه و هدى»، كأنه كان ذا أجزاء متفرقة متشتتة فجمعها من هنا و هناك إلى مكان واحد ثم تاب عليه و رجع إليه و هداه و سلك به إلى نفسه.
و إنما فسرنا قوله: «هدى» و هو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، و لا ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لأن الهداية إليه تعالى أصل كل هداية و محتدها، نعم يجب تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حق و عمل صالح، و الدليل عليه تفريع الهداية في الآية على الاجتباء، فافهم ذلك.
و على هذا فلا يرد على ما قدمنا أن ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعا عنه و إذ كانت غواية في أمر إرشادي فالآية تدل على إعطاء العصمة له في موارد الأمر المولوية و الإرشادية جميعا و صونه عن الخطإ في أمر الدين و الدنيا معا.
و وجه عدم الورود أن ظاهر تفرع الهداية على الاجتباء كونه مهديا إلى ما كان الاجتباء له و الاجتباء إنما يتعلق بما فيه السعادة الدينية و هو قصر العبودية في الله سبحانه فالهداية أيضا متعلقة بذلك و هي الهداية التي لا واسطة فيها بينه تعالى و بين العبد المهدي و لا تتخلف أصلا كما قال: «فإن الله لا يهدي من يضل:» النحل: 37، و الهداية إلى منافع الحياة أيضا و إن كانت راجعة إليه تعالى لكنها مما تتخلل الأسباب فيها بينها و بينه تعالى و الأسباب ربما تخلفت، فافهم ذلك.
قوله تعالى: «قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو» تقدم تفسير مثله في سورتي البقرة و الأعراف.
و في قوله: «قال اهبطا» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و الإفراد و لعل الوجه فيه اشتمال الآية على القضاء و الحكم و هو مما يختص به تعالى قال: «و الله يقضي بالحق»: المؤمن: 20، و قال: «إن الحكم إلا لله»: يوسف: 67.
قوله تعالى: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى» في الآية قضاء منه تعالى متفرع على الهبوط و لذا عطف بفاء التفريع، و أصل قوله: «فإما يأتينكم» فإن يأتكم زيد عليه ما و نون التأكيد للإشارة إلى وقوع الشرط كأنه قيل: إن يأتكم مني هدى - و هو لا محالة آت - فمن اتبع «إلخ».
و في قوله: «فمن اتبع هداي» نسبة الاتباع إلى الهدى على طريق الاستعارة بالكناية، و أصله: من اتبع الهادي الذي يهدي بهداي.
و قوله: «فلا يضل و لا يشقى» أي لا يضل في طريقه و لا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره، و إطلاق الضلال و الشقاء يقضي بنفي الضلال و الشقاء عنه في الدنيا و الآخرة جميعا و هو كذلك فإن الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه، و دين الفطرة هو مجموع الاعتقادات و الأعمال التي تدعو إليها فطرة الإنسان و خلقته بحسب ما جهز به من الجهازات، و من المعلوم أن سعادة كل شيء هو ما تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم: 30.
قوله تعالى: «و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى» قال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان و هو أخص من الحياة لأن الحياة يقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك و يشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا» «معيشة ضنكا» انتهى، و الضنك هو الضيق من كل شيء و يستوي فيه المذكر و المؤنث، يقال: مكان ضنك و معيشة ضنك و هو في الأصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق.
و قوله: «و من أعرض عن ذكري» يقابل قوله في الآية السابقة: «فمن اتبع هداي» و كان مقتضى المقابلة أن يقال: «و من لم يتبع هداي» و إنما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر ليشير به إلى علة الحكم لأن نسيانه تعالى و الإعراض عن ذكره هو السبب لضنك العيش و العمى يوم القيامة، و ليكون توطئة و تمهيدا لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا.
و المراد بذكره تعالى أما المعنى المصدري فقوله: «ذكري» من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الآتي: «أتتك آياتنا فنسيتها» أو الدعوة الحقة و تسميتها ذكرا لأن لازم اتباعها و الأخذ بها ذكره تعالى.
و قوله: «فإن له معيشة ضنكا» أي ضيقة و ذلك أن من نسي ربه و انقطع عن ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا و يجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له و يهتم بإصلاح معيشته و التوسع فيها و التمتع منها، و المعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لأنه كلما حصل منها و اقتناها لم يرض نفسه بها و انتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد و أوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر و حنق مما وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم و الغم و الحزن و القلق و الاضطراب و الخوف بنزول النوازل و عروض العوارض من موت و مرض و عاهة و حسد حاسد و كيد كائد و خيبة سعي و فراق حبيب.
و لو أنه عرف مقام ربه ذاكرا غير ناس أيقن أن له حياة عند ربه لا يخالطها موت و ملكا لا يعتريه زوال و عزة لا يشوبها ذلة و فرحا و سرورا و رفعة و كرامة لا تقدر بقدر و لا تنتهي إلى أمد و أن الدنيا دار مجاز و ما حياتها في الآخرة إلا متاع فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا و وسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق و ضنك.
و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر و شقاء الحياة البرزخية بناء على أن كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها و ألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة.
و فيه أنه مبني على مقايسة معيشة الغني من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين و الإمكانات التي فيهما و لا يتعلق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتة، و إنما تبحث الآيات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن و هو مسلح بذكر الله و الإيمان به من المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربه المتعلق النفس بالحياة الدنيا الأعزل من الإيمان و لا ريب أن للمؤمن حياة حرة سعيدة يسعه ما أكرمه ربه به من معيشة و إن كانت بالعفاف و الكفاف أو دون ذلك، و ليس للمعرض عن ذكر ربه إلا عدم الرضا بما وجد و التعلق بما وراءه.
نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: «فإن له معيشة ضنكا» متعرضا لبيان حالهم في الدنيا و قوله: «و نحشره يوم القيامة أعمى» لبيان حالهم في الآخرة و البرزخ من أذناب الدنيا.
و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، و بقوله: «و نحشره» إلخ، ما قبل دخول النار.
و فيه أن إطلاق قوله: «فإن له معيشة ضنكا» ثم تقييد قوله: «و نحشره» بيوم القيامة لا يلائمه و هو ظاهر.
نعم لو أخذ أول الآية مطلقا يشمل معيشة الدنيا و الآخرة جميعا و آخرها لتقيده بيوم القيامة مختصا بالآخرة كان له وجه.
و قوله: «و نحشره يوم القيامة أعمى» أي بحيث لا يهتدي إلى ما فيه سعادته و هو الجنة و الدليل على ذلك ما يأتي في الآيتين التاليتين.
قوله تعالى: «قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا» يسبق إلى الذهن أن عمى يوم القيامة يتعلق ببصر الحس فإن الذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الذي كان له في الدنيا و هو بصر الحس دون بصر القلب الذي هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر ما دل على أن المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم و آيات العظمة و القهر كقوله تعالى: «إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا»: الم السجدة: 12، و قوله: «اقرأ كتابك:» الإسراء: 14، و لذلك ذكر بعضهم أنهم يحشرون أولا مبصرين ثم يعمون، و بعضهم أنهم يحشرون مبصرين ثم عميا ثم مبصرين.
و هذا قياس أمور الآخرة و أحوالها بما لها من نظير في الدنيا و هو قياس مع الفارق فإن من الظاهر المسلم من الكتاب و السنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا الذي نألفه من الطبيعة و كون البصير مبصرا لكل مبصر و الأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي لا دليل على عمومه للنظام الأخروي فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته و فلاحه و فوزه بالكرامة و هو يشاهد ما يتم به الحجة عليه و ما يفزعه من أهوال القيامة و ما يشتد به العذاب عليه من النار و غيرها، قال تعالى: «إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون:» المطففين: 15.
قوله تعالى: «قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى» الآية جواب سؤال السائل: «رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا» و الإشارة في قوله: «كذلك أتتك» إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، و في قوله: «و كذلك اليوم» إلى معنى قوله: «أتتك آياتنا فنسيتها» و المعنى قال: كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا فنسيتها و كما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إن حشرك اليوم أعمى و تركك لا تبصر شيئا مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشيء المنسي و عدم اهتدائك بها مثل تركنا لك اليوم و عدم هدايتك بجعلك بصيرا تهتدي إلى النجاة، و بعبارة أخرى إنما جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى: «و جزاء سيئة سيئة مثلها:» الشورى: 40.
و قد سمى الله سبحانه معصية المجرمين و هم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسيانا لآياته، و مجازاتهم بالإعماء يوم القيامة نسيانا منه لهم و انعطف بذلك آخر الكلام إلى أوله و هو معصية آدم التي سماها نسيانا لعهده إذ قال: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي» فكأن قصة جنة آدم بما لها من الخصوصيات كانت مثالا من قبل يمثل به ما سيجري على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينية و الهدى الإلهي بعده، و بمعصيته التي كانت نسيانا للعهد معاصي بنيه التي هي نسيان لذكره تعالى و آياته المذكرة، و إنما الفرق أن ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع فكان النهي المتوجه إليه إرشاديا و ما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الأولى بخلاف الأمر في بنيه.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما» قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة.
و في تفسير العياشي، عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكره و يقول له إبليس: «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين».
أقول: و هذا قول من قال في الآية بأن النسيان بمعناه الحقيقي و أن آدم نسي النهي عند الأكل حقيقة و لم يكن له عزم على المعصية أصلا، رد (عليه السلام) ذلك بمخالفة الكتاب، و به يظهر ضعف ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول الله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما».
و هذا القول منسوب إلى ابن عباس و الأصل فيه ما رواه في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب عن قول الله: «يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم» قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شيء فقالوا يوما: و الله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا فأنزل الله ما قرأت. ثم قال لي: إن صاحبكم هذا يعني علي بن أبي طالب إن ولي زهد و لكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به. قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت و الله ما نقول: إنه غير و لا عدل و لا أسخط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام صحبته. فقال: و لا في بنت أبي جهل و هو يريد أن يخطبها على فاطمة؟ قلت: قال الله في معصية آدم (عليه السلام): «و لم نجد له عزما» و صاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لكن الخواطر التي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، و ربما كانت من الفقيه في دين الله العالم بأمر الله فإذا نبه عليها رجع و أناب فقال: يا بن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا.
فقد بنى حجته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية و لازمه كون المراد بالنسيان معناه الحقيقي، فآدم لم يذكر العهد حين الأكل و لا عزم على المعصية فلم يعص ربه، و قد تقدم أنه مخالف لقوله: «قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين» على أن الآية بالمعنى الذي ذكره لا تناسب سياق الآيات السابقة عليها و لا اللاحقة، و من الحري أن يجل ابن عباس و هو هو عن أن ينسب إليه هذا القول.
و أما ما وقع في الحديث من سخط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام) في إرادته خطبة بنت أبي جهل على فاطمة (عليها السلام) فإشارة إلى ما في صحيح البخاري، و صحيح مسلم، بعدة طرق عن المسور بن مخرمة و لفظ بعضها: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل و عنده فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك و هذا علي ناكحا ابنة أبي جهل، قال المسور: فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني و أن فاطمة مضغة مني و إنما أكره أن يفتنوها و إنها و الله لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدو الله عند رجل واحد أبدا. قال: فترك علي الخطبة.
و الإمعان في التأمل فيما يتضمنه الحديث يوجب سوء الظن به فإن فيه طعنا صريحا في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان ما يتضمنه حقا كانت السخطة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزعة جاهلية من غير مجوز يجوزها له فبما ذا كان يسخط عليه؟ أ بقوله تعالى: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع» الآية، و هو عام لم ينسخ و لم يخصص بآية أخرى خاصة بها؟ أم بشيء من السنة يخصص الآية بفاطمة (عليها السلام) و يشرع فيها خاصة حكما شخصيا بالتحريم فلم يثبت و لم يبلغ قبل ذلك، و في لفظ الحديث دلالة على ذلك أم أن نفس هذا القول بيان و تبليغ فلم يبين و لم يبلغ قبل ذلك و لا بأس بمخالفة الحكم قبل بلوغه و لا معصية فيها، فما معنى سخطه (صلى الله عليه وآله وسلم) على من لم يأت بمعصية و لا عزم عليها، و ساحته (صلى الله عليه وآله وسلم) منزهة من هذه الشيم الجاهلية، و كأن بعض رواة الحديث أراد به الطعن في علي (عليه السلام) فطعن في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث لا يشعر.
على أنه يناقض الروايات القطعية الدالة على نزاهة ساحة علي (عليه السلام) من المعصية كخبر الثقلين و خبر المنزلة و خبر علي مع الحق و الحق مع علي، إلى غير ذلك.
و في الكافي، و العلل، مسندا عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل - فنسي و لم نجد له عزما» قال: عهد إليه في محمد و الأئمة من ولده فترك و لم يكن له عزم فيهم أنه هكذا، و إنما سموا أولي العزم لأنهم عهد إليهم في محمد و الأوصياء من بعده و المهدي و سيرته فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك و الإقرار به.
أقول: و الرواية ملخصة من حديث مفصل رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) يذكر فيه بدء خلق الإنسان ثم إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذر و أخذ الميثاق من آدم (عليه السلام) و من أولي العزم من الرسل بالربوبية و النبوة و الولاية و إقرار أولي العزم على ذلك و توقف آدم (عليه السلام) و عدم عزمه على الإقرار و إن لم يجحد ثم تطبيق قوله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم» الآية، عليه.
و المعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن أرجع فيه الأحكام إلى حقيقتها و العهود إلى تأويلها و هو الولاية الإلهية، و ليس من تفسير لفظ الآية في شيء، و الدليل على أنه ليس بتفسير أن الآيات - و هي اثنتا عشرة آية - تقص قصة واحدة و لو حملت الآية الأولى على هذا المعنى تفسيرا لم يبق في الآيات ما يدل على النهي عن أكل الشجرة و هو ركن القصة عليه يعتمد الباقي، و لا يغني عنه قوله: «فلا يخرجنكما من الجنة»، و هو ظاهر، و لم يذكر النهي المذكور في سورة متقدمة نزولا على هذه السورة حتى يحال إليه و سورتا الأعراف و البقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخرتان نزولا عن هذه السورة كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله.
و بالجملة فهو من البطن دون التفسير و إن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير كرواية جابر السابقة و لعله مما اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة و قد بلغ الأمر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الإمام من المعنى جزءا من الآية فصارت من أخبار التحريف كما في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم» كذا نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و نظير هذه الروايات روايات أخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى: «فمن اتبع هداي» و قوله: «عن ذكري» على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) و هي من روايات الجري دون التفسير كما توهم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني و أبو نعيم في الحلية و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا و وقاه سوء الحساب يوم القيامة، و ذلك أن الله يقول: «فمن اتبع هداي - فلا يضل و لا يشقى.
أقول: الحديث ينزل قوله تعالى «فلا يضل» على الدنيا و قوله: «و لا يشقى» على الآخرة فيؤيد ما تقدم في تفسير الآية.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «فإن له معيشة ضنكا»: و قيل: هو عذاب القبر: عن ابن مسعود و أبي سعيد الخدري و السدي، و رواه أبو هريرة مرفوعا: و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز و جل: «و نحشره يوم القيامة أعمى قال: قلت: سبحان الله أعمى؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحق:. أقول: و روى مثله القمي في تفسيره مسندا عن معاوية بن عمار و الصدوق في من لا يحضره الفقيه، مرسلا عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام):.
و الرواية في تخصيصها عمى يوم القيامة بطريق الحق و هو طريق النجاة و السعادة تؤيد ما تقدم في تفسير الآية.
|