بيان
تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تجيب عنه.
قوله تعالى: «قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون» إلخ في التعبير بمثل قوله: «و قال الذين كفروا» من غير أن يقال: و قالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله «و اتخذوا من دونه آلهة» تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين.
و المشار إليه بقولهم: «إن هذا» القرآن الكريم، و إنما اكتفوا بالإشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشيء من أوصافه إزراء به و حطا لقدره.
و الإفك هو الكلام المصروف عن وجهه، و مرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نسبه إلى الله سبحانه.
و السياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب و قد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حويطب بن عبد العزى و يسار مولى العلاء بن الحضرمي و جبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة أسلموا و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتعهدهم فقيل ما قيل.
و قوله: «فقد جاءوا ظلما و زورا» قال في مجمع البيان:، إن جاء و أتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما و كذبا، و قيل إن ظلما منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد جاءوا بظلم، و قيل: حال و التقدير فقد جاءوا ظالمين و هو سخيف.
و فيه، أيضا: و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: لما تقدم التحدي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى هاهنا بالتنبيه على ذلك انتهى و الظاهر أن الجواب عن قولهم: «إن هذا إلا إفك افتراه» إلخ، و قولهم: «أساطير الأولين اكتتبها» إلخ، جميعا هو قوله تعالى: «قل أنزله الذي يعلم السر» إلخ، على ما سنبين و الجملة أعني قوله: «فقد جاءوا ظلما و زورا» رد مطلق لقولهم و هو في معنى المنع مع السند و سنده الآيات المشتملة على التحدي.
و بالجملة معنى الآية: و قال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نسبه إلى الله - افترى به على الله و أعانه على هذا الكلام قوم آخرون و هم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما و كذبا.
قوله تعالى: «و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا» الأساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب و يغلب استعماله في الأخبار الخرافية و الاكتتاب هو الكتابة و نسبته إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كونه أميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الأمير كتبت إلى فلان كذا و كذا و إنما كتبه كاتبه بأمره، و الدليل على ذلك قوله بعد: «فهي تملى عليه بكرة و أصيلا» إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للإملاء، و قيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.
و الإملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه و يعيه أو إلى الكاتب ليكتبه و المراد به في الآية هو المعنى الأول على ما يعطيه سياق «اكتتبها فهي تملى عليه» إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعة و الإملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرأ عليه وقتا بعد وقت و هو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه و حفظه.
و البكرة و الأصيل الغداة و العشي، و هو كناية عن الوقت بعد الوقت، و قيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم و آخر النهار بعد دخولهم في منازلهم و هو كناية عن أنها تملى عليه خفية.
و الآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الأولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت بقراءة شيء بعد شيء عليه، و هو يقرؤها على الناس و ينسبها إلى الله سبحانه.
فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا و ربما قيل: إن قوله «اكتتبها فهي تملى عليه» إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، و هو استفهام إنكاري لقولهم: أساطير الأولين و السياق لا يساعد عليه.
قوله تعالى: «قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات و الأرض إنه كان غفورا رحيما» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برد قولهم و تكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى و أنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت.
و توصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الأمور و بواطنها في السماوات و الأرض للإيذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، و فيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى و أنه من الأساطير و هو مما يعلمه تعالى.
و قوله: «إنه كان غفورا رحيما» تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم و تأخير عقوبتهم على جناياتهم و تكذيبهم للحق و جرأتهم على الله سبحانه.
و المعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى و لا من الأساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرارا خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم و لا تحيط بها أحلامكم، و رميكم إياه بالإفك و الأساطير و تكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم و أخر عقوبة جنايتكم لأنه متصف بالمغفرة و الرحمة و ذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية.
و فيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى و من الأساطير بدعوى أنه منزل من عند الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها.
على أن التعليل بقوله: «إنه كان غفورا رحيما» إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الإمهال و التأخير و إنما المناسب للإمهال و التأخير من الأسماء هو مثل الحليم و العليم و الحكيم دون الغفور الرحيم.
و الأوفق لمقام المخاصمة و الدفاع بإبانة الحق و التعليل بالمغفرة و الرحمة أن يكون قوله «: إنه كان غفورا رحيما» تعليلا لإنزال الكتاب و قد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا و هذه هي النبوة، و يكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات و الأرض للإيماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة و الرحمة الإلهيتين لحالهم و هو طلبهم بفطرتهم و جبلتهم للسعادة و العاقبة الحسنى التي ليست حقيقتها إلا السعادة الإنسانية بشمول المغفرة و الرحمة و إن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا و زينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، و بطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأولين.
و تقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات و الأرض و هو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة و طلبا و انتزاعا للعاقبة الحسنى و حقيقتها فوز الدنيا و الآخرة، و كان سبحانه غفورا رحيما و مقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم و بلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة.
و هذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله و لا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم و تستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة و الرحمة و إن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله و لو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة و لم يدع إلى محض الحق و لاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم و نفعكم و هو الذي يجلب إليكم المغفرة و الرحمة، و تارة إلى ما هو شر لكم و ضار و هو الذي يثير عليكم السخط الإلهي و يستوجب لكم العقوبة.
قوله تعالى: «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها» هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: «و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه» إلخ.
و تعبيرهم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: «هذا الرسول» مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم و الاستهزاء.
و قولهم: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق» استفهام للتعجيب و الوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب و هو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، و متلوث بقذاراتها، و لذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله و يقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، و ليس للبشر شيء من ذلك.
و من هنا يظهر معنى قولهم: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق» و أن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام و المشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، و ليست إلا من شئون الملائكة و لذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: «لو شاء الله لأنزل ملائكة»: المؤمنون: 24 أو ما في معناه.
و من هنا يظهر أيضا أن قولهم: «لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا» تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا و هو يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و الرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية فإن، تنزلنا و سلمنا رسالته و هو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الإنذار و تبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك.
و كذا قولهم: «أو يلقى إليه كنز» تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك و استقل بالرسالة و هو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية و لا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، و نزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.
و كذا قولهم: «أو تكون له جنة يأكل منها» تنزل عما قبله في الاقتراح، و المعنى: و إن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها و لا يحتج إلى كسب المعاش و هذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.
قوله تعالى: «و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر و وصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم و الاجتراء على الله و رسوله.
و قولهم: «إن تتبعون» إلخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم و إغواء عن طريق الحق، و مرادهم بالرجل المسحور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة و الكتاب.
قوله تعالى: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا» الأمثال الأشباه و ربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: «مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن»: سورة محمد: 15، و المحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة و لا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش، و كقولهم: إنه رجل مسحور.
و قوله: «فضلوا فلا يستطيعون سبيلا» أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق و لا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، و ربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، و من سمى كتاب الله بالأساطير و وصف رسوله بالمسحور و لم يزل يزيد تعنتا و لجاجا و استهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه و حاله هذه؟.
قوله تعالى: «تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار و يجعل لك قصورا» الإشارة في قوله: «من ذلك» إلى ما اقترحوه من قولهم: «أو تكون له جنة يأكل منها» أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز و الجنة.
و القصور جمع قصر و هو البيت المشيد العالي، و تنكير «قصورا» للدلالة على التعظيم و التفخيم.
و الآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا و كذا بل عدل إلى قوله: «تبارك الذي إن شاء جعل لك» إلخ.
و فيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا و لا يصلحون لأن يخاطبوا لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، و لم يدع أن له قدرة غيبية و سلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الإسراء، «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا»: إسراء: 93.
فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم و عن الجواب عما اقترحوه، و إنما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ربه الذي اتخذه رسولا و أنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، و يجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف و ذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.
و بهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز و الجنة، و أما نزول الملك إليه ليشاركه في الإنذار و يعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، و قد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: «و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون»: الأنعام: 9، و قوله: «قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا»: إسراء: 95، و قوله: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين»: الحجر: 8، و قد تقدم تقرير حجة كل من الآيات في ضمن تفسيرها.
و من هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات و القصور له (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة و رد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت و كيت و هم يريدون تعجيزك و تبكيتك و إن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار إلخ و هي لا محالة في الدنيا و إلا لم ينقطع به الخصام.
و بذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة و قصورها و أفسد منه قول آخرين إن المراد جعل جنات تجري من تحتها الأنهار في الدنيا و جعل القصور في الآخرة، و ربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: «إن شاء جعل» و هو صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا و في القصور بقوله: «يجعل» و هو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، و الاختلاف في التعبير تفنن فيه و تجديد لصورة الكلام و الله العالم.
قوله تعالى: «بل كذبوا بالساعة و أعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا»، إضراب عن طعنهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و اعتراضهم عليه بأكل الطعام و المشي في الأسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك و ردوا نبوتك لأنك تأكل الطعام و تمشي في الأسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الأصلي في إنكارهم نبوتك و طعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة و أنكروا المعاد، و من المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة و لا معنى للدين و الشريعة لو لا المحاسبة و المجازاة.
فالإشارة إلى السبب الأصلي بعد ذكر الاعتراض و الاقتراح و الجواب هاهنا نظير ما وقع في سورة الإسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الأصلي في قوله: «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا و ما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا.
و ذكر جمع من المفسرين أن قوله: «بل كذبوا بالساعة» حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد و الكتاب و الرسالة في قوله: «و اتخذوا من دونه آلهة» و قوله: «و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك» إلخ، و قوله: «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل» إلخ.
ثم تشعبوا في نكتة الإضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، و قال بعضهم: إن إنكاره أعظم، و قال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك.
و الحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و الجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: «و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق» إلخ، و ما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول و المجيبة عنه، و هو ظاهر.
و قوله تعالى: «و أعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا» وضع الموصول و الصلة مكان الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم و غيرهم فيه سواء، و على أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة.
و وضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص و أصرح فهو المناسب لمقام التهديد، و السعير النار المشتعلة الملتهبة.
قوله تعالى: «إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا» في المفردات،.
الغيظ أشد غضب إلى أن قال و التغيظ هو إظهار الغيظ، و قد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال: «سمعوا لها تغيظا و زفيرا» انتهى، و فيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، انتهى.
و الآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته.
قوله تعالى: «و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا» «مكانا» منصوب بتقدير في، و الثبور الويل و الهلاك.
و التقرين التصفيد بالأغلال و السلاسل و قيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين و هو بعيد من اللفظ.
و المعنى و إذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار و هم مصفدون بالأغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف و هو قولهم: وا ثبوراه.
قوله تعالى: «لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا» الاستغاثة بالويل و الثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة و إذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل و لا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا و لذا قال تعالى: «لا تدعوا اليوم» إلخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم.
فهو في معنى قوله تعالى: «اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم»: الطور: 16، و قوله حكاية عنهم: «سواء علينا أ جزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص»: إبراهيم: 21.
و قيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة.
و هو بعيد.
قوله تعالى: «قل أ ذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله - «مسئولا» الإشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أيهما أرجح السعير أم جنة الخلد؟ و السؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل و هو دائر في المناظرة و المخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة و الآخر بديهي البطلان فيكلف أن يختار أحدهما: فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، و إن اختار الباطل افتضح.
و قوله: «أم جنة الخلد» إضافة الجنة إلى الخلد و هو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: «خالدين» للدلالة على أن أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم.
و قوله: «وعد المتقون» تقديره وعدها المتقون لأن وعد يتعدى لمفعولين و المتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل.
و قوله: «كانت لهم جزاء و مصيرا» أي جزاء لتقواهم و منقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: «إن المتقين في جنات و عيون إلى أن قال - و ما هم منها بمخرجين»: الحجر: 48: و هو من الأقضية التي قضاها يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له، و يتعين به جزاء المتقين و مصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر.
و قوله: «لهم فيها ما يشاءون خالدين» أي إنهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، و لا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه و يشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: «و حيل بينهم و بين ما يشتهون»: سبأ: 54، و لا يحبون و لا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا و هو الذي يحبه الله لهم و هو ما يستحقونه من الخير و السعادة مما يستكملون به و لا يستضرون به لا هم و لا غيرهم فافهم ذلك.
و بهذا البيان يظهر أن لهم إطلاق المشية يعطون ما شاءوا و أرادوا غير أنهم لا يشاءون إلا ما فيه رضا ربهم، و يندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم إطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي و القبائح و الشنائع و اللغو، و أن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، و أن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، و أن يريدوا مقامات الأنبياء و المخلصين من الأولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.
كيف؟ و قد قال تعالى: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي»: الفجر: 27 - 30 فهم راضون بما رضي به الله و مرضيون لا يريدون إلا ما يرتضيه فلا يريدون معصية و لا قبيحا و لا شنيعا و لا لغوا و لا كذابا، و لا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، و لا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، و لا يشاءون و لا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لأن الذي خصهم بها هو ربهم و قد رضوا بما فعل و أحبوا ما أحبه.
و قوله تعالى: «كان على ربك وعدا مسئولا» أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، و إنما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، و أخبر عن ذلك بمثل قوله: «و إن للمتقين لحسن مآب جنات عدن - إلى أن قال - هذا ما توعدون ليوم الحساب»: ص: 53.
و وجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسئولا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم و استعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: «ربنا و أدخلهم جنات عدن إلخ»: المؤمن: 8 أو جميع هذه الأسئلة.
و ذكر الطبرسي «ره» في الآية أن قوله: «كانت لهم جزاء و مصيرا» حال من ضمير الجنة المقدر في «وعد المتقون» و أن قوله: «لهم فيها ما يشاءون» حال من «المتقون» و هو أقرب إلى الذهن من قول غيره إن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر.
قوله تعالى: «و يوم يحشرهم و ما يعبدون من دون الله» إلى آخر الآية ضمائر الجمع الأربعة عائدة إلى الكفار، و المراد بما يعبدون الملائكة و المعبودون من البشر و الأصنام إن كان «ما» أعم من غير أولي العقل، و إلا فالأصنام فقط.
و المشار إليهم المعنيون بقوله: «عبادي هؤلاء» الكفار و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء» إلخ، جواب المعبودين عن قوله: «ء أنتم أضللتم عبادي هؤلاء» إلخ و قد بدءوا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.
و قوله: «ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء» أي ما صح و ما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء و هم الذين عبدونا و اتخذونا أولياء من دونك، و قوله: «و لكن متعتهم و آباءهم حتى نسوا الذكر و كانوا قوما بورا» البور جمع بائر و هو الهالك و قيل: الفاسد.
لما نفى المعبودون المسئولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الإضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم و هو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين و قد متعتهم و آباءهم من أمتعة الحياة الدنيا و نعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا و ابتلاء فتمتعوا منها و اشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.
فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا و انهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع و انصراف هممهم إلى الاشتغال بالأسباب و هو السبب لنسيانهم الذكر و العدول عن التوحيد إلى الشرك.
فتبين بذلك أن قوله: «و كانوا قوما بورا» من تمام الجواب و أما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله و استفاد منه أن السبب الأصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، و ليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، و إنما نسب إلى أنفسهم أدبا.
ففيه أولا: أنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لإيراد الاستدراك بقوله: «و لكن متعتهم و آباءهم حتى نسوا الذكر» لكونه فضلا لا حاجة إليه.
و ثانيا: أن نسبة البوار و الشقاء إلى ذوات الأشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم و التربية، و الحس و التجربة يؤيدان ذلك و هو يناقض القول بالاختيار و الجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أما مناقضة القول بالجبر فلأن الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى و ينفيه عن غيره و يناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الأشياء و ماهياتها.
و ثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الإجبار فإن القضاء إنما تعلق بالفعل بحدوده و هو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار.
و رابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله و إنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا و بمثله صرحوا في نسبة المعاصي و الأعمال القبيحة الشنيعة و الفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الأدب - كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، و بعبارة أخرى ظرافة الفعل، و إذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه و لا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق و كذبا و فرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح و إحياء باطل؟ و أي ظرافة و لطف في الكذب و الفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله؟ و الله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب و الفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، و إذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه؟.
قوله تعالى: «فقد كذبوكم بما تقولون فلا تستطيعون صرفا و لا نصرا» إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، و أما كلام المعبودين فقد تم في قوله: «و كانوا قوما بورا».
و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء و ينصرونهم، و إذ كذبوكم و نفوا عن أنفسهم الألوهية و الولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، و لا تستطيعون نصرا لأنفسكم بسببهم.
و الترديد بين الصرف و النصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم و هو الصرف.
و عدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب و هو النصر.
و قرأ غير عاصم من طريق حفص «يستطيعون» بالياء المثناة من تحت و هي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم و يتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا و لا نصرا.
و قوله: «و من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا» المراد بالظلم مطلق الظلم و المعصية و إن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: «و من يظلم منكم» إلخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، و لو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: «و نذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا لأنهم كلهم ظالمون ظلم الشرك.
و النكتة فيه الإشارة إلى أن الحكم الإلهي نافذ جار لا مانع منه و لا معقب له كأنه قيل: و إن كذبكم المعبودون و ما استطاعوا صرفا و لا نصرا فالحكم العام الإلهي «من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا على نفوذه و جريانه لا مانع منه و لا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق» إلى آخر الآية.
أجاب تعالى عن قولهم: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق» إلخ، أولا بقوله: «تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك» إلخ، مع ما يلحقه من قوله: «بل كذبوا بالساعة» إلخ، و هذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين و قد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق و لم يخلق لهم جنة يأكلون منها و لا ألقي إليهم كنز و لا أنزل معهم ملك، و هذا الرسول إنما هو كأحدهم و لم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره.
فالآية في معنى قوله: «قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي»: الأحقاف: 9، و قريبة المعنى من قوله: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي»: الكهف: 110.
فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة و توجيهه إلى عامة الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم و قد حكى الله عنهم ذلك قال: قالوا أ بشر يهدوننا: التغابن: 6، و قال: «قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا»: إبراهيم: 10، و قال: «ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه و يشرب مما تشربون»: المؤمنون: 33.
قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: «ما لهذا الرسول يأكل» إلخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال و أما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: «بل كذبوا بالساعة» إلخ، و قوله قبل ذلك: «قل أنزله الذي يعلم السر» إلخ، على ما تقدم من التقرير.
و من عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التي أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، و أما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال» هذا و هو خطأ.
و قوله تعالى: «و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أ تصبرون» متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية تورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الإلهية كإنزال ملك عليهم أو إلقاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: و السبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان و المتبعون للأهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله و سلوك سبيله.
و بما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه و هي الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند المصائب.
و ثانيا: أن قوله: «و جعلنا بعضكم لبعض فتنة» من وضع الحكم العام موضع الخاص، و المطلوب الإشارة إلى جعل الرسل - و حالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس.
و قوله تعالى: «و كان ربك بصيرا» أي عالما بالصواب في الأمور فيضع كل أمر في الموضع المناسب له و يجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الإنساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له و يستحقه و لازمه بسط نظام الامتحان بينهم و لازمه ارتفاع التمايز بين الرسل و غيرهم.
و في الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، و النكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: «تبارك الذي إن شاء» إلخ،.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و النضر بن الحارث و أبا البختري و الأسود بن المطلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية و أمية بن خلف و العاصي بن وائل و نبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه و خاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. قال: فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، و إن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، و إن كنت تطلب ملكا ملكناك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، و لا الشرف فيكم، و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك و سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك و سله أن يجعل لك جنانا و قصورا من ذهب و فضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك و منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا. فأنزل الله في قولهم ذلك «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام» إلى قوله و جعلنا بعضكم لبعض فتنة. أ تصبرون و كان ربك بصيرا» أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، و لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت.
و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله و هل لجهنم من عين؟ قال: أ ما سمعتم الله يقول: «إذا رأتهم من مكان بعيد» فهل تراهم إلا بعينين؟: أقول: و رواه أيضا عن رجل من الصحابة، و في حجة الخبر خفاء.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي أسيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: «و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين» قال: و الذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.
|