بيان
غرض السورة بيان أن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوة حقة عن رسالة من جانب الله تعالى و كتاب نازل من عنده و فيها عناية بالغة بدفع ما أورده الكفار على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا من جانب الله و كون كتابه نازلا من عنده و رجوع إليه كرة بعد كرة.
و قد استتبع ذلك شيئا من الاحتجاج على التوحيد و نفي الشريك و ذكر بعض أوصاف يوم القيامة و ذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، و الكلام فيها جار على سياق الإنذار و التخويف دون التبشير.
و السورة مكية على ما يشهد به سياق عامة آياتها نعم ربما استثني منها ثلاث آيات و هي قوله تعالى: «و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - غفورا رحيما».
و لعل الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أن الزنا و الخمر كانا معروفين بالتحريم في الإسلام من أول ظهور الدعوة الإسلامية.
و من العجيب قول بعضهم: إن السورة مدنية كلها إلا ثلاث آيات من أولها «تبارك الذي» - إلى قوله نشورا».
قوله تعالى: «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا» البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشيء كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض و استقر عليها، و منه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير و في صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، و هو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلا على سبيل الندرة.
و الفرقان هو الفرق سمي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل و يؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضا مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات:، و الفرقان أبلغ من الفرق لأنه يستعمل في الفرق بين الحق و الباطل، و تقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، و هو اسم لا مصدر فيما قيل، و الفرق يستعمل فيه و في غيره.
انتهى.
و العالمون جمع عالم و معناه الخلق قال في الصحاح:، العالم الخلق و الجمع العوالم، و العالمون أصناف الخلق انتهى.
و اللفظة و إن كانت شاملة لجميع الخلق من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و الجن و الملك لكن سياق الآية - و قد جعل فيها الإنذار غاية لتنزيل القرآن - يدل على كون المراد بها المكلفين من الخلق و هم الثقلان: الإنس و الجن فيما نعلم.
و بذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أن الآية تدل على عموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع ما سوى الله فإن فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالإنذار و نظير الآية قوله تعالى: «و اصطفاك على نساء العالمين»: آل عمران: 42 و قوله: «و فضلناهم على العالمين»: الجاثية: 16.
و النذير بمعنى المنذر على ما قيل، و الإنذار قريب المعنى من التخويف.
فقوله تعالى: «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده» أي ثبت و تحقق خير كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزل على عبده كتابا فارقا بين الحق و الباطل منقذا للعالمين من الضلال سائقا لهم إلى الهدى.
و الجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى و كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا منه نذيرا للعالمين مع تسمية القرآن فرقانا بين الحق و الباطل و توصيف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكونه عبدا له نذيرا للعالمين المشعر بكونه مملوكا مأمورا لا يملك من نفسه شيئا كل ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنه افتراء على الله اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أعانه على ذلك قوم آخرون، و من طعنهم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و سائر ما تفوهوا به - و ما يدفع به مطاعنهم.
فالمحصل أنه كتاب يفرق بحجته الباهرة بين الحق و الباطل فلا يكون إلا حقا إذ الباطل لا يفرق بين الحق و الباطل و إنما يشبه الباطل بالحق ليلبس على الناس، و أن الذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين و يدعوهم إلى الحق فلا يكون إلا على الحق و لو كان مبطلا لم يدع إلى الحق بل حاد عنه و انحرف على أن الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته و أن الذي جاء به من الكتاب منزل من عنده.
و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالفرقان مطلق الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء و بعبده عامة الأنبياء (عليهم السلام)، و لا يخفى بعده من ظاهر اللفظ.
و قوله تعالى: «ليكون للعالمين نذيرا» اللام للتعليل و تدل على أن غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذرا لجميع العالمين من الإنس و الجن، و الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، و لا يخلو الإتيان بصيغة الجمع المحلى باللام من إشارة إلى أن للجميع إلها واحدا لا كما يذهب إليه الوثنيون حيث يتخذ كل قوم إلها غير ما يتخذه الآخرون.
و الاكتفاء بذكر الإنذار دون التبشير لأن الكلام في السورة مسوق سوق الإنذار و التخويف.
قوله تعالى: «الذي له ملك السموات و الأرض» إلى آخر الآية.
الملك بكسر الميم و فتحها قيام شيء بشيء بحيث يتصرف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرف بالأمر و النهي و أنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيته و ما في أيديهم، و يطلق على القسم الثاني الملك بضم الميم.
فالملك بكسر الميم أعم من الملك بضمها كما قال الراغب الملك بفتح الميم و كسر اللام - هو المتصرف بالأمر و النهي في الجمهور، و ذلك يختص بسياسة الناطقين، و لهذا يقال: ملك الناس و لا يقال: ملك الأشياء - إلى أن قال - فالملك بالضم - ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، و الملك - بالكسر - كالجنس للملك فكل ملك - بالضم - ملك بالكسر - و ليس كل ملك - بالكسر - ملكا - بالضم - انتهى.
و ربما يخص الملك بالكسر بما يتعلق بالرقبة، و الملك بالضم بغيره.
فقوله تعالى: «الذي له ملك السماوات و الأرض» و اللام للاختصاص - يفيد أن السماوات و الأرض مملوكة له غير مستقلة بنفسها في جهة من جهاتها و لا مستغنية عن التصرف فيها بالحكم و أن الحكم فيها و إدارة رحاها يختص به تعالى فهو المليك المتصرف بالحكم فيها على الإطلاق.
و بذلك يظهر ترتب قوله: «و لم يتخذ ولدا» على ما تقدمه فإن الملك على الإطلاق لا يدع حاجة إلى اتخاذ الولد إذ اتخاذ الولد لأحد أمرين إما لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع أموره و لا يملك تدبيرها جميعا فيتخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه و الله سبحانه يملك كل شيء و يقوى على ما أراد، و إما لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلا في أمد محدود فيتخذ الولد ليخلفه فيقوم على أموره بعده و الله سبحانه يملك كل شيء سرمدا و لا يعتريه فناء و زوال فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد البتة و فيه رد على المشركين و النصارى.
و كذا قوله تعالى بعده: «و لم يكن له شريك في الملك» فإن الحاجة إلى الشريك إنما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الأمور كلها و ملكه تعالى عام لجميع الأشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذ منه شاذ، و فيه رد على المشركين.
و قوله تعالى: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا» بيان لرجوع تدبير عامة الأمور إليه تعالى وحده بالخلق و التقدير فهو رب العالمين لا رب سواه.
بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الأسباب المتقدمة على الشيء و المقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الأشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شيء و آثار وجوده حسب ما تقدره العلل و العوامل المتقدمة عليه و المقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل و العوامل المتقدمة و المقارنة و إذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للأمر غيره فلا رب يملك الأشياء و يدبر أمرها غيره.
فكونه تعالى له ملك السماوات و الأرض حاكما متصرفا فيها على الإطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، و قيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، و قيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك و التدبير فهو الرب عز شأنه.
و ملكه تعالى للسماوات و الأرض و إن استلزم استناد الخلق و التقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع و ربوبيته للكل لا ينافي ملك آلهتهم و ربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع ألوهيته رب لمربوبيته و الله سبحانه ملك الملوك و رب الأرباب و إله الآلهة.
فلذلك لم يكف قوله: «الذي له ملك السماوات و الأرض» لإثبات اختصاص الربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الإتيان بقوله: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا».
فكأن قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات و الأرض يغنيه عن اتخاذ الولد و الشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الأشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له و لما فوضه إليه و هذا هو الذي كانت يراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.
فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه و التقدير يلازمه و إذا اجتمعا لزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شيء فليس مع ملكه ملك و لا مع ربوبيته ربوبية.
فقد تحصل أن قوله: «الذي له ملك السماوات و الأرض و لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك» مسوق لتوحيد الربوبية و نفي الولد و الشريك من طريق إثبات الملك المطلق، و أن قوله: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا» تقرير و بيان لمعنى عموم الملك و أنه ملك متقوم بالخلق و التقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم و تدبير من غير أن يفوض شيئا من الأمر إلى أحد من الخلق.
و في الآية و التي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى.
قوله تعالى: «و اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون» إلخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شيء و مقدره و أن له ملك السماوات و الأرض و هكذا كان يجب أن يكون الإله المعبود، أشار إلى ضلالة المشركين حيث عبدوا أصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم و لا مالكة شيئا لأنفسهم و لا لغيرهم.
و ضمير «و اتخذوا» للمشركين على ما يفيده السياق و إن لم يسبق لهم ذكر و مثل هذا التعبير يفيد التحقير و الاستهانة.
و قوله: «من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون» يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، و توصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: «لا يخلقون شيئا و هم يخلقون» إشارة إلى أن ليس لها من الألوهية إلا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشيء كما قال تعالى: «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم»: النجم: 23.
و وضع النكرة في قوله: «لا يخلقون شيئا» في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه و هو خالق كل شيء و تعلقوا بأصنام لا يخلقون و لا شيئا من الأشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لأوهامهم، و نظير الكلام جار في قوله: «ضرا و لا نفعا» و قوله: «موتا و لا حياة و لا نشورا».
و قوله: «و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا» نفي للملك عنهم و هو ضروري في الإله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر و يجلبوا إليهم النفع و إذ كانوا لا يملكون ضرا و لا نفعا حتى لأنفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا و ضلالا.
و بذلك يظهر أن في وقوع «لأنفسهم» في السياق زيادة تقريع و الكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لأنفسهم ضرا حتى يدفعوه و لا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم؟ و قد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع.
و قوله: «و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا» أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاءوا و لا حياة حتى يسلبوها عمن شاءوا أو يفيضوها على من شاءوا و لا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، و ملك هذه الأمور من لوازم الألوهية.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن و الفرقان هما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به و في الاختصاص، للمفيد:، في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قال: و أي كتاب هو، قال: الفرقان: قال و لم سماه ربك فرقانا؟ قال: لأنه متفرق الآيات و السور أنزل في غير الألواح و غيره من الصحف و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلها جملة في الألواح و الأوراق. قال: صدقت يا محمد.
أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين.
|