بيان
تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول و سائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته و يجد من نفسه ما يجده.
و هذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الأنبياء الماضين كما حكاه الله: «قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا»: إبراهيم: 10، و قد مر تقريبه مرارا.
و هذا مع ما تقدم من اعتراضهم بقولهم: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام» إلخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين و محصل تقريره أن الرسالة التي يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية و اتصالا غيبيا لا حظ فيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، و إن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بشر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا؟ فلو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.
و قد أجاب الله سبحانه عن الشق الأول بما تقدم تقريره، و عن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، و الجواب في معنى قوله: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين»: الحجر: 8 و سيجيء تقريره، و في الآيات إشارة إلى ما بعد الموت و يوم القيامة.
قوله تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا» قال في مجمع البيان:، الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه و مثله الطمع و الأمل، و اللقاء المصير إلى الشيء من غير حائل، و العتو الخروج إلى أفحش الظلم.
انتهى.
المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقى في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الإلهية كما قال تعالى: «و يعلمون أن الله هو الحق المبين».
فالمراد بعدم رجائهم اللقاء إنكارهم للمعاد و تكذيبهم بالساعة و لم يعبر عنه بتكذيب الساعة و نحوه كما عبر في الآيات السابقة لمكان ذكرهم مشاهدة الملائكة و رؤية الرب تعالى و تقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا و طلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء و زعمهم استحالة ذلك فقد ألزموا بما هو مستحيل على زعمهم.
فقولهم: «لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا» اعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: «لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين»: الحجر: 7، و تقرير الحجة كما تقدمت الإشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - و هي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله و نحن بشر أمثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة و لا نرى ربنا؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.
و يؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة و رؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك.
على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا و فيه تصديقه.
و في التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم و الله سبحانه رب الأرباب فكأنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك ترى أن الله ربك و قد حن إليك فخصك بالمشافهة و التكليم، و أنه ربنا، فليحن إلينا و ليشافهنا بالرؤية كما فعل بك.
على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الأصنام و هم الملائكة و روحانيات الكواكب و نحوهم إلى عبادة الأصنام و التماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة و التقرب بالقرابين.
و قوله تعالى: «لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا» أي أقسم لقد طلبوا الكبر لأنفسهم بغير حق و طغوا طغيانا عظيما.
قوله تعالى: «يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا» في المفردات:، الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: «و قالوا هذه أنعام و حرث حجر» «و يقولون حجرا محجورا» كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا إن ذلك ينفعهم.
انتهى.
و عن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر و عن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه و بينهما ترة.
فقوله: «يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين» «يوم» على ما قيل ظرف لقوله: «لا بشرى» و قوله: «يومئذ» تأكيد له، و المراد بقوله: «لا بشرى» نفي للجنس، و المراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك و المجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، و قد تقدم ذكرهم و المعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين و هم منهم.
و قوله: «و يقولون حجرا محجورا» فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة و هم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، و قيل: ضمير الجمع للملائكة، و المعنى: و يقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجنة أو حراما محرما عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شيء فلا معاذ لكم هذا، و المعنى: الأول أقرب إلى السياق.
و الآية في موضع الجواب عن قولهم: «لو لا أنزل علينا الملائكة» و قد أعرضت عن جواب قولهم: «أو نرى ربنا» فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم و المادية تعالى عن ذلك، و أما الرؤية بعين اليقين و هي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك و على تقديره ما كانوا يقصدونه.
و أما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة و رؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الإخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الإخبار عن أصل رؤيتهم للإشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجري على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار و ذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الأخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين»: الحجر: 8، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب و هم يحسبون أنهم يعجزون الله و رسوله بالحجة.
و أما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: «يوم يرون الملائكة» فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت و ما بعده كقوله: «و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون» الآية،: الأنعام: 93، و قوله: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها»: النساء: 97 إلى غير ذلك من الآيات.
أن المراد به الموت و هو المسمى في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة و يشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، و المتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه و هو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة و قوله لهم: حجرا محجورا، و قد رآهم قبل ذلك و عذب بأيديهم أمدا بعيدا و هو ظاهر.
فالظاهر أن الآية و الآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، و إحباط أعمالهم فيه، و حال أهل الجنة التي فيه.
قوله تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» قال الراغب في المفردات:، العمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد و قد ينسب إلى الجمادات، و العمل قلما ينسب إلى ذلك، و لم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم: البقر العوامل.
انتهى.
و قال: الهباء دقاق التراب و ما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة.
انتهى.
و النثر التفريق.
و المعنى: و أقبلنا إلى كل عمل عملوه - و العمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، و الكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة و إبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار و هدم الآثار و أحرق المتاع و الأثاث فأفنى منه كل عين و أثر.
و لا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ و بين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم و إجرامهم فإن معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم و قد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع.
قوله تعالى: «أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا» المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: «قل أ ذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون»، و المستقر و المقيل اسما مكان من الاستقرار و معناه ظاهر و من القيلولة و هي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - و الجنة لا نوم فيه.
و كلمتا «خير» و «أحسن» منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: «و هو أهون عليه»: الروم: 27، و قوله: «ما عند الله خير من اللهو»: الجمعة: 11 كذا قيل، و ليس يبعد أن يقال: إن «أفعل» أو ما هو في معناه كخير بناء على ما رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل و العناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك و الإجرام و استحسنوا ذلك و لازمه النار في الآخرة فقد أثبتوا لها خيرية و حسنا فقوبلوا بأن الجنة و ما فيها خير و أحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار و أن يختاروا الإيمان على الكفر على أي حال، و قيل: إن التفضيل مبني على التهكم.
قوله تعالى: «و يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة تنزيلا» الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، و المعنى و اذكر يوم كذا و كذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا و هذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: «الملك يومئذ الحق للرحمن»، و قيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها.
و «تشقق» أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم و التشقق التفتح، و الغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر.
و الباء في قوله: «تشقق السماء بالغمام» إما للملابسة و المعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، و إما بمعنى عن و المعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه.
و كيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها و نزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: «و انشقت السماء فهي يومئذ واهية و الملك على أرجائها»: الحاقة: 17.
و ليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل و بروز عالم السماء و هو من الغيب و بروز سكانها و هم الملائكة و نزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان.
و قيل: المراد أن السماء يشقها الغمام و هو الذي يذكره في قوله: «هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام و الملائكة و قضي الأمر و إلى الله ترجع الأمور»: البقرة: 210، و قد مر كلام في تفسير الآية.
و التعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح و ما يماثله للتهويل، و كذا التنوين في قوله: «تنزيلا» للدلالة على التفخيم.
قوله تعالى: «الملك يومئذ الحق للرحمن و كان يوما على الكافرين عسيرا» أي الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمن و ذلك لبطلان الأسباب و زوال ما بينها و بين مسبباتها من الروابط المتنوعة، و قد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك و الحكم لله و الأمر إليه وحده، و أن لا استقلال في شيء من الأسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة و رجوع كل شيء إليه تعالى.
و قوله: «و كان يوما على الكافرين عسيرا» الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الأسباب و إخلادهم إلى الحياة الأرضية البائدة الداثرة و انقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة و عن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم و لا ملاذ لهم و لا معاذ.
فعلى هذا يكون الملك مبتدأ و الحق خبره عرف لإفادة الحصر، و يومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدإ، و فائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، و إنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الأشياء فيه و ثبوته لها في غيره.
و قال بعضهم: الملك بمعنى المالكية و يومئذ متعلق به و الحق خبر الملك، و قيل: يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، و قيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، و قيل: يومئذ هو الخبر للملك و الحق صفة للمبتدإ، و هذه أقوال ردية لا جدوى لها.
قوله تعالى: «و يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا» قال الراغب في المفردات:، العض أزم بالأسنان، قال تعالى: «عضوا عليكم الأنامل» و «و يوم يعض الظالم» و ذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك.
انتهى.
و لذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: «يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا».
و الظاهر أن المراد بالظالم جنسه و هو كل من لم يهتد بهدى الرسول، و كذا المراد بالرسول جنسه و إن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الأمة و الرسول على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و المعنى: و اذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.
قوله تعالى: «يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا» تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، و فلان كناية عن العلم المذكر و فلانة عن العلم المؤنث قال الراغب: فلان و فلانة كنايتان عن الإنسان و الفلان و الفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات.
انتهى.
و المعنى: يا ويلتى - يا هلاكي - ليتني لم أتخذ فلانا - و هو من اتخذه صديقا يشاوره و يسمع منه و يقلده - خليلا.
و ذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، و كأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للإنسان غير أن السياق لا يساعد عليه.
و من لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: «يا ليتني اتخذت» إلخ و في هذه الآية: «يا ويلتى ليتني لم أتخذ» إلخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء و الاستغاثة فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء و ذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شيء قط إلا الهلاك و الفناء، و لذلك نادى الويل.
قوله تعالى: «لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني و كان الشيطان للإنسان خذولا» تعليل للتمني السابق و المراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية و ينطبق بحسب المورد على القرآن.
و قوله: «و كان الشيطان للإنسان خذولا» من كلامه تعالى و يمكن أن يكون تتمة لكلام الظالم ذكره تأسفا و تحسرا.
و الخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصر نصرته، و خذلانه أنه يعد الإنسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالأسباب و نسي ربه فلما تقطعت الأسباب بظهور القهر الإلهي يوم الموت جزئيا و يوم القيامة كليا خذله و سلمه إلى الشقاء، قال تعالى: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك»: الحشر: 16 و قال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: «ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل»: إبراهيم: 22.
و في هذه الآيات الثلاث إشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الأهواء و أولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيد ذلك.
قوله تعالى: «و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا» المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرينة ذكر القرآن، و عبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته و إرغاما لأولئك القادحين في رسالته و كتابه و الهجر بالفتح فالسكون الترك.
و ظاهر السياق أن قوله: «و قال الرسول» إلخ معطوف على «يعض الظالم» و القول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث و الشكوى و على هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع و المراد بالقوم عامة العرب بل عامة الأمة باعتبار كفرتهم و عصاتهم.
و أما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا» و كون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق و عليه فلفظة قال على ظاهر معناها و المراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه.
و نظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان.
و هو ظاهر.
قوله تعالى: «و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين و كفى بربك هاديا و نصيرا» أي كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الأنبياء و أممهم فلا يسوأنك ما تلقى من عداوتهم و لا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و معنى: جعل العدو من المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق و أبغضوا الداعي إليه و هو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة.
و قوله: «و كفى بربك هاديا و نصيرا» معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم و عداوتهم و لا تخافنهم على اهتداء الناس و نفوذ دينك فيهم و بينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية و استعد له و إن كفر هؤلاء و عتوا فليس اهتداء الناس منوطا باهتدائهم و كفى به نصيرا ينصرك و ينصر دينك الذي بعثك به و إن هجره هؤلاء و لم ينصروك و لا دينك فالجملة مسوقة لإظهار الاستغناء عنهم.
فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذيله للاستغناء عن المجرمين من قومه، و في قوله: «و كفى بربك» حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير الخطاب و لم يقل: و كفى بالله تأييد له.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن كتاب الجنة و النار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه و دبره و قيل: «أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق - و كنتم عن آياته تستكبرون» و ذلك قوله: «يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين - و يقولون حجرا محجورا» فيقولون حراما عليكم الجنة محرما. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء فجعل الله أعمالهم كذلك. و فيه، أخرج سمويه في فوائده عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار. قال سالم: بأبي و أمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون و يصومون و يأخذون سنة من الليل و لكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» قال: أما و الله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي و لكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.
أقول: و هذا المعنى مروي فيه و في غيره عنه و عن أبيه (عليه السلام) بغير واحد من الطرق.
و في الكافي، أيضا بإسناده عن عبد الأعلى و بإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث وضع المؤمن في قبره. ثم يفسحان يعني الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة و يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: «أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا».
أقول: و الرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، و تشير بقوله: و يقال له: نم «إلخ» إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم و كان يكثر مجالسة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يعجبه حديثه و غلب عليه الشقاء. فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فقال: أطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك و طعم من طعامه. فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال أ صبوت يا عقبة؟. و كان خليله فقال: لا و الله ما صبوت و لكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا و لم يقتل من الأسارى يومئذ غيره.
أقول: و قد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: «يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا»، أن السبيل هو علي (عليه السلام) و هو من بطن القرآن أو من قبيل الجري و ليس من التفسير في شيء.
|