بيان
نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن و هو أنه لم ينزل جملة واحدة و الجواب عنه.
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة» المراد بهم مشركو العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: «و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه» إلخ.
و قوله «لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة» قد تقدم أن الإنزال و التنزيل إنما يفترقان في أن الإنزال يفيد الدفعة و التنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لأدائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة و التفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعة غير مفرق كما أنزل التوراة و الإنجيل و الزبور.
لكن ينبغي أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح و القرآن إنما كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الأمين كما يتلقى السامع الكلام من المتكلم، و الدفعة في إيتاء كتاب مكتوب و تلقيه تستلزم المعية بين أوله و آخره لكنه إذا كان بقراءة و سماع لم يناف التدريج بين أجزائه و أبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارىء و يتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا.
و هؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تلقي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سورة بعد سورة و آية بعد آية و يتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحدة و ليتلقه هو مرة واحدة و لو دامت القراءة و التلقي مدة من الزمان، و هذا المعنى أوفق بالتنزيل الدال على التدريج.
و أما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة و كذا الإنجيل و الزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك.
على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة.
و كيف كان فقولهم: «لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة» اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس و قد بعث رسولا يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله و فروعه مجموعة فرائضه و سننه و كان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض.
و ليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة و حوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشيء من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله و يدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه و ليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، و ليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل.
هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض و الجواب.
قوله تعالى: «كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا» الثبات ضد الزوال، و الإثبات و التثبيت بمعنى واحد و الفرق بينهما بالدفعة و التدريج، و الفؤاد القلب و المراد به كما مر غير مرة الأمر المدرك من الإنسان و هو نفسه، و الترتيل - كما قالوا - الترسيل و الإتيان بالشيء عقيب الشيء، و التفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول.
و ظاهر السياق أن قوله: «كذلك» متعلق بفعل مقدر يعلله قوله: «لنثبت» و يعطف عليه قوله: «و رتلناه» و التقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك، و قول بعضهم: إن «كذلك» من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا.
فقوله: «كذلك لنثبت به فؤادك» بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة و بيان ذلك أن تعليم علم من العلوم و خاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله و أبوابه إنما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلم و كونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، و أما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها و تترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة و الإشراف على العمل و حضور وقته.
ففرق بين بين أن يلقي الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء فحسب و بين أن يلقيها إليه و عنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء و هو يعالجه فيطابق بين ما يقول و ما يفعل.
و من هنا يظهر أن إلقاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة و حضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه و تربيته أثبت في النفس و أوقع في القلب و أشد استقرارا و أكمل رسوخا في الذهن و خاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول و تتهيأ للإذعان إذا أحست بالحاجة.
ثم إن المعارف التي تتضمنها الدعوة الإسلامية الناطق بها القرآن إنما هي شرائع و أحكام عملية و قوانين فردية و اجتماعية تسعد الحياة الإنسانية مبنية على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الإلهية التي تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد ينتهي بالتركيب إليها ثم إلى الأخلاق و الأحكام العملية.
فأحسن التعليم و أكمل التربية أن تلقى هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق و الخلق الفاضل و الحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار و الاتعاظ بين قصص الماضين و عاقبة أمر المسرفين و عتو الطاغين و المستكبرين.
و هذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا»: إسراء:، 106 و هذا هو المراد بقوله تعالى: «كذلك لنثبت به فؤادك» و الله أعلم.
نعم يبقى عليه شيء و هو أن تفرق أجزاء التعليم و إلقاءها إلى المتعلم على التمهل و التؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق و سقوط الهمة و العزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمدادا للذهن و تهيئة للفهم على التفقه و الضبط لا يحصل بدونه البتة.
و قد أجاب تعالى عنه بقوله: «و رتلناه ترتيلا» فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض و نزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط و لا تنقطع آثار الأبعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور و آيات نازلة بعضها إثر بعض مترتبة مرتلة.
على أن هناك أمرا آخر و هو أن القرآن كتاب بيان و احتجاج يحتج على المؤالف و المخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق و الحقيقة بالتشكيك و الاعتراض، و يبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف و الحكم الواقعة في الملل و الأديان السابقة و ما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى و الملائكة و الجن و قديسي البشر و ما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء و ما بثوه من معارف المبدإ و المعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك.
و هذا النوع من الاحتجاج و البيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم و يرد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسائلهم تدريجا، و يورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شيء و حينا بعد حين.
و إلى هذا يشير قوله تعالى: «و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا» - و المثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساءوا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الأحسن يرده إلى مستواه و يقومه.
فتبين بما تقدم أن قوله: «كذلك لنثبت به فؤادك» - إلى قوله - و أحسن تفسيرا» جواب عن قولهم: «لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة» بوجهين: أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي.
و ثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس و هو بيان الحق فيما يوردون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المثل و الوصف الباطل، و التفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه.
و يلحق بهذا الجواب قوله تلوا: «الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا و أضل سبيلا» فهو كالمتمم للجواب على ما سيجيء بيانه.
و تبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد و هو الجواب عما أوردوه من القدح في القرآن هذا، و المفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله: «كذلك لنثبت به فؤادك» جوابا عن قولهم: «لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة»، و قوله: «و رتلناه ترتيلا» خبرا عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير ارتباط بما تقدمه.
و جعلوا قوله: «و لا يأتونك بمثل» إلخ، كالبيان لقوله: «كذلك لنثبت به فؤادك» و إيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم)، و جعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أن الله بين الحق فيه و جاء بأحسن التفسير و قيل غير ذلك، و جعلوا قوله: «الذين يحشرون» الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية.
و التأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الأوليين و ما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، و يظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد و هو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي.
و ذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم و اقتراحهم بقوله: «كذلك لنثبت به فؤادك» جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد و أن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى، و قد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية: منها: أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لأنها أنزلت على أنبياء يكتبون و يقرءون فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة و القرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب و لا يقرأ و لذلك نزل متفرقا.
و منها أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها و دليل كونها من عند الله تعالى إعجازها، و أما القرآن فبينة صحته و آية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي.
و لا ريب أن مدار الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، و من ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها.
و منها: أن في القرآن ناسخا و منسوخا و لا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة و المنافاة، و فيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها و فيه ما هو إنكار لبعض ما كان، و فيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، و فيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالإخبار عن فتح مكة و دخول المسجد الحرام، و الإخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا.
و هذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة: أما الوجه الأول فكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أميا لا يقرأ و لا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة، و قد كان معه من يكتبه و يحفظه.
على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان و يحفظ الذكر النازل عليه كما قال: «سنقرئك فلا تنسى»: الأعلى: 6، و قال: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر: 9، و قال: «إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه»: حم السجدة: 42، و قدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء.
و أما الوجه الثاني: فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا إن اشتمل عليها الكلام كان بليغا و إلا فلا، كذلك الكلام الجملي و إن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله و أجزائه أحوال لها اقتضاءات إن طابقها كان بليغا و إلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة.
و أما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق و إنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين و المنسوخ و الناسخ بالإشارة إلى أن الحكم الأول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك.
و من الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التي سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال و لو سألوا عن شيء منها أرجعوا إلى سابق البيان، و كذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشيء من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر.
على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم و المصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.
فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شيء من هذه الوجوه البتة.
قوله تعالى: «الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا و أضل سبيلا» اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروه واصفين له بسوء المكانة و ضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكى من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء، و إنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد عليهم بطريق التكنية.
فقوله: «الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم» كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما وصفوا، و الكناية أبلغ من التصريح.
فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا و أضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب، و لفظتا «شر» و «أضل» منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم و نحوه.
و قد كنى عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم و هو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى: «و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا» إلخ: إسراء: 98.
ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشر المكان و أليم العذاب و أيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الإنسان على وجهه و هو لا يشعر بما في قدامه، و هذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم ممثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل: إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم، و لا يبتلي بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا.
و قد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، و ذكر في مجمع البيان، أنهم قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين: إنهم شر خلق الله فقال الله تعالى: «أولئك شر مكانا و أضل سبيلا» و ذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات: «أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا» و قد عرفت ما يلوح من السياق.
و قد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: و هو على ظاهره و هو الانتقال مكبوبا، و قيل: هو السحب.
و قيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا و هو خلاف المشي على الاستقامة و فيه أن الأولى حينئذ التعبير بالحشر على الرءوس لا على الوجوه، و قد قال تعالى في موضع آخر و هو كتوصيف ما يجري بعد هذا الحشر: «يوم يسحبون في النار على وجوههم»: القمر: 48.
و قيل: المراد به فرط الذلة و الهوان و الخزي مجازا.
و فيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة.
و قيل: هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب؟ و فيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه و لا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله: «إلى جهنم».
و قيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية، و المراد أنهم يحشرون و قلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا و زخارفها متوجهة وجوههم إليها.
و أورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا و تعلق القلوب بها، و لعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم و عليهم.
و فيه أن مقتضى آيات تجسم الأعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا و التوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك.
قوله تعالى: «و لقد آتينا موسى الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزيرا» استشهاد على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به و بكتابه برسالة موسى و إيتائه الكتاب و إشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون و إهلاكهم، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا» قال في مجمع البيان، التدمير الإهلاك لأمر عجيب، و منه التنكيل يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه.
انتهى.
و المراد بالآيات آيات الآفاق و الأنفس الدالة على التوحيد التي كذبوا بها، و ذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى (عليه السلام) و لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم.
انتهى.
و هو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى (عليه السلام).
و وجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رسالته بتنظير الأمر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب و أرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا.
و لهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم و تدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون و جنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الإشارة إلى إيتاء الكتاب و الرسالة لموسى و تدمير القوم بالتكذيب.
و قيل: الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل: «و كفى بربك هاديا و نصيرا» و هو بعيد.
قوله تعالى: «و قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم و جعلناهم للناس آية و اعتدنا للظالمين عذابا أليما» الظاهر أن قوله: «قوم نوح» منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله: «أغرقناهم».
و المراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب للجميع لاتفاقهم على كلمة الحق.
على أن هؤلاء الأمم كانوا أقواما وثنيين و هم ينكرون النبوة و يكذبون الرسالة من رأس.
و قوله: «و جعلناهم للناس آية» أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و عادا و ثمود و أصحاب الرس و قرونا بين ذلك كثيرا» قال في مجمع البيان،: الرس البئر التي لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله، و قيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه و في روايات الشيعة ما يؤيد ذلك.
و قوله: «و عادا» إلخ معطوف على «قوم نوح» و التقدير: و دمرنا أو و أهلكنا عادا و ثمود و أصحاب الرس «إلخ».
و قوله: «و قرونا بين ذلك كثيرا» القرن أهل عصر واحد و ربما يطلق على نفس العصر و الإشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الأقوام أولهم قوم نوح و آخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون، و المعنى و دمرنا أو و أهلكنا عادا و هم قوم هود، و ثمود و هم قوم صالح، و أصحاب الرس، و قرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم و هم قوم نوح فمن بعدهم.
قوله تعالى: «و كلا ضربنا له الأمثال و كلا تبرنا تتبيرا» كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله: «ضربنا له الأمثال» فإن ضرب الأمثال في معنى التذكير و الموعظة و الإنذار، و التتبير التفتيت، و معنى الآية.
قوله تعالى: «و لقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أ فلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا» هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل و قد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة.
و قوله: «أ فلم يكونوا يرونها» استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام.
و قوله: «بل كانوا لا يرجون نشورا» أي لا يخافون معادا أو كانوا آيسين من المعاد، و هذا كقوله تعالى فيما تقدم: «بل كذبوا بالساعة» و المراد به أن المنشأ الأصيل لتكذيبهم بالكتاب و الرسالة و عدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية و عدم اعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة و لا تقع في قلوبهم حكمة و لا موعظة.
بحث روائي
في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاهدرخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشنآب و كان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له الرس يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، أرديبهشت خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، و منها اشتق العجم أسماء شهورهم. و قد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة. أجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة، و حرموا شرب مائها على أنفسهم و أنعامهم و من شرب منه قتلوه و يقولون: إنه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها. و قد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين و يذبحون الذبائح ثم يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها و سطوعه في السماء و يبكون و يتضرعون و الشيطان يكلمهم من الشجرة. و هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم و اسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعا و عيدوا اثني عشر يوما، و جاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين و العبادات للشجرة و كلمهم إبليس و هو يعدهم و يمنيهم أكثر مما كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر. و لما طال منهم الكفر بالله و عبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا فدعاهم إلى عبادة الله و ترك الشرك برهة فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلما رأوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، و قال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه و شأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئرا عميقا و ألقوه فيها و شدوا رأسها فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين و أطفئوا سنن المرسلين و أحيوا سنن الجبارين.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن أبي حمزة و هشام و حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عز و جل في القرآن، فقال: بلى، فقالت: و أين هو؟ قال: هن الرس.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي و البيهقي و ابن عساكر عن جعفر بن محمد بن علي: أن امرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرما في كتاب الله؟ قال: نعم هن اللواتي كن على عهد تبع، و هن صواحب الرس، و كل نهر و بئر رس. قال: يقطع لهن جلباب من نار، و درع من نار، و نطاق من نار، و تاج من نار، و خفان من نار، و من فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار. قال جعفر: علموا هذا نساءكم.
أقول: و روى القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما في معناه.
و في تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «و كلا تبرنا تتبيرا» يعني «كسرنا تكسيرا» قال: هي لفظة بالنبطية.
و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و أما القرية التي أمطرت مطر السوء فهي سدوم قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل يعني من طين.
|