بيان
الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، و الترغيب في القرض الحسن، و المعنى المحصل من قصة طالوت و داود و جالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، و المراد بيان ما للقتال من شئون الحياة، و الروح الذي به تقدم الأمة في حياتهم الدينية، و الدنيوية، و سعادتهم الحقيقية، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد، و يدعو إلى الإنفاق و البذل في تجهيز المؤمنين و تهيئة العدة و القوة، و سماه إقراضا لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال و الإيذان بالقرب، ثم يقص قصة طالوت و جالوت و داود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع أعداء الدين و يعلموا أن الحكومة و الغلبة للإيمان و التقوى و إن قل حاملوهما، و الخزي و الفناء للنفاق و الفسق و إن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، و هم أصحاب القصة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود و الكسل و التواني، فلما قاموا لله و قاتلوا في سبيل الله و استظهروا بكلمة الحق و إن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، و تولى أكثرهم عند إنجاز القتال أولا، و بالاعتراض على طالوت ثانيا، و بالشرب من النهر ثالثا، و بقولهم: لا طاقة لنا بجالوت و جنوده رابعا، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإذن الله و قتل داود جالوت و استقر الملك فيهم، و عادت الحياة إليهم، و رجع إليهم سؤددهم و قوتهم، و لم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الإيمان و التقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت و جنوده، و هي قولهم: ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الأعلون إن كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الآية، فرض و إيجاب للجهاد، و قد قيده تعالى هاهنا و سائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم و لا يستقر في الخيال أن هذه الوظيفة الدينية المهمة لإيجاد السلطة الدنيوية الجافة، و توسعة المملكة الصورية، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الإسلامي من الاجتماعيين و غيرهم، بل هو لتوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم و آخرتهم.
و في قوله تعالى: و اعلموا أن الله سميع عليم، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله و رسوله بشيء، و لا يضمروا نفاقا كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في أمر طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك علينا «إلخ»، و حيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده، و حيث فشلوا و تولوا لما كتب عليهم القتال و حيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.
قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله أضعافا كثيرة، القرض معروف و قد عد الله سبحانه ما ينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر أنه للترغيب، و لأنه إنفاق في سبيله، و لأنه مما سيرد إليهم أضعافا مضاعفة.
و قد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: و قاتلوا في سبيل الله: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، و لم يقل: قاتلوا في سبيل الله و أقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيز الدعوة و الندب فيستريح بذلك و يتهيج.
قوله تعالى: و الله يقبض و يبصط و إليه ترجعون، - القبض - الأخذ بالشيء إليك و يقابله البسط، و - البصط - هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الإطباق و التفخيم و هو الطاء.
و إيراد صفاته الثلاثة أعني: كونه قابضا و باسطا و مرجعا يرجعون إليه للإشعار بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا و لا يستبعد تضعيفه أضعافا كثيرة فإن الله هو القابض الباسط، ينقص ما شاء، و يزيد ما شاء، و إليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.
قوله تعالى: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إلى قوله: في سبيل الله، - الملأ - كما قيل: الجماعة من الناس على رأي واحد، سميت بالملإ لكونها تملأ العيون عظمة و أبهة.
و قولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدل على أن الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم، و سار فيهم بما افتقدوا به جميع شئون حياتهم المستقلة من الديار و الأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى و ولايته و ولاية من بعده من أوصيائه، و بلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، و عاد إلى أنفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملأ منهم نبيهم أن يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم و تجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير، و يقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.
قوله تعالى: قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، كان بنو إسرائيل سألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله و ليس ذلك للنبي بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، و لذلك أرجع نبيهم الأمر في القتال و بعث الملك إلى الله تعالى، و لم يصرح باسمه تعظيما لأن الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم و كانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى أن الأمر منه و إليه تعالى بقوله: إن كتب، و - الكتابة - و هي الفرض إنما تكون من الله تعالى.
و قد كانت المخالفة و التولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله.
قوله تعالى: قالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا، - الإخراج - من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم و بين أوطانهم المألوفة، و منعهم عن التصرف فيها و التمتع بها، كني به عن مطلق التصرف و التمتع، و لذلك نسب الإخراج إلى الأبناء أيضا كما نسب إلى البلاد.
قوله تعالى: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم و الله عليم بالظالمين، تفريع على قول نبيهم: هل عسيتم «إلخ»، و قولهم: و ما لنا أن لا نقاتل، و في قوله تعالى: و الله عليم بالظالمين، دلالة على أن قول نبيهم لهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، إنما كان لوحي من الله سبحانه: أنهم سيتولون عن القتال.
قوله تعالى: و قال لهم نبيهم إن الله قد بعث إلى قوله: من المال في جوابه (عليه السلام) هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل و لم يقولوا: اسأل الله أن يبعث لنا ملكا و يكتب لنا القتال.
و بالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه و ذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، و هما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى يكون له الملك علينا و نحن أحق بالملك منه، و من المعلوم أن قولهم هذا لنبيهم، و لم يستدلوا على كونهم أحق بالملك منه بشيء يدل على أن دليله كان أمرا بينا لا يحتاج إلى الذكر، و ليس إلا أن بيت النبوة و بيت الملك في بني إسرائيل و هما بيتان مفتخران بموهبة النبوة و الملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، و بعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك و لا من بيت النبوة و لذلك اعترضوا على ملكه بأنى، و هم أهل بيت الملك أو الملك و النبوة معا، أحق بالملك منه لأن الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، و هذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفي البداء و عدم جواز النسخ و التغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، و قد أجاب عنه نبيهم بقوله: إن الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، و الصفة الثانية ما في قولهم: و لم يؤت سعة من المال و قد كان طالوت فقيرا، و قد أجاب عنه نبيهم بقوله: و زاده بسطة في العلم و الجسم «إلخ».
قوله تعالى: قال: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم، الاصطفاء و الاستصفاء - الاختيار و أصله الصفو، و - البسطة - هي السعة و القدرة، و هذان جوابان عن اعتراضهم.
أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أن هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها و إذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحق بالملك منهم، و كان الشرف و التقدم لبيته على بيوتهم و لشخصه على أشخاصهم، فإنما الفضل يتبع تفضيله تعالى.
و أما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أن الملك و هو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن يتلاءم الإرادات المتفرقة من الناس و تجتمع تحت إرادة واحدة و تتحد الأزمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك كل فرد من أفراد المجتمع طريق كماله اللائق به فلا يزاحم بذلك فرد فردا، و لا يتقدم فرد من غير حق، و لا يتأخر فرد من غير حق.
و بالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، و يدفع كل ما يمانع ذلك، و الذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران: أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس و مفاسدها، و ثانيهما: القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، و هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى: و زاده بسطة في العلم و الجسم، و أما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل.
ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى: و الله يؤتي ملكه من يشاء، و هو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه و هو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، و إذا كان كذلك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء و أراد، ليس لأحد أن يقول: لما ذا أو بما ذا أي أن يسأل عن علة التصرف لأن الله تعالى هو السبب المطلق، و لا عن متمم العلية و أداة الفعل لأن الله تعالى تام لا يحتاج إلى متمم فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت إلى بيت، أو تقليده أحدا ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع و المال.
و الإيتاء و الإفاضة الإلهية و إن كانت كيف شاء و لمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافا خالية عن الحكم و المصالح، فإن المقصود من قولنا: إنه تعالى يفعل ما يشاء، و يؤتي الملك من يشاء و نظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف و إن لم يصادف فقد صار جزافا و لا محذور لأن الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإن هذا مما يبطله الظواهر الدينية و البراهين العقلية.
بل المقصود بذلك: أن الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق و أمر فالمصالح و جهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقة له تعالى، و إذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا و لا يفعل إلا الجميل، و لا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم و لا مقهور للمصلحة.
و من هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه، أعني اجتماع قوله تعالى: و الله يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم، فإن الحجة الأولى مشتملة على التعليل بالمصالح و الأسباب، و الحجة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، و لو لا أن إطلاق الملك و كونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح و الحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.
و قد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذييل الآية بقوله تعالى: و الله واسع عليم فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل و إيتاء أصلا و العليم يدل على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطىء فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء و لا يفعل إلا فعلا ذا مصلحة.
و - الوسعة و السعة - في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكن كسعة الإناء لما يصب فيه، و الصندوق لما يوضع فيه، و الدار لمن يحل فيها ثم استعير للغني و لكن لا كل غني و من كل جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كان المال يسع بذل ما أريد بذله و بهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.
قوله تعالى: و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم، التابوت - هو الصندوق، و هو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأن الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع.
كلام في معنى السكينة
و السكينة من السكون خلاف الحركة و تستعمل في سكون القلب و هو استقرار الإنسان و عدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الإنسان الحكيم من الحكمة باصطلاح فن الأخلاق صاحب العزيمة في أفعاله، و الله سبحانه جعلها من خواص الإيمان في مرتبة كماله، و عدها من مواهبه السامية.
بيان ذلك: أن الإنسان بغريزته الفطرية يصدر أفعاله عن التعقل، و هو تنظيم مقدمات عقلية مشتملة على مصالح: الأفعال، و تأثيرها في سعادته في حياته و الخير المطلوب في اجتماعه، ثم استنتاج ما ينبغي أن يفعله و ما ينبغي أن يتركه.
و هذا العمل الفكري إذا جرى الإنسان على أسلوب فطرته و لم يقصد إلا ما ينفعه نفعا حقيقيا في سعادته يجري على قرار من النفس و سكون من الفكر من غير اضطراب و تزلزل، و أما إذا أخلد الإنسان في حياته إلى الأرض و اتبع الهوى اختلط عليه الأمر، و داخل الخيال بتزييناته و تنميقاته في أفكاره و عزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، و تردده و اضطرابه في عزمه و تصميم إرادته و إقدامه على شدائد الأمور و هزاهزها أخرى.
و المؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرك و ركن لا ينهدم.
بانيا أموره على معارف حقة لا تقبل الشك و الريب، مقدما في أعماله عن تكليف إلهي لا يرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شره.
و أما غير المؤمن فلا ولي له يتولى أمره، بل خيره و شره يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الأفكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى و الخيال و الإحساسات المشئومة، قال تعالى: «و الله ولي المؤمنين»: آل عمران - 68، و قال تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» محمد - 11، و قال تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات:» البقرة - 257، و قال تعالى: «إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون:» الأعراف - 27، و قال تعالى: «ذلكم الشيطان يخوف أولياءه:» آل عمران - 175، و قال تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة:» البقرة - 268، و قال تعالى: «و من يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا - إلى أن قال - وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا:» النساء - 122، و قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون:» يونس - 62، و الآيات كما ترى تضع كل خوف و حزن و اضطراب و غرور في جانب الكفر، و ما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.
و قد بين الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122، فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعا في الظلمات لا يبصر شيئا، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، و يدرك به خيره و شره، و ذلك لأن الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر، و تلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، و في معناه قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم»: الحديد - 28.
ثم قال تعالى: «لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه:» المجادلة - 22، فأفاد أن هذه الحياة إنما هي بروح منه، و تلازم لزوم الإيمان و استقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، و الحياة الجديدة في قوالبهم، و النور المضيء قدامهم.
و هذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى: «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السموات و الأرض و كان الله عليما حكيما:» الفتح - 4، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة و ازدياد الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، و يؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية: و لله جنود السموات و الأرض، فإن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة و الروح.
و يقرب من هذه الآية سياقا قوله تعالى: «فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها:» الفتح - 26، و كذا قوله تعالى: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها:» التوبة - 40.
و قد ظهر مما مر أنه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى أن السكينة روح إلهي أو تستلزم روحا إلهيا من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب و استقرار النفس و ربط الجأش، و من المعلوم أن ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر و استعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب و عدم اضطرابه في الروح الإلهي، و بهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.
قوله تعالى: و بقية مما ترك آل موسى و آل هرون تحمله الملائكة «إلخ»، آل الرجل خاصته من أهله و يدخل فيهم نفسه إذا أطلق، فآل موسى و آل هارون هم موسى و هارون و خاصتهما من أهلهما، و قوله: تحمله الملائكة، حال عن التابوت، و في قوله تعالى: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبر به: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا.
قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر إلى قوله منهم، الفصل هاهنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى: «فلما فصلت العير:» يوسف - 94، و ربما استعمل بمعنى القطع و هو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى: «و هو خير الفاصلين»: الأنعام - 57، فالكلمة مما يتعدى و لا يتعدى.
و الجند المجتمع الغليظ من كل شيء و سمي العسكر جندا لتراكم الأشخاص فيه و غلظتهم، و في جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به و خاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر و تفرق الناس، و نظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود.
و في مجموع الكلام إشارة إلى حق الأمر في شأن بني إسرائيل و إيفائهم بميثاق الله، فإنهم سألوا بعث الملك جميعا و شدوا الميثاق، و قد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إلا قليلا منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنودا و هذه الجنود، أيضا لم تغن عنهم شيئا بل تخلفوا بشرب النهر و لم يبق إلا القليل من القليل مع شائبة فشل و نفاق بينهم من جهة المغترفين، و مع ذلك كان النصر للذين آمنوا و صبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.
و الابتلاء الامتحان، و النهر مجرى الماء الفائض، و الاغتراف و الغرف رفع الشيء و تناوله، يقال: غرف الماء غرفة و اغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله و يشربه.
و في استثناء قوله تعالى: إلا من اغترف غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة، و قد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى: و من لم يطعمه فإنه مني، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم و معناه الذوق أوجب تحولا في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت، و الشرب يوجب انقطاع جمع منه و الاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال و أما لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى: و من لم يطعمه فإنه مني إلى الجملة الأولى كان مفاد الكلام أن الأمر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إلا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين و يشخصهما فيعين به من ليس منه و هو من شرب من النهر، و يتعين به من هو منه و هو من لم يطعمه، و إذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء إلا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لأن ذلك إنما كان مفادا لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، و أما مع وجود الجملتين فيتعين الطائفتان: أعني الذين ليسوا منه و هم الشاربون، و الذين هم منه و هم غير الطاعمين، و من المعلوم أن الإخراج من الطائفة الأولى إنما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، و لازم ذلك أن الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الذين ليسوا منه، و الذين هم منه، و المغترفون، و على هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الذين هم منه، و الذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر و الجزع و الاعتماد بالله و القلق و الاضطراب.
قوله تعالى: فلما جاوزه هو و الذين آمنوا معه إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، و التدبر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، و المجيبون لهم هم الذين لم يطعموه أصلا، و الظن بلقاء الله إما بمعنى اليقين به و إما كناية عن الخشوع.
و لم يقولوا: يمكن أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا: كم من فئة «إلخ»، أخذا بالواقع في الاحتجاج بآرائه المصداق ليكون أقنع للخصم.
قوله تعالى: و لما برزوا لجالوت و جنوده «إلخ»، البروز هو الظهور، و منه البراز و هو الظهور للحرب، و الإفراغ صب نحو المادة السيالة في القالب و المراد إفاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، و كذا تثبيت الأقدام كناية عن الثبات و عدم الفرار.
قوله تعالى: فهزموهم بإذن الله «إلخ»، الهزم الدفع.
قوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض إلى آخر الآية، من المعلوم أن المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض أي فساد الاجتماع الإنساني و لو استتبع فساد الاجتماع فسادا في أديم الأرض فإنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، و هذه حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن.
بيان ذلك: أن سعادة هذه النوع لا تتم إلا بالاجتماع و التعاون.
و من المعلوم أن هذا الأمر لا يتم إلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع و أجزاؤه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل و ينفعل عن نفس واحدة و بدن واحد، و الوحدة الاجتماعية و مركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون و مركبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، و من المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنما هي نتيجة التأثير و التأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الأسباب التكوينية و غلبة بعضها على بعض و اندفاع بعضها الآخر عنه و مغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له، و عند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.
كذلك نظام الاجتماع الإنساني لو لم يقم على أساس التأثير و التأثر، و الدفع و الغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، و لم يتحقق حينئذ نظام و بطلت سعادة النوع، فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، و هو الغلبة و تحميل الإرادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر سواء منافعه المشروعة أو غيرها لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه و يلائمها و هكذا، و بذلك تنقطع الوحدة من بين الأجزاء و بطل الاجتماع، و هذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر: أن الأصل الأول الفطري للإنسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، و أما التعاون و المدنية فمتفرع عليه و أصل ثانوي، و قد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة»: البقرة - 213.
و في الحقيقة معنى الدفع و الغلبة معنى عام سار في جميع شئون الاجتماع الإنساني و حقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الإنسان، و دفعه عما يزاحمه و يمانعه عليه، و هذا معنى عام موجود في الحرب و السلم معا، و في الشدة و الرخاء، و الراحة و العناء جميعا، و بين جميع الأفراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنما يتنبه الإنسان له عند ظهور المخالفة و مزاحمة بعض الأفراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات و الميول و نحوها، فيشرع الإنسان في دفع الإنسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه و معلوم أن هذا على مراتب ضعيفة و شديدة، و القتال و الحرب إحدى مراتبه.
و أنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع و الغلبة من الأصول الفطرية عند الإنسان أصل فطري أعم من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الإنسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه، لا دفاع مشروع على الحق لا غيره، فإن أعمال الإنسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه سابقا فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن و الكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.
و هذا الأصل الفطري ينتفع به الإنسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره و تمالك ما بيده تغلبا و بغيا، و ينتفع به في دفعه و استرداد ما تملكه تغلبا و بغيا، و ينتفع به في إحياء الحق بعد موته جهلا بين الناس و تحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطري ينتفع به الإنسان أكثر مما يستضر به.
و هذا الذي ذكرناه «لعله» هو المراد بقوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، و يؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى: «و لكن الله ذو فضل على العالمين».
و قد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أن المورد أيضا كذلك و ربما أيده أيضا قوله تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله:» الحج - 40.
و فيه أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة كقصة طالوت و قصص أخرى يسيرة معدودة.
و ربما ذكر آخرون: أن المراد بها دفع الله العذاب و الهلاك عن الفاجر بسبب البر، و قد وردت فيه من طرق العامة و الخاصة روايات كما في المجمع، و الدر المنثور، عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده و ولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)، قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا و لو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، و إن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي و لو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، و إن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج و لو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا الحديث، و مثلهما غيرهما.
و فيه: أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إلا أن تنطبق عليهما من جهة أن موردهما أيضا من مصاديق دفع الناس.
و ربما ذكر بعضهم: أن المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، و هو كما ترى.
قوله تعالى: تلك آيات الله «إلخ»، كالخاتمة يختم بها الكلام و القصة غير أن آخر الآية: و إنك لمن المرسلين، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.
بحث روائي
في الدر المنثور:، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن زيد بن أسلم، قال: لما نزلت من الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا نبي الله، أ لا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا و إن لي أرضين: إحداهما بالعالية و الأخرى بالسافلة، و إني قد جعلت خيرهما صدقة، و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة.
أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة.
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية: من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم زدني فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم زدني فأنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، فعلم رسول الله أن الكثير من الله لا يحصى و ليس له منتهى.
أقول: و روى الطبرسي في المجمع، و العياشي في تفسيره نظيره و روي قريب منه من طرق أهل السنة أيضا، قوله (عليه السلام): فعلم رسول الله، يومىء إليه آخر الآية: و الله يقبض و يبصط، إذ لا حد يحد عطاءه تعالى، و قد قال: «و ما كان عطاء ربك محظورا:» الإسراء - 20.
و في تفسير العياشي، عن أبي الحسن (عليه السلام): في الآية، قال: هي صلة الإمام: أقول: و روي مثله في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) و هو من باب عد المصداق.
و في المجمع،: في قوله تعالى: إذ قالوا: لنبي لهم الآية هو إشموئيل، و هو بالعربية إسماعيل.
أقول: و هو مروي من طرق أهل السنة أيضا: و شموئيل هو الذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): أن بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي، و غيروا دين الله، و عتوا عن أمر ربهم، و كان فيهم نبي يأمرهم و ينهاهم فلم يطيعوه، و روي أنه أرميا النبي على نبينا و آله و عليه السلام فسلط الله عليهم جالوت و هو من القبط، فأذلهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم، و قالوا: سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله و كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع الله النبوة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا من ديارنا و أبنائنا، فكان كما قال الله: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم - و الله عليم بالظالمين، فقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، فغضبوا من ذلك و قالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ و نحن أحق بالملك منه و لم يؤت سعة من المال، و كانت النبوة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و كان طالوت من ولد إبنيامين أخي يوسف لأمه و أبيه، و لم يكن من بيت النبوة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم، و كان أعظمهم جسما و كان قويا و كان أعلمهم، إلا أنه كان فقيرا فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم و بقية مما ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة، و كان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه أمه و ألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوة، و أودعه عند يوشع وصيه، و لم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عز و شرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكا فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت - فيه سكينة من ربكم و بقية مما ترك آل موسى و آل هرون - تحمله الملائكة، قال: البقية ذرية الأنبياء.
أقول: قوله: و روي أنه أرميا النبي، رواية معترضة في رواية، قوله (عليه السلام): فكان كما قال الله «إلخ»، أي تولى الكثيرون و لم يبق على تسليم حكم القتال إلا قليل منهم، و في بعض الأخبار أن هذا القليل كانوا ستين ألفا، روى ذلك القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام)، و رواه العياشي عن الباقر (عليه السلام).
و قوله: و كانت النبوة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و قد قيل: إن الملك كان في بيت يهوذا و قد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت و داود و سليمان حتى يكون في بيت يهوذا، و هذا يؤيد ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت أن الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكا مما لا ينكر.
و قوله: قال: و البقية ذرية الأنبياء، وهم من الراوي، و إنما فسر (عليه السلام) بقوله: ذرية الأنبياء قوله: آل موسى و آل عمران، و يؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله: و بقية مما ترك آل موسى و آل هرون تحمله الملائكة، فقال: ذرية الأنبياء.
و في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن خالد، و الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: و قال الله: إن الله مبتليكم بنهر - فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني فشربوا منه إلا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده، و قال الذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين.
أقول: و أما كون الباقين مع طالوت ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا بعدد أهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة و العامة، و أما كون القائلين: لا طاقة لنا، هم المغترفين، و كون القائلين كم من فئة «إلخ»، هم الذين لم يشربوا أصلا فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه: من معنى الاستثناء.
و في الكافي، بإسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: إن آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة.
و اعلم أن الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك لأن إسقاط الأسانيد فيه إنما هو لمكان موافقة القرآن و معه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة و لا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الإسناد، و نحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيدة بالقرائن.
و في تفسير العياشي، عن محمد الحلبي عن الصادق (عليه السلام)، قال: كان داود و إخوة له أربعة، و معهم أبوهم شيخ كبير، و تخلف داود في غنم لأبيه، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود و هو أصغرهم، فقال: يا بني اذهب إلى إخوتك بهذا الذي صنعناه لهم يتقووا به على عدوهم و كان رجلا قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج و قد تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمر داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني و اقتل بي جالوت فإني إنما خلقت لقتله، فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظمون من أمره فوالله لئن عاينته لأقتلنه فحدثوا بخبره حتى أدخل على طالوت، فقال يا فتى و ما عندك من القوة؟ و ما جربت من نفسك؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفك لحييه منها فآخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فأتي بدرع فقذفها في عنقه فتملأ منها حتى راع طالوت و من حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: و الله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلما أن أصبحوا و رجعوا إلى طالوت و التقى الناس قال داود: أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين عينيه فدمغه و نكس عن دابته، و قال الناس: قتل داود جالوت، و ملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، و اجتمعت بنو إسرائيل على داود، و أنزل الله عليه الزبور، و علمه صنعة الحديد فلينه له، و أمر الجبال و الطير يسبحن معه، قال: و لم يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا، و أعطي قوة في عبادة.
أقول: المقذاف المقلاع الذي يكون للرعاة يرمون به الأحجار، و قد اتفقت ألسنة الأخبار من طرق الفريقين أن داود قتل جالوت بالحجر.
في المجمع، قال: إن السكينة التي كانت فيه ريح هفافة من الجنة لها وجه كوجه الإنسان: عن علي (عليه السلام).
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن سفيان بن عيينة و ابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن علي (عليه السلام) و كذا عن عبد الرزاق و أبي عبيد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم، و صححه و ابن عساكر و البيهقي في الدلائل، من طريق أبي الأحوص عن علي (عليه السلام) مثله.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن علي بن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الإنسان.
أقول: و روى هذا المعنى أيضا الصدوق في المعاني، و العياشي في تفسيره عن الرضا (عليه السلام)، و هذه الأخبار الواردة في معنى السكينة و إن كانت آحادا إلا أنها قابلة التوجيه و التقريب إلى معنى الآية، فإن المراد بها على تقدير صحتها: أن السكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس و طمأنينتها إلى أمر الله، و أمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمة، فينطبق حينئذ على روح الإيمان، و قد عرفت في البيان السابق أن السكينة منطبقة على روح الإيمان.
و على هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما في المعاني، عن أبي الحسن (عليه السلام): في السكينة، قال (عليه السلام): روح الله يتكلم، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمهم و أخبرهم، الحديث فإنما هو روح الإيمان يهدي المؤمن إلى الحق المختلف فيه.
بحث علمي و اجتماعي
ذكر علماء الطبيعة أن التجارب العلمي ينتج أن هذه الموجودات الطبيعية المجبولة على حفظ وجودها و بقائها، و الفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الأفعال ينازع بعضها البعض في البقاء، و حيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير و التأثر المتقابل من الغير و بالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما و الأكمل وجودا، و يستنتج من ذلك أن الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الأفراد من نوع أو نوعين أكملها و أمثلها فيتوحد للبقاء، و يفنى سائر الأفراد و ينقرض تدريجا، فهناك قاعدتان طبيعيتان: إحداهما: تنازع البقاء، و الثانية: الانتخاب الطبيعي و بقاء الأمثل.
و حيث كان الاجتماع متكئا في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضا نظير القانونين: أعني: قانوني تنازع البقاء، و الانتخاب و بقاء الأمثل.
فالاجتماع الكامل و هو الاجتماع المبني على أساس الاتحاد الكامل المحكم المرعى فيه حقوق الأفراد: الفردية و الاجتماعية أحق بالبقاء، و غيره أحق بالفناء و الانقراض، و التجارب قاض ببقاء الأمم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي، و انقراض الأمم بتفرق القلوب، و فشو النفاق و شيوع الظلم و الفساد و إتراف الكبراء و انهدام بنيان الجد فيهم، و الاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر.
فالبحث في الآثار الأرضية يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الأولية الأرضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمى برونتوساروس أو التي لم يبق من أنواعها إلا أنموذجات يسيرة كالتمساح و الضفدع و لم يعمل في إفنائها و انفراضها إلا تنازع البقاء، و الانتخاب الطبيعي و بقاء الأمثل، و كذلك الأنواع الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع و الانتخاب، و لا يصلح منها للبقاء إلا الأمثل و الأقوى وجودا، ثم يجره حكم الوراثة إلى استمرار الوجود و بقاء النوع، و على هذه الوتيرة كانت الأنواع و التراكيب الموجودة في أصل تكونها فإنما هي أجزاء المادة المنبثة في الجو حدثت بتراكمها و تجمعها الكرات و الأنواع الحادثة فيها، فما كان منها صالحا للبقاء بقي ثم توارث الوجود، و ما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد و انقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة و الاجتماع... و قد ناقضه المتأخرون بكثير من الأنواع الضعيفة الوجود الباقية بين الأنواع حتى اليوم، و بكثير من أصناف الأنواع النباتية و الحيوانية، فإن وقوع التربية بتأهيل كثير من أنواع النبات و الحيوان و إخراجها من البرية و الوحشية، و سيرها بالتربية إلى جودة الجنس و كمال النوع مع بقاء البري و الوحشي منها على الرداءة، و سيرهما إلى الضعف يوما فيوما، و استقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كل ذلك يقضي بعدم اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي.
و لذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية أخرى، و هي تبعية المحيط فالمحيط الموجود و هو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية و مكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له، و كذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته، و لذلك كانت لكل نوع من الأنواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضية القطبية أو الإستوائية و غير ذلك، من الأعضاء و الأدوات و القوى ما يناسب منطقة حياته و عيشته، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته و الزوال و الفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي أن تنتزعا من هذا القانون أعني: أن الأصل في قانوني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي هو تبعية المحيط، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا محيط مؤثر يوجب التأثير، و لكن لقاعدة تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين، و قد فصلوها في مظانها.
و لو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها و مطردة في حكمها كان من الواجب أن لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، و لا أن يتغير محيط في نفسه كما أن القاعدتين لو كانتا تامتين مطردتين في حكمهما وجب أن لا يبقى شيء من الموجودات الضعيفة الوجود مع القوية منها و لا أن يجري حكم التوارث في الأصناف الردية من النبات و الحيوان.
فالحق كما ربما اعترفت به الأبحاث العلمية أن هذه القواعد على ما فيها من الصحة في الجملة غير مطردة.
و النظر الفلسفي الكلي في هذا الباب: أن أمر حدوث الحوادث المادية سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات و التغيرات الحادثة في أطراف وجودها يدور مدار قانون العلية و المعلولية، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، و هذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض، و يستوجب ذلك أن ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو، و لازم ذلك أن يكون كل موجود فعالا لإبقاء وجوده و حياته، و على هذا صح أن يقال: إن بين الموجودات تنازعا في البقاء، و كذلك لازم التأثير العلي أن يتصرف الأقوى في الأضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، و بذلك يمكن أن يوجه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعي و تبعية المحيط، فإن النوع لما كان تحت تأثير العوامل المضادة فإنما يمكنه أن يقاومها إذا كان قوي الوجود قادرا على الدفاع عن نفسه، و كذلك الحال في أفراد نوع واحد، إنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات و الأضداد التي تتوجه إليه، و هذا هو الانتخاب الطبيعي و بقاء الأمثل، و كذا إذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت أكثرها أو تقاربت من حيث العمل فلا بد أن يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الأثر الذي يناسب عملها، و هذا هو تبعية المحيط.
و مما يجب أن يعلم: أن أمثال هذه النواميس أعني: تبعية المحيط و غيرها إنما يؤثر فيما صح أن يؤثر، في عوارض وجود الشيء و لواحقه، و أما نفس الذات بأن يصير نوعا آخر فلا، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل يبنون البحث على أن كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة، و بذلك يمتاز نوع من نوع، و بالحقيقة لا نوع جوهري يباين نوعا جوهريا آخر، بل جميع الأنواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة، و من هنا تراهم يحكمون بتبدل الأنواع و بتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية و لا يبالون بتبدل الذات فيها، و للبحث ذيل ممتد سيمر بك إن شاء الله تفصيل القول فيه.
و نرجع إلى أول الكلام فنقول: ذكر بعض المفسرين: أن قوله تعالى، و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين الآية إشارة إلى قانوني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي.
قال: و يقرر ذلك قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور»: الحج - 41، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء و الدفاع عن الحق، و أنه ينتهي ببقاء الأمثل و حفظ الأفضل.
و مما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال:» الرعد - 17، فهو يفيد أن سيول الحوادث و ميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع و تدفعه و تبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، و إبريز المصلحة التي يتحلى به الإنسان، انتهى.
أقول: أما إن قاعدة تنازع البقاء و كذا قاعدة الانتخاب الطبيعي بالمعنى الذي مر بيانه حق في الجملة، و أن القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيء من القاعدتين، فإن الصنف الأول من الآيات مسوق لبيان أن الله سبحانه غير مغلوب في إرادته، و أن الحق و هو الذي يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب، و أن حامله إذا حمله على الحق و الصدق لم يكن مغلوبا البتة، و على ذلك يدل قوله تعالى أولا: بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير، و قوله تعالى ثانيا: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فإن الجملتين في مقام بيان أن المؤمنين سيغلبون أعداءهم لا لمكان التنازع و بقاء الأمثل الأقوى، فإن الأمثل و الأقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق و الأمثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لأنهم مظلومون ظلموا على قول الحق و الله سبحانه حق و ينصر الحق في نفسه، بمعنى أن الباطل لا يقدر على أن يدحض حجة الحق إذا تقابلا، و ينصر حامل الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره الله بقوله: و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة «إلخ»، أي هم صادقون في قولهم الحق و حملهم إياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى: و لله عاقبة الأمور، يشير به إلى عدة آيات تفيد أن الكون يسير في طريق كماله إلى الحق و الصدق و السعادة الحقيقية، و لا ريب أيضا في دلالة القرآن على أن الغلبة لله و لجنده البتة كما يدل عليه قوله: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي»: المجادلة - 21، و قوله تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:» الصافات - 173، و قوله تعالى: «و الله غالب على أمره»: يوسف - 21. و كذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها «إلخ»، مسوقة لبيان بقاء الحق و زهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق و الباطل الذين هما معا من سنخ الماديات و البقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع و المضادة كما في الحق و الباطل الذين هما بين الماديات و المعنويات فإن المعنى، و نعني به الموجود المجرد عن المادة، مقدم على المادة غير مغلوب في حال أصلا، فالتقدم و البقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، و كما في الحق و الباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات و المجردات، و قد قال تعالى: «و عنت الوجوه للحي القيوم»: طه - 111، و قال تعالى: «له ما في السموات و الأرض كل له قانتون:» البقرة - 116، و قال تعالى: «و أن إلى ربك المنتهى:» النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كل شيء، و هو الواحد القهار.
و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت أنها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتكي عليه الاجتماع الإنساني الذي به عمارة الأرض، و باختلاله يختل العمران و تفسد الأرض، و هي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الإنسان، و تأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن و الاجتماع التعاوني، و هذا المعنى و إن كان بعض أعراقه و أصوله التنازع في البقاء و الانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الأرض و مصونيتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.
و بعبارة أخرى واضحة: القاعدتان و هما التنازع في البقاء و الانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة و عودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر و ضم ما له من الوجود و مزاياه إلى نفسه، و الطبيعة بالانتخاب تريد أن يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقواهما و أمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة و بطلانها و تبدلها إلى واحد أمثل، و هذا أمر ينافي الاجتماع و التعاون و الاشتراك في الحياة الذي يطلبه الإنسان بفطرته و يهتدي إليه بغريزته و به عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوما، و أكل بعضهم بعضا، و الدفع الذي تعمر به الأرض و يصان عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع و الاتحاد المستقر على الكثرة و الجماعة دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع و إيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض و عدم فسادها من حيث إنه يحيا به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع و يهلك به العين و يمحى به الأثر فافهم.
بحث في التاريخ و ما يعتني به القرآن منه
التاريخ النقلي و نعني به ضبط الحوادث الكلية و الجزئية بالنقل و الحديث مما لم يزل الإنسان من أقدم عهود حياته و أزمان وجوده في الأرض مهتما به، ففي كل عصر من الأعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه و المؤلفين فيه، و آخرون يعتورون ما ضبطه أولئك و يأخذون ما أتحفوهم به، و الإنسان ينتفع به في جهات شتى من حياته كالاجتماع و الاعتبار و القص و الحديث و التفكه و أمور أخرى سياسية أو اقتصادية أو صناعية و غير ذلك.
و أنه على شرافته و كثرة منافعه لم يزل و لا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع و صدق البيان إلى الباطل و الكذب: أحدهما: أنه لا يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة و القدرة يميل إلى إظهار ما ينفعها و يغمض عما يضرها و يفسد الأمر عليها، و ليس ذلك إلا ما لا نشك فيه أن الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق و ستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل و الكذب بصورة الحق و الصدق، فإن الفرد من الإنسان و المجتمع منه مفطوران على جلب النفع و دفع الضرر بأي نحو أمكن، و هذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامة الحاضرة في زمان حياته و يتأمل به في تاريخ الأمم الماضية و البعيدة.
و ثانيهما: أن المتحملين للأخبار و الناقلين لها و المؤلفين فيها جميعهم لا يخلون من إعمال الإحساسات الباطنية و العصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها، فإن جملة الأخبار في الماضين، و الحكومة في أعصارهم حكومة الدين، كانوا منتحلين بنحلة و متدينين كل بدين، و كانت الإحساسات المذهبية فيهم قوية و العصبيات القومية شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخية من حيث اشتمالها على أحكام و أقضية كما أن العصبية المادية و الإحساسات القوية اليوم للحرية على الدين و للهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، و من هنا أنك لا ترى أهل دين و نحلة فيما ألف أو جمع من الأخبار أودع شيئا يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كل مذهب موافق لأصول مذهبه، و كذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم إلا و فيه بعض التأييد للمذهب المادي.
على أن هاهنا عوامل أخرى تستدعي فساد التاريخ، و هو فقدان وسائل الضبط و الأخذ و التحمل و النقل و التأليف و الحفظ عن التغير و الفقدان سابقا و هذه النقيصة و إن ارتفعت اليوم بتقارب البلاد و تراكم وسائل الاتصال و سهولة نقل الأخبار و الانتقال و التحول لكن عمت البلية من جهة أخرى و هي: أن السياسة داخلت جميع شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية، و بحسب تحولها تتحول الأخبار من حال إلى حال، و هذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد أن يورده مورد السقوط، و وجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على أساس الآثار الأرضية، و هذا و إن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأول مثلا، لكنها غير خالية عن الباقي، و عمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الإحساس و العصبية في الأقضية، و تصرف السياسة فيها إفشاء و كتمانا و تغييرا و تبديلا، فهذا حال التاريخ و ما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الإصلاح أبدا.
و من هنا يظهر: أن القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنه وحي إلهي منزه عن الخطإ مبرأ عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ ما لا مؤمن له يؤمنه من الكذب و الخطإ، فأغلب القصص القرآنية كنفس هذه القصة قصة طالوت يخالف ما يوجد في كتب العهدين، و لا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الأيدي فيها و بها، على أن مؤلف هذه القصة و هي قصة صموئيل و شارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلا، و كيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ و خاصة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه.
على أن القرآن ليس بكتاب تاريخ و لا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حد ما يرومه كتاب التاريخ، و إنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، و لذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها و جهات وقوعها، و إنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الإمعان و التأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها.
كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت و جالوت حيث يقول تعالى: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل، ثم يقول: و قال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا «إلخ»، ثم يقول: و قال لهم نبيهم: إن آية ملكه، ثم يقول: فلما فصل طالوت «إلخ»، ثم يقول و لما برزوا لجالوت، و من المعلوم أن اتصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة، و قد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة، و هو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن، لا يختص بالذكر منها إلا مواضع الحاجة فيها: من عبرة و موعظة و حكمة أو سنة إلهية في الأيام الخالية و الأمم الدارجة، قال تعالى: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»: يوسف - 111، و قال تعالى: «يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم:» النساء - 26، و قال تعالى: «قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس و هدى و موعظة للمتقين:» آل عمران - 138، إلى غير ذلك من الآيات.
|