بيان
لما استوفى الكلام في النبوة بانيا لها على المعاد عقبه بالإشارة إلى قصص جماعة من أنبيائه الكرام الذين بعثهم إلى الناس و أيدهم بالحكمة و الشريعة و أنجاهم من أيدي ظالمي أممهم و في ذلك تأييد لما مر في الآيات من حجة التشريع و إنذار و تخويف للمشركين و بشرى للمؤمنين.
و قد عد فيها من الأنبياء موسى و هارون و إبراهيم و لوطا و إسحاق و يعقوب و نوحا و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل و ذا النون و زكريا و يحيى و عيسى سبعة عشر نبيا، و قد ذكر في الآيات المنقولة سبعة منهم فذكر أولا موسى و هارون و عقبهما بإبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و هم قبلهما ثم عقبهم بنوح و هو قبلهم.
قوله تعالى: «و لقد آتينا موسى و هارون الفرقان و ضياء و ذكرا للمتقين» رجوع بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم» الآية بذكر ما أوتي النبيون من المعارف و الشرائع و أيدوا بإهلاك أعدائهم بالقضاء بالقسط.
و الآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان و الضياء و الذكر التوراة آتاها الله موسى و أخاه هارون شريكه في النبوة.
و الفرقان مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، و ذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا مصدر و تسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق و الباطل في الاعتقاد و العمل، و الآية نظيرة قوله: «و لقد آتينا موسى الكتاب و الفرقان لعلكم تهتدون:» البقرة: 53 و تسميتها ضياء لكونها مضيئة لمسيرهم إلى السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة، و تسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم و المواعظ و العبر.
و لعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لإتيانه باللام بخلاف ضياء و ذكر، و بوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء و ذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها غيرهم و لذا جيء بالضياء و الذكر منكرين ليتقيدا بقوله: «للمتقين» بخلاف الفرقان و قد سميت التوراة نورا و ذكرا في قوله تعالى: «فيها هدى و نور:» المائدة: 44 و قوله: «فاسألوا أهل الذكر» الآية: 7 من السورة.
قوله تعالى: «و هذا ذكر مبارك أنزلناه أ فأنتم له منكرون» الإشارة بهذا إلى القرآن و إنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به و الكافر في المجتمع البشري و تتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته.
يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد و الصلاح في المجتمع العام البشري و الرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي يسترشد بمعناه و إن جهل الجاهلون لفظه، و أنكر الجاحدون حقه و كفروا بعظيم نعمته، و أعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
قوله تعالى: «و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين» انعطاف إلى ما قبل موسى و هارون و نزول التوراة كما يفيده قوله: «من قبل» و المراد أن إيتاء التوراة لموسى و هارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده.
و الرشد خلاف الغي و هو إصابة الواقع، و هو في إبراهيم (عليه السلام) اهتداؤه الفطري التام إلى التوحيد و سائر المعارف الحقة و إضافة الرشد إلى الضمير الراجع إلى إبراهيم تفيد الاختصاص و تعطي معنى اللياقة و يؤيد ذلك قوله بعده: «و كنا به عالمين» و هو كناية عن العلم بخصوصية حاله و مبلغ استعداده.
و المعنى: و أقسم لقد أعطينا إبراهيم ما يستعد له و يليق به من الرشد و إصابة الواقع و كنا عالمين بمبلغ استعداده و لياقته، و الذي آتاه الله سبحانه - كما تقدم - هو ما أدركه بصفاء فطرته و نور بصيرته من حقيقة التوحيد و سائر المعارف الحقة من غير تعليم معلم أو تذكير مذكر أو تلقين ملقن.
قوله تعالى: «إذ قال لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون» التمثال الشيء المصور و الجمع تماثيل، و العكوف الإقبال على الشيء و ملازمته على سبيل التعظيم له كذا ذكره الراغب فيهما.
يريد (عليه السلام) بهذه التماثيل الأصنام التي كانوا نصبوها للعبادة و تقريب القرابين و كان سؤاله عن حقيقتها ليعرف ما شأنها و قد كان أول وروده في المجتمع و قد ورد في مجتمع ديني يعبدون التماثيل و الأصنام و السؤال مع ذلك مجموع سؤالين اثنين و سؤاله أباه عن الأصنام كان قبل سؤاله قومه على ما أشير إليه في سورة الأنعام و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين» هو جواب القوم و لما كان سؤاله (عليه السلام) عن حقيقة الأصنام راجعا بالحقيقة إلى سؤال السبب لعبادتهم إياها تمسكوا في التعليل بذيل السنة القومية فذكروا أن ذلك من سنة آبائهم وجدوهم يعبدونها.
قوله تعالى: «قال لقد كنتم أنتم و آباؤكم في ضلال مبين» و وجه كونهم في ضلال مبين ما سيورده في محاجة القوم بعد كسر الأصنام من قوله: «أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم».
قوله تعالى: «قالوا أ جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين» سؤال تعجب و استبعاد و هو شأن المقلد التابع من غير بصيرة إذا صادف إنكارا لما هو فيه استبعد و لم يكد يذعن بأنه مما يمكن أن ينكره منكر و لذا سألوه أ جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين و المراد بالحق - على ما يعطيه السياق - الجد أي أ تقول ما تقوله جدا أم تلعب به؟.
قوله تعالى: «قال بل ربكم رب السماوات و الأرض الذي فطرهن و أنا على ذلكم من الشاهدين» هو (عليه السلام) - كما ترى - يحكم بأن ربهم هو رب السماوات و أن هذا الرب هو الذي فطر السماوات و الأرض و هو الله سبحانه، و في ذلك مقابلة تامة لمذهبهم في الربوبية و الألوهية فإنهم يرون أن لهم إلها أو آلهة غير ما للسماوات و الأرض من الإله أو الآلهة، و هم جميعا غير الله سبحانه و لا يرونه تعالى إلها لهم و لا لشيء من السماوات و الأرض بل يعتقدون أنه إله الآلهة و رب الأرباب و فاطر الكل.
فقوله: «بل ربكم رب السماوات و الأرض الذي فطرهن» رد لمذهبهم في الألوهية بجميع جهاته و إثبات أن لا إله إلا الله و هو التوحيد.
ثم كشف (عليه السلام) بقوله: «و أنا على ذلكم من الشاهدين» عن أنه معترف مقر بما قاله ملتزم بلوازمه و آثاره شاهد عليه شهادة إقرار و التزام فإن العلم بالشيء غير الالتزام به و ربما تفارقا كما قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم:» النمل: 14.
و بهذا التشهد يتم الجواب عن سؤالهم أ هو مجد فيما يقول أم لاعب؟ و الجواب لا بل أعلم بذلك و أتدين به.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم في تفسيرها أقاويل أخر و كذا في معاني آيات القصة السابقة و اللاحقة وجوه أخر أضربنا عنها لعدم جدوى في التعرض لها فلا سياق الآيات يساعد عليها و لا مذاهب الوثنية توافقها.
قوله تعالى: «و تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين» معطوف على قوله: «بل ربكم» إلخ أي قال لأكيدن أصنامكم «إلخ» و الكيد التدبير الخفي على الشيء بما يسوؤه، و في قوله: «بعد أن تولوا مدبرين» دلالة على أنهم كانوا يخرجون من البلد أو من بيت الأصنام أحيانا لعيد كان لهم أو نحوه فيبقى الجو خاليا.
و سياق القصة و طبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله: «و تالله لأكيدن أصنامكم بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول يقال: لأفعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته.
و من البعيد أن يكون مخاطبا به القوم و هم أمة وثنية كبيرة ذات قوة و شوكة و حمية و عصبية و لم يكن فيهم يومئذ - و هو أول دعوة إبراهيم - موحد غيره فلم يكن من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء و خاصة بالتصريح على أن ذلك منه بالكيد يوم تخلو البلدة أو بيت الأصنام من الناس كمن يفشي سرا لمن يريد أن يكتمه منه اللهم إلا أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول و أما إعلان السر لعامتهم فلا قطعا.
قوله تعالى: «فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون» قال الراغب الجذ كسر الشيء و تفتيته و يقال لحجارة الذهب المكسورة و لفتات الذهب جذاذا و منه قوله تعالى: «فجعلهم جذاذا» انتهى فالمعنى فجعل الأصنام قطعا مكسورة إلا صنما كبيرا من بينهم.
و قوله: «لعلهم إليه يرجعون» ظاهر السياق أن هذا الترجي لبيان ما كان يمثله فعله أي كان فعله هذا حيث كسر الجميع إلا واحدا كبيرا لهم فعل من يريد بذلك أن يرى القوم ما وقع على أصنامهم من الجذ و يجدوا كبيرهم سالما بينهم فيرجعوا إليه و يتهموه في أمرهم كمن يقتل قوما و يترك واحدا منهم ليتهم في أمرهم.
و على هذا فالضمير في قوله: «إليه» راجع إلى «كبيرا لهم» و يؤيد هذا المعنى أيضا قول إبراهيم الآتي: «بل فعله كبيرهم هذا» في جواب قولهم: «أ أنت فعلت هذا بالهتنا».
و الجمهور من المفسرين على أن ضمير «إليه» لإبراهيم (عليه السلام) و المعنى فكسر الأصنام و أبقى كبيرهم لعل الناس يرجعون إلى إبراهيم فيحاجهم و يبكتهم و يبين بطلان ألوهية أصنامهم، و ذهب بعضهم إلى أن الضمير لله سبحانه و المعنى فكسرهم و أبقاه لعل الناس يرجعون إلى الله بالعبادة لما رأوا حال الأصنام و تنبهوا من كسرها أنها ليست بآلهة كما كانوا يزعمون.
و غير خفي أن لازم القولين كون قوله: «إلا كبيرا لهم» مستدركا و إن تكلف بعضهم في دفع ذلك بما لا يغني عن شيء، و كان المانع لهم من إرجاع الضمير إلى «كبيرا» عدم استقامة الترجي على هذا التقدير لكنك عرفت أن ذلك لبيان ما يمثله فعله (عليه السلام) لمن يشهد صورة الواقعة لا لبيان ترج جدي من إبراهيم (عليه السلام).
قوله تعالى: «قالوا من فعل هذا بالهتنا إنه لمن الظالمين» استفهام بداعي التأسف و تحقيق الأمر للحصول على الفاعل المرتكب للظلم و يؤيد ذلك قوله تلوا: «قالوا سمعنا فتى يذكرهم» إلخ فقول بعضهم: إن «من موصولة» ليس بسديد.
و قوله: «إنه لمن الظالمين» قضاء منهم بكونه ظالما يجب أن يساس على ظلمه إذ قد ظلم الآلهة بالتعدي إلى حقهم و هو التعظيم و ظلم الناس بالتعدي إلى حقهم و هو احترام آلهتهم و تقديس مقدساتهم و ظلم نفسه بالتعدي إلى ما ليس له بحق و ارتكاب ما لم يكن له أن يرتكبه.
قوله تعالى: «قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم» المراد بالذكر - على ما يستفاد من المقام - الذكر بالسوء أي سمعنا فتى يذكر الآلهة بالسوء فإن يكن فهو الذي فعل هذا بهم إذ لا يتجرى لارتكاب مثل هذا الجرم إلا مثل ذاك المتجري.
و قوله: «يقال له إبراهيم» برفع إبراهيم و هو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو إبراهيم كذا ذكره الزمخشري.
قوله تعالى: «قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون» المراد بإتيانه على أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس و مرآهم و هو حيث كسرت الأصنام كما يظهر من قول إبراهيم (عليه السلام): «بل فعله كبيرهم هذا» بالإشارة إلى كبير الأصنام.
و كأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك ذريعة إلى أخذ الإقرار منه بالجذ و الكسر، و أما ما قيل: إن المراد شهادتهم عقاب إبراهيم على ما فعل فبعيد.
قوله تعالى: «قالوا ء أنت فعلت هذا بالهتنا يا إبراهيم» الاستفهام - كما قيل - للتقرير بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع و في قولهم «بالهتنا» تلويح إلى أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الأصنام.
قوله تعالى: «قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون» ما أخبر (عليه السلام) به بقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» دعوى بداعي إلزام الخصم و فرض و تقدير قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله «أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم» إلخ.
و ليس بخبر جدي البتة، و هذا كثير الورود في المخاصمات و المناظرات فالمعنى قال: بل شاهد الحال و هو صيرورة الجميع جذاذا و بقاء كبيرهم سالما يشهد أن قد فعله كبيرهم هذا و هو تمهيد لقوله: «فاسألوهم» إلخ.
و قوله: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» أمر بأن يسألوا الأصنام عن حقيقة الحال و أن الذي فعل بهم هذا من هو؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله: «إن كانوا ينطقون» شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله فاسألوهم».
فتحصل أن الآية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم و تأخير أو محذور تعقيد، و أن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم و توطئة و تمهيد لذيلها و هو أمرهم بسؤال الأصنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم بأنهم لا ينطقون.
و ربما قيل: إن قوله: «إن كانوا ينطقون» قيد لقوله: «بل فعله كبيرهم» و التقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، و إذ كان نطقهم محالا فالفعل منه كذلك و قوله: «فاسألوا» جملة معترضة.
و ربما قيل: إن فاعل قوله: «فعله» محذوف و التقدير بل فعله من فعله ثم ابتدأ فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم إلخ و ربما قيل: غير ذلك و هي وجوه غير خالية من التكلف لا يخلو الكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى.
قوله تعالى: «فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون» تفريع على قوله: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» فإنهم لما سمعوا منه ذلك و هم يرون أن الأصنام جمادات لا شعور لها و لا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على نفسه أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله: «فرجعوا إلى أنفسهم» استعارة بالكناية عن تنبههم و تفكرهم في أنفسهم، و قوله: «فقالوا إنكم أنتم الظالمون» أي قال كل لنفسه مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق.
و قيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض و قال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون و أنت خبير بأن ذلك لا يناسب المقام و هو مقام تمام الحجة على الجميع و اشتراكهم في الظلم و لو بني على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الأنسب أن يقال: إنا نحن الظالمون كما في نظائره قال تعالى: «فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين:» القلم: 31، و قال: «فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون:» الواقعة: 67.
قوله تعالى: «ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» قال الراغب: النكس قلب الشيء على رأسه و منه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه قال تعالى: «ثم نكسوا على رءوسهم».
انتهى فقوله: «ثم نكسوا على رءوسهم» كناية أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل على مكان الحق الذي ظهر لهم و الحق على مكان الباطل كأن الحق علا في قلوبهم الباطل فنكسوا على رءوسهم فرفعوا الباطل و هو كون إبراهيم ظالما على الحق و هو كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون».
و معنى قولهم: «لقد علمت» إلخ.
أن دفاعك عن نفسك برمي كبير الأصنام بالفعل و هو الجذ و تعليق ذلك باستنطاق الآلهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية عن ثبوت الجرم و قضاء على إبراهيم.
قوله تعالى: «قال أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم - إلى قوله - أ فلا تعقلون» لما تفوهوا بقولهم: «ما هؤلاء ينطقون» و سمعه إبراهيم لم يشتغل بالدفاع فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم و أتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقة للعبادة أي غير آلهة.
فما حصل تفريع قوله: «أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم» أن لازم كونهم لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا و لا يقدروا على شيء، و لازم ذلك أن لا ينفعوكم شيئا و لا يضروكم، و لازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما لرجاء خير أو لخوف شر و ليس عندهم شيء من ذلك فليسوا بآلهة.
و قوله: «أف لكم و لما تعبدون من دون الله» تزجر و تبر منهم و من آلهتهم بعد إبطال ألوهيتها، و هذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما مر: «و أنا على ذلكم من الشاهدين»، و قوله: «أ فلا تعقلون» توبيخ لهم.
قوله تعالى: «قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين» هو (عليه السلام) و إن أبطل بكلامه السابق ألوهية الأصنام و كان لازمه الضمني أن لا يكون كسرهم ظلما و جرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الأصنام بالفعل و أمرهم أن يسألوا الآلهة عن ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لإبطال ألوهية الآلهة و بهذا المقدار من السكوت و عدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم و أن جزاءه أن يحرق بالنار.
و لذلك قالوا: حرقوه و انصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم و مجازاة من أهان بهم و قولهم: «إن كنتم فاعلين» تهييج و إغراء.
قوله تعالى: «قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم» خطاب تكويني للنار تبدلت به خاصة حرارتها و إحراقها و إفنائها بردا و سلاما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) على طريق خرق العادة، و بذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الأمر فيه تفصيلا إذ الأبحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما لنا علم بروابط العلية و المعلولية فيه من العاديات المتكررة، و أما الخوارق التي نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها فيها.
نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها و قد تكلمنا في ذلك في مباحث الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب.
و الفصل في قوله: «قلنا» إلخ.
لكونه في معنى جواب سؤال مقدر و تقدير الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحو من قولنا: فأضرموا نارا و ألقوه فيها فكأنه قيل: فما ذا كان بعده فقيل: قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم، و على هذا النحو الفصل في كل «قال» و «قالوا» في الآيات السابقة من القصة.
قوله تعالى: «و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين» أي احتالوا عليه ليطفئوا نوره و يبطلوا حجته فجعلناهم الأخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم و عدم تأثيره و زادوا خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ و الإنجاء.
قوله تعالى: «و نجيناه و لوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» الأرض المذكورة هي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم، و لوط أول من آمن به و هاجر معه كما قال تعالى: «فآمن له لوط و قال إني مهاجر إلى ربي:» العنكبوت: 26.
قوله تعالى: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة» النافلة العطية و قد تكرر البحث عن مضمون الآيتين.
قوله تعالى: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا» إلى آخر الآية، الظاهر - كما يشير إليه ما يدل من الآيات على جعل الإمامة في عقب إبراهيم (عليه السلام) - رجوع الضمير في «جعلناهم» إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب.
و ظاهر قوله: «أئمة يهدون بأمرنا» أن الهداية بالأمر يجري مجرى المفسر لمعنى الإمامة، و قد تقدم الكلام في معنى هداية الإمام بأمر الله في الكلام على قوله تعالى: «إني جاعلك للناس إماما:» البقرة: 124 في الجزء الأول من الكتاب.
و الذي يخص المقام أن هذه الهداية المجعولة من شئون الإمامة ليست هي بمعنى إراءة الطريق لأن الله سبحانه جعل إبراهيم (عليه السلام) إماما بعد ما جعله نبيا - كما أوضحناه في تفسير قوله: «إني جاعلك للناس إماما» فيما تقدم - و لا تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للإمامة إلا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب و هي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال و نقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر.
و إذ كانت تصرفا تكوينيا و عملا باطنيا فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:» يس: 83 فهو الفيوضات المعنوية و المقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة و يتلبسون بها رحمة من ربهم.
و إذ كان الإمام يهدي بالأمر - و الباء للسببية أو الآلة فهو متلبس به أولا و منه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالإمام هو الرابط بين الناس و بين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية و أخذها كما أن النبي رابط بين الناس و بين ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية و هي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي و تنتشر منه و بتوسطه إلى الناس و فيهم، و الإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة و الأعمال الصالحة، و ربما تجتمع النبوة و الإمامة كما في إبراهيم و ابنيه.
و قوله: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة» إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق معناه في الخارج فإن أريد أن لا يفيد الكلام ذلك جيء بالقطع عن الإضافة أو بأن و أن الدالتين على تأويل المصدر نص على ذلك الجرجاني في دلائل الإعجاز فقولنا: يعجبني إحسانك و فعلك الخير و قوله تعالى: «ما كان الله ليضيع إيمانكم:» البقرة: 43» أ يدل على الوقوع قبلا، و قولنا: يعجبني أن تحسن و أن تفعل الخير و قوله تعالى: «أن تصوموا خير لكم:» البقرة: 184 لا يدل على تحقق قبلي، و لذا كان المألوف في آيات الدعوة و آيات التشريع الإتيان بأن و الفعل دون المصدر المضاف كقوله: «أمرت أن أعبد الله:» الرعد: 36»، و «ألا تعبدوا إلا إياه:» يوسف: 40 «و أن أقيموا الصلاة:» الأنعام: 72.
و على هذا فقوله: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات» إلخ.
يدل على تحقق الفعل أي أن الوحي تعلق بالفعل الصادر عنهم أي أن الفعل كان يصدر عنهم بوحي مقارن له و دلالة إلهية باطنية هو غير الوحي المشرع الذي يشرع الفعل أولا و يترتب عليه إتيان الفعل على ما شرع.
و يؤيد هذا الذي ذكر قوله بعد: «و كانوا لنا عابدين» فإنه يدل بظاهره على أنهم كانوا قبل ذلك عابدين لله ثم أيدوا بالوحي و عبادتهم لله إنما كانت بأعمال شرعها لهم الوحي المشرع قبلا فهذا الوحي المتعلق بفعل الخيرات وحي تسديد ليس وحي تشريع.
فالمحصل أنهم كانوا مؤيدين بروح القدس و الطهارة مسددين بقوة ربانية تدعوهم إلى فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هي الإنفاق المالي الخاص بشريعتهم.
و القوم حملوا الوحي في الآية على وحي التشريع فأشكل عليهم الأمر أولا من جهة أن فعل الخيرات بالمعنى المصدري ليس متعلقا للوحي بل متعلقه حاصل الفعل، و ثانيا أن التشريع عام للأنبياء و أممهم و قد خص في الآية بهم، و لذا ذكر الزمخشري أن المراد بفعل الخيرات و ما يتلوه من إقام الصلاة و إيتاء الزكاة المصدر المبني للمفعول، و المعنى و أوحينا إليهم أن يفعل الخيرات - بالبناء للمجهول - و هكذا، و به يندفع الإشكالان إذ المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل كالمترادفين فيندفع الإشكال الأول، و الفاعل فيه مجهول ينطبق على الأنبياء و أممهم جميعا فيندفع الإشكال الثاني و قد كثر البحث حول ما ذكره.
و فيه: أولا منع ما ذكره من اتحاد معنى المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل.
و ثانيا: ما قدمناه من أن إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق الفعل و لا يتعلق الوحي التشريعي به.
و قد تقدمت قصة إبراهيم (عليه السلام) في تفسير سورة الأنعام و قصة يعقوب (عليه السلام) في تفسير سورة يوسف من الكتاب، و ستجيء قصة إسحاق في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و لوطا آتيناه حكما و علما» إلى آخر الآيتين.
الحكم بمعنى فصل الخصومات أو بمعنى الحكمة و القرية التي كانت تعمل الخبائث سدوم التي نزل بها لوط في مهاجرته مع إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالخبائث الأعمال الخبيثة، و المراد بالرحمة الولاية أو النبوة و لكل وجه، و قد تقدمت قصة لوط (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب.
قوله تعالى: «و نوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له» إلى آخر الآيتين، أي و اذكر نوحا إذ نادى ربه قبل إبراهيم و من ذكر معه فاستجبنا له، و نداؤه ما حكاه سبحانه من قوله: «رب إني مغلوب فانتصر» و المراد بأهله خاصته إلا امرأته و ابنه الغريق، و الكرب الغم الشديد، و قوله: «و نصرناه من القوم» كأن النصر مضمن معنى الإنجاء و نحوه و لذا عدي بمن و الباقي ظاهر.
و قد تقدمت قصة نوح (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب.
بحث روائي
في روضة الكافي،: علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خالف إبراهيم (عليه السلام) قومه و عاب آلهتهم إلى قوله فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم (عليه السلام) إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم و وضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا و الله ما اجترى عليها و لا كسرها إلا الفتى الذي كان يعيبها و يبرأ منها فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار. فجمع له الحطب و استجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود و جنوده و قد بني له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار؟ و وضع إبراهيم في منجنيق، و قالت الأرض: يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار؟ قال الرب إن دعاني كفيته. فذكر أبان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر (عليه السلام): أن دعاء إبراهيم (عليه السلام) يومئذ كان: يا أحد يا أحد يا صمد يا صمد يا من لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد. ثم قال: توكلت على الله فقال الرب تبارك و تعالى: كفيت فقال للنار: كوني بردا! قال: فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال الله عز و جل و سلاما على إبراهيم و انحط جبرئيل فإذا هو جالس مع إبراهيم يحدثه في النار. قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. قال: فقال عظيم من عظمائهم: إني عزمت على النار أن لا تحرقه فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه قال: فآمن له لوط فخرج مهاجرا إلى الشام هو و سارة و لوط.
و فيه، أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثق و عمل له حيرا و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم سليما مطلقا من وثاقه. فأخبر نمرود خبره فأمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده و أن يمنعوه من الخروج بماشيته و ماله فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمرود و قضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضر بالهتكم.
الحديث.
و في العلل، بإسناده إلى عبد الله بن هلال قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار تلقاه جبرئيل في الهواء و هو يهوي فقال: يا إبراهيم أ لك حاجة فقال: أما إليك فلا.
أقول: و قد ورد حديث قذفه بالمنجنيق في عدة من الروايات من العامة و الخاصة و كذا قول جبريل له: أ لك حاجة؟ و قوله: أما إليك فلا، رواه الفريقان.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن أبي شيبة و ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله: «قلنا يا نار كوني بردا» قال: بردت عليه حتى كادت تؤذيه حتى قيل: و سلاما قال: لا تؤذيه.
و في الكافي، و العيون، عن الرضا (عليه السلام) في حديث في الإمامة قال: ثم أكرمه الله عز و جل يعني إبراهيم بأن جعلها يعني الإمامة في ذريته و أهل الصفوة و الطهارة فقال عز و جل: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة - و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا - و أوحينا إليهم فعل الخيرات - و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين» فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الله جل جلاله: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه - و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين» فكانت خاصة. فقلدها علي (عليه السلام) بأمر الله عز و جل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم و الإيمان بقوله تعالى: «قال الذين أوتوا العلم و الإيمان - لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث» فهي في ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المعاني، بإسناده عن يحيى بن عمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة» قال: ولد الولد نافلة.
و في تفسير القمي،: في قوله: «و نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث» قال: كانوا ينكحون الرجال.
أقول: و الروايات في قصص إبراهيم (عليه السلام) كثيرة جدا لكنها مختلفة اختلافا شديدا في الخصوصيات مما لا يرجع إلى منطوق الكتاب، و قد اكتفينا منها بما قدمناه و قد أوردنا ما هو المستخرج من قصصه من كلامه تعالى في تفسير سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.
|