بيان
شروع في ذكر قصص عدة من أقوام الأنبياء الماضين موسى و هارون و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليهما السلام) ليظهر أن قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سائرون مسيرهم و سيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل و الآجل، و الدليل على ذلك ختم كل واحدة من القصص بقوله: «و ما كان أكثرهم مؤمنين و إن ربك لهو العزيز الرحيم» كما ختم به الكلام الحاكي لإعراض قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول السورة، و ليس ذلك إلا لتطبيق القصة على القصة.
كل ذلك ليتسلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يضيق صدره و يعلم أنه ليس بدعا من الرسل و لا المتوقع من قومه غير ما عامل به الأمم الماضون رسلهم، و فيه تهديد ضمني لقومه و يؤيده تصدير قصة إبراهيم (عليه السلام) بقوله: «و اتل عليهم نبأ إبراهيم».
قوله تعالى: «و إذ نادى ربك موسى» - إلى قوله - أ لا يتقون» أي و اذكر وقتا نادى فيه ربك موسى و بعثه بالرسالة إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل على ما فصله في سورة طه و غيرها.
و قوله: «أن ائت القوم الظالمين» نوع تفسير للنداء، و توصيفهم أولا بالظالمين ثم بيانه ثانيا بقوم فرعون للإشارة إلى حكمة الإرسال و هي ظلمهم بالشرك و تعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى إلى أن قال فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم»: طه: 47.
و قوله: «أ لا يتقون» بصيغة الغيبة، و هو توبيخ غيابي منه تعالى لهم و إيراده في مقام عقد الرسالة لموسى (عليه السلام) في معنى قولنا: قل لهم إن ربي يوبخكم على ترك التقوى و يقول: أ لا تتقون.
قوله تعالى: «قال رب إني أخاف أن يكذبون» - إلى قوله - فأرسل إلى هارون»، قال في مجمع البيان:، الخوف انزعاج النفس بتوقع الضر و نقيضه الأمن و هو سكون النفس إلى خلوص النفع، انتهى.
و أكثر ما يطلق الخوف على إحساس الشر بحيث يؤدي إلى الاتقاء عملا و إن لم تضطرب النفس، و الخشية على تأثر النفس من توقع الشر بحيث يورث الاضطراب و القلق، و لذا نفى الله الخشية من غيره عن أنبيائه و ربما أثبت الخوف فقال: «و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39، و قال: «و إما تخافن منهم خيانة»: الأنفال: 58.
و قوله: «إني أخاف أن يكذبون» أي ينسبني قوم فرعون إلى الكذب، و قوله: «و يضيق صدري و لا ينطلق لساني» الفعلان مرفوعان و هما معطوفان على قوله: «أخاف» فالذي اعتل به أمور ثلاثة: خوف التكذيب و ضيق الصدر و عدم انطلاق اللسان، و في قراءة يعقوب و غيره يضيق و ينطلق بالنصب عطفا على «يكذبون» و هو أوفق بطبع المعنى، و عليه فالعلة واحدة و هي خوف التكذيب الذي يترتب عليه ضيق الصدر و عدم انطلاق اللسان.
و يطابق ما سيجيء من آية القصص من ذكر علة واحدة هي خوف التكذيب.
و قوله: «فأرسل إلى هارون» أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معينا لي على تبليغ الرسالة يقال لمن نزلت به نائبة أو أشكل عليه أمر: أرسل إلى فلان أي استمد منه و اتخذه عونا لك.
فالجملة أعني قوله: «فأرسل إلى هارون» متفرعة على قوله: «إني أخاف» إلخ، و ذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدر و عدم انطلاق اللسان توطئة و تقدمة لذكرها و سؤال موهبة الرسالة لهارون.
و إنما اعتل بما اعتل به و سأل الرسالة لأخيه ليكون شريكا له في أمره، معينا مصدقا له في التبليغ لا فرارا عن تحمل أعباء الرسالة، و استعفاء منها، قال في روح المعاني: و من الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع «فأرسل» بين الأوائل و بين الرابعة أعني قوله: «و لهم علي ذنب» إلخ، فآذن بتعلقه بها و لو كان تعللا لأخر، انتهى.
و هو حسن و أوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة: «قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون»: القصص: 34.
قوله تعالى: «و لهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون» قال الراغب في المفردات:، الذنب في الأصل الأخذ بذنب الشيء يقال: ذنبته أصبت ذنبه، و يستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا لما يحصل من عاقبته.
انتهى.
و في الآية إشارة إلى قصة قتله (عليه السلام)، و كونه ذنبا لهم عليه إنما هو بالبناء على اعتقادهم أو الاعتبار بمعناه اللغوي المذكور آنفا، و أما كونه ذنبا بمعنى معصية الله تعالى فلا دليل عليه و سيوافيك فيه كلام عند تفسير سورة القصص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون» كلا للردع و هو متعلق بما ذكره من خوف القتل، ففيه تأمين له و تطييب لنفسه أنهم لا يصلون إليه، و أما سؤاله الإرسال إلى هارون فلم يذكر ما أجيب به عنه، غير أن قوله: «فاذهبا بآياتنا» دليل على إجابة مسئوله.
و قوله: «فاذهبا بآياتنا» متفرع على الردع فيفيد أن اذهبا إليه بآياتنا و لا تخافا، و قد علل ذلك بقوله: «إنا معكم مستمعون» و المراد بضمير الجمع موسى و هارون و القوم الذين أرسلا إليهم و لا يعبأ بقول من قال: إن المراد به موسى و هارون بناء على كون أقل الجمع اثنين فإنه مع فساده في أصله لا تساعد عليه ضمائر التثنية قبله و بعده كما قيل.
و الاستماع هو الإصغاء إلى الكلام و الحديث و هو كناية عن الحضور و كمال العناية بما يجري بينهما و بين فرعون و قومه عند تبليغ الرسالة كما قال في القصة من سورة طه: «لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى»: طه: 46.
و محصل المعنى: كلا لا يقدرون على قتلك فاذهبا إليهم بآياتنا و لا تخافا إنا حاضرون عندكم شاهدون عليكم معتنون بما يجري بينكم.
قوله تعالى: «فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل» بيان لقوله في الآية السابقة: «فاذهبا بآياتنا.
و قوله: «فقولا إنا رسول رب العالمين» تفريع على إتيان فرعون، و التعبير بالرسول بلفظ المفرد إما باعتبار كل واحد منهما أو باعتبار كون رسالتها واحدة و هي قولهما: «أن أرسل» إلخ، أو باعتبار أن الرسول مصدر في الأصل فالأصل أن يستوي فيه الواحد و الجمع، و التقدير إنا ذوا رسول رب العالمين أي ذوا رسالته كما قيل.
و قوله: «أن أرسل معنا بني إسرائيل» تفسير للرسالة المفهومة من السياق و المراد بإرسالهم إطلاقهم لكن لما كان المطلوب أن يعودوا إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم و هي أرض آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام) سمي إطلاقهم ليعودوا إليها إرسالا منه لهم إليها.
قوله تعالى: «قال أ لم نربك فينا وليدا و لبثت فينا من عمرك سنين» الاستفهام للإنكار التوبيخي، و «نربك» من التربية، و الوليد الصبي.
لما أقبل فرعون على موسى و هارون و سمع كلامهما عرف موسى و خصه بالخطاب قائلا أ لم نربك إلخ و مراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة يقول: أنت الذي ربيناك و أنت وليد و لبثت فينا من عمرك سنين عديدة نعرفك باسمك و نعتك و لم ننس شيئا من أحوالك فمن أين لك هذه الرسالة و أنت من نعرفك و لا نجهل أصلك؟ قوله تعالى: «و فعلت فعلتك التي فعلت و أنت من الكافرين» الفعلة بفتح الفاء بناء مرة من الفعل، و توصيف الفعلة بقوله: «التي فعلت» للدلالة على عظم خطره و كثرة شناعته و فظاعته نظير ما في قوله: «فغشيهم من اليم ما غشيهم»: طه: 78، و مراده بهذه الفعلة قتله (عليه السلام) القبطي.
و قوله: «و أنت من الكافرين» ظاهر السياق على ما سيأتي الإشارة إليه أن مراده بالكفر كفران النعمة و أن قتله القبطي و إفساده في أرضه كفران لنعمته عليه بالخصوص بما له عنده من الصنيعة حيث كف عن قتله كسائر المواليد من بني إسرائيل و رباه في بيته بل لأنه من بني إسرائيل و هو يراهم عبيدا لنفسه و يرى نفسه ربا منعما عليهم فقتل الواحد منهم رجلا من قومه و إفساده في الأرض خروج من طور العبودية و كفر بنعمته.
فمحصل اعتراضه المشار إليه في الآيتين أنك الذي ربيناك صبيا صغيرا و لبثت فينا من عمرك سنين، و أفسدت في الأرض بقتل النفس فكفرت بنعمتي و أنت من عبيدي الإسرائيليين فمن أين جاءتك هذه الرسالة؟ و كيف تكون رسولا و أنت هذا الذي نعرفك؟.
و بذلك يظهر عدم استقامة تفسير بعضهم الكفر بالكفر المقابل للإيمان، و أن المعنى و أنت من الكافرين بألوهيتي أو أنت من الكافرين بالله على زعمك حيث خالطتنا سنين و أنت في ملتنا، و كذا قول بعضهم: إن المراد و أنت من الكافرين بنعمتي عليك خاصة.
قوله تعالى: «قال فعلتها إذا و أنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما و جعلني من المرسلين و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل» ضمير «فعلتها» راجع إلى الفعلة و الظاهر أن «إذا» مقطوع عن الجواب و الجزاء و يفيد معنى حينئذ كما قيل، و عبده تعبيدا و أعبده إعبادا إذا اتخذه عبدا لنفسه.
و الآيات الثلاث جواب موسى (عليه السلام) عما اعترض به فرعون، و التطبيق بين جوابه (عليه السلام) و ما اعترض به فرعون يعطي أنه (عليه السلام) حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه: أحدها استغراب رسالته و استبعادها و هو الذي يعلم حاله و قد أشار إليه بقوله: «أ لم نربك فينا وليدا و لبثت فينا من عمرك سنين» و الثاني استقباح فعلته و رميه بالإفساد و الجرم بقوله: «و فعلت فعلتك التي فعلت» و الثالث المن عليه بأنه من عبيده و يستفاد ذلك من قوله: «و أنت من الكافرين» و قد اقتضى طبع ما يذكره في الجواب أن يغير الترتيب في الجواب فيجيب أولا عن اعتراضه الثاني ثم عن الأول ثم عن الثالث.
فقوله: «فعلتها إذا و أنا من الضالين» جواب عن اعتراضه بقتل القبطي و قد استعظمه حيث لم يصرح باسمه بل كنى عنه بالفعلة التي فعلت صونا للأسماع أن تقرع باسمه فتتألم.
و التدبر في متن الجواب و مقابلته الاعتراض يعطي أن قوله: «ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما» من تمام الجواب عن القتل فيتقابل الحكم و الضلال و يتضح حينئذ أن المراد بالضلال الجهل المقابل للحكم و الحكم إصابة النظر في حقيقة الأمر و إتقان الرأي في تطبيق العمل عليه فيرجع معناه إلى القضاء الحق في حسن الفعل و قبحه و تطبيق العمل عليه، و هذا هو الذي كان يؤتاه الأنبياء، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله».
فالمراد أني فعلتها حينئذ و الحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه و الحق الذي يجب أن يتبع هناك فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني و لم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل و يؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة تحوجني إلى خروجي من مصر و فراري إلى مدين و التغرب عن الوطن سنين.
و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى الإقدام على الفعل من غير مبالاة بالعواقب كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا.
فنجهل فوق جهل الجاهلينا.
و كذا قول بعض آخر: إن المراد بالضلال المحبة كما فسر به قول بني يعقوب لأبيهم: «تالله إنك لفي ضلالك القديم» أي في محبتك القديمة ليوسف، فالمعنى: فعلتها حينئذ و أنا من المحبين لله لا ألوي عن محبته إلى شيء.
أما الوجه الأول ففيه أنه اعتراف بالجرم و المعصية، و آيات سورة القصص ناصة على أن الله سبحانه آتاه حكما و علما قبل واقعة القتل و هذا لا يجامع الضلال بهذا المعنى من الجهل.
و أما الوجه الثاني ففيه مضافا إلى عدم مساعدة السياق: أن من الممتنع من أدب القرآن أن يسمي محبة الله سبحانه ضلالا.
و أما قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى عدم التعمد و أنه إنما فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه (عليه السلام) إنما تعمد وكز القبطي للتأديب فأدى إلى ما أدى.
و كذا قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بالشرائع كما فسر به بعضهم قوله: «و وجدك ضالا فهدى».
و كذا قول القائل: إن المراد بالضلال النسيان كما فسر به قوله تعالى: «أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى»: البقرة: 282.
و أن المعنى فعلتها ناسيا حرمتها أو ناسيا أن الوكز مما يفضي إلى القتل عادة.
فوجوه يمكن أن يوجه كل منها بما يرجع به إلى ما قدمناه.
و قوله: «ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما» متفرع على قصة القتل، و السبب في خوفه و فراره ما أخبر الله به في سورة القصص بقوله: «و جاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب»: القصص: 21.
و أما الحكم فالمراد به - كما استظهرناه - إصابة النظر في حقيقة الأمر و إتقان الرأي في العمل به.
فإن قلت: صريح الآية أن موهبة الحكم كانت بعد واقعة القتل و مفاد آيات سورة القصص أنه (عليه السلام) أعطي الحكم قبلها، قال تعالى: «و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين، و دخل المدينة إلخ:، القصص: 15، ثم ساق القصة و ذكر القتل و الفرار.
قلت: إنما ورد لفظ الحكم هاهنا و في سورة القصص منكرا و هو مشعر بمغايرة كل منهما الآخر و قد ورد في خصوص التوراة أنها متضمنة للحكم، قال تعالى: «و عندهم التوراة فيها حكم الله»: المائدة: 43، و قد نزلت التوراة بعد غرق فرعون و إنجاء بني إسرائيل.
فمن الممكن أن يقال: إن موسى (عليه السلام) أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي و بعد الفرار قبل العود إلى مصر و بعد غرق فرعون، و قد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة، و هذا بحسب التمثيل نظير ما يرزق بعض الناس أوان صباه سلامة في فطرته قلما يميل معها طبعه إلى الشر و الفساد ثم إذا نشأ يعطى اعتدالا في التعقل و جودة في التدبير فينبعث إلى اكتساب الفضائل فيرزق ملكة التقوى و الصفات الثلاث في الحقيقة سنخ واحد ينمو و يزيد حالا بعد حال.
و يظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ و لا المقام.
على أن الله سبحانه ذكر الحكم و النبوة في مواضع من كلامه و فرق بينهما كقوله: «أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة»: آل عمران: 79، و قوله: «أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة»: الأنعام: 89، و قوله: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة»: الجاثية: 16 إلى غير ذلك.
و قوله: «و جعلني من المرسلين» جواب عن الاعتراض الأول و هو استغراب رسالته و استبعادها و هم يعرفونه، و قد شاهدوا أحواله حينما كانوا يربونه فيهم وليدا و لبث فيهم من عمره سنين، و تقريره أن استغرابهم و استبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا يمكن أن يحدس به أو يتوقع حصوله بحصول مقدماته الاختيارية، و ليس الأمر كذلك بل هي أمر وهبي لا تأثير للأسباب العادية فيها و قد جعله الله من المرسلين كما وهب له الحكم بغير اكتساب هذا ما يعطيه التدبر في السياق.
و أما ما ذكروه من أن قوله: «أ لم نربك فينا وليدا» إلخ، مسوق للمن على موسى (عليه السلام) دون الاستغراب و الاستبعاد كما ذكرناه، فالآية في نفسها و إن لم تأب الحمل على ذلك لكن سياق مجموع الجواب لا يساعد عليه، و ذلك أن فيه إفساد السياق من حيث يتعين أن يجعل قوله: «و تلك نعمة تمنها علي» إلخ، جوابا عن المن و هو لا ينطبق عليه، و يجعل قوله: «فعلتها إذا» إلخ جوابا عن الاعتراض بالقتل، و يبقى قوله: «و جعلني من المرسلين» فضلا لا حاجة إليه فافهم ذلك.
و قوله: «و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل» جواب عن منه عليه و تقريعه بأنه من عبيده و قد كفر نعمته و تقرير الجواب أن هذا الذي تعده نعمة و تقرعني بكفرانها سلطة ظلم و تغلب إذ عبدت بني إسرائيل و التعبيد ظلما و تغلبا ليس من النعمة في شيء.
فالجملة استفهامية مسوقة للإنكار و «أن عبدت بني إسرائيل» بيان لما أشير إليه بقوله: «تلك» و المحصل أن الذي تشير إليه بقولك: «و أنت من الكافرين» من أن لك علي نعمة كفرتها إذ كنت ولي نعمتي و سائر بني إسرائيل - أو إذ كنت ولي نعمتنا معشر بني إسرائيل - ليس بحق إذ كونك وليا منعما ليس إلا استنادا إلى التعبيد، و التعبيد ظلم و الولاية المستندة إليه أيضا ظلم و حاشا أن يكون الظالم وليا منعما له على من عبده نعمة و إلا كان التعبيد نعمة و ليس نعمة، ففي قوله: «أن عبدت بني إسرائيل» وضع السبب موضع المسبب.
و القوم حللوا كلام فرعون: «أ لم نربك» إلخ، إلى اعتراضين - كما أشرنا إليه - المن عليه بتربيته وليدا و كفرانه النعمة و إفساده في الأرض بقتل القبطي فأشكل عليهم الأمر من جهتين - كما أشرنا إليه.
إحداهما صيرورة قوله: «و جعلني من المرسلين» فضلا لا حاجة إليه في سوق الجواب.
و الثانية: عدم صلاحية قوله: «و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل» جوابا عن منه على موسى (عليه السلام) بتربيته في بيته وليدا.
و قد ذكروا في توجيهه وجوها: منها: أنه مسوق للاعتراف بأن تربيته لموسى كانت نعمة عليه و إنكار أن يكون ترك استعباده نعمة و همزة الإنكار مقدرة فكأنه يقول: أ و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل و لم تعبدني هذا، و أنت ترى أن فيه تقديرا لما لا دليل عليه من جهة اللفظ و لا إشارة.
و منها: أنه إنكار لأصل النعمة عليه لمكان تعبيده بني إسرائيل كأنه يقول: إن تربيتك لي ليست نعمة يمن بها علي لأنك عبدت قومي فأحبطت به عملك فقوله: «أن عبدت» إلخ في مقام التعليل للإنكار هذا، و هذا الوجه و إن كان أقرب إلى الذهن من سابقه لكن هذا الجواب غير تام معنى فإن تعبيده لبني إسرائيل لا يغير حقيقة ما له من الصنيعة عند موسى في تربيته وليدا.
و منها: أن المعنى أن هذه النعمة التي تمن بها علي من التربية إنما سببه ظلمك بني إسرائيل بتعبيدهم فاضطرت أمي لذلك أن ألقتني في اليم فأخذتني فربيتني فإذ كانت هذه التربية مسببة عن ظلمك بالتعبيد فليست بنعمة هذا و الشأن في استفادة هذا المعنى من لفظ الآية.
و منها: أن الذي رباني أمي و غيرها من بني إسرائيل حيث استعبدتهم فأمرتهم فربوني فليست هذه التربية نعمة منك تمنها علي لانتهائها إلى التعبيد ظلما هذا، و هذا الوجه أبعد من سابقه من لفظ الآية.
و منها: أن ذلك اعتراف منه (عليه السلام) بنعمة فرعون عليه و المعنى و تلك التربية نعمة منك تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل و تركت تعبيدي هذا و أنت خبير بأن لا دليل على ما قدره من قوله: و تركت تعبيدي.
قوله تعالى: «قال فرعون و ما رب العالمين» - إلى قوله - من المسجونين» لما كلم فرعون موسى (عليه السلام) في معنى رسالته قادحا فيها فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه أخذ يكلمه في خصوص مرسله و قد أخبره أن الذي أرسله هو رب العالمين فراجعه فيه و استوضحه بقوله: «و ما رب العالمين»؟ إلى تمام سبع آيات.
و اتضاح المراد منها يتوقف على تذكر أصول مذاهب الوثنية في أمر الربوبية و قد تقدمت الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة من هذا الكتاب كرارا.
فهؤلاء يرون أن وجود الأشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده هو أجل من أن يحده حد في وجوده و أعظم من أن يحيط به فهم أو يناله إدراك، و لذلك لا يجوز عبادته لأن العبادة نوع توجه إلى المعبود و التوجه إدراك.
و لذلك بعينه عدلوا عن عبادته و التقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية، هي مقربة إليه فانية فيه من الملائكة و الجن و القديسين من البشر المتخلصين من ألواث المادة الفانين في اللاهوت الباقين بها و منهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية و كان من جملتهم فرعون و موسى و بالجملة كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفى و يشفعوا لهم بمعنى أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم كما في الملائكة أو لا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم كما في الجن فإن كلا من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمر من أمور العالم الكلية كالحب و البغض و السلم و الحرب و الرفاهية و غيرها أو صقع من أصقاعه كالسماء و الأرض و الإنسان و نحوها.
فهناك أرباب و آلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره كإله عالم الأرض و إله عالم السماء و هؤلاء هم الملائكة و الجن و قديسو البشر، و إله عالم الآلهة و هو الله سبحانه فهو إله الآلهة و رب الأرباب.
إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحا لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين نظرا إلى أصولهم إذ لو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة الممكنة بأعيانهم فهو رب عالم من عوالم الخلقة و هو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء و عالم الأرض مثلا و لو أريد به الله سبحانه فهو رب عالم الأرباب و إله عالم الآلهة فقط دون جميع العالمين و لو أريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود و الأرباب الممكنة الوجود فلا مصداق له معقولا.
فقوله: «قال فرعون و ما رب العالمين» سؤال منه عن حقيقة رب العالمين بيانه أن فرعون كان وثنيا يعبد الأصنام و هو مع ذلك يدعي الألوهية، أما عبادته الأصنام فلقوله تعالى: «و يذرك و آلهتك»: الأعراف: 127، و أما دعواه الألوهية فللآية المذكورة و لقوله تعالى: «فقال أنا ربكم الأعلى»: النازعات: 24.
و لا منافاة عند الوثنية بين كون الشيء إلها ربا و بين كونه مربوبا لرب آخر لأن الربوبية هو الاستقلال في تدبير شيء من العالم و هو لا ينافي الإمكان و المربوبية لشيء آخر و كل رب عندهم مربوب لآخر إلا الله سبحانه فهو رب الأرباب لا رب فوقه و إله الآلهة لا إله له.
و كان الملك عند الوثنية ظهورا من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة و نفوذ الحكم فكان يعبد الملوك كما يعبد أرباب الأصنام و كذلك رؤساء البيوت في بيوتهم، و كان فرعون وثنيا يعبد الآلهة و هو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة.
فلما سمع من موسى و هارون قولهما: «إنا رسول رب العالمين» تعجب منه إذ لم يعقل له معنى محصلا إذ لو أريد به الواجب و هو الله سبحانه فهو عنده رب عالم الأرباب دون جميع العالمين و لو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة و غيرهم فهو أيضا عنده رب عالم من عوالم الخلقة دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين.
و لذلك قال: «و ما رب العالمين» فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة بما هو موصوف بهذه الصفة و لم يسأل عن حقيقة الله سبحانه فإنه لوثنيته كان معتقدا بوجوده مذعنا له و هو يرى كسائر الوثنيين أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقته كيف؟ و هو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الآلهة و الأرباب كما سمعت.
و قوله: «قال رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم موقنين» جواب موسى (عليه السلام) عن سؤاله: «و ما رب العالمين» و هو خبر لمبتدإ محذوف، و محصل المعنى على ما يعطيه المطابقة بين السؤال و الجواب: هو رب السماوات و الأرض و ما بينهما التي تدل بوجود التدبير فيها و كونه تدبيرا واحدا متصلا مرتبطا على أن لها مدبرا - ربا - واحدا على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان و الوجدان.
و بتعبير آخر مرادي بالعالمين السماوات و الأرض و ما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا، و مرادي برب العالمين ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه و هذه دلالة يقينية يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان و الوجدان.
فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى (عليه السلام) إلا أن يعرفه ما هذا الذي يسميه رب العالمين؟ و ما حقيقته؟ لكونه غير معقول عنده فلم يسأل إلا التصور فما معنى قوله: «إن كنتم موقنين» و اليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا.
على أنه (عليه السلام) لم يأت في جواب فرعون بشيء غير أنه وضع لفظ السماوات و الأرض و ما بينهما موضع لفظ العالمين فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد و عمرو و بكر فلم يفد بالأخرة إلا التصور الأول و لا تأثير لليقين في ذلك.
قلت: كون فرعون يسأله أن يصور له «رب العالمين» تصويرا مسلم لا شك فيه لكن موسى بدل القول بوضع «السماوات و الأرض و ما بينهما» مكان العالمين و هو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض و الاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها و النظام الجاري عليها ثم قيده بقوله: «إن كنتم موقنين» ليدل على أن أهل اليقين يصدقون من ذلك بوجود مدبر واحد لجميع العالمين.
فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين؟ فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بارتباط التدبير و اتصاله في عوالم السماوات و الأرض و ما بينهما على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا و ربا لا شريك له في ربوبيته لها و إذ كانوا يصدقون بوجود رب واحد للعالمين فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور.
و بعبارة موجزة: رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات و الأرض و ما بينهما إذا نظروا إليها و شاهدوا وحدة التدبير الذي فيها.
و الاحتجاج بتحقق التصديق على تحقق التصور قبله أقوى ما يمكن أن يحتج به على أنه تعالى مدرك بوجه و متصور تصورا صحيحا و إن استحال أن يدرك بكنهه و لا يحيطون به علما.
و قد ظهر بذلك كله أولا: أن الجواب إنما هو بإحالته في مسئوله إلى ما يتصوره منه الموقنون إذ يصدقون بوجوده.
و ثانيا: أن الذي أشير إليه من الحجة في الآية هو البرهان على توحيد الربوبية المأخوذ من وحدة التدبير إذ هو الذي يمسه الحاجة قبال الوثنية المدعين للشركاء في الربوبية.
و بذلك يظهر فساد ما ذكروا أن العلم بحقيقة الذات لما كان ممتنعا عدل موسى (عليه السلام) عن تعريف الحقيقة بالحد إلى تعريفه تعالى بصفاته فقال: رب السماوات و الأرض و ما بينهما و أشار بقوله: «إن كنتم موقنين» إلى دلالتها بحدوثها على أن محدثها ذات واحدة واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها شيء غيرها.
وجه الفساد ما عرفت أن الوثنية قائلون باستحالة العلم بحقيقة الذات و كنهها، و أن الموجد ذات واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها غيره، و أن الآلهة من دون الله موجودات ممكنة الوجود كل منها مدبر لجهة من جهات العالم و هي جميعا مخلوقة لله فما قرروه في معنى الآية لا يجدي في مقام المخاصمة معهم شيئا.
و قوله: «قال لمن حوله أ لا تستمعون» أي أ لا تصغون إلى ما يقول موسى؟ و الاستفهام للتعجيب يريد أن يصغوا إليه فيتعجبوا من قوله حيث يدعي رسالة رب العالمين، و إذا سئل ما رب العالمين؟ أعاد الكلمة ثانيا و لم يزد على ما بدأ به شيئا.
و هذا تمويه منه عليهم يريد به الستر على الحق الذي لاح من كلام موسى (عليه السلام) فإنه إنما قال إن جميع العالمين تدل بوحدة التدبير الذي يشاهده أهل اليقين فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا هو الذي تسألني عنه، و هو يفسر كلامه أنه يقول: أنا رسول رب العالمين، فإذا سألته ما رب العالمين؟ يجيبني بأنه رب العالمين.
و بما تقدم بأن عدم سداد قولهم في تفسير هذا التعجيب أن مراده أني سألته عن الذات فأجاب بالصفة و ذلك أن السؤال إنما هو عن الذات من حيث صفته على ما تقدم بيانه، و لم يفسر موسى الذات بالوصف بل غير قوله: رب العالمين إلى قوله: «رب السماوات و الأرض» فوضع ثانيا قوله: «السماوات و الأرض» مكان قوله أولا: «العالمين» كأنه يومىء إلى أن فرعون لم يفهم معنى العالمين.
و قوله: «قال ربكم و رب آبائكم الأولين» جواب موسى (عليه السلام) ثانيا فإنه لما رأى تمويه فرعون على من حوله و قد كان أجاب عن سؤاله «و ما رب العالمين» بتفسير العالمين من العالم الكبير كالسماوات و الأرض و ما بينهما عدل ثانيا إلى ما يكون أصرح في المقصود فذكر ربوبيته تعالى لعالمي الإنسانية فإن العالم الجماعة من الناس أو الأشياء فعالمو الإنسان هو الجماعات من الحاضرين و الماضين و لذلك قال: «ربكم و رب آبائكم الأولين.
فإن فرعون ما كان يدافع في الحقيقة إلا عن نفسه لما كان يدعي الألوهية فكان يحتال في أن يبطل تعلق ربوبية الرب به في ضمن تعلقه بالعالمين لاستلزام ذلك بطلان ربوبية الأرباب و هو من جملتهم و إن كان يرى أنه أعلاهم و أهمهم كما حكى الله تعالى عنه: «فقال أنا ربكم الأعلى»: النازعات: 24.
«و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري»: القصص: 38.
فكأنه كان يقول إن أردت برب العالمين الله تعالى فهو رب الأرباب لا غير و إن أردت غيره من الآلهة فكل منهم رب عالم خاص فما معنى رب العالمين؟ فأجاب موسى بما حاصله أن ليس في الوجود إلا رب واحد فيكون رب العالمين فهو ربكم و قد أرسلني إليكم.
و كان محصل تمويه فرعون أن موسى لم يجبه بشيء إذ كرر اللفظ فأجابه موسى ثانيا بالتصريح على أن رب العالمين هو رب عالمي الإنسانية من الحاضرين و الماضين و بذلك تنقطع حيلته.
و قوله: «قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قول فرعون ثانيا و قد سمى موسى رسولا تهكما و استهزاء و أضافه إلى من حوله ترفعا من أن يكون رسولا إليه، و قد رماه بالجنون مستندا إلى قوله (عليه السلام): «ربكم و رب آبائكم» إلخ.
كأنه يقول: إنه لمجنون لما في كلامه من الاختلال الكاشف عن الاختلال في تعقله يدعي رسالة رب العالمين؟ فأسأله ما رب العالمين فيكرر اللفظ تقريبا أولا ثم يفسره بأنه ربكم و رب آبائكم الأولين.
و قوله: «قال رب المشرق و المغرب و ما بينهما إن كنتم تعقلون» ظاهر السياق أن المراد بالمشرق جهة شروق الشمس و سائر الأجرام النيرة السماوية و طلوعها و بالمغرب الجهة التي تغرب فيها بحسب الحس، و بما بينهما ما بين الجهتين فيشمل العالم المشهود و يساوي السماوات و الأرض و ما بينهما.
فيكون إعادة لمعنى الجواب الأول بتقرير آخر و هو مشتمل على ما اشتمل عليه من نكتة اتصال التدبير و اتحاده فإن للشروق ارتباطا بالغروب و المشرق و المغرب يتحققان طرفين لوسط بينهما، كما أن للسماء أرضا و لهما أمر بينهما و هذا النوع من الاتحاد لا يقبل إلا تدبيرا متصلا واحدا، و كما أن كل أمة حاضرة لها ارتباط وجودي بالأمم الماضية ارتباط الأخلاف بالأسلاف فالنوع واحد و التدبير واحد فالمدبر واحد.
و قد بدل قوله في الجواب الأول: «إن كنتم موقنين» من قوله هاهنا: «إن كنتم تعقلون» تعريضا له حيث قال لمن حوله: «أ لا تستمعون» استهزاء به و إهانة له، ثم رماه ثانيا بالجنون و اختلال الكلام فأشار (عليه السلام) بقوله: «إن كنتم تعقلون» إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل و التفقه و لو كانوا يعقلون لفهموا أن جوابه الأول ليس بتكرار غير مفيد و لكفاهم حجة على توحيد الرب و أن القائم بتدبير جميع العالمين من السماوات و الأرض و ما بينهما مدبر واحد لا مدبر سواه و لا رب غيره.
و قد تبين بما ذكر أن الآية أعني قوله: «رب المشرق» إلخ، تقرير آخر لقوله في الجواب الأول: «رب السماوات و الأرض و ما بينهما» و أنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير و في ذلك تعريف لرب العالمين بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين، نعم البيان الذي يشير إليه هذه الآية أوضح لاشتماله على معنى الشروق و الغروب و كونهما من التدبير ظاهر.
و قد ذكروا أن الحجج المودعة في الآيات حجج على وحدانية ذات الواجب بالذات و نفي الشريك في وجوب الوجود و قد تقدم عدم استقامته البتة.
و قوله: «قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين» تهديد منه لموسى (عليه السلام) لو دام على ما يقول به من ربوبية رب العالمين مدعيا أنه رسول منه و هذا دأب الجاهل المعاند إذا انقطع عن الحجة أخذ في التهديد و تشبث بالوعيد.
و اتخاذ إله غيره كناية عن القول بربوبية رب العالمين الذي يدعو إليه موسى و إنما لم يذكره صونا للسانه عن التفوه باسمه، و لم يعبأ بسائر الآلهة التي كانوا يعبدونها استكبارا و علوا، و كأن السجن كان جزاء المعرضين عنه المنكرين لألوهيته.
و الظاهر أن اللام في المسجونين للعهد، و المعنى: لو دمت على ما تقول لأجعلنك في زمرة الذين في سجني على ما تعلم من سوء حالهم و شدة عذابهم، و لهذا لم يعدل عن هذا التعبير إلى مثل قولنا: لأسجننك مع اختصاره.
قوله تعالى: «قال أ و لو جئتك بشيء مبين» القائل هو موسى (عليه السلام) و المراد بشيء مبين شيء يبين و يظهر صحة دعواه و هو آية الرسالة التي تدل على صحة دعوى الرسالة من مدعيه فإن الآية المعجزة إنما تدل على صدق الرسول في دعواه الرسالة و أما المعارف الإلهية التي يدعو إليها كالتوحيد و المعاد و ما يتعلق بهما فالسبيل إلى إثباته الحجة البرهانية و على ذلك كانت تجري سيرة الأنبياء في دعوتهم و قد تقدم كلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.
و المعنى: قال موسى: أ تجعلني من المسجونين و لو أتيتك بشيء يوضح صدقي فيما ادعيت من الرسالة.
قوله تعالى: «قال فأت به إن كنت من الصادقين» القائل فرعون و قد فرع أمره بإتيانه على استفهام موسى المشعر بأنه يدعي أن عنده شيئا مبينا و لذا قيد الأمر بالإتيان بقوله: «إن كنت من الصادقين» أي إن كنت صادقا في أن عندك شيئا كذلك.
قوله تعالى: «فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين و نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين» هاتان الآيتان اللتان أوتيهما موسى ليلة الطور، و الثعبان: الحية العظيمة و كونه مبينا ظهور واقعيته بحيث لا يرتاب فيه، و المراد بنزع يده نزعه من جيبه بعد وضعها فيه كما في سورتي: النمل الآية 12 و القصص الآية 32.
قوله تعالى: «قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فما ذا تأمرون» القائل فرعون و قد قال لموسى: «فأت به إن كنت من الصادقين» رجاء أن يأتي بأمر فيه موضع معارضة و مناقشة فلما أتى بما لا مغمض فيه لم يجد بدا دون أن يبهته بأنه ساحر عليم.
و لذا أتبع رميه بالسحر بقوله: «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره» إغراء لهم عليه و حثا لهم على أن يتفقوا معه على دفعه بأي وسيلة ممكنة.
و قوله: «فما ذا تأمرون» لعل المراد بالأمر الإشارة عليه لما أن المشير يشير على من يستشيره بلفظ الأمر فالمعنى إذا كان الشأن هذا فما ذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به و ذلك أنه كان يرى نفسه ربهم الأعلى و يراهم عبيده و لا يناسب ذلك حمل الأمر على معناه المتعارف.
و يؤيد هذا المعنى أنه تعالى حكى في موضع آخر هذا الكلام عن الملإ أنفسهم إذ قال قال: «الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فما ذا تأمرون»: الأعراف: 110.
و ظاهر أن المراد بأمرهم إشارتهم على فرعون أن افعل بهما كذا.
و قيل: إن سلطان المعجزة بهره و أدهشه فضل عن عجبه و تكبره و غشيته المسكنة فلم يدر ما ذا يقول؟ و لا كيف يتكلم؟ قوله تعالى: «قالوا أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم» القائلون هم الملأ حوله و هم أشراف قومه، و قوله: «أرجه» بسكون الهاء على القراءة الدائرة و هو أمر من الإرجاء بمعنى التأخير أي أخر موسى و أخاه و أمهلهما و لا تعجل إليهما بسياسة أو سجن و نحوه حتى تعارض سحرهما بسحر مثله.
و قرىء «أرجه» بكسر الهاء و «أرجئه» بالهمزة و ضم الهاء و هما أفصح من القراءة الدائرة، و المعنى واحد على أي حال.
و قوله: «و ابعث في المدائن حاشرين» المدائن جمع مدينة و هي البلدة و الحاشر من الحشر و هو إخراج إلى مكان بإزعاج أي ابعث في البلاد عدة من شرطائك و جنودك يحشرون كل سحار عليم فيها و يأتوك بهم لتعارضهما بسحرهم.
و التعبير بالسحارون الساحر للإشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر و أكثر عملا.
قوله تعالى: «فجمع السحرة لميقات يوم معلوم» هو يوم الزينة الذي اتفق موسى و فرعون على جعله ميقاتا للمعارضة كما في سورة طه ففي الكلام إيجاز و تلخيص.
قوله تعالى: «و قيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين» الاستفهام لحث الناس و ترغيبهم على الاجتماع.
قال في الكشاف، ما حاصله أن المراد باتباع السحرة اتباعهم في دينهم - و كانوا متظاهرين بعبادة فرعون كما يظهر من سياق الآيات التالية - و ليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى لا اتباع السحرة، و إنما ساقوا كلامهم مساق الكناية ليحملوا به السحرة على الاهتمام و الجد في المغالبة.
قوله تعالى: «فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أ ئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم و إنكم إذا لمن المقربين» الاستفهام في معنى الطلب، و قد قالوا: إن كنا» و لم يقولوا، إذا كنا نحن الغالبين ليفيد القطع بالغلبة كما يفيده قولهم بعد: «بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» بل ألقوه في صورة الشك ليكون أدعى لفرعون إلى جعل الأجر.
و قد أثر ذلك أثره حيث جعل لهم أجرا و زاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين.
قوله تعالى: «قال لهم موسى ألقوا» إلى قوله - تلقف ما يأفكون» الحبال جمع حبل، و العصي جمع عصا، و اللقف الابتلاع بسرعة، و ما يأفكون من الإفك بمعنى صرف الشيء عن وجهه سمي السحر إفكا لأن فيه صرف الشيء عن صورته الواقعية إلى صورة خيالية، و معنى الآيات ظاهر.
قوله تعالى: «فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون» يريد أن السحرة لما رأوا ما رأوا من الآيات الباهرة بهرهم و أدهشهم ذلك فلم يتمالكوا أنفسهم دون أن خروا على الأرض ساجدين لله سبحانه فاستعير الإلقاء لخرورهم على الأرض للدلالة على عدم تمالك أنفسهم كأنهم قد طرحوا على الأرض طرحا.
و قوله: «قالوا آمنا برب العالمين» فيه إيمان بالله سبحانه إيمان توحيد لما تقدم أن الاعتراف بكونه تعالى رب العالمين لا يتم إلا مع التوحيد و نفي الآلهة من دونه.
و قوله: «رب موسى و هارون» فيه إشارة إلى الإيمان بالرسالة مضافا إلى التوحيد.
قوله تعالى: «قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون» إلى آخر الآية، القائل فرعون، و المراد بقوله: «آمنتم له قبل أن آذن لكم» آمنتم من دون إذن مني كما في قوله تعالى: «لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي» و ليس مفاده أن الإذن كان ممكنا أو متوقعا منه كما قيل.
و قوله: «إنه لكبيركم الذي علمكم السحر» بهتان آخر يبهت به موسى (عليه السلام) ليصرف به قلوب قومه و خاصة ملإهم عنه.
و قوله: «فلسوف تعلمون» تهديد لهم في سياق الإبهام للدلالة على أنه في غنى عن ذكره و أما هم فسوف يعلمونه.
و قوله: «لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف و لأصلبنكم أجمعين» القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس و التصليب جعل المجرم على الصليب، و قد تقدم نظير الآية في سورتي الأعراف و طه.
قوله تعالى: «قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون» الضير هو الضرر، و قوله: «إنا إلى ربنا منقلبون» تعليل لقولهم: لا ضير أي إنا لا نستضر بهذا العذاب الذي توعدنا به لأنا نصبر و نرجع بذلك إلى ربنا و ما أكرمه من رجوع.
قوله تعالى: «إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين» تعليل لما يستفاد من كلامهم السابق أنهم لا يخافون الموت و القتل بل يشتاقون إلى لقاء ربهم يقولون: لا نخاف من عذابك شيئا لأنا نرجع به إلى ربنا و لا نخاف الرجوع لأنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا بسبب كوننا أول المؤمنين بموسى و هارون رسولي ربنا.
و فتح الباب في كل خير له أثر من الخير لا يرتاب فيه العقل السليم فلو أن الله سبحانه أكرم مؤمنا لإيمانه بالمغفرة و الرحمة لم تطفر مغفرته و رحمته أول الفاتحين لهذا الباب و الواردين هذا المورد.
قوله تعالى: «و أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون» شروع في سرد الشطر الثاني من القصة و هو وصف عذاب آل فرعون بسبب ردهم دعوة موسى و هارون (عليهما السلام) و، قد كان الشطر الأول رسالة موسى و هارون إليهم و دعوتهم إلى التوحيد، و الإسراء و السري السير بالليل، و المراد بعبادي بنو إسرائيل و في هذا التعبير نوع إكرام لهم.
و قوله: «إنكم متبعون» تعليل للأمر أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون و فيه دلالة على أن لله في اتباعهم أمرا و أن فيه فرج بني إسرائيل و قد صرح بذلك في قوله: «فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون و اترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون»:، الدخان: 24.
قوله تعالى: «فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إلى قوله ثم أغرقنا الآخرين» قصة غرق آل فرعون و إنجاء بني إسرائيل في أربع عشرة آية و قد أوجز في الكلام بحذف بعض فصول القصة لظهوره من سياقها كخروج موسى و بني إسرائيل ليلا من مصر لدلالة قوله: «أن أسر بعبادي» عليه و على هذا القياس.
فقال تعالى: «فأرسل فرعون» أي فأسرى موسى بعبادي فلما علم فرعون بذلك أرسل «في المدائن» التي تحت سلطانه رجالا «حاشرين» يحشرون الناس و يجمعون الجموع قائلين للناس «إن هؤلاء» بني إسرائيل «لشرذمة قليلون» و الشرذمة من كل شيء بقيته القليلة فتوصيفها بالقلة تأكيد «و إنهم لنا لغائظون» يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به «و إنا لجميع» مجموع متفق فيما نعزم عليه «حاذرون» نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا و إن كان ضعيفا قليلا، و المطلوب بقولهم هذا و هو لا محالة بلاغ من فرعون لحث الناس عليهم.
«فأخرجناهم من جنات و عيون و كنوز و مقام كريم فيه قصورهم المشيدة و بيوتهم الرفيعة، و لما كان خروجهم عن مكر إلهي بسبب داعية الاستعلاء و الاستكبار التي فيهم نسب إلى نفسه أنه أخرجهم «كذلك» أي الأمر كذلك «و أورثناها» أي تلك الجنات و العيون و الكنوز و المقام الكريم «بني إسرائيل» حيث أهلكنا فرعون و جنوده و أبقينا بني إسرائيل بعدهم فكانوا هم الوارثين.
«فأتبعوهم» أي لحقوا ببني إسرائيل «مشرقين» أي داخلين في وقت شروق الشمس و طلوعها «فلما تراءا الجمعان» أي دنا بعضهم من بعض فرأى كل من الجمعين جمع فرعون و جمع موسى الآخر، «قال أصحاب موسى من بني إسرائيل خائفين فزعين «إنا لمدركون» سيدركنا جنود فرعون.
«قال موسى كلا» لن يدركونا «إن معي ربي سيهدين» و المراد بهذه المعية معية الحفظ و النصرة و هي التي وعدها له ربه أول ما بعثه و أخاه إلى فرعون: «إنني معكما» و أما معية الإيجاد و التدبير فالله سبحانه مع موسى و فرعون على نسبة سواء، و قوله: «سيهدين» أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها.
«فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق و الانفلاق انشقاق الشيء و بينونة بعضه من بعض «فكان كل فرق» أي قطعة منفصلة من الماء «كالطود» و هو القطعة من الجبل «العظيم» فدخلها موسى و من معه من بني إسرائيل.
«و أزلفنا ثم» أي و قربنا هناك «الآخرين» و هم فرعون و جنوده «و أنجينا موسى و من معه أجمعين» بحفظ البحر على حاله و هيئته حتى قطعوه و خرجوا منه، «ثم أغرقنا الآخرين» بإطباق البحر عليهم و هم في فلقه.
قوله تعالى: «إن في ذلك لآية و ما كان أكثرهم مؤمنين و إن ربك لهو العزيز الرحيم» ظاهر السياق - و يؤيده سياق القصص الآتية - أن المشار إليه مجموع ما ذكر في قصة موسى من بعثه و دعوته فرعون و قومه و إنجاء بني إسرائيل و غرق فرعون و جنوده، ففي ذلك كله آية تدل على توحيده تعالى بالربوبية و صدق الرسالة لمن تدبر فيها.
و قوله: «و ما كان أكثرهم مؤمنين» أي و ما كان أكثر هؤلاء الذين ذكرنا قصتهم مؤمنين مع ظهور ما دل عليه من الآية و على هذا فقوله بعد كل من القصص الموردة في السورة: «و ما كان أكثرهم مؤمنين» بمنزلة أخذ النتيجة و تطبيق الشاهد على المستشهد له كأنه يقال بعد إيراد كل واحدة من القصص: هذه قصتهم المتضمنة لآيته تعالى و ما كان أكثرهم مؤمنين كما لم يؤمن أكثر قومك فلا تحزن عليهم فهذا دأب كل من الأمم التي بعثنا إليهم رسولا فدعاهم إلى توحيد الربوبية.
و قيل: إن الضمير في «أكثرهم» راجع إلى قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: أن في هذه القصة آية و ما كان أكثر قومك مؤمنين بها و لا يخلو من بعد.
و قوله: «و إن ربك لهو العزيز الرحيم» تقدم تفسيره في أول السورة.
|