بيان
غرض السورة تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبال ما كذبه قومه و كذبوا بكتابه النازل عليه من ربه - على ما يلوح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - و قد رموه تارة بأنه مجنون و أخرى بأنه شاعر، و فيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء و هم موسى و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليهما السلام) و ما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلى به نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يحزن بتكذيب أكثر قومه و ليعتبر المكذبون.
و السورة من عتائق السور المكية و أوائلها نزولا و قد اشتملت على قوله تعالى: «و أنذر عشيرتك الأقربين».
و ربما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة و وقوع قوله: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين» في سورة الحجر و قياس مضمونيهما كل مع الأخرى أن هذه السورة أقدم نزولا من سورة الحجر و ظاهر سياق آيات السورة أنها جميعا مكية و استثنى بعضهم الآيات الخمس التي في آخرها، و بعض آخر قوله: «أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل» و سيجيء الكلام فيهما.
قوله تعالى: «طسم تلك آيات الكتاب المبين» الإشارة بتلك إلى آيات الكتاب مما سينزل بنزول السورة و ما نزل قبل، و تخصيصها بالإشارة البعيدة للدلالة على علو قدرها و رفعة مكانتها، و المبين من أبان بمعنى ظهر و انجلى.
و المعنى: تلك الآيات العالية قدرا الرفيعة مكانا آيات الكتاب الظاهر الجلي كونه من عند الله سبحانه بما فيه من سمة الإعجاز و إن كذب به هؤلاء المشركون المعاندون و رموه تارة بأنه من إلقاء شياطين الجن و أخرى بأنه من الشعر.
قوله تعالى: «لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين» البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، و قوله: «ألا يكونوا مؤمنين» تعليل للبخوع، و المعنى: يرجى منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك.
و الكلام مسوق سوق الإنكار و الغرض منه تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين» متعلق المشية محذوف لدلالة الجزاء عليه، و قوله: «فظلت» إلخ، ظل فعل ناقص اسمه «أعناقهم» و خبره «خاضعين» و نسب الخضوع إلى أعناقهم و هو وصفهم أنفسهم لأن الخضوع أول ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطىء رأسه تخضعا فهو من المجاز العقلي.
و المعنى: إن نشأ أن ننزل عليهم آية تخضعهم و تلجئهم إلى القبول و تضطرهم إلى الإيمان ننزل عليهم آية كذلك فظلوا خاضعين لها خضوعا بينا بانحناء أعناقهم.
و قيل: المراد بالأعناق الجماعات و قيل: الرؤساء و المقدمون منهم، و قيل: هو على تقدير مضاف و التقدير فضلت أصحاب أعناقهم خاضعين لها.
و هو أسخف الوجوه.
قوله تعالى: «و ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين» بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله و تمكن الإعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلما تجدد عليهم ذكر من الرحمن و دعوا إليه دفعه بالإعراض.
فالغرض بيان استمرارهم على الإعراض عن كل ذكر أتاهم لا أنهم يعرضون عن محدث الذكر و يقبلون إلى قديمه و في ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أن الذكر الذي يأتيهم إنما ينشأ عن صفة الرحمة العامة التي بها صلاح دنياهم و أخراهم.
و قد تقدم في تفسير أول سورة الأنبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع.
قوله تعالى: «فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون تفريع على ما تقدم من استمرار إعراضهم، و قوله: «فسيأتيهم» إلخ تفريع على التفريع و الأنباء جمع نبإ و هو الخبر الخطير، و المعنى لما استمر منهم الإعراض عن كل ذكر يأتيهم تحقق منهم و ثبت عليهم أنهم كذبوا، و إذ تحقق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون من آيات الله، و تلك الأنباء العقوبات العاجلة و الآجلة التي ستحيق بهم.
قوله تعالى: «أ و لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم» الاستفهام للإنكار التوبيخي و الجملة معطوف على مقدر يدل عليه المقام و التقدير أصروا و استمروا على الإعراض و كذبوا بالآيات و لم ينظروا إلى هذه الأزواج الكريمة من النباتات التي أنبتناها في الأرض.
فالرؤية في قوله: «أ و لم يروا» مضمنة معنى النظر و لذا عديت بإلى، و الظاهر أن المراد بالزوج الكريم.
و هو الحسن على ما قيل: النوع من النبات و قد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجا، و قيل: المراد بالزوج الكريم الذي أنبته الله يعم الحيوان و خاصة الإنسان بدليل قوله: «و الله أنبتكم من الأرض نباتا».
قوله تعالى: «إن في ذلك لآية و ما كان أكثرهم مؤمنين» الإشارة بذلك إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كل زوج كريم حيث إن فيه إيجادا لكل زوج منه و تتميم نقائص كل من الزوجين بالآخر و سوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما و فيه هداية كل إلى سعادته الأخيرة و من كانت هذه سنته فكيف يهمل أمر الإنسان و لا يهديه إلى سعادته و لا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه و آخرته.
هذا ما تدل عليه آية النبات.
و قوله: «و ما كان أكثرهم مؤمنين» أي لم يكن المترقب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الإعراض و بطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل»: يونس: 74 و تعليل الكفر و الفسوق برسوخ الملكات الرذيلة و استحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصى.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لأنه مضافا إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، مما لا دليل على أنه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه لسبق الدلالة على أن ملكة الإعراض راسخة لم تزل في نفوسهم.
و عن سيبويه أن «كان» في قوله: «و ما كان أكثرهم مؤمنين» صلة زائدة و المعنى: و ما أكثرهم مؤمنين.
و فيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن المقام بما تقدم من المعنى أوفق.
قوله تعالى: «و إن ربك لهو العزيز الرحيم» فهو تعالى لكونه عزيزا غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذبين لآياته المستهزءين بها و يجازيهم بالعقوبات العاجلة و الآجلة، و لكونه رحيما ينزل عليهم الذكر ليهديهم و يغفر للمؤمنين به و يمهل الكافرين.
بحث عقلي متعلق بالعلم
قال في روح المعاني، في قوله تعالى «و ما كان أكثرهم مؤمنين» قيل: أي و ما كان في علم الله تعالى ذلك، و اعترض - بناء على أنه يفهم من السياق العلية - بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.
و رد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم و امتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنه علم بهذه الماهية، و أما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن يتحقق و يوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر و عدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي و وقوعه تابع له.
انتهى.
و هذه حجة كثيرة الورود في كلام المجبرة و خاصة الإمام الرازي في تفسيره الكبير يستدلون بها على إثبات الجبر و نفي الاختيار و محصلها أن الحوادث و منها أفعال الإنسان معلومة لله سبحانه في الأزل فهي ضرورية الوقوع و إلا كان علمه جهلا - تعالى عن ذلك - فالإنسان مجبر عليها غير مختار.
و اعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس و أجيب بما ذكره من أن علمه في الأزل تابع لماهية المعلوم لكن المعلوم تابع في وجوده للعلم.
و الحجة مضافا إلى فساد مقدماتها بناء و مبنى مغالطة بينة ففيها أولا أن فرض ثبوت ما للماهية في الأزل و وجودها فيها لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود و أنى للماهية هذه الأصالة و التقدم؟.
و ثانيا: أن مبنى الحجة و كذا الاعتراض و الجواب على كون علمه تعالى بالأشياء علما حصوليا نظير علومنا الحصولية المتعلقة بالمفاهيم و قد أقيم البرهان في محله على بطلانه و أن الأشياء معلومة له تعالى علما حضوريا و علمه علمان: علم حضوري بالأشياء قبل الإيجاد و هو عين الذات و علم حضوري بها بعد الإيجاد و هو عين وجود الأشياء.
و تفصيل الكلام في محله.
و ثالثا: أن العلم الأزلي بمعلومه فيما لا يزال إنما يكون علما بحقيقة معنى العلم إذا تعلق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده و مشخصاته و خصوصياته الوجودية، و من خصوصيات وجود الفعل أنه حركات خاصة إرادية اختيارية صادرة عن فاعله الخاص مخالفة لسائر الحركات الاضطرارية القائمة بوجوده.
و إذا كان كذلك كانت الضرورة اللاحقة للفعل من جهة تعلق العلم به صفة للفعل الخاص الاختياري بما هو فعل خاص اختياري لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله و اختياره و إلا تخلف المعلوم عن العلم لا أن يتعلق العلم بالفعل الاختياري ثم يدفع صفة الاختيار عن متعلقه و يقيم مقامها صفة الضرورة و الإجبار.
فقد وضع في الحجة الفعل المطلق مكان الفعل الخاص فعد ضروريا مع أن الضروري تحقق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق و الفعل المقيد بالاختيار.
و من هنا يتبين عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلق العلم الأزلي به فإن تعلق العلم الأزلي بفعل إنما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الذي هو عليه فإن كان اختياريا وجب تحققه اختياريا و إن كان غير اختياري وجب تحققه كذلك.
على أنه لو كان معنى قوله: «و ما كان أكثرهم مؤمنين» امتناع إيمانهم لتعلق العلم الأزلي بعدمه لاتخذوه حجة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عدوه عذرا لأنفسهم في استنكافهم عن الإيمان كما اعترف به بعض المجبرة.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية - فظلت أعناقهم لها خاضعين»: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تخضع رقابهم يعني بني أمية و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.
أقول: و هذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي، و الصدوق في كمال الدين، و المفيد في الإرشاد، و الشيخ في الغيبة،، و الظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه.
|