بيان
سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد و تندب إلى الإنفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، و قد ختمت القصة بقوله تعالى: و إنك لمن المرسلين الآية، و افتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الأنبياء بعدهم، و قد قال في القصة السابقة أعني: قصة طالوت: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، و الجميع نازلة معا.
و بالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: أن الرسالة و خاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي أن يختم بها بلية القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية و الأخروية بإرسال الرسل و إيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، و يجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب و المشاجرات بعد الأنبياء في أممهم و خاصة بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد و الاتفاق من أركان أحكامه و أصول قوانينه؟ و إما من جهة أن إرسال الرسل و إيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على إيمان القلوب، و الإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة و قهرا فما ذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ و هذا هو الإشكال الذي تقدم تقريره و الجواب عنه في الكلام على آيات القتال.
و الذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لو لا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم و لو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، و لو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، و قد أراد جري الأمور على سنة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.
قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، إشارة إلى فخامة أمر الرسل و علو مقامهم و لذلك جيء في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الإشارة إلى بعيد، و فيه دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الأنبياء (عليهم السلام) ففيهم من هو أفضل و فيهم من هو مفضل عليه، و للجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة و هي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات و تفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا أن بين الاختلافين فرقا، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات و تفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل و هو الرسالة، و اجتماعهم في مجمع الكمال و هو التوحيد، و هذا بخلاف الاختلاف الموجود بين أمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإيمان و الكفر، و النفي و الإثبات، و من المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، و لذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلا و نسبه إلى نفسه، و سمى ما عند الناس بالاختلاف و نسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، و في مورد أممهم اختلفوا.
و لما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها و الآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالأمر به و الاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا إلى قوله بروح القدس مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله تعالى: و لكن الله يفعل ما يريد.
و على هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل (عليهم السلام) مقام تنمو فيه الخيرات و البركات، و تنبع فيه الكمال و السعادة و درجات القربى و الزلفى كالتكليم الإلهي و إيتاء البينات و التأييد بروح القدس، و هذا المقام على ما فيه من الخير و الكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.
و بعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، و كلما ملت إلى نحو من أنحائه ألفيت غضا طريا، و هذا المقام على ما فيه من البهاء و السناء و الإتيان بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر و الإيمان، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر: «إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:» آل عمران - 19، و قد مر بيانه في قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة:» البقرة - 213.
و لو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا و قد أجرى الله في سنة الإيجاد سببية و مسببية بين الأشياء و الاختلاف من علل التنازع، و لو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به؟ و لكنه تعالى أمر به و أراد بأمره البلاء و الامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن الكاذبين.
و بالجملة القتال بين أمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، و الرسالة و بيناتها إنما تدحض الباطل و تزيل الشبه.
و أما البغي و اللجاج و ما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، و إصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن التجارب يعطي أن الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف، و لذلك كان كلما اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحق و الجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم و بني إسرائيل، و بعد بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا.
قوله تعالى: منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، و الوجه فيه و الله أعلم - أن الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، و كالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى (عليه السلام) فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، و منها: ما ليس كذلك، و إنما يدل على الفضيلة و يستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة و فضيلة إلا أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه البهاء و الفضل كإضافته إلى الله عز اسمه، و كذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات و آتينا عيسى بن مريم البينات، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول و هو التكلم فقال تعالى: و آتينا عيسى بن مريم.
و قد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلم الله: موسى (عليه السلام) لقوله تعالى: «و كلم الله موسى تكليما:» النساء - 164، و غيره من الآيات، و قيل المراد به رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمه بالوحي من غير واسطة، قال تعالى: «ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى:» النجم - 10، و قيل المراد به الوحي مطلقا لأن الوحي تكليم خفي، و قد سماه الله تعالى تكليما حيث قال: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب:» الآية الشورى - 51، و هذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى: منهم من كلم الله.
و الأوفق بالمقام كون المراد به موسى (عليه السلام) لأن تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: «و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه إلى أن قال: قال يا موسى: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي: الأعراف - 143، و هي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية.
و كذا في قوله: و رفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافة الخلق كما قال تعالى: و ما أرسلناك إلا كافة للناس: السبأ - 28، و بجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى: و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: الأنبياء - 107، و بجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى: و لكن رسول الله و خاتم النبيين: الأحزاب - 40، و بإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب و تبيانا لكل شيء و محفوظا من تحريف المبطلين، و معجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه: المائدة - 48، و قال تعالى: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء: النحل - 89، و قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون: الحجر - 6 و قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا: الإسراء - 88، و باختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا و الآخرة، قال تعالى: فأقم وجهك للدين القيم: الروم - 43، و قيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح: سلام على نوح في العالمين: الصافات - 79، و قوله تعالى في إبراهيم (عليه السلام): و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما: البقرة - 124، و قوله تعالى فيه و اجعل لي لسان صدق في الآخرين: الشعراء - 84، و قوله تعالى في إدريس (عليه السلام) و رفعناه مكانا عليا: مريم - 57، و قوله تعالى في يوسف: نرفع درجات من نشاء: يوسف - 76، و قوله في داود (عليه السلام): و آتينا داود زبورا: النساء - 163، إلى غير ذلك من مختصات الأنبياء.
و كذا قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم و موسى و عيسى و عزير و أرميا و شموئيل و داود و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ذكر موسى و عيسى من بينهم و بقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الباقين، و قيل: لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة و هم موسى و داود و شموئيل و محمد، و قد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات و ليس له إلا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: إن الوجه فيه عدم سبق ذكره (عليه السلام) فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.
و الذي ينبغي أن يقال: إنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، و لا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا و شموئيل و داود و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل (عليهم السلام) و شمول البعض في قوله تعالى: و رفع بعضهم درجات، لكل من أنعم الله عليه منهم برفع الدرجة.
و ما قيل: إن الأسلوب يقتضي كون المراد به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا، و الموجود منهم اليهود و النصارى و المسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، و قد ذكر منهم موسى و عيسى بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم).
فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس، قال تعالى: «لا نفرق بين أحد منهم:» البقرة - 136، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد و القتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك أصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته و يقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.
كلام في الكلام
ثم إن قوله تعالى: منهم من كلم الله، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز و تمثيل و قد سماه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقا حقيقيا أو إطلاقا مجازيا، فالبحث في المقام من جهتين: الجهة الأولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبياءه و رسله من النعم التي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي و التكليم و نزول الروح و الملائكة و مشاهدة الآيات الإلهية الكبرى، أو أخبرهم به كالملك و الشيطان و اللوح و القلم و سائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة، و ما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، و المرتبة العالية من هذه القوى و هي التي تترشح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنساني بروح القدس و الروح الأمين، و القوى الشهوية و الغضبية النفسانية الداعية إلى الشر و الفساد بالشياطين و الجن، و الأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيىء العمل بالوسوسة و النزعة، و هكذا.
فإن الآيات القرآنية و كذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز و التمثيل، بحيث لا يشك فيه إلا مكابر متعسف و لا كلام لنا معه، و لو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهية من غير استثناء إلى المادية المحضة النافية لكل ما وراء المادة، و قد مر بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز.
ففي مورد التكليم الإلهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.
توضيح ذلك: أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام و التكليم كقوله تعالى: «و كلم الله موسى تكليما»: النساء - 163، و قوله تعالى: «منهم من كلم الله الآية، و قد فسر تعالى هذا الإطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين و ما يشبههما بقوله تعالى: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء:» الشورى - 51، فإن الاستثناء في قوله تعالى: إلا وحيا «إلخ»، لا يتم إلا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلمه الله، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.
و الذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع و المدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، و منها التكلم و قد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، و يجعل الأصوات المؤلفة و المختلطة أمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنه لا طريق له إلى التفهيم و التفهم إلا جعل الألفاظ و الأصوات المؤتلفة علائم جعلية و أمارات وضعية، و لذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها الإنسان في حياته الحاضرة، و لذلك أيضا كانت اللغات لا تزال تزيد و تتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، و تكثر الحوائج الإنسانية في حياته الاجتماعية.
و من هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع و الاعتبار إنما يتم في الإنسان و هو واقع في ظرف الاجتماع، و ربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع و له شيء من جنس الصوت، على ما نحسب و أما الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان ثم إنسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم و التفهم، و كذلك غير الإنسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي و الحياة المدنية كالملك و الشيطان مثلا. فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة و اعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية الوضعية، فإنه تعالى أجل شأنا و أنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية و قد قال تعالى: «ليس كمثله شيء:» الشورى - 11.
لكنه سبحانه فيما مر من قوله: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب:» الشورى - 51، يثبت لشأنه و فعله المذكور حقيقة التكليم و إن نفي عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإلهي لكنه بخواصه و آثاره ثابت له، و مع بقاء الأثر و الغاية يبقى المحدود في الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع و الميزان و المكيال و السراج و السلاح و نحو ذلك، و قد تقدم بيانه.
فقد: ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، و هو سبحانه و إن بين لنا إجمالا أنه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبين لنا و لا نحن تنبهنا من كلامه أن هذا الذي يسميه كلاما يكلم به أنبياءه ما حقيقته؟ و كيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا و يثبت عليه آثاره و هي تفهيم المعاني المقصودة و إلقاؤها في ذهن السامع.
و على هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء و الإماتة و الرزق و الهداية و التوبة و غيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم و القدرة و الحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف و لا فرق بينه و بين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات! و ربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى: «و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني:» الأعراف - 143، و قال تعالى «و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:» مريم - 9، و قال تعالى: «فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم:» البقرة - 243، و قال تعالى: «نحن نرزقكم و إياهم:» الأنعام - 151، و قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه - 50، و قال تعالى: «ثم تاب عليهم ليتوبوا:» التوبة - 118، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الأفعال كالخلق و الإماتة و الإحياء و الرزق و الهداية و التوبة على حد سواء.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، و البحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.
و اعلم: أن الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: «و كلمته ألقاها إلى مريم:» النساء - 171، أريد به نفس الإنسان، و قال تعالى: «و كلمة الله هي العليا»: التوبة - 40، و قال تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا»: الأنعام - 155، و قال تعالى: «ما نفدت كلمات الله:» لقمان - 27، و قد أريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجيء الإشارة إليه.
و أما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الإنسان و غيره فقال تعالى في مورد الإنسان: «فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك:» طه - 117، و قال تعالى في مورد الملائكة: «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة:» البقرة - 30، و قال أيضا: «إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين:» ص - 71، و قال في مورد إبليس «قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي:» ص - 75، و قال تعالى في غير مورد أولي العقل: «ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:» فصلت - 11، و قال تعالى: «قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم:» الأنبياء - 69، و قال تعالى: و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي: هود - 44، و يجمع الجميع على كثرة مواردها و تشتتها قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس - 82، و قوله تعالى: إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون: مريم - 35.
و الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع و إدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلا، و مما سبيله التكوين و ليس له سمع و إدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض و السماء، و حيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات أن القول منه تعالى إيجاد أمر يدل على المعنى المقصود.
فأما في التكوينيات فنفس الشيء الذي أوجده تعالى و خلقه هو شيء مخلوق موجود، و هو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم أنه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى و بين الشيء، و ليس هناك غير نفس وجود الشيء، فهو بعينه مخلوق و هو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل و هو الإيجاد و هو الوجود و هو نفس الشيء.
و أما في غير التكوينيات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الإنسان بأن كذا كذا، و ذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام.
و كذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان و ما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، و هي أن الكلام و القول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، و من المعلوم على ما يعطيه كلامه تعالى أن الملك و الشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي و ليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية.
و يظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة و لا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم و التفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي و الأصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، و على هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، و التأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر و هو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول و خاصته و هو فهم المعنى المقصود و إدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، و كذا بين الله سبحانه و بينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت و اللفظ الموضوع و إسماعه لهم كما سمعت.
و كذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى: قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم: النمل - 18، و قال تعالى فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين: النمل - 22، و كذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى: و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون: النحل - 68.
و هناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول و الكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك:» النساء - 163، و الإلهام، قال تعالى: و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها: الشمس - 8، و النبأ، قال تعالى: قال نبأني العليم الخبير: التحريم - 3، و القص، قال تعالى: يقص الحق: الأنعام - 57، و القول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول و خاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا، و في الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى إن شاء الله.
و أما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما و بعضها قولا و بعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن و لذلك سمي هذا الفعل الإلهي في مورد بيان تفضيل الأنبياء و تشريفهم كلاما لأن العناية هناك إنما هو بالمخاطبة و التكليم، و يسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقاؤه و تفهيمه و لذلك سمي هذا الأمر الإلهي في مورد القضاء و القدر و الحكم و التشريع و نحو ذلك قولا كقوله تعالى: قال الحق و الحق أقول لأملأن: ص - 85، و يسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الأنبياء و لذلك عبر في موردهم (عليهم السلام) بالوحي كقوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك الآية: النساء - 163.
الجهة الثانية: و هي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت أن مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها و وضع الألفاظ بحذائها و استعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداء ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، و هذا و إن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداء لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال و حصول التبادر، و كذلك ترقي الاجتماع و تقدم الإنسان في المدنية و الحضارة يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، و التبدل فيها دائما مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة، و ذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيله متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضاءة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا و سماه الإنسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور، و يركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها و معها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن و فتيلة و قصعة خزفية أو فلزية، و مع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها و على سائر أقسام السراج على حد سواء، و من غير عناية، و ليس ذلك إلا أن الغاية و الغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، و هو الاستضاءة، و نحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة و لا نعرفها إلا بغايتها في الحياة و أثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، و مع بقاء هذه الخاصة و الأثر يبقى حقيقة السراج و يبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير و تبدل، و إن تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، و على هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي و عدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير، و قلما يوجد اليوم في الأمور المصنوعة و وسائل الحياة - و هي ألوف و ألوف - شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الأثر و الخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له.
و في اللغات شيء كثير من القسم الأول و هو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير.
فقد تحصل أن استعمال الكلام و القول فيما مر مع فرض بقاء الأثر و الخاصة استعمال حقيقي لا مجازي.
فظهر من جميع ما بيناه: أن إطلاق الكلام و القول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، و أنه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين و إن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا و بينه تعالى كالحياة و العلم و الإرادة و الإعطاء كذلك.
و اعلم: أن القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: و رفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية: أن ما اشتملت عليه هذه البيانات أمور اعتبارية و معاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة و الزعامة و الفضيلة و التقدم و التصدر و نحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة و نار و سؤال و غير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي أن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة و بين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار و الوضع، و لزمهم - اضطرارا - كون جاعل هذه الروابط و هو الله تعالى و تقدس، محكوما بالآراء الاعتبارية و مبعوثا عن الشعور الوهمي كالإنسان الواقع في عالم المادة، و النازل في منزل الحركة و الاستكمال، و لذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه و أوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب و السنة إلا أن تنسلخ عن حقيقتها و ترجع إلى نحو من الاعتباريات.
قوله تعالى: و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس، رجوع إلى أصل السياق و هو التكلم دون الغيبة كما مر.
و الوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أن ما ذكره له (عليه السلام) من جهات التفضيل و هو إيتاء البينات، و التأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات:» الحديد - 25، و قال تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا»: النمل - 2، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى و خلق الطير بالنفخ و إبراء الأكمه و الأبرص، و الإخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى (عليه السلام) و صرح باسمه إذ لو لا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: و آتينا بعضهم البينات و أيدناه بروح القدس، إذ البينات و روح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم أنها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا، على أن في اسم عيسى (عليه السلام) خاصة أخرى و آية بينة و هي أنه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: «و جعلناها و ابنها آية للعالمين:» الأنبياء - 91، فمجموع الابن و الأم آية بينة إلهية و فضيلة اختصاصية أخرى.
قوله تعالى: و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، العدول إلى الغيبة ثانيا لأن المقام مقام إظهار أن المشية و الإرادة الربانية غير مغلوبة، و القدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها و نفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهية، و بالجملة وصف الألوهية هي التي تنافي تقيد القدرة و توجب إطلاق تعلقها بطرفي الإيجاب و السلب فمست حاجة المقام إلى إظهار هذه الصفة المتعالية أعني الألوهية للذكر فقيل: و لو شاء الله ما اقتتل، و لم يقل: و لو شئنا ما اقتتل، و هذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية: و لو شاء الله ما اقتتلوا، و قوله: و لكن الله يفعل ما يريد، و هو الوجه أيضا في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.
قوله تعالى: و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أن الاختلاف بالإيمان و الكفر و سائر المعارف الأصلية المبينة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنما حدث بين الناس بالبغي، و حاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغي أو ظلم.
قوله تعالى: و لو شاء ما اقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد، أي و لو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال و لكن الله يفعل ما يريد و قد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الأسباب.
و محصل معنى الآية و الله العالم: أن الرسل التي أرسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم، مرتفع عن الناس أفقهم و هم مفضل بعضهم على بعض على ما لهم من الأصل الواحد و المقام المشترك، فهذا حال الرسل و قد أتوا للناس بآيات بينات أظهروا بها الحق كل الإظهار و بينوا طريق الهداية أتم البيان، و كان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلا إلى الوحدة و الألفة و المحبة في دين الله من غير اختلاف و قتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، و هو الاختلاف عن بغي منهم و انشعابهم إلى مؤمن و كافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شئون الحياة و السعادة، و لو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال و ما اقتتلوا، و لكن لم يشأ و أجرى هذا السبب كسائر الأسباب و العلل على سنة الأسباب التي أرادها الله في عالم الصنع و الإيجاد، و الله يفعل ما يريد.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا «إلخ»، معناه واضح و في ذيل الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق كفر و ظلم.
بحث روائي
في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا «إلخ»، في هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن و منهم من كفر.
و في تفسير العياشي، عن أصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم و كبرنا، و هلل القوم و هللنا، و صلى القوم و صلينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقال (عليه السلام): على هذه الآية «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات - و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس - و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم فنحن الذين من بعدهم و لكن اختلفوا فمنهم من آمن - و منهم من كفر و لو شاء الله ما اقتتلوا - و لكن الله يفعل ما يريد» فنحن الذين آمنا و هم الذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم و رب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه الله.
أقول: و روى هذه القصة المفيد و الشيخ في أماليهما، و القمي في تفسيره، و الرواية تدل على أنه (عليه السلام) أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض و كذا التاريخ يشهدان أنه (عليه السلام) ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل و أصحاب صفين و الخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب و لا معاملة أهل الكتاب و لا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلا أنه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، و قد كان (عليه السلام) يقول: أقاتلهم على التأويل دون التنزيل.
و ظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على أن البينات التي جاءت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الإنساني الذي لا يخلو عن البغي و الظلم، فالآية في مساق قوله تعالى: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون:» يونس: 19، و قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة - إلى أن قال -: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه:» البقرة - 213، و قوله تعالى: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك:» هود - 119، كل ذلك يدل على أن الاختلاف في الكتاب - و هو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم مما لا مناص عنه، و قد قال تعالى في خصوص هذه الأمة: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم:» البقرة - 214، و قال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيامة: «و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا:» الفرقان - 30، و في مطاوى الآيات تصريحات و تلويحات بذلك.
و أما إن ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ و المستفيض أو المتواتر من الأخبار يدل على أن الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن و الاختلافات الواقعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاملة، من غير أن يستثنوا أنفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله و رسوله، و الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.
و في أمالي المفيد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته و لا معلوم، و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز و جل و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام.
و في الإحتجاج، عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرة المحدث عن الرضا (عليه السلام) فقال: أخبرني جعلت فداك عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السلام): سبحان الله عما تقول و معاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون و لكنه سبحانه ليس كمثله شيء و لا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق، لمخلوق و لا يلفظ بشق فم و لسان، و لكن يقول له كن فكان، بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النهي من غير تردد في نفس الخبر.
و في نهج البلاغة، في خطبة له (عليه السلام): متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، الخطبة.
و في النهج، أيضا في خطبة له (عليه السلام): الذي كلم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات، الخطبة.
أقول: و الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، و هي مطبقة على أن كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب و السنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات.
بحث فلسفي
ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولا و كلاما و هو نقل الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه و هو التفهيم و التفهم، قالوا: و حقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر، و أما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان و مروره من طريق الحنجرة و اعتماده على مقاطع الفم و كونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا لا أزيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق و ليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.
فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، و كذا الإشارة الوافية لإراءة المعنى كلام كما أن إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال و نحو ذلك أمر و قول، و كذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، و وجود المعلول لمسانخته وجود علته و كونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، و يدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها.
فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها و كمالاتها، و مجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما أن وجوده مثال لكمال علته الفياضة، و كل مجموع منها، و مجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه و صفاته، فكما أنه تعالى خالق للعالم و العالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء و الصفات و العالم كلامه.
بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على نفسه فإن الدلالة بالآخرة شأن وجودي ليس و لا يكون لشيء بنحو الأصالة إلا لله و بالله سبحانه، فكل شيء دلالته على بارئه و موجده فرع دلالة ما منه على نفسه و دلالته لله بالحقيقة، فالله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشيء الدال، و على دلالته لغيره.
فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته و هو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة الذات و هو الذات من حيث دلالته على الذات، و منه ما هو صفة الفعل، و هو الخلق و الإيجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال.
أقول: ما نقلنا عنهم على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي أثبته الكتاب و السنة هو أمثال قوله تعالى: منهم من كلم الله و قوله: و كلم الله موسى تكليما.
و قوله: قال الله يا عيسى، و قوله: و قلنا يا آدم، و قوله: إنا أوحينا إليك، و قوله: نبأني العليم الخبير، و من المعلوم أن الكلام و القول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شيء من هذه الموارد.
و اعلم أن بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين و بذلك سمي علم الكلام به و هي أن كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟ ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنهم فسروا الكلام بأن المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، و تلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، و أما الكلام اللفظي و هو الأصوات و النغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.
و ذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنهم فسروا الكلام بالألفاظ الدالة على المعنى التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: و أما المعاني النفسية التي تسميه الأشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية و ليست بالكلام.
و بعبارة أخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما، و إن أريد به أمر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد وراءها شيئا بالوجدان هذا.
و ربما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقا لصفتين أو أزيد و هو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنية علما من جهة كونه انكشافا للواقع، و كلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير؟.
أقول: و الذي يحسم مادة هذا النزاع من أصله أن وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى أخذناه أي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات و إجماليا بالغير، أو أخذ علما تفصيليا بالذات و بالغير في مقام الذات، و هذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات، أو أخذ علما تفصيليا قبل الإيجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الإيجاد و بعد الذات جميعا، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي.
و الذي ذكروه و تنازعوا عليه إنما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد أقمنا البرهان في محله: أن المفاهيم و الماهيات لا تتحقق إلا في ذهن الإنسان أو ما قاربه جنسا من أنواع الحيوان التي تعمل الأعمال الحيوية بالحواس الظاهرة و الإحساسات الباطنة.
و بالجملة فالله سبحانه أجل من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم و الماهيات الاعتبارية مما لا ملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم و المفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع، و لو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب، و معرضا لحدوث الحوادث، و كلامه محتملا للصدق و الكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها و تقدس.
و أما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجيء إن شاء الله بيانه في موضع يليق به
|