بيان
تتضمن الآيات إذن المؤمنين في القتال و هي - كما قيل - أول ما نزلت في الجهاد و قد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول لهم: لم أومر بشيء في القتال، و كان يأتيه كل يوم و هو بمكة قبل الهجرة أفراد من المؤمنين بين مضروب و مشجوج و معذب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكة من المشركين فيسليهم و يأمرهم بالصبر و انتظار الفرج حتى نزلت الآيات و هي تشتمل على قوله: «أذن للذين يقاتلون» إلخ.
و هي - كما تقدم - أول ما نزلت في الجهاد، و قيل: أول ما نزل فيه قول تعالى: «و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم:» البقرة: 190، و قيل: إنه قوله: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم» الآية: التوبة: 111.
و الاعتبار يستدعي أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا و ذلك لاشتمالها على الإذن صريحا و احتفافها بالتوطئة و التمهيد و تهييج القوم و تقوية قلوبهم و تثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحا و تصريحا و ذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم و كل ذلك من لوازم تشريع الأحكام الهامة و بيانها و إبلاغها لأول مرة و خاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية و التفدية و هو أشق حكم اجتماعي و أصعبه في الإسلام و أمسه بحفظ المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام و استيقاظ الأفهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.
فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم.
ثم نص على إذنهم في القتال و ذكر أنهم مظلومون و القتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة و وصفهم بأنهم صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم و أنه سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم.
قوله تعالى: «إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور» المدافعة مبالغة في الدفع، و الخوان اسم مبالغة من الخيانة و كذا الكفور من الكفران و المراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة و إن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لأن الآيات تشرع القتال و لا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، و المورد لا يكون مخصصا.
و المراد بكل خوان كفور المشركون، و إنما كانوا مكثرين في الخيانة و الكفران لأن الله حملهم أمانة الدين الحق و جعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه و رعايته سعادة الدارين و عرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد و الإنكار و غمرهم بنعمه الظاهرة و الباطنة فكفروا بها و لم يشكروه بالعبودية.
و في الآية تمهيد لما في الآية التالية من الإذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع عن الذين آمنوا و إنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء و لا يحب أولئك لخيانتهم و كفرهم فهو إنما يحب هؤلاء لأمانتهم و شكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين.
فهو تعالى مولاهم و وليهم الذي يدفع عنهم أعداءه كما قال: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» سورة محمد: 11.
قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و أن الله على نصرهم لقدير» ظاهر السياق أن المراد بقوله: «أذن» إنشاء الإذن دون الإخبار عن إذن سابق و إنما هو إذن في القتال كما يدل عليه قوله: «للذين يقاتلون» إلخ، و لذا بدل قوله: «الذين آمنوا» من قوله: «الذين يقاتلون» ليدل على المأذون فيه.
و القراءة الدائرة «يقاتلون» بفتح التاء مبنيا للمفعول أي الذين يقاتلهم المشركون لأنهم الذين أرادوا القتال و بدءوهم به، و الباء في «بأنهم ظلموا» للسببية و فيه تعليل الإذن في القتال أي أذن لهم فيه بسبب أنهم ظلموا، و أما ما هو الظلم فتفسيره قوله: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق» إلخ.
و في عدم التصريح بفاعل «أذن» تعظيم و تكبير و نظيره ما في قوله: «و إن الله على نصرهم لقدير» من ذكر القدرة على النصر دون فعليته فإن فيه إشارة إلى أنه مما لا يهتم به لأنه هين على من هو على كل شيء قدير.
و المعنى أذن - من جانب الله - للذين يقاتلهم المشركون و هم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا - من جانب المشركين - و إن الله على نصرهم لقدير، و هو كناية عن النصر.
قوله تعالى: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله» إلى آخر الآية بيان جهة كونهم مظلومين و هو أنهم أخرجوا من ديارهم و قد أخرجهم المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم.
و لم يخرجوهم بحمل و تسفير بل آذوهم و بالغوا في إيذائهم و شددوا بالتعذيب و التفتين حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة و التغرب عن الوطن و ترك الديار و الأموال فقوم إلى الحبشة و آخرون إلى المدينة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإخراجهم إياهم إلجاؤهم إلى الخروج.
و قوله: «إلا أن يقولوا ربنا الله» استثناء منقطع معناه و لكن أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله، و فيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم و ألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل ربنا الله و هو كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره.
و قيل: الاستثناء متصل و المستثنى منه هو الحق و المعنى أخرجوا بغير حق إلا الحق الذي هو قولهم: ربنا الله.
و أنت خبير بأنه لا يناسب المقام فإن الآية في مقام بيان أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق لا أنهم إنما أخرجوا بهذا الحق لا بحق غيره.
و توصيف الذين آمنوا بهذا الوصف - كونهم مخرجين من ديارهم - و هو وصف بعضهم و هم المهاجرون من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد و الائتلاف فإن المؤمنين إخوة و هم يد واحدة على من سواهم و توصيف، الأمم بوصف بعض الأفراد في القرآن الكريم فوق حد الإحصاء.
و قوله: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا» الصوامع جمع صومعة و هي بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال و البراري و يسكنه الزهاد و المعتزلون من الناس للعبادة، و البيع جمع بيعة بكسر الباء معبد اليهود و النصارى، و الصلوات جمع صلاة و هي مصلى اليهود سمي بها تسمية للمحل باسم الحال كما أريد بها المسجد في قوله تعالى: «لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى - إلى قوله - و لا جنبا إلا عابري سبيل».
و قيل: هي معرب «صلوثا» بالثاء المثلثة و القصر و هي بالعبرانية المصلى، و المساجد جمع مسجد و هو معبد المسلمين.
و الآية و إن وقعت موقع التعليل بالنسبة إلى تشريع القتال و الجهاد، و محصلها أن تشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شر أعداء الدين المهتمين بإطفاء نور الله فلو لا ذلك لانهدمت المعابد الدينية و المشاعر الإلهية و نسخت العبادات و المناسك.
لكن المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال فإن دفع بعض الناس بعضا ذبا عن منافع الحياة و حفظا لاستقامة حال العيش سنة فطرية جارية بين الناس و السنن الفطرية منتهية إليه تعالى و يشهد به تجهيز الإنسان كسائر الموجودات بأدوات و قوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع و الدفاع عن نفسه أو أي شأن من شئون نفسه مما تتم به حياته و تتوقف عليه سعادته.
و الدفع بالقتال آخر ما يتوسل إليه من الدفع إذا لم ينجع غيره من قبيل آخر الدواء الكي ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض و تحمل لمشقة في سبيل راحة سنة جارية في المجتمع الإنساني بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما و استقلال ما.
ففي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية و هي دفع الناس بعضهم بعضا عن شئون حياتهم، و إذا نسب إلى الله سبحانه كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضيعة.
و إنما اختص انهدام المعابد بالذكر مع أن من المعلوم أنه لو لا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه و انمحت جميع آثاره لأن هذه المعابد و المعاهد هي الشعائر و الأعلام الدالة على الدين المذكرة له الحافظة لصورته في الأذهان.
و قوله: «و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز» قسم مع تأكيد بالغ على نصره تعالى من ينصره بالقتال ذبا عن الدين الإلهي و لقد صدق الله وعده فنصر المسلمين في حروبهم و مغازيهم فأيدهم على أعدائه و رفع ذكره ما كانوا ينصرونه.
و المعنى أقسم لينصرن الله من ينصره بالدفاع عن دينه إن الله لقوي لا يضعفه أحد و لا يمنعه شيء عما أراد عزيز منيع الجانب لا يتعدى إلى ساحة عزته و لا يعادله شيء في سلطنته و ملكه.
و يظهر من الآية أنه كان في الشرائع السابقة حكم دفاعي في الجملة و إن لم يبين كيفيته.
قوله تعالى: «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر» إلخ توصيف آخر للذين آمنوا المذكورين في أول الآيات، و هو توصيف المجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الأشخاص و المراد من تمكينهم في الأرض إقدارهم على اختيار ما يريدونه من نحو الحياة من غير مانع يمنعهم أو مزاحم يزاحمهم.
يقول تعالى: إن من صفتهم أنهم إن تمكنوا في الأرض و أعطوا الحرية في اختيار ما يستحبونه من نحو الحياة عقدوا مجتمعا صالحا تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر و تخصيص الصلاة من بين الجهات العبادية و الزكاة من بين الجهات المالية بالذكر لكون كل منهما عمدة في بابها.
و إذ كان الوصف للذين آمنوا المذكورين في صدر الآيات و المراد به عقد مجتمع صالح و حكم الجهاد غير خاص بطائفة خاصة فالمراد بهم عامة المؤمنين يومئذ بل عامة المسلمين إلى يوم القيامة و الخصيصة خصيصتهم بالطبع فمن طبع المسلم بما هو مسلم الصلاح و إن كان ربما غشيته الغواشي.
و ليس المراد بهم خصوص المهاجرين بأعيانهم سواء كانت الآيات مكية أو مدنية و إن كان المذكور من جهة المظلومية هو إخراجهم من ديارهم و ذلك لمنافاته عموم الموصوف المذكور في صدر الآيات و عموم حكم الجهاد لهم و لغيرهم قطعا.
على أن المجتمع الصالح الذي عقد لأول مرة في المدينة ثم انبسط فشمل عامة جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أفضل مجتمع متكون في تاريخ الإسلام تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و تؤمر فيه بالمعروف و تنهى فيه عن المنكر مشمول للآية قطعا و كان السبب الأول ثم العامل الغالب فيه الأنصار دون المهاجرين.
و لم يتفق في تاريخ الإسلام للمهاجرين، خاصة أن يعقدوا وحدهم مجتمعا من غير شركة من الأنصار فيقيموا الحق و يميطوا الباطل فيه اللهم إلا أن يقال: إن المراد بهم أشخاص الخلفاء الراشدين أو خصوص علي (عليه السلام) على الخلاف بين أهل السنة و الشيعة، و في ذلك إفساد معنى جميع الآيات.
على أن التاريخ يضبط من أعمال الصدر الأول و خاصة المهاجرين منهم أمورا لا يسعنا أن نسميها إحياء للحق و إماتة للباطل سواء قلنا بكونهم مجتهدين معذورين أم لا فليس المراد توصيف أشخاصهم بل المجموع من حيث هو مجموع.
و قوله: «و لله عاقبة الأمور» تأكيد لما تقدم من الوعد بالنصر و إظهار المؤمنين على أعداء الدين الظالمين لهم.
قوله تعالى: «و إن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - فكيف كان نكير» فيه تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكذيب قومه له ليس ببدع فقد كذبت أمم قبلهم لأنبيائهم.
و إنذار و تخويف للمكذبين بالإشارة إلى ما انتهى إليه تكذيب من قبلهم من الأمم و هو الهلاك بعذاب من الله تعالى.
و قد عد من تلك الأمم قوم نوح و عادا و هم قوم هود و ثمود و هم قوم صالح و قوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و هم قوم شعيب، و ذكر تكذيب موسى.
قيل: و لم يقل: و قوم موسى لأن قومه بنو إسرائيل و كانوا آمنوا به، و إنما كذبه فرعون و قومه.
و قوله: «فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير» الإملاء الإمهال و تأخير الأجل، و النكير الإنكار، و المعنى فأمهلت الكافرين - الذين كذبوا رسلهم من هذه الأمم - ثم أخذتهم و هو كناية عن العقاب فكيف كان إنكاري لهم في تكذيبهم و كفرهم؟ و هو كناية عن بلوغ الإنكار و شدة الأخذ.
قوله تعالى: «فكأين من قرية أهلكناها و هي ظالمة فهي خاوية على عروشها و بئر معطلة و قصر مشيد» قرية خاوية على عروشها أي ساقطة جدرانها على سقوفها فهي خربة، و البئر المعطلة الخالية من الواردين و المستقين و شاد القصر أي جصصه و الشيد بالكسر الجص.
و قوله: «فكأين من قرية أهلكناها ظاهر السياق أنه بيان لقوله في الآية السابقة: «فكيف كان نكير» و قوله: «و بئر معطلة و قصر مشيد» عطف على قرية.
و المعنى: فكم من قرية أهلكنا أهلها حال كونهم ظالمين فهي خربة ساقطة جدرانها على سقوفها، و كم من بئر معطلة باد النازلون عليها فلا وارد لها و لا مستقي منها، و كم من قصر مجصص هلك سكانها لا يرى لهم أشباح و لا يسمع منهم حسيس، و أصحاب الآبار أهل البدو و أصحاب القصور أهل الحضر.
قوله تعالى: «أ فلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها» إلخ، حث و تحضيض على الاعتبار بهذه القرى الهالكة و الآثار المعطلة و القصور المشيدة التي تركتها تلك الأمم البائدة بالسير في الأرض فإن السير فيها ربما بعث الإنسان إلى أن يتفكر في نفسه في سبب هلاكهم و يستحضر الحجج في ذلك فيتذكر أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله و إعراضهم عن آياته و استكبارهم على الحق بتكذيب الرسل فيكون له قلب يعقل به و يردعه عن الشرك و الكفر هذا إن وسعه أن يستقل بالتفكير.
و إن لم يسعه ذلك بعثه الاعتبار إلى أن يصغي إلى قول المشفق الناصح الذي لا يريد به إلا الخير و عظة الواعظ الذي يميز له ما ينفعه مما يضره و لا عظة ككتاب الله و لا ناصح كرسوله فيكون له أذن يسمع بها ما يهتدي به إلى سعادته.
و من هنا يظهر وجه الترديد في الآية بين القلب و الأذن من غير تعرض للبصر و ذلك لأن الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل و تمييز الخير من الشر و النافع من الضار و بين الاتباع لمن يجوز اتباعه و هذان شأن القلب و الأذن.
ثم لما كان المعنيان جميعا - التعقل و السمع - في الحقيقة من شأن القلب أي النفس المدركة فهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق عد إدراك القلب لذلك رؤية له و مشاهدة منه، و لذلك عد من لا يعقل و لا يسمع أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين لأن الذي يعمى بصره يمكنه أن يتدارك بعض منافعه الفائتة بعصا يتخذها أو بهاد يأخذه بيده و أما القلب فلا بدل له يتسلى به، و هو قوله تعالى: «فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور».
و جعل الصدر ظرفا للقلب من المجاز في النسبة، و في الكلام مجاز آخر ثان من هذا القبيل و هو نسبة العقل إلى القلب و هو للنفس، و قد تقدم التنبيه عليه مرارا.
قوله تعالى: «و يستعجلونك بالعذاب و لن يخلف الله وعده و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون» كان القوم يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أخبرهم أن الله سبحانه وعده أن يعذبهم إن لم يؤمنوا به فكانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء به و تعجيزا له قائلين: متى هذا الوعد؟ فرد الله عليهم بقوله: «و لن يخلف الله وعده» فإن كان المراد بالعذاب عذاب مشركي مكة فالذي وعدهم من العذاب هو ما ذاقوه يوم بدر و إن كان المراد به ما يقضى به بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين أمته بعذاب موعود لم ينزل بعد و قد أخبر الله عنه في قوله: «و لكن أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم:» يونس: 47 إلى آخر الآيات.
و قوله: «و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون» حكم بتساوي اليوم الواحد و الألف سنة عند الله سبحانه فلا يستقل هذا و لا يستكثر ذلك حتى يتأثر من قصر اليوم الواحد و طول الألف سنة فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب بل هو حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدر لهم من أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون، و لذا عقب الكلام بقوله في الآية التالية: «و كأين من قرية أمليت لها و هي ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير».
و قوله: «و إن يوما عند ربك كألف سنة» رد لاستعجالهم بالعذاب بأن الله يستوي عنده قليل الزمان و كثيره، كما أن قوله: «و لن يخلف الله وعده» تسلية و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رد لتكذيبهم له فيما أخبرهم به من وعد الله و تعجيزهم له و استهزائهم به.
و قيل: معنى قوله: «و إن يوما عند ربك» إن يوما من أيام الآخرة التي سيعذبون فيها يعدل ألف سنة من أيام الدنيا التي يعدونها.
و قيل: المراد أن يوما لهم و هم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا.
و المعنيان لا يلائمان صدر الآية و لا الآية التالية كما هو ظاهر.
قوله تعالى: «و كأين من قرية أمليت لها و هي ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير» الآية - كما مر - متممة لقوله: «و إن يوما عند ربك كألف سنة» بمنزلة الشاهد على صدق المدعى، و المعنى: قليل الزمان و كثيره عند ربك سواء و قد أملى لكثير من القرى الظالمة و أمهلها ثم أخذها بعد مهل.
و قوله: «و إلي المصير» بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شيء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.
و قد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا: «فكأين من قرية» إلخ، فلكل من الآيتين مفادها.
و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لأن الكلام فيها في صفة من صفاته تعالى و هو الحلم و المطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه.
قوله تعالى: «قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين - إلى قوله - أصحاب الجحيم» أمر بإعلام الرسالة بالإنذار و بيان ما للإيمان به و العمل الصالح من الأجر الجميل و هو المغفرة بالإيمان و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، و ما للكفر و الجحود من التبعة السيئة و هي صحابة الجحيم من غير مفارقة.
و قوله: «سعوا في آياتنا معاجزين» السعي الإسراع في المشي و هو كناية عن بذل الجهد في أمر آيات الله لإبطالها و إطفاء نورها بمعاجزة، الله و التعبير بلفظ المتكلم مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني قوله: «أمليت لها» إلخ.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» إلخ، التمني تقدير الإنسان وجود ما يحبه سواء كان ممكنا أو ممتنعا كتمني الفقير أن يكون غنيا و من لا ولد له أن يكون ذا ولد، و تمني الإنسان أن يكون له بقاء لا فناء معه و أن يكون له جناحان يطير بهما، و يسمى صورته الخيالية التي يلتذ بها أمنية، و الأصل في معناه المني بالفتح فالسكون بمعنى التقدير، و قيل: ربما جاء بمعنى القراءة و التلاوة يقال: تمنيت الكتاب أي قرأته.
و الإلقاء في الأمنية المداخلة فيها بما يخرجها عن صرافتها و يفسد أمرها.
و معنى الآية على أول المعنيين و هو كون التمني هو تمني القلب: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى و قدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه و إقبال الناس عليه و إيمانهم به ألقى الشيطان في أمنيته و داخل فيها بوسوسة الناس و تهييج الظالمين و إغراء المفسدين فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي و أبطل سعيه فينسخ الله و يزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي و إظهار الحق و الله عليم حكيم.
و المعنى: على ثاني المعنيين و هو كون التمني بمعنى القراءة و التلاوة: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تلا و قرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضلة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها و يفسدوا على المؤمنين إيمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه و يذهب به بتوفيق النبي لرده أو بإنزال ما يرده.
و في الآية دلالة واضحة على اختلاف معنى النبوة و الرسالة لا بنحو العموم و الخصوص مطلقا كما اشتهر بينهم أن الرسول هو من بعث و أمر بالتبليغ و النبي من بعث سواء أمر بالتبليغ أم، لا إذ لو كان كذلك لكان من الواجب أن يراد بقوله في الآية: «و لا نبي» غير الرسول أعني من لم يؤمر بالتبليغ، و ينافيه قوله: «و ما أرسلنا».
و قد قدمنا في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ما يدل من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الرسول هو من ينزل عليه الملك بالوحي فيراه و يكلمه و النبي هو من يرى المنام و يوحى إليه فيه، و قد استفدناه مضمون هذه الروايات من قوله تعالى: «قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا:» إسراء: 95 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.
و أما سائر ما قيل في الفرق بين الرسالة و النبوة كقول من قال: إن الرسول من بعث بشرع جديد و النبي أعم منه و ممن جاء مقررا لشرع سابق ففيه أنا قد أثبتنا في مباحث النبوة أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمسة و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد صرح القرآن على رسالة جمع كثير منهم غير هؤلاء.
على أن هذا القول لا دليل له.
و قول من قال: إن الرسول من كان له كتاب و النبي بخلافه و قول من قال: إن الرسول من له كتاب و نسخ في الجملة و النبي بخلافه، و يرد على القولين نظير ما ورد على القول الأول.
و في قوله: «فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته» التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و الوجه فيه العناية بذكر لفظ الجلالة و إسناد النسخ و الإحكام إلى من لا يقوم له شيء، و لذلك بعينه أعاد لفظ الجلالة ثانيا مع أنه من وضع الظاهر موضع المضمر و منه أيضا إعادة لفظ الشيطان ثانيا دون ضميره ليشار إلى أن الملقي هو الشيطان الذي لا يعبأ به و بكيده في قباله تعالى، و كان الظاهر أن يقال: فينسخ ما يلقيه ثم يحكم آياته.
قوله تعالى: «ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم» إلخ، مرض القلب عدم استقامة حاله في التعقل بأن لا يذعن بما من شأنه أن يذعن به من الحق و هو الشك و الارتياب، و قساوة القلب صلابته و غلظه مأخوذ من الحجر القاسي أي الصلب.
و صلابته بطلان عواطفه الرقيقة المعينة في إدراك المعاني الحقة كالخشوع و الرحمة و التواضع و المحبة فالقلب المريض سريع التصور للحق بطيء الإذعان به، و القلب القسي بطيئهما معا، و كلاهما سريع القبول للوساوس الشيطانية.
و الإلقاءات الشيطانية التي تفسد الأمور على الحق و أهله و تبطل مساعي الرسل و الأنبياء دون أن تؤثر أثرها و إن كانت مستندة إلى الشيطان نفسه لكنها كسائر الآثار لما كانت واقعة في ملكه تعالى، و لا يقع أثر من مؤثر أو فعل من فاعل إلا بإذنه، و لا يقع شيء بإذنه إلا استند إليه استنادا ما بمقدار الإذن، و لا يستند إليه إلا ما فيه خير لا يخلو من مصلحة و غاية.
لذا ذكر سبحانه في هذه الآية أن لهذه الإلقاءات الشيطانية مصلحة و هي أنها محنة يمتحن بها الناس عامة و الامتحان من النواميس الإلهية العامة الجارية في العالم الإنساني و يتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته و الشقي بشقائه، و فتنة يفتتن بها الذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم خاصة فإن تلبس الأشقياء بكمال شقائهم من التربية الإلهية المقصودة في نظام الخلقة، قال تعالى: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا:» إسراء: 20.
و هذا معنى قوله: «ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم» فاللام في «ليجعل» للتعليل يعلل بها إلقاء الشيطان في أمنية الرسول و النبي أي يفعل الشيطان كذا ليفعل الله كذا و معناه أنه مسخر لله سبحانه لغرض امتحان العباد و فتنة أهل الشك و الجحود و غرورهم.
و قد تبين أن المراد بالفتنة الابتلاء و الامتحان الذي ينتج الغرور و الضلال و بالذين في قلوبهم مرض أهل الشك من الكفار و بالقاسية قلوبهم أهل الجحود و العناد منهم.
و قوله: «و إن الظالمين لفي شقاق بعيد» الشقاق و المشاقة المباينة و المخالفة و توصيفه بالبعد توصيف له بحال موصوفه، و المعنى: و إن الظالمين - و هم أهل الجحود على ما يعطيه السياق أو هم و أهل الشك جميعا - لفي مباينة و مخالفة بعيد صاحبها من الحق و أهله.
قوله تعالى: «و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم» إلخ، المتبادر من السياق أنه عطف على قوله: «ليجعل» و تعليل لقوله: «فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته» و الضمير في «أنه» على هذا لما يتمناه الرسول و النبي المفهوم من قوله «إذا تمنى» إلخ، و لا دليل على إرجاعه إلى القرآن.
و المعنى: فينسخ الله ما يلقيه الشيطان ثم يحكم آياته ليعلم الذين أوتوا العلم بسبب ذاك النسخ و الأحكام أن ما تمناه الرسول أو النبي هو الحق من ربك لبطلان ما يلقيه الشيطان فيؤمنوا به فتخبت أي تلين و تخشع له قلوبهم.
و يمكن أن يكون قوله «و ليعلم» معطوفا على محذوف و مجموع المعطوف و المعطوف عليه تعليلا لما بينه في الآية السابقة من جعله تعالى هذا الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم.
و المعنى: إنما بينا هذه الحقيقة لغاية كذا و كذا و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك «إلخ» على حد قوله: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا:» آل عمران: 140، و هو كثير الورود في القرآن.
و قوله: «إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم» في مقام التعليل لكون علم الذين أوتوا العلم غاية مترتبة على فعله تعالى فيفيد أنه تعالى إنما فعل ما فعل ليعلموا أن الأمر حق لأنه هاد يريد أن يهديهم فيهديهم بهذا التعليم إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: «و لا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم» إلخ الآية - كما ترى - تخبر عن حرمان هؤلاء الذين كفروا من الإيمان مدى حياتهم فليس المراد بهم مطلق الكفار لقبول بعضهم الإيمان بعد الكفر فالمراد به عدة من صناديد قريش الذين لم يوفقوا للإيمان ما عاشوا كما في قوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:» البقرة: 6.
و عقم اليوم كونه بحيث لا يخلف يوما بعده و هو يوم الهلاك أو يوم القيامة، و المراد به في الآية على ما يعطيه سياق الآية الثالثة يوم القيامة.
و المعنى و يستمر الذين كفروا في شك من القرآن حتى يأتيهم يوم القيامة أو يأتيهم عذاب يوم القيامة و هو يوم يأتي بغتة لا يمهلهم حتى يحتالوا له بشيء و لا يخلف بعده يوما حتى يقضى فيه ما فات قبله.
و إنما ردد بين يوم القيامة و بين عذابه لأنهم يعترفون عند مشاهدة كل منهما بالحق و يطيح عنهم الريب و المرية قال تعالى: «قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون:» يس: 52، و قال: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا:» الأحقاف: 34.
و قد ظهر بما تقدم أن تقييد اليوم تارة بكونه بغتة و تارة بالعقم للدلالة على كونه بحيث لا ينفع معها حيلة و لا يقع بعدها تدارك لما فات قبله.
قوله تعالى: «الملك يومئذ لله يحكم بينهم» - إلى قوله - عذاب مهين» قد تقدم مرارا أن المراد بكون الملك يومئذ لله ظهور كون الملك له تعالى لأن الملك له دائما و كذا ما ورد من نظائره من أوصاف يوم القيامة في القرآن ككون الأمر يومئذ لله و كون القوة يومئذ لله و هكذا.
و لسنا نعني به أن المراد بالملك مثلا في الآية ظهور الملك مجازا بل نعني به أن الملك قسمان ملك حقيقي حق و ملك مجازي صوري و للأشياء ملك مجازي صوري ملكها الله ذلك و له تعالى مع ذلك الملك الحق بحقيقة معناه حتى إذا كان يوم القيامة ارتفع كل ملك صوري عن الشيء المتلبس به و لم يبق من الملك إلا حقيقته و هو لله وحده فمن خاصة يوم القيامة أن الملك يومئذ لله و على هذا القياس.
و قوله: «يحكم بينهم» أي و لا حاكم غيره لأن الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن يومئذ لأحد نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم.
و قوله: «فالذين آمنوا و عملوا الصالحات في جنات النعيم و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا - و هؤلاء المعاندون المستكبرون - فأولئك لهم عذاب مهين» بيان لحكمه تعالى.
بحث روائي
في المجمع، روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتال و لا أذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا» و قلده سيفا.
و فيه،: كان المشركون يؤذون المسلمين. لا يزال يجيء مشجوج و مضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يشكون ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. و هي أول آية نزلت في القتال.
أقول: و روى في الدر المنثور، عن جم غفير من أرباب الجوامع، عن ابن عباس و غيره: أنها أول آية نزلت في القتال.
و ما اشتمل عليه بعض هذه الروايات أنها نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة إن صحت الرواية فهو اجتهاد من الراوي لما مر أن الآية مطلقة و أنه لا يعقل توجيه حكم القتال إلى أشخاص من الأمة بأعيانهم و هو حكم عام.
و نظير الكلام جار في قوله تعالى: «الذين إن مكناهم في الأرض» إلخ بل و في قوله: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق» إلخ على ما تقدم في البيان.
و فيه،: في قوله تعالى: «الذين أخرجوا من ديارهم» و قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمد الذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا.
أقول: و على ذلك يحمل ما في المناقب، عنه (عليه السلام): في الآية: نحن. نزلت فينا و في روضة الكافي عنه (عليه السلام): جرت في الحسين (عليه السلام).
و كذا ما في المجمع،: في قوله تعالى: «و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر» عنه (عليه السلام): نحن هم.
و كذا ما في الكافي، و المعاني، و كمال الدين، عن الصادق و الكاظم (عليهما السلام): في قوله تعالى: «و بئر معطلة و قصر مشيد» قالا: البئر المعطلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق.
و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نصر السجزي في الإبانة و البيهقي في شعب الإيمان و الديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس الأعمى من يعمى بصره و لكن الأعمى من تعمى بصيرته.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى.
و المراد بمعاينة الملك على ما في غيره من الروايات نزول الملك عليه و ظهوره له و تكليمه بالوحي، و قد تقدم بعض هذه الروايات في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع «أ فرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد و سجدوا. ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: أعرض علي ما جئتك به فلما بلغ «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قال جبريل لم آتك بهذا. هذا من الشيطان فأنزل الله «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي». الآية.
أقول: الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس و جمع من التابعين و قد صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر.
لكن الأدلة القطعية على عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) تكذب متنها و إن فرضت صحة سندها فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة مضافا إلى أن الرواية تنسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أشنع الجهل و أقبحه فقد تلى «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» و جهل أنه ليس من كلام الله و لا نزل به جبريل، و جهل أنه كفر صريح يوجب الارتداد و دام على جهة حتى سجد و سجدوا في آخر السورة و لم يتنبه ثم دام على جهله حتى نزل عليه جبريل و أمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه و أعاد الجملتين و هو مصر على جهله حتى أنكره عليه جبريل ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع و الخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياء و المرسلين و هي قوله: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته».
و بذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعا عن الحديث بأن ذلك كان سبقا من لسان دفعه بتصرف من الشيطان سهوا منه (عليه السلام) و غلطا من غير تفطن.
فلا متن الحديث على ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق على هذه المعذرة، و لا دليل العصمة يجوز مثل هذا السهو و الغلط.
على أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان في لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلقاء آية أو آيتين في القرآن الكريم لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» الآية فيضعه في لسان النبي و ذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه و هو حديث الغرانيق سترا على سائر ما ألقاه.
أو يكون حديث الغرانيق من الكلام الله، و آية «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» إلخ، و جميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان و يستر بما ألقاه من الآية و أبطل من حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، و بذلك يرتفع الاعتماد و الوثوق بكتاب الله من كل جهة و تلغو الرسالة و الدعوة النبوية بالكلية جلت ساحة الحق من ذلك.
|