بيان
الآيات تعقب الغرض السابق و تبين ثواب الذين هاجروا ثم قتلوا جهادا في سبيل الله أو ماتوا، و فيها بعض التحريض على القتال و الوعد بالنصر كما يدل عليه قوله: «ذلك و من عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله» الآية.
و قد اختصت هذه الآيات بخصوصية لا توجد في جميع القرآن الكريم إلا فيها فهي ثمان آيات متوالية ختمت كل منها باسمين من أسماء الله الحسنى وراء لفظ الجلالة و قد اجتمعت فيها - بناء على اسمية الضمير «هو» - ستة عشر اسما و إن الله لهو خير الرازقين العليم الحليم العفو الغفور السميع البصير العلي الكبير اللطيف الخبير الغني الحميد الرءوف الرحيم، ثم ذكر في الآية التاسعة أنه تعالى يحيي و يميت و في أثنائها أنه الحق و أن له ما في السماوات و الأرض و هي في معنى أربعة أسماء أعني المحيي المميت الحق المالك أو الملك فتلك عشرون اسما من أسمائه اجتمعت في الآيات الثمان على ألطف وجه و أبدعه.
قوله تعالى: «و الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا» لما ذكر إخراج المهاجرين من ديارهم ظلما عقبه بذكر ما يثيبهم به على مهاجرتهم و محنتهم في سبيل الله و هو وعد حسن برزق حسن.
و قد قيد الهجرة بكونها في سبيل الله لأن المثوبة إنما تترتب على صالح العمل، و إنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه و كونه في سبيله لا في سبيل غيره من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية، و بمثل ذلك يتقيد قوله: «ثم قتلوا أو ماتوا» أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا و قد تغربوا في سبيل الله.
و قوله: «و إن الله لهو خير الرازقين» ختم للآية يعلل به ما ذكر فيها من الرزق الحسن و هو النعمة الأخروية إذ موطنها بعد القتل و الموت، و في الآية إطلاق الرزق على نعم الجنة كما في قوله: «أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران: 169.
قوله تعالى: «ليدخلنهم مدخلا يرضونه و إن الله لعليم حليم» المدخل بضم الميم و فتح الخاء اسم مكان من الإدخال و احتمال كونه مصدرا ميميا لا يناسب السياق تلك المناسبة.
و توصيف هذا المدخل و هو الجنة بقوله: «يرضونه» و الرضا مطلق، دليل على اشتمالها على أقصى ما يريده الإنسان كما قال: «لهم فيها ما يشاءون:» الفرقان: 16.
و قوله: «ليدخلنهم مدخلا يرضونه» بيان لقوله: «ليرزقنهم الله رزقا حسنا» و إدخاله إياهم مدخلا يرضونه و لا يكرهونه على الرغم من إخراج المشركين إياهم إخراجا يكرهونه و لا يرضونه و لذا علله بقوله: «و إن الله لعليم حليم» أي عليم بما يرضيهم فيعده لهم إعدادا حليم فلا يعاجل العقوبة لأعدائهم الظالمين لهم.
قوله تعالى: «ذلك و من عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور» ذلك خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي أخبرناك به و ذكرناه لك، و العقاب مؤاخذة الإنسان بما يكرهه بإزاء فعله ما لا يرتضيه المعاقب و إنما سمي عقابا لأنه يأتي عقيب الفعل.
و العقاب بمثل العقاب كناية عن المعاملة بالمثل و لما لم يكن هذه المعاملة بالمثل حسنا إلا فيما كان العقاب الأول من غير حق قيده بكونه بغيا فعطف قوله: «بغي عليه» بثم عليه.
و قوله: «لينصرنه الله» ظاهر السياق - و المقام مقام الإذن في الجهاد - أن المراد بالنصر هو إظهار المظلومين على الظالمين الباغين و تأييدهم عليهم في القتال لكن يمكن أن يستظهر من مثل قوله: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا:» إسراء: 33 أن المراد بالنصر هو تشريع حكم للمظلوم يتدارك به ما وقع عليه من وصمة الظلم و البغي فإن في إذنه أن يعامل الظالم الباغي عليه بمثل ما فعل بسطا ليده على من بسط عليه اليد.
و بهذا يتضح معنى تعليل النصر بقوله: «إن الله لعفو غفور» فإن الإذن و الإباحة في موارد الاضطرار و الحرج و ما شابه ذلك من مقتضيات صفتي العفو و المغفرة كما تقدم مرارا في أمثال قوله تعالى: «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم:» المائدة: 3 و قد أوضحنا ذلك في المجازاة و العفو في آخر الجزء السادس من الكتاب.
و المعنى - على هذا - و من عامل من عاقبه بغيا عليه بمثل ما عاقب نصره الله بإذنه فيه و لم يمنعه عن المعاملة بالمثل لأن الله عفو غفور يمحو ما تستوجبه هذه المعاملة و الانتقام من المساءة و التبعة كأن العقاب و إيصال المكروه إلى الناس مبغوض في نظام الحياة غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية و يستر على أثره السيىء إذا كان عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه، فيجيز له ذلك و لا يمنعه بالتحريم و الحظر.
و بذلك يظهر أيضا مناسبة ذكر وصف الحلم في آخر الآية السابقة - إن الله لعليم حليم - و يظهر أيضا أن «ثم» في قوله: «ثم بغي عليه» للتراخي بحسب الذكر لا بحسب الزمان.
و أما ما أوردوه في معنى الآية: و من جازى الجاني بمثل ما جنى به عليه ثم بغي عليه بالمعاودة إلى العقاب لينصرنه الله على من بغي عليه إن الله لعفو غفور لمن ارتكبه من العقاب إذ كان تركا للأولى لأن الأولى هو الصبر و العفو عن الجاني كما قال تعالى: «و أن تعفوا أقرب للتقوى»، و قال: «فمن عفا و أصلح فأجره على الله»، و قال: «و لمن صبر و غفر إن ذلك من عزم الأمور:» الشورى: 43.
ففيه أولا: أنه لما أخذت «ثم» للتراخي بحسب الزمان أفاد كون العقاب غير البغي و مطلق العقاب أعم من أن يكون جناية، و عمومها للجناية و غيرها يفسد معنى الكلام، و إرادة خصوص الجناية منه - كما فسر - إرادة معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.
و ثانيا: أنه فسر النصرة بالنصرة التكوينية دون التشريعية فكان إخبارا عن نصره تعالى المظلوم على الظالم إذا قابله بالمجازاة على جنايته ثم بغيه و الواقع ربما يتخلف عن ذلك.
و ثالثا: أن قتال المشركين و الجهاد في سبيل الله من مصاديق هذه الآية قطعا، و لازم ما ذكر أن يكون تركه بالعفو عنهم أولى من فعله و هو واضح الفساد.
قوله تعالى: «ذلك بأن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و أن الله سميع بصير» إيلاج كل من الليل و النهار في الآخر حلوله محل الآخر كورود ضوء الصباح على ظلمة الليل كشيء يلج في شيء ثم اتساعه و إشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل، و ورود ظلمة المساء على نور النهار كشيء يلج في شيء ثم اتساعها و شمول الليل.
و المشار إليه بذلك - بناء على ما تقدم من معنى النصر - ظهور المظلوم بعقابه على الظالم الباغي عليه، و المعنى أن ذلك النصر بسبب أن من سنة الله أن يظهر أحد المضادين و المتزاحمين على الآخر كما يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و أن الله سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم و هو مهضوم الحق بعينه و ما يسأله بلسان حاله في سمعه.
و ذكر في معنى الآية وجوه أخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن ذكرها أولى.
قوله تعالى: «ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه هو الباطل و أن الله هو العلي الكبير» الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه و إلى ما ذكر من سببه.
و الحصر أن في قوله: «بأن الله هو الحق» و قوله: «و أن ما يدعون من دونه هو الباطل» إما بمعنى أنه تعالى حق لا يشوبه باطل و أن ما يدعون من دونه و هي الأصنام باطل لا يشوبه حق فهو قادر على أن يتصرف في تكوين الأشياء و أن يحكم لها و عليها بما شاء.
و إما بمعنى أنه تعالى حق بحقيقة معنى الكلمة مستقلا بذلك لا حق غيره إلا ما حققه هو، و أن ما يدعون من دونه و هي الأصنام بل كل ما يركن إليه و يدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، و إنما كان باطلا إذ كان لا حقية له باستقلاله.
و المعنى - على أي تقدير - أن ذلك التصرف في التكوين و التشريع من الله سبحانه بسبب أنه تعالى حق يتحقق بمشيته كل حق غيره، و أن آلهتهم من دون الله و كل ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شيء.
و قوله: «و أن الله هو العلي الكبير» علوه تعالى بحيث يعلو و لا يعلى عليه و كبره بحيث لا يصغر لشيء بالهوان و المذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال و موجودا لا يمسه عدم.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير» استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفا بإنزال الماء من السماء - و المراد بها جهة العلو - و صيرورة الأرض بذلك مخضرة.
و قوله: «إن الله لطيف خبير» تعليل لجعل الأرض مخضرة بإنزال الماء من السماء فتكون نتيجة هذا التعليل و ذاك الاستشهاد كأنه قيل: إن الله ينزل كذا فيكون كذا لأنه لطيف خبير و هو يشهد بعموم قدرته.
قوله تعالى: «له ما في السماوات و ما في الأرض و إن الله لهو الغني الحميد» ظاهره أنه خبر بعد خبر لأن فهو تتمة التعليل في الآية السابقة كأنه قيل: إن الله لطيف خبير مالك لما في السماوات و ما في الأرض يتصرف في ملكه كما يشاء بلطف و خبرة، و يمكن أن يكون استئنافا يفيد تعليلا باستقلاله.
و قوله: «و إن الله لهو الغني الحميد» يفيد عدم حاجته إلى شيء من تصرفاته بما هو غني على الإطلاق و هي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الإطلاق فمفاد الاسمين معا أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى الخلق أنفسهم.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض» إلخ، استشهاد آخر على عموم القدرة، و المقابلة بين تسخير ما في الأرض و تسخير الفلك في البحر يؤيد أن المراد بالأرض البر مقابل البحر، و على هذا فتعقيب الجملتين بقوله: «و يمسك السماء» إلخ، يعطي أن محصل المراد أن الله سخر لكم ما في السماء و الأرض برها و بحرها.
و المراد بالسماء جهة العلو و ما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه مما يسقط من الأحجار السماوية و الصواعق و نحوها.
و قد ختم الآية بصفتي الرأفة و الرحمة تتميما للنعمة و امتنانا على الناس.
قوله تعالى: «و هو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور» سياق الماضي في «أحياكم» يدل على أن المراد به الحياة الدنيا و أهمية المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله: «ثم يحييكم» الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية.
و هذه الحياة ثم الموت ثم الحياة من النعم الإلهية العظمى ختم بها الامتنان و لذا عقبها بقوله: «إن الإنسان لكفور».
بحث روائي
في جامع الجوامع،: في قوله: «و الذين هاجروا إلى قوله لعليم حليم» روي أنهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا أن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و من عاقب بمثل ما عوقب به» الآية روي أن الآية نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن مقاتل و أثر الضعف ظاهر عليه فإن المشركين كانوا يحرمون الأشهر الحرم، و قد تقدم في قوله تعالى: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير» الآية: البقرة - 217، في الجزء الثاني من الكتاب من الروايات في قصة عبد الله بن جحش و أصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية.
|