بيان
تشير الآيات بعد الفراغ عن قصتي موسى و إبراهيم (عليهما السلام) و هما من أولي العزم إلى قصة نوح (عليه السلام) و هو أول أولي العزم سادة الأنبياء، و إجمال ما جرى بينه و بين قومه فلم يؤمن به أكثرهم فأغرقهم الله و أنجى نوحا و من معه من المؤمنين.
قوله تعالى: «كذبت قوم نوح المرسلين» قال في المفردات:، القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، و لذلك قال: «لا يسخر قوم من قوم» الآية، قال الشاعر: أ قوم آل حصن أم نساء،.
و في عامة القرآن أريدوا به و النساء جميعا.
انتهى.
و لفظ القوم قيل: مذكر و تأنيث الفعل المسند إليه بتأويل الجماعة و قيل: مؤنث و قال في المصباح: يذكر و يؤنث.
و عد القوم مكذبين للمرسلين مع أنهم لم يكذبوا إلا واحدا منهم و هو نوح (عليه السلام) إنما هو من جهة أن دعوتهم واحدة و كلمتهم متفقة على التوحيد فيكون المكذب للواحد منهم مكذبا للجميع و لذا عد الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض كفرا بالجميع قال تعالى: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا»: النساء: 151.
و قيل: هو من قبيل قولهم فلان يركب الدواب و يلبس البرود و ليس له إلا دابة واحدة و بردة واحدة فيكون الجمع كناية عن الجنس، و الأول أوجه و نظير الوجهين جار في قوله الآتي: «كذبت عاد المرسلين» «كذبت ثمود المرسلين» و غيرهما.
قوله تعالى: «إذ قال لهم أخوهم نوح أ لا تتقون» المراد بالأخ النسيب كقولهم: أخو تميم و أخو كليب و الاستفهام للتوبيخ.
قوله تعالى: «إني لكم رسول أمين» أي رسول من الله سبحانه أمين على ما حملته من الرسالة لا أبلغكم إلا ما أمرني ربي و أراده منكم، و لذا فرع عليه قوله: «فاتقوا الله و أطيعون» فأمرهم بطاعته لأن طاعته طاعة الله.
قوله تعالى: «و ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» مسوق لنفي الطمع الدنيوي بنفي سؤال الأجر فيثبت بذلك أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه لا يخونهم و لا يغشهم فعليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم، و لذا فرع عليه ثانيا قوله: «فاتقوا الله و أطيعون».
و العدول في قوله: «إن أجري إلا على رب العالمين» عن اسم الجلالة إلى «رب العالمين» للدلالة على صريح التوحيد فإنهم كانوا يرون أنه تعالى إله عالم الآلهة و كانوا يرون لكل عالم إلها آخر يعبدونه من دون الله فإثباته تعالى ربا للعالمين جميعا تصريح بتوحيد العبادة و نفي الآلهة من دون الله مطلقا.
قوله تعالى: «فاتقوا الله و أطيعون» قد تقدم وجه تكرار الآية فهو يفيد أن كلا من الأمانة و عدم سؤال الأجر سبب مستقل في إيجاب طاعته عليهم.
قوله تعالى: «قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون» الأرذلون جمع أرذل على الصحة و هو اسم تفضيل من الرذالة و الرذالة الخسة و الدناءة، و مرادهم بكون متبعيه أراذل أنهم ذوو أعمال رذيلة و مشاغل خسيسة و لذا أجاب ع عنه بمثل قوله: «و ما علمي بما كانوا يعملون».
و الظاهر أنهم كانوا يرون الشرف و الكرامة في الأموال و الجموع من البنين و الأتباع كما يستفاد من دعاء نوح (عليه السلام) إذ يقول: «رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا»:، نوح: 21.
فمرادهم بالأرذلين من يعدهم الأشراف و المترفون سفلة يتجنبون معاشرتهم من العبيد و الفقراء و أرباب الحرف الدنية.
قوله تعالى: «قال و ما علمي بما كانوا يعملون» الضمير لنوح (عليه السلام)، و «ما» استفهامية و قيل: نافية و عليه فالخبر محذوف لدلالة السياق عليه، و المراد على أي حال نفي علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به لمكان قوله: «كانوا يعملون».
قوله تعالى: «إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون» المراد بقوله: «ربي» رب العالمين فإنه الذي كان يختص نوح بالدعوة إليه من بينهم، و قوله: «لو تشعرون» مقطوع عن العمل أي لو كان لكم شعور، و قيل: المعنى لو تشعرون بشيء لعلمتم ذلك و هو كما ترى.
و المعنى: بالنظر إلى الحصر الذي في صدر الآية أنه لا علم لي بسابق أعمالهم و ليس علي حسابهم حتى أتجسس و أبحث عن أعمالهم و إنما حسابهم على ربي «لو تشعرون» فيجازيهم حسب أعمالهم.
قوله تعالى: «و ما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين» الآية الثانية بمنزلة التعليل للأولى و المجموع متمم للبيان السابق و المعنى: لا شأن لي إلا الإنذار و الدعوة فلست أطرد من أقبل علي و آمن بي و لست أتفحص عن سابق أعمالهم لأحاسبهم عليها فحسابهم على ربي و هو رب العالمين لا علي.
قوله تعالى: «قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين» المراد بالانتهاء ترك الدعوة، و الرجم هو الرمي بالحجارة، و قيل: المراد به الشتم و هو بعيد، و هذا مما قالوه في آخر العهد من دعوتهم يهددونه (عليه السلام) بقول جازم كما يشهد به ما في الكلام من وجوه التأكيد.
قوله تعالى: «قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني و بينهم فتحا» إلخ، هذا استفتاح منه (عليه السلام) و قد قدم له قوله: «رب إن قومي كذبون» على سبيل التوطئة أي تحقق منهم التكذيب المطلق الذي لا مطمع في تصديقهم بعده كما يستفاد من دعائه عليهم إذ يقول: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا»: نوح: 27.
و قوله: «فافتح بيني و بينهم فتحا» كناية عن القضاء بينه و بين قومه كما قال تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون»: يونس: 47.
و أصله من الاستعارة بالكناية كأنه و أتباعه و الكفار من قومه اختلطوا و اجتمعوا من غير تميز فسأل ربه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه و بين قومه يبتعد بذلك أحد القبيلين من الآخر و ذلك كناية عن نزول العذاب و ليس يهلك إلا القوم الفاسقين و الدليل عليه قوله بعد: «و نجني و من معي من المؤمنين».
و قيل: الفتح بمعنى الحكم و القضاء من الفتاحة بمعنى الحكومة.
قوله تعالى: «فأنجيناه و من معه في الفلك المشحون» أي المملوء منهم و من كل زوجين اثنين كما ذكره في سورة هود.
قوله تعالى: «ثم أغرقنا بعد الباقين» أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه.
قوله تعالى: «إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم» تقدم الكلام في معنى الآيتين.
بحث روائي
في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: فمكث نوح ألف سنة إلا خمسين عاما لم يشاركه في نبوته أحد و لكنه قدم على قوم مكذبين للأنبياء الذين كانوا بينه و بين آدم و ذلك قوله عز و جل: كذبت قوم نوح المرسلين» يعني من كان بينه و بين آدم إلى أن انتهى إلى قوله: «و إن ربك لهو العزيز الرحيم» و قال فيه، أيضا: فكان بينه و بين آدم عشرة آباء كلهم أنبياء، و في تفسير القمي: في قوله تعالى: «و اتبعك الأرذلون» قال: الفقراء.
و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «الفلك المشحون» المجهز الذي قد فرغ منه و لم يبق إلا دفعه.
|