بيان
تشير الآيات إلى إجمال قصة صالح (عليه السلام) و قومه و هو من أنبياء العرب و يذكر في القرآن بعد هود (عليه السلام).
قوله تعالى: «كذبت ثمود المرسلين - إلى قوله - على رب العالمين» قد اتضح معناها مما تقدم.
قوله تعالى: «أ تتركون فيما هاهنا آمنين» الظاهر أن الاستفهام للإنكار و «ما» موصولة و المراد بها النعم التي يفصلها بعد قوله: «في جنات و عيون» إلخ، و «هاهنا» إشارة إلى المكان الحاضر القريب و هو أرض ثمود و «آمنين» حال من نائب فاعل «تتركون».
و المعنى: لا تتركون في هذه النعم التي أحاطت بكم في أرضكم هذه و أنتم مطلقو العنان لا تسألون عما تفعلون آمنون من أي مؤاخذة إلهية.
قوله تعالى: «في جنات و عيون و زروع و نخل طلعها هضيم» بيان تفصيلي لقوله: «فيما هاهنا»، و قد خص النخل بالذكر مع دخوله في الجنات لاهتمامهم به، و الطلع في النخل كالنور في سائر الأشجار و الهضيم - على ما قيل - المتداخل المنضم بعضه إلى بعض.
قوله تعالى: «و تنحتون من الجبال بيوتا فارهين» قال الراغب: الفره - بالفتح فالكسر صفة مشبهة - الأشر، و قوله تعالى: «و تنحتون من الجبال بيوتا فارهين» أي حاذقين و قيل: معناه أشرين.
انتهى ملخصا، و على ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، و على المعنى الآخر تكون مسوقة لإنكار أشرهم و بطرهم.
و الآية على أي حال في حيز الاستفهام.
قوله تعالى: «فاتقوا الله و أطيعون» تفريع على ما تقدم من الإنكار الذي في معنى المنفي.
قوله تعالى: «و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون» الظاهر أن المراد بالأمر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته و إن جوز بعضهم كون الأمر بمعنى الشأن و عليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامة و اتباعهم لهم في أعمالهم و سلوكهم السبل التي يستحبون لهم سلوكها.
و المراد بالمسرفين على أي حال أشراف القوم و عظماؤهم المتبوعون و الخطاب للعامة التابعين لهم و أما السادة الأشراف فقد كانوا مأيوسا من إيمانهم و اتباعهم للحق.
و يمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أن الأشراف منهم أيضا كانوا يقلدون آباءهم و يطيعون أمرهم كما قالوا لصالح (عليه السلام): «أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا»: هود: 62، فقد كانوا جميعا يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.
و قد فسر المسرفين و هم المتعدون عن الحق الخارجون عن حد الاعتدال بتوصيفهم بقوله: «الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون» إشارة إلى علة الحكم الحقيقية فالمعنى اتقوا الله و لا تطيعوا أمر المسرفين لأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين و الإفساد لا يؤمن معه العذاب الإلهي و هو عزيز ذو انتقام.
و ذلك أن الكون على ما بين أجزائه من التضاد و التزاحم مؤلف تأليفا خاصا يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج و الآثار كالأمر في كفتي الميزان فإنهما على اضطرابها و اختلافها الشديد بالارتفاع و الانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون و هو الغاية و العالم الإنساني الذي هو جزء من الكون كذلك ثم الفرد من الإنسان بما له من القوى و الأدوات المختلفة المتضادة مفطور على تعديل أفعاله و أعماله بحيث تنال كل قوة من قواه حظها المقدر لها و قد جهز بعقل يميز بين الخير و الشر و يعطي كل ذي حق حقه.
فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة و هو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصا يسير فيها بأعمال خاصة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإن في الميل و الانحراف إفسادا للنظام المرسوم، و يتبعه إفساد غايته و غاية الكل، و من الضروري أن خروج بعض الأجزاء عن خطه المخطوط له و إفساد النظم المفروض له و لغيره يستعقب منازعة بقية الأجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه و ترده إلى وسط الاعتدال فهو و إلا أفنته و عفت آثاره حفظا لصلاح الكون و استبقاء لقوامه.
و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له و إن تعدى حدود فطرته و أفسد في الأرض أخذه الله سبحانه بالسنين و المثلات و أنواع النكال و النقمة لعله يرجع إلى الصلاح و السداد قال تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون»: الروم: 41.
و إن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال و طهر الأرض من قذارة فسادهم قال تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»: الأعراف: 96.
و قال: «و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون»: هود: 117، و قال: «أن الأرض يرثها عبادي الصالحون»: الأنبياء: 105، و ذلك أنهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم و إذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العام و صلحت بها الأرض لحياتهم الأرضية.
فقد تبين بما مر أولا أن حقيقة دعوة النبوة هي إصلاح الحياة الإنسانية الأرضية قال تعالى: حكاية عن شعيب: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت»: هود: 88.
و ثانيا: أن قوله: «و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون» إلخ، على سذاجة بيانه معتمد على حجة برهانية.
و لعل في قوله: «و لا يصلحون» بعد قوله: «الذين يفسدون في الأرض» إشارة إلى أنه كان المتوقع منهم بما أنهم بشر ذوو فطرة إنسانية أن يصلحوا في الأرض لكنهم انحرفوا عن الفطرة و بدلوا الإصلاح إفسادا.
قوله تعالى: «قالوا إنما أنت من المسحرين» أي ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب على عقله، و قيل: إن السحر أعلى البطن و المسحر من له جوف فيكون كناية عن أنك بشر مثلنا تأكل و تشرب فيكون قوله بعده: «و ما أنت إلا بشر مثلنا» تأكيدا له، و قيل: المسحر من له سحر أي رئة كأن مرادهم أنك متنفس بشر مثلنا.
قوله تعالى: «و ما أنت إلا بشر مثلنا - إلى قوله - عذاب يوم عظيم» الشرب بكسر الشين النصيب من الماء، و الباقي ظاهر و قد تقدمت تفصيل القصة في سورة هود.
قوله تعالى: «فعقروها فأصبحوا نادمين» نسبة العقر إلى الجمع - و لم يعقرها إلا واحد منهم - لرضاهم بفعله، و في نهج البلاغة،: أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا و السخط و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: «فعقروها فأصبحوا نادمين».
و قوله: «فأصبحوا نادمين» لعل ندمهم إنما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب و إن قالوا له بعد العقر تعجيزا و استهزاء: «يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين»: الأعراف: 77.
قوله تعالى: «فأخذهم العذاب - إلى قوله - العزيز الرحيم» اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإن صالحا وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيام كما في سورة هود، و الباقي ظاهر.
|