بيان
أول القصص الخمس التي أشير إليها في السورة استشهادا لما في صدرها من التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد و تغلب في الثلاث الأول منها و هي قصص موسى و داود
و سليمان جهة الوعد على الوعيد و في الأخيرتين بالعكس.
قوله تعالى: «إذ قال موسى لأهله» إلخ المراد بأهله امرأته و هي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القصص قال في المجمع،: إن خطابها بقوله: «آتيكم» بصيغة الجمع لإقامتها مقام الجماعة في الأنس بها في الأمكنة الموحشة.
انتهى و من المحتمل أنه كان معها غيرها من خادم أو مكار أو غيرهما.
و في المجمع،: الإيناس الإبصار، و قيل: آنست أي أحسست بالشيء من جهة يؤنس بها و ما آنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.
انتهى و الشهاب على ما في المجمع:، نور كالعمود من النار و كل نور يمتد كالعمود يسمى شهابا و المراد الشعلة من النار، و في المفردات:، الشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة و من العارض في الجو و في المفردات، أيضا: القبس المتناول من الشعلة، و الاصطلاء بالنار الاستدفاء بها.
و سياق الآية يشهد و يؤيده ما وقع من القصة في سور أخرى أنه كان حينذاك يسير بأهله و قد ضل الطريق و أصابه و أهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإن وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبسا يأتي به إلى أهله فيوقدوا نارا يصطلون بها.
فقال لأهله امكثوا إني أحسست و أبصرت نارا فالزموا مكانكم سآتيكم منها أي من عندها بخبر نهتدي به أو آتيكم بشعلة متناولة من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون و تستدفئون بها.
و يظهر من السياق أيضا أن النار إنما ظهرت له (عليه السلام) و لم يشاهدها غيره و إلا عبر عنها بالإشارة دون التنكير.
و لعل اختلاف الإتيان بالخبر و الإتيان بالنار نوعا هو الموجب لتكرار لفظ الإتيان حيث قال: «سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس».
قوله تعالى: «فلما جاءها نودي أن بورك من في النار و من حولها و سبحان الله رب العالمين» أي فلما أتى النار و حضر عندها نودي أن بورك «إلخ».
و المراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير يقال: باركه و بارك عليه و بارك فيه أي ألبسه الخير الكثير و حباه به، و قد وقع في سورة طه في هذا الموضع من القصة قوله: «فلما أتاه نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى و أنا
اخترتك فاستمع لما يوحى»: طه: 13.
و يستأنس منه أن المراد بمن حول النار موسى أو هو ممن حول النار، و مباركته اختياره بعد تقديسه.
و أما المراد بمن في النار فقد قيل: إن معناه من ظهر سلطانه و قدرته في النار فإن التكليم كان من الشجرة - على ما في سورة القصص - و قد أحاطت بها النار، و على هذا فالمعنى: تبارك من تجلى لك بكلامه من النار و بارك فيك، و يكون قوله: «و سبحان الله رب العالمين» تنزيها له سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا يحيط به المكان أو يجاوره الحدثان لا لتعجيب موسى كما قيل.
و قيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى (عليه السلام).
و قيل: المراد به موسى (عليه السلام) و بمن حولها الملائكة.
و قيل: في الكلام تقدير و الأصل بورك من في المكان الذي فيه النار - و هو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص - و من فيها هو موسى و حولها هي الأرض المقدسة التي هي الشامات، و من حولها هم الأنبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم و بني إسرائيل.
و قيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى و بمن حولها موسى.
و قيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون.
و أكثر هذه الوجوه لا يخلو من تحكم ظاهر.
قوله تعالى: «يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم» تعرف منه تعالى لموسى (عليه السلام) ليعلم أن الذي يشافهه بالكلام ربه تعالى فهذه الآية في هذه السورة تحاذي قوله من سورة طه «نودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخلع» إلخ، فارجع إلى سورة طه و تدبر في الآيات.
قوله تعالى: «و ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب» إلخ، الاهتزاز التحرك الشديد، و الجان الحية الصغيرة السريعة الحركة، و الإدبار خلاف الإقبال، و التعقيب الكر بعد الفر من عقب المقاتل إذا كر بعد فراره.
و في الآية حذف و إيجاز تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله: «فلما رآها تهتز» و التقدير و ألق عصاك فلما ألقاها إذا هي ثعبان مبين يهتز كأنه جان و لما رآها تهتز إلخ.
و لا منافاة بين صيرورة العصا ثعبانا مبينا كما وقع في قصته (عليه السلام) من سورتي الأعراف و الشعراء و الثعبان الحية العظيمة الجثة و بين تشبيهها في هذه السورة بالجان فإن التشبيه إنما وقع في الاهتزاز و سرعة الحركة و الاضطراب حيث شاهد العصا و قد تبدلت ثعبانا عظيم الجثة هائل المنظر يهتز و يتحرك بسرعة اهتزاز الجان و تحركه بسرعة و ليس تشبيها لنفس العصا أو الثعبان بنفس الجان.
و قيل: إن آية العصا كانت مختلفة الظهور فقد ظهرت العصا لأول مرة في صورة الجان كما وقع في سورة طه: «فألقاها فإذا هي حية تسعى: آية: 20 من السورة ثم ظهرت لما ألقاها عند فرعون في صورة ثعبان مبين كما في سورتي الأعراف و الشعراء.
و فيه أن هذا الوجه و إن كان لا يخلو بالنظر إلى سياق الآيات عن وجاهة لكنه لا يندفع به إشكال تشبيه الشيء بنفسه أو عدم تبدلها حية فالمعول في دفع الإشكال على ما تقدم.
قوله تعالى: «يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون» حكاية نفس الخطاب الصادر هناك و هو في معنى قال الله يا موسى لا تخف «إلخ».
و قوله: «لا تخف» نهي مطلق يؤمنه عن كل ما يسوء مما يخاف منه ما دام في حضرة القرب و المشافهة سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها و لذا علل النهي بقوله: «إني لا يخاف لدي المرسلون» فإن تقييد النفي بقوله: «لدي» يفيد أن مقام القرب و الحضور يلازم الأمن و لا يجامع مكروها يخاف منه، و يؤيده تبديل هذه الجملة في القصة من سورة القصص من قوله: «إنك من الآمنين» فيتحصل المعنى: لا تخف من شيء إنك مرسل و المرسلون - و هم لدي في مقام القرب - في مقام الأمن و لا خوف مع الأمن.
و أما فرار موسى (عليه السلام) من العصا و قد تصورت بتلك الصورة الهائلة و هي تهتز كأنها جان فقد كان جريا منه على ما جبل الله الطبيعة الإنسانية عليه إذا فاجأه من المخاطر ما لا سبيل له إلى دفعه عن نفسه إلا الفرار و قد كان أعزل لا سلاح معه إلا
عصاه و هي التي يخافها على نفسه و لم يرد عليه من جانبه تعالى أمر سابق أن يلزم مكانه أو نهي عن الفرار مما يخافه على نفسه إلا قوله تعالى: «و ألق عصاك» و قد امتثله، و ليس الفرار من المخاطر العظيمة التي لا دافع لها إلا الفرار، من الجبن المذموم حتى يذم عليه.
و أما إن الأنبياء و المرسلين لا يخافون شيئا و هم عند ربهم - على ما يدل عليه قوله: «إني لا يخاف لدي المرسلون» - فهم لا يملكون هذه الكرامة من عند أنفسهم بل إنما ذلك بتعليم من الله و تأديب و إذ كان موقف ليلة الطور أول موقف من موسى قربه الله إليه فيه و خصه بالتكليم و حباه بالرسالة و الكرامة فقوله: «لا تخف إنك من الآمنين» و قوله: «لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون» تعليم و تأديب إلهي له (عليه السلام).
فتبين بذلك أن قوله: «لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون» تأديب و تربية إلهية لموسى (عليه السلام) و ليس من التوبيخ و التأنيب في شيء.
قوله تعالى: «إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم» الذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - أن الآية السابقة لما أخبرت عن أن المرسلين آمنون لا يخافون فهم منه أن غيرهم من أهل الظلم غير آمنين لهم أن يخافوا استدرك في هذه الآية حال أهل التوبة من جملة أهل الظلم فبين أنهم لتوبتهم و تبديلهم ظلمهم - و هو السوء - حسنا بعد سوء مغفور لهم مرحومون فلا يخافون أيضا.
فالاستثناء من المرسلين و هو استثناء منقطع و المراد بالظلم مطلق المعصية و بالحسن بعد السوء التوبة بعد المعصية أو العمل الصالح بعد السيىء، و المعنى: لكن من ظلم باقتراف المعصية ثم بدل ذلك حسنا بعد سوء و توبة بعد معصية أو عملا صالحا بعد سيىء فإني غفور رحيم أغفر ظلمه و أرحمه فلا يخافن بعد ذلك شيئا.
قوله تعالى: «و أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء» إلخ، فسر السوء بالبرص و قد تقدم، و قوله: «في تسع آيات إلى فرعون و قومه» يمكن أن يستظهر من السياق أولا أن «في تسع» حال من الآيتين جميعا، و المعنى: آتيتك هاتين الآيتين - العصا و اليد - حال كونهما في تسع آيات.
و ثانيا: أن الآيتين من جملة الآيات التسع، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى:
«و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات: إسراء: 101، كلام في تفصيل الآيات التسع، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين» المبصرة بمعنى الواضحة الجلية، و في قولهم: «هذا سحر مبين» إزراء و إهانة بالآيات حيث أهملوا الدلالة على خصوصيات الآيات حتى العدد فلم يعبئوا بها إلا بمقدار أنها أمر ما.
قوله تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا» إلخ، قال الراغب: الجحد نفي ما في القلب إثباته و إثبات ما في القلب نفيه.
انتهى.
و الاستيقان و الإيقان بمعنى.
|