بيان
انتقال من القصص التي قصها سبحانه و هي نماذج من سنته الجارية في النوع الإنساني من حيث هدايته و إراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة و إكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء و عظيم الآلاء و أخذه من أشرك به و أعرض عن ذكره و مكر به بعذاب الاستئصال و أليم النكال.
إلى حمده و السلام على عباده المصطفين و تقرير أنه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد و إثبات المعاد و ما يناسب ذلك من
متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر.
قوله تعالى: «قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى ء آلله خير أما يشركون» لما قص من قصص الأنبياء و أممهم ما قص و فيها بيان سنته الجارية في الأمم الماضين و ما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء و مزيد الإحسان كما في الأنبياء منهم و ما فعل بالكافرين من العذاب و التدمير - و لم يفعل إلا الخير الجميل و لا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده و يثني عليه و أن يسلم على المصطفين من عباده و قرر أنه تعالى هو المتعين للعبادة.
فهو انتقال من القصص إلى التحميد و التسليم و التوحيد و ليس باستنتاج و إن كان في حكمه و إلا قيل: فقل الحمد لله «إلخ» أو فالله خير «إلخ».
فقوله: «قل الحمد لله» أمر بتحميده و فيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة أن مرجع كل خلق و تدبير إليه و هو المفيض كل خير بحكمته و الفاعل لكل جميل بقدرته.
و قوله: «و سلام على عباده الذين اصطفى» معطوف على ما قبله من مقول القول و في التسليم لأولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع و التضاد لما عندهم من الهداية الإلهية و آثارها الجميلة - على ما يقتضيه معنى السلام - ففي الأمر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى و آثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده»: الأنعام: 90، فافهمه.
و قوله: «ء آلله خير أما يشركون» من تمام الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الاستفهام للتقرير و محصل المراد أنه إذا كان الثناء كله لله و هو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم و لا خلق و لا تدبير لهم يحمدون عليه و لا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم.
قوله تعالى: «أمن خلق السماوات و الأرض و أنزل لكم من السماء ماء» إلى آخر الآية، الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحدود المحوط بالحيطان و ذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان:، ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه و لم يقل: ذوات بهجة لأنه أراد تأنيث الجماعة و لو أراد تأنيث الأعيان لقال:
ذوات.
انتهى.
و أم في الآية منقطعة تفيد معنى الإضراب، و «من» مبتدأ خبره محذوف و كذا الشق الآخر من الترديد و الاستفهام للتقرير و حملهم على الإقرار بالحق و التقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات و الأرض «إلخ» خير أم ما يشركون.
و الأمر على هذا القياس في الآيات الأربع التالية.
و معنى الآية: بل أمن خلق السماوات و الأرض و أنزل لكم أي لنفعكم من السماء و هي جهة العلو ماء و هو المطر فأنبتنا به أي بذلك الماء بساتين ذات بهجة و نضارة ما كان لكم أي لا تملكون و ليس في قدرتكم أن تنبتوا شجرها أ إله آخر مع الله سبحانه - و هو إنكار و توبيخ.
و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين و النكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى و هو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة و قامت البينة كما في قوله: «ء آلله خير أما يشركون» هاج به الوجد و الأسف فتوجه إليهم بعد الإعراض فأخذ في حملهم على الإقرار بالحق بذكر آية بعد آية و إنكار شركهم و توبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره و عدم علم أكثرهم و قلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم و عدم برهان منهم على ما يدعون.
و قوله: «بل هم قوم يعدلون» أي عن الحق إلى الباطل و عن الله سبحانه إلى غيره و قيل: أي يعدلون بالله غيره و يساوون بينهما.
و في الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين و رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإضراب فيه لبيان أن لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه.
قوله تعالى: «أمن جعل الأرض قرارا» إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر، و الخلال جمع خلل بفتحتين و هو الفرجة بين الشيئين، و الرواسي جمع راسية و هي الثابتة و المراد بها الجبال الثابتات، و الحاجز هو المانع
المتخلل بين الشيئين.
و المعنى: بل أمن جعل الأرض مستقرة لا تميد بكم، و جعل في فرجها التي في جوفها أنهارا و جعل لها جبالا ثابتة و جعل بين البحرين مانعا من اختلاطهما و امتزاجهما هو خير أم ما يشركون؟ و الكلام في قوله: «أ ءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون» كالكلام في نظيره من الآية السابقة.
قوله تعالى: «أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض أ ءله مع الله قليلا ما تذكرون» المراد بإجابة المضطر إذا دعاه استجابة دعاء الداعين و قضاء حوائجهم و إنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء و المسألة إذ ما لم يقع الإنسان في مضيقة الاضطرار و كان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب و هو ظاهر.
ثم قيده بقوله: «إذا دعاه» للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه و إنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الأسباب الظاهرية و يتعلق قلبه بربه وحده و أما من تعلق قلبه بالأسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه و منها فليس يدعو ربه و إنما يدعو غيره.
فإذا صدق في الدعاء و كان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه و يكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: «ادعوني أستجب لكم»: المؤمن: 60، فلم يشترط للاستجابة إلا أن يكون هناك دعاء حقيقة و أن يكون ذلك الدعاء متعلقا به وحده، و قال أيضا: «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان»: البقرة: 186، و قد فصلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية.
و بما مر من البيان يظهر فساد قول بعضهم إن اللام في «المضطر» للجنس دون الاستغراق فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطر في الجملة لا بالجملة.
وجه الفساد أن مثل قوله: «ادعوني أستجب لكم» و قوله: «فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» يأبى تخلف الدعاء عن الاستجابة، و قوله: كم من مضطر يدعو
فلا يجاب، غير مسلم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدم بيانه.
على أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يتوجه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربه فيدعوه بالإخلاص فيستجاب له كقوله تعالى: «و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما الآية،: يونس: 12، و قوله: «حتى إذا كنتم في الفلك إلى قوله و ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين»: يونس: 22، و كيف يتصور تعلق النفس بتوجهها الغريزي الفطري بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجودية إلى من يوجدها و يدبر أمرها أن هناك أمرا يرفع حاجتها و هو الله سبحانه.
فإن قلت: نحن كثيرا ما نتوسل في حوائجنا من الأسباب الظاهرية بما لا نقطع بفعلية تأثيره في رفع حاجتنا و إنما نتعلق به رجاء أن ينفعنا إن نفع.
قلت: هذا توسل فكري مبدؤه الطمع و الرجاء و هو غير التوسل الغريزي الفطري نعم في ضمنه نوع من التوجه الغريزي الفطري و هو التسبب بمطلق السبب و مطلق السبب لا يتخلف، فافهم.
و ظهر أيضا فساد قول من قال: المراد بالمضطر إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإن الله يغفر له و هو إجابته.
و فيه أن إشكال الاستغراق بحاله فما كل استغفار يستتبع المغفرة و لا كل مستغفر يغفر له.
على أنه لا دليل على تقييد إطلاق المضطر بالمذنب العاصي.
و ذكر بعضهم: أن الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الإجابة بالمشية كما وقع ذلك في قوله تعالى: «فيكشف ما تدعون إليه إن شاء»: الأنعام: 41.
و فيه أن الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الإجابة في آية المضطر و هو قوله تعالى: «قل أ رأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أ غير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء» فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلق بكشفها طلب حقيقي، و أما العذاب الإلهي فإن طلب كشفه بتوبة و إيمان حقيقي فإن الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس و إن لم يكن كذلك بل احتيالا للنجاة منه فلا لعدم كونه طلبا حقيقيا بل مكرا في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما
أدركه الغرق «قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل و أنا من المسلمين ء الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين: يونس»: 91، و حكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب: «قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين»: الأنبياء: 15.
و بالجملة فمورد قوله: «فيكشف ما تدعون إليه إن شاء» لما كان مما يمكن أن يكون الطلب فيه حقيقيا أو غير حقيقي كان من اللازم تقييد الكشف و الإجابة فيه بالمشية فيكشف الله عنهم إن شاء و ذلك في مورد حقيقة الطلب و الإيمان و لا يكشف إن لم يشأ و هذا غير مورد آية المضطر و سائر آيات إجابة الدعوة الذي يتضمن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده.
و قوله: «و يجعلكم خلفاء الأرض» الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض و ما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»: البقرة: 30.
و ذلك أن تصرفاته التي يتصرف بها في الأرض و ما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار و يسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها و تغلق عليه باب الحياة و البقاء و ما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته.
و يتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء و المسألة في قوله: «إذا دعاه» على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: «و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»: إبراهيم: 34، و قوله: «يسأله من في السماوات و الأرض»: الرحمن: 29، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان و رزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه و كشف السوء الذي اضطره عنه.
و قيل: المعنى و يجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض تسكنون مساكنهم و تتصرفون فيها بعدهم هذا.
و ما قدمناه من المعنى أنسب منه للسياق.
و قيل: المعنى: و يجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم و طاعة الله تعالى بعد شركهم و عنادهم.
و فيه أن الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس التي قبلها للكفار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه.
و قوله: «قليلا ما تذكرون» خطاب توبيخي للكفار و قرىء «يذكرون» بالياء للغيبة و هو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله: «بل هم قوم يعدلون» «بل أكثرهم لا يعلمون» و غيرهما، فإن الخطاب فيها جميعا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق الالتفات كما مر بيانه.
قوله تعالى: «أمن يهديكم في ظلمات البر و البحر و من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته» إلخ، و المراد بظلمات البر و البحر ظلمات الليالي في البر و البحر ففيه مجاز عقلي، و المراد بإرسال الرياح بشرا إرسالها مبشرات بالمطر قبيل نزوله و الرحمة المطر، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «أمن يبدأ الخلق ثم يعيده و من يرزقكم من السماء و الأرض» إلخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لأول مرة و إعادته إرجاعه إليه بالبعث و تبكيت المشركين بالبدء و الإعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله: «و قال الذين كفروا» إلخ، بناء على ثبوت المعاد بالأدلة القاطعة في كلامه فأخذ كالمسلم ثم استدرك إنكارهم له أو شكهم فيه في الآيات التالية.
و قيل: المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم إهلاكه و إيجاد نظيره بعده و بالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد أن المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتج به عليهم.
هذا و هو بعيد من ظاهر الآية.
و ما تتضمنه الآية من لطائف الحقائق القرآنية يفيد أن لا بطلان في الوجود مطلقا بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالإعادة و ما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منا له بعد وجدانه.
و أما ما أجمع عليه المتكلمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالأعراض و اختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرره الآية، فإن البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتى يمتنع بامتناع إعادته
لو امتنعت بل البعث عود الخلق و رجوعه و هو خلق من غير بطلان إلى ربه المبدىء له.
و قوله: «و من يرزقكم من السماء و الأرض» إشارة إلى ما وقع من تدبيره لأمرهم بين البدء و العود و هو رزقهم بأسباب سماوية كالأمطار و أسبابها و الأرضية كعامة ما يتغذى به الإنسان من الأرضيات.
و قوله: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» لما ذكر سبحانه فصولا مشتملة على عامة الخلق و التدبير مع الإشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض و ارتباط الجميع إلى الخلق و عاد الخلق و التدبير بذلك أمرا واحدا منتسبا إليه قائما به تعالى و أثبت بذلك أنه تعالى هو رب كل شيء وحده لا شريك له و كان لازم ذلك إبطال ألوهية الآلهة التي يدعونها من دون الله.
- و ذلك أن الألوهية و هي استحقاق العبادة تتبع الربوبية التي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إما لتكون شكرا للنعمة أو اتقاء للنقمة و على أي حال ترتبط بالتدبير الذي هو من شئون الربوبية -.
- و كان إبطال ألوهية الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه الآيات كما يدل على ذلك قوله بعد إيراد كل واحد من الفصول: «أ ءله مع الله».
أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «قل هاتوا برهانكم» أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه من ألوهية آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلوا على ألوهيتها بشيء كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئا من تدبير العالم و الحال أن جميع الخلق و التدبير له تعالى وحده.
قوله تعالى: «قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله و ما يشعرون أيان يبعثون» لما أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إبطال ألوهية آلهتهم بانتساب الخلق و التدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه أمره ثانيا أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان ألوهية آلهتهم و هو عدم علمهم بالغيب و عدم شعورهم بالساعة و أنهم أيان يبعثون مع أنه لا يعلم أحد ممن في السماوات و الأرض - و منهم آلهتهم الذين هم الملائكة
و الجن و قديسو البشر - الغيب و ما يشعرون أيان يبعثون، و لو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق - و من التدبير الجزاء يوم البعث - لعلموا بالساعة.
و قد ظهر بهذا البيان أن قوله: «لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله» برهان مستقل على بطلان ألوهية آلهتهم و اختصاص الألوهية به تعالى وحده و أن قوله: «و ما يشعرون أيان يبعثون» من عطف أوضح أفراد الغيب عليه و أهمها علما بالنسبة إلى أمر التدبير.
و ظهر أيضا أن ضميري الجمع في «و ما يشعرون أيان يبعثون» لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه.
فقول بعضهم: إن الضمير للمشركين و إن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه و بين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعا.
فيه أنه ينافي ما سيقت له الآية الكريمة من البيان كما قدمنا الإشارة إليه و التفكيك بين الضمائر مع وجود القرينة لا بأس به.
قوله تعالى: «بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون» ادارك في الأصل تدارك و التدارك تتابع أجزاء الشيء بعضها بعد بعض حتى تنقطع و لا يبقى منها شيء، و معنى تدارك علمهم في الآخرة أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في غيرها حتى نفد علمهم فلم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة على حد قوله تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم»: النجم: 30 و «عمون» جمع عمي.
لما انتهى احتجاجه تعالى إلى ذكر عدم شعور أحد غيره تعالى بوقت البعث و تبكيت المشركين بذلك رجع إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذكره أنهم في معزل عن الخطاب بذلك إذ لا خبر لهم عن شيء عن أمور الآخرة فضلا عن وقت قيام الساعة و ذلك أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في جهات الحياة الدنيا فهم في جهل مطلق بالنسبة إلى أمور الآخرة بل هم في شك من الآخرة يرتابون في أمرها كما يظهر من احتجاجاتهم على نفيها المبنية على الاستبعاد بل هم منها عمون و الله أعمى قلوبهم عن التصديق بها و الاعتقاد بوجودها.
و قد ظهر بهذا البيان أن تكرر كلمة الإضراب لبيان مراتب الحرمان من العلم بالآخرة و أنهم في أعلاها، فقوله: «بل ادارك علمهم في الآخرة» أي لا علم لهم بها كأنها لم تقرع سمعهم، و قوله: «بل هم في شك منها» أي أنه قرع سمعهم خبرها و ورد قلوبهم لكنهم ارتابوا و لم يصدقوا بها، و قوله: «بل هم منها عمون» أي إنهم لم ينقطعوا عن الاعتقاد بها من عند أنفسهم و باختيار منهم بل الله سبحانه أعمى أبصار قلوبهم فصاروا عمين فهيهات أن يدركوا من أمرها شيئا.
و قيل: المراد بتدارك علمهم تكامله و بلوغه حد اليقين لتكامل الحجج الدالة على حقية البعث و الجملة مسوقة للتهكم، و فيه أنه لا يلائم ما يتبعه من الإضراب بالشك و العمى.
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا أ إذا كنا ترابا و آباؤنا أ إنا لمخرجون - إلى قوله - الأولين» حكاية حجة منهم لنفي البعث مبنية على الاستبعاد أي كيف يمكن أن نخرج من الأرض بشرا تامين كما نحن اليوم و قد متنا و كنا ترابا نحن و آباؤنا كذلك؟.
و قوله: «لقد وعدنا هذا نحن و آباؤنا من قبل» حجة أخرى منهم مبنية على الاستبعاد أي لقد وعدنا هذا و هو البعث بعد الموت نحن و آباؤنا وعدوه قبل أن يعدنا هذا النبي و الذين وعدوا قبلا هم الأنبياء الماضون فهو وعد قديم لم نزل نوعد به و لو كان خبرا صادقا و وعدا حقا لوقع إلى هذا اليوم و إذ لم يقع فهو من الخرافات التي اختلقها الأولون و كانوا مولعين باختلاق الأوهام و الخرافات و الإصغاء إليها.
قوله تعالى: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين» إنذار و تخويف لهم على إنكارهم وعد الأنبياء بالبعث بأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة المجرمين المكذبين للأنبياء المنذرين لهم بالبعث فإن في النظر إلى عاقبة أمرهم على ما تدل عليه مساكنهم الخربة و ديارهم الخالية كفاية للمعتبرين من أولي الأبصار، و في التعبير عن المكذبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم.
كذا قيل.
و يمكن أن تقرر الآية حجة تدل على المعاد و تقريبها أن انتهاء عاقبة أمر المجرمين
إلى عذاب الاستئصال دليل على أن الإجرام و الظلم من شأنه أن يؤاخذ عليه و أن العمل إحسانا كان أو إجراما محفوظ على عامله سيحاسب عليه و إذ لم تقع عامة هذا الحساب و الجزاء - و خاصة على الأعمال الصالحة - في الدنيا فذلك لا محالة في نشأة أخرى و هي الدار الآخرة.
فتكون الآية في معنى قوله تعالى: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28، و يؤيد هذا التقرير قوله: «عاقبة المجرمين» و لو كان المراد تهديد مكذبي الرسل و تخويفهم كان الأنسب أن يقال: عاقبة المكذبين، كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: «و لا تحزن عليهم و لا تكن في ضيق مما يمكرون» أي لا يحزنك إصرارهم على الكفر و الجحود و لا يضق صدرك من مكرهم لإبطال دعوتك و صدهم الناس عن سبيل الله فإنهم بعين الله و ليسوا بمعجزيه و سيجزيهم بأعمالهم.
فالآية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: «و لا تكن في ضيق» إلخ، معطوف على ما قبله عطف التفسير.
قوله تعالى: «و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» الظاهر أن المراد بالوعد الوعد بعذاب المجازاة أعم من الدنيا و الآخرة، و السياق يؤيد ذلك و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون» قالوا: إن اللام في «ردف لكم» مزيدة للتأكيد، كالباء في قوله: «و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»: البقرة: 198، و المعنى تبعكم و لحق بكم، و قيل: إن ردف مضمن معنى فعل يعدى باللام.
و المراد ببعض الذي يستعجلونه هو عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فإنهم كانوا يستعجلون إنجاز ما وعدهم الله من الحكم الفصل، و هو ملازم لعذابهم، و عذابهم في الدنيا بعض العذاب الذي يستعجلونه باستنجاز الوعد، و لعل مراد الآية به عذاب يوم بدر كما قيل.
قالوا: إن «عسى و لعل» من الله تعالى واجب لأن حقيقة الترجي مبنية على
الجهل و لا يجوز عليه تعالى ذلك فمعنى قوله: «عسى أن يكون ردف لكم» سيردفكم و يأتيكم العذاب محققا.
و فيه أن معنى الترجي و التمني و نحوهما كما جاز أن يقوم بنفس المتكلم يجوز أن يقوم بالمقام أو بالسامع أو غيرهما و هو في كلامه تعالى قائم بغير المتكلم من المقام و غيره و ما في الآية من الجواب لما أرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان الرجاء المدلول عليه بكلمة عسى قائما بنفسه الشريفة و المعنى: قل أرجو أن يكون ردف لكم العذاب.
و في تفسير أبي السعود:، و عسى و لعل و سوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها، و إنما يطلقونها إظهارا للوقار، و إشعارا بأن الرمز من أمثالهم كالتصريح ممن عداهم و على ذلك مجرى وعد الله تعالى و وعيده انتهى و هو وجه وجيه.
و معنى الآية: قل لهؤلاء السائلين عن وقت الوعد: أرجو أن يكون تبعكم بعض الوعد الذي تستعجلونه و هو عذاب الدنيا الذي يقربكم من عذاب الآخرة و يؤديكم إليه، و في التعبير بقوله: «ردف لكم» إيماء إلى قربه.
قوله تعالى: «و إن ربك لذو فضل على الناس و لكن أكثرهم لا يشكرون» معنى الآية في نفسها ظاهر و وقوعها في سياق التهديد و التخويف يفيد أن تأخيره تعالى العذاب عنهم مع استحقاقهم ذلك إنما هو فضل منه عليهم يجب عليهم شكره عليه لكنهم لا يشكرونه و يسألون تعجيله.
قوله تعالى: «و إن ربك ليعلم ما تكن صدورهم و ما يعلنون» أي إن تأخير العذاب ليس عن جهل منه تعالى بحالهم و ما يستحقونه بالكفر و الجحود فإنه يعلم ما تستره و تخفيه صدورهم و ما يظهرونه.
ثم أكد ذلك بأن كل غائبة - و هي ما من شأنه أن يغيب و يخفى في أي جهة من جهات العالم كان - مكتوب محفوظ عنده تعالى و هو قوله: «و ما من غائبة في السماء و الأرض إلا في كتاب مبين».
قوله تعالى: «إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل» - إلى قوله - العزيز العليم» تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تمهيد لما سيذكره من حقية دعوته و تقوية لإيمان المؤمنين به، و بهذا الوجه يتصل بقوله قبلا: «و لا تحزن عليهم» إلخ المشعر بحقية دعوته.
فقوله: «إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون» يشير إلى ما يقصه القرآن من قصص الأنبياء و يبين الحق فيما اختلفوا فيه من أمرهم و منه أمر المسيح (عليه السلام) و يبين الحق فيما اختلفوا فيه من المعارف و الأحكام.
و قوله: «و إنه لهدى و رحمة للمؤمنين» يشير إلى أنه يهدي المؤمنين بما قصه على بني إسرائيل إلى الحق و أنه رحمة لهم تطمئن به قلوبهم و يثبت الإيمان بذلك في نفوسهم.
و قوله: «إن ربك يقضي بينهم بحكمه و هو العزيز العليم» إشارة إلى أن القضاء بينهم إلى الله فهو ربه العزيز الذي لا يغلب في أمره العليم لا يجهل و لا يخطىء في حكمه فهو القاضي بينهم بحكمه فلترض نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بربه العزيز العليم قاضيا حكما و لترجع الأمر إليه كما ينبغي أن تفعل مثل ذلك في حق المشركين و لا تحزن عليهم و لا تكون في ضيق مما يمكرون.
قوله تعالى: «فتوكل على الله إنك على الحق المبين» تفريع على مجموع ما أمر به قبال كفر المشركين و اختلاف بني إسرائيل أي إن أمرهم جميعا إلى الله لا إليك فاتخذه وكيلا فهو كافيك و لا تخافن شيئا إنك في أمن من الحق.
قوله تعالى: «إنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون» تعليل للأمر بالتوكل أي إنما أمرناك بالتوكل على الله في أمر إيمانهم و كفرهم لأنهم موتى و ليس في وسعك أن تسمع الموتى دعوتك و إنهم صم لا يسمعون و عمي ضالون لا تقدر على إسماع الصم إذا ولوا مدبرين - و لعله قيد عدم إسماع الصم بقوله: «إذا ولوا مدبرين» لأنهم لو لم يكونوا مدبرين لأمكن تفهيمهم بنوع من الإشارة - و لا على هداية العمي عن ضلالتهم، و إنما الذي تقدر عليه هو أن تسمع من يؤمن بآياتنا الدالة علينا و تهديهم فإنهم لإذعانهم بتلك الحجج الحقة مسلمون لنا مصدقون بما تدل عليه.
و قد تبين بهذا البيان أولا أن المراد بالإسماع الهداية.
و ثانيا: أن المراد بالآيات الحجج الدالة على التوحيد و ما يتبعه من المعارف الحقة.
و ثالثا: أن من تعقل الحجج الحقة من آيات الآفاق و الأنفس بسلامة من العقل ثم استسلم لها بالإيمان و الانقياد ليس هو من الموتى و لا ممن ختم الله على سمعه و بصره.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و سلام على عباده الذين اصطفى» قال: هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).: أقول: و رواه أيضا في جمع الجوامع، عنهم (عليهم السلام) مرسلا مضمرا، و قد عرفت فيما تقدم من البيان في ذيل الآية أن الذي يعطيه السياق أن المراد بهم بحسب مورد الآية الأنبياء المنعمون بنعمة الاصطفاء و قد قص الله قصص جمع منهم فقوله (عليه السلام) - لو صحت الرواية - هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبيل الجري و الانطباق.
و نظيرها ما رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الكتب عن ابن عباس،: في الآية قال: هم أصحاب محمد فهو - لو صحت الرواية - إجراء منه و تطبيق.
و منه يظهر ما فيما رواه أيضا عن عبد بن حميد و ابن جرير عن سفيان الثوري: في الآية قال: نزلت في أصحاب محمد خاصة، فلا نزول و لا اختصاص.
و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: «بل هم قوم يعدلون» قال: عن الحق.
و فيه،: في قوله تعالى: «أمن يجيب المضطر إذا دعاه» الآية،: حدثني أبي عن الحسن بن علي بن فضال عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت في القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو و الله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين و دعا إلى الله عز و جل فأجابه و يكشف السوء و يجعله خليفة في الأرض.
أقول: و الرواية أيضا من الجري و الآية عامة.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لأن الله تعالى يقول: «أمن يجيب المضطر إذا دعاه - و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض» فالخلافة من الله عز و جل فإن كان خيرا فهو يذهب به و إن كان شرا فهو يؤخذ به، عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به.
أقول: الرواية لا تخلو من شيء فقد تقدم أن المراد بالخلافة في الآية - على ما يشهد به السياق - الخلافة الأرضية المقدرة لكل إنسان و هو السلطة على ما في الأرض بأنواع التصرف دون الخلافة بمعنى الحكومة على الأمة بإدارة رحى مجتمعهم.
و مع الغض عن ذلك فمتن الرواية لا يخلو عن تدافع فإن كان المراد بكون الخلافة من الله تعالى أن سلطانه على الناس بتقدير من الله و بعبارة أخرى انتسابها التكويني إلى الله سبحانه كما ورد في ملك نمرود من قوله تعالى: «أن آتاه الله الملك»: البقرة: 258، و قوله حكاية عن فرعون: «أ ليس لي ملك مصر»: الزخرف: 51، فمن البين أن الخلافة بهذا المعنى لا تستتبع وجوب الطاعة و حرمة المخالفة و إلا كان نقضا لأصل الدعوة الدينية و إيجابا لطاعة أمثال نمرود و فرعون و كم لها من نظير، و إن كان المراد به الجعل الوضعي الديني و بعبارة أخرى انتسابها التشريعي إلى الله تعالى ثم وجبت طاعته فيما يأمر به و إن كان معصية كان ذلك نقضا صريحا للأحكام، و إن كان الواجب طاعته في غير معصية الله لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» جازت مفارقة الجماعة في الجملة و هو يناقض صدر الرواية.
و نظير الإشكال يجري في قوله ذيلا: «عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به» فلو كان المراد مما أمر الله به طاعته مقام الخلافة و إن كان في معصية كان نقضا صريحا لتشريع الأحكام و إن كان المراد به طاعة الله و إن استلزم معصية مقام الخلافة كان ناقضا لصدر الرواية.
و قد اتضح اليوم بالأبحاث الاجتماعية أن إمضاء حكومة من لا يحترم القوانين المقدسة الجارية لا يرضى به مجتمع عاقل رشيد فمن الواجب تنزيه ساحة مشرع الدين عن ذلك، و القول بأن مصلحة حفظ وحدة الكلمة و اتفاق الأمة أهم من حفظ بعض الأحكام بالمفارقة معناه جواز هدم حقيقة الدين لحفظ اسمه.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج الطيالسي و سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: و ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال: و كنت متكئا فجلست و قلت: يا أم المؤمنين أنظريني و لا تعجلي علي أ لم يقل الله: «و لقد رآه بالأفق المبين» «و لقد رآه نزلة أخرى»؟
فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: جبرئيل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. قالت: أ لم تسمع الله عز و جل يقول: «لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار - و هو اللطيف الخبير»؟ أ و لم تسمع الله يقول: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا إلى قوله علي حكيم». و من زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية و الله جل ذكره يقول: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس». قالت: و من زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية و الله تعالى يقول: «قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله. أقول: و في متن الرواية شيء أما آيات الرؤية فإنما تنفي رؤية الحس دون رؤية القلب و هي من الرؤية وراء الإيمان الذي هو الاعتقاد و قد أشبعنا الكلام فيها في الموارد المناسبة له.
و أما قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ» الآية فقد أوضحنا في تفسير الآية أنها خاصة غير عامة و لو فرضت عامة فإنما تدل على أن كل ما أنزل إليه مما فيه رسالة وجب عليه تبليغه و من الجائز أن ينزل إليه ما يختص علمه به (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكتمه عن غيره.
و أما قوله: «قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله» فلا يدل إلا على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به، و لا ينفي علم الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن: 27، و قد حكى الله سبحانه نحوا من هذا الإخبار عن المسيح (عليه السلام) إذ قال: «و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون»: آل عمران: 49، و من المعلوم أن القائل إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخبر الناس بما يكون في غد لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له.
و قد تواترت الأخبار على تفرقها و تنوعها من طرق الفريقين على إخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بكثير من الحوادث المستقبلة.
|