بيان
هي من تمام الفصل السابق من الآيات تشير إلى البعث و بعض ما يلحق به من الأمور الواقعة فيه و بعض أشراطه و تختم السورة بما يرجع إلى مفتتحها من الإنذار و التبشير.
قوله تعالى «و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون» مقتضى السياق - بما أن الآية متصلة بما قبلها من الآيات الباحثة عن أمر المشركين المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خصوص أهل مكة من قريش و قد كانوا أشد الناس عداوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و دعوته - أن ضمائر «عليهم» و «لهم» و «تكلمهم» للمشركين المحدث عنهم لكن لا لخصوصهم بل بما أنهم ناس معنيون بالدعوة فالمراد بالحقيقة عامة الناس من هذه الأمة من حيث وحدتهم فيلحق بأولهم من الحكم ما يلحق بآخرهم و هذا النوع من العناية كثير الورود في كلامه تعالى.
و المراد بوقوع القول عليهم تحقق مصداق القول فيهم و تعينهم لصدقه عليهم كما في الآية التالية: «و وقع القول عليهم بما ظلموا» أي حق عليهم العذاب، فالجملة في معنى «حق عليهم القول» و قد كثر وروده في كلامه تعالى، و الفرق بين التعبيرين أن العناية في «وقع القول عليهم» بتعينهم مصداقا للقول و في «حق عليهم القول» باستقرار القول و ثبوته فيهم بحيث لا يزول.
و أما ما هو هذا القول الواقع عليهم فالذي يصلح من كلامه تعالى لأن يفسر به قوله: «سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق: حم السجدة: 53، فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية و الأرضية التي هي بمرآهم و مسمعهم دائما قطعا بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها و تضطر للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء و الأرض التي هي تجاه أعينهم و تحت مشاهدتهم.
و بهذا يظهر أن قوله: أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون تعليل لوقوع القول عليهم و التقدير لأن الناس، و قوله: كانوا لإفادة استقرار عدم الإيقان فيهم و المراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء و الأرض غير الآيات الخارقة، و قرىء إن بكسر
الهمزة و هي أرجح من قراءة الفتح فيؤيد ما ذكرناه و تكون الجملة بلفظها تعليلا من دون تقدير اللام.
و قوله: أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله: سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق و في كونه وصفا لأمر خارق للعادة دلالة على أن المراد بالإخراج من الأرض إما الإحياء و البعث بعد الموت و إما أمر يقرب منه، و أما كونها دابة تكلمهم فالدابة ما يدب في الأرض من ذوات الحياة إنسانا كان أو حيوانا غيره فإن كان إنسانا كان تكليمه الناس على العادة و إن كان حيوانا أعجم كان تكليمه كخروجه من الأرض خرقا للعادة.
و لا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية و أن هذه الدابة التي سيخرجها لهم من الأرض فتكلمهم ما هي؟ و ما صفتها؟ و كيف تخرج؟ و ما ذا تتكلم به؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أن القصد إلى الإبهام فهو كلام مرموز فيه.
و محصل المعنى: أنه إذا آل أمر الناس - و سوف يئول - إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم و بطل استعدادهم للإيمان بنا بالتعقل و الاعتبار آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبينة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق فأخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم.
هذا ما يعطيه السياق و يهدي إليه التدبر في الآية من معناها، و قد أغرب المفسرون حيث أمعنوا في الاختلاف في معاني مفردات الآية و جملها و المحصل منها و في حقيقة هذه الدابة و صفتها و معنى تكليمها و كيفية خروجها و زمان خروجها و عدد خروجها و المكان الذي تخرج منه في أقوال كثيرة لا معول فيها إلا على التحكم، و لذا أضربنا عن نقلها و البحث عنها، و من أراد الوقوف عليها فعليه بالمطولات.
قوله تعالى: و يوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون الفوج كما ذكره الراغب - الجماعة المارة المسرعة، و الإيزاع إيقاف القوم و حبسهم بحيث يرد أولهم على آخرهم.
و قوله: و يوم نحشر منصوب على الظرفية لمقدر و التقدير و اذكر يوم نحشر و المراد بالحشر هو الجمع بعد الموت لأن المحشورين فوج من كل أمة و لا اجتماع لجميع
الأمم في زمان واحد و هم أحياء، و من في قوله: من كل أمة للتبعيض، و في قوله: ممن يكذب للتبيين أو للتبعيض.
و المراد بالآيات في قوله: يكذب بآياتنا مطلق الآيات الدالة على المبدإ و المعاد و منها الأنبياء و الأئمة و الكتب السماوية دون الساعة و ما يقع فيها و عند قيامها و دون الآيات القرآنية فقط لأن الحشر ليس مقصورا على الأمة الإسلامية بل أفواج من أمم شتى.
و من العجيب إصرار بعضهم على أن الكلام نص في أن المراد بالآيات هاهنا و في الآية التالية هي الآيات القرآنية قال: لأنها هي المنطوية على دلائل الصدق التي لم يحيطوا بها مع وجوب أن يتأملوا و يتدبروا فيها لا مثل الساعة و ما فيها انتهى.
و فساده ظاهر لأن عدم كون أمثال الساعة و ما فيها مرادة لا يستلزم إرادة الآيات القرآنية مع ظهور أن المحشورين أفواج من جميع الأمم و ليس القرآن إلا كتابا لفوج واحد منهم.
و ظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم و قد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا: الكهف: 47.
و قيل: المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق فهو حشر بعد حشر.
و فيه أنه لو كان المراد الحشر إلى العذاب لزم ذكر هذه الغاية دفعا للإبهام كما في قوله تعالى: و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها: حم السجدة: 20 مع أنه لم يذكر في ما بعد هذه الآية إلا العتاب و الحكم الفصل دون العذاب و الآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلى شيء يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور و يزيدها إطلاقا قوله بعدها: حتى إذا جاءوا فلم يقل: حتى إذا جاءوا العذاب أو النار أو غيرها.
و يؤيد ذلك أيضا وقوع الآية و الآيتين بعدها بعد نبإ دابة الأرض و هي من أشراط الساعة و قبل قوله: و يوم ينفخ في الصور إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، و لا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه و وقوع عامة ما يقع فيه فإن الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل أمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور و إتيانهم إليه داخرين.
و قد تنبه لهذا الإشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة فقال: لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور و وقوع الواقعة للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا و ذاك من الأحوال طامة كبرى و داهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها و لو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة.
و أنت خبير بأنه وجه مختلق غير مقنع، و لو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الإبهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه.
فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة و إن لم تكن نصا لا يقبل التأويل.
قوله تعالى: حتى إذا جاءوا قال أ كذبتم بآياتي و لم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون المراد بالمجيء - بإعانة من السياق - هو الحضور في موطن الخطاب المدلول عليه بقوله: قال أ كذبتم إلخ و المراد بالآيات - كما تقدم في الآية السابقة - مطلق الآيات الدالة على الحق، و قوله: و لم تحيطوا بها علما جملة حالية أي كذبتم بها حال كونكم لا علم لكم بها لإعراضكم عنها فكيف كذبتم بما لا تعلمون أي رميتموها بالكذب و عدم الدلالة من غير علم، و قوله: أما ذا كنتم تعملون أي غير التكذيب.
و المعنى: حتى إذا حضروا في موطن الخطاب قال الله سبحانه لهم: أ كذبتم بآياتي حال كونكم لم تحيطوا بها علما أم أي شيء كنتم تعملون غير التكذيب، و في ذلك عتابهم بأنهم لم يشتغلوا بشيء غير تكذيبهم بآيات الله من غير أن يشغلهم عنه شاغل معذر.
قوله تعالى: و وقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون الباء في بما ظلموا للسببية و ما مصدرية أي وقع القول عليهم بسبب كونهم ظالمين، و قوله: فهم لا ينطقون تفريع على وقوع القول عليهم.
و بذلك يتأيد أن المراد بالقول الذي يقع عليهم قوله تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين: الأنعام: 144، و المعنى: و لكونهم ظالمين في تكذيبهم بالآيات لم يهتدوا إلى ما يعتذرون به فانقطعوا عن الكلام فهم لا ينطقون.
و ربما فسر وقوع القول عليهم بوجوب العذاب عليهم و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالقول الواقع عليهم قضاؤه تعالى بالعذاب في حق الظالمين في مثل قوله:
ألا إن الظالمين في عذاب مقيم: الشورى: 45، و المعنى: و لكونهم ظالمين قضي فيهم بالعذاب فلم يكن عندهم ما ينطقون به، و الوجه السابق أوجه.
و أما تفسير وقوع القول بحلول العذاب و دخول النار فبعيد من السياق لعدم ملاءمته التفريع في قوله: فهم لا ينطقون.
قوله تعالى: أ لم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه و النهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون لما وصف في الآيات السابقة أن كثيرا من الناس في صمم و عمي من استماع كلمة الحق و النظر في آيات الله و الاعتبار بهما، ثم ذكر دابة الأرض و أنه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلمهم، ثم ذكر أنه سيحشر فوجا من كل أمة من المكذبين فيعاتبهم فتتم عليهم الحجة بقولهم بغير علم بالآيات لإعراضهم عنها وبخهم في هذه الآية و لامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنهم كانوا يرون الليل الذي يسكنون فيه بالطبع و أن هناك نهارا مبصرا يظهر لهم بها آيات السماء و الأرض فلم لم يتبصروا؟.
و قوله: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون أي في جعل الليل سكنا يسكنون فيه و النهار مبصرا يبصرون فيه آيات السماء و الأرض آيات لقوم فيهم خاصة الإذعان و التصديق للحق اللائح لهم.
و المراد بالآيات العلامات و الجهات الدالة فيهما على التوحيد و ما يتبعه من حقائق المعارف، و من جملة ذلك دلالتهما على أن الإنسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه، و هو الليل الذي يضرب بحجاب ظلمته على الأبصار، و يتحرك فيما من شأنه أن يتحرك فيه و هو النهار المبصر الذي يظهر به الأشياء التي تتضمن منافع الحياة للأبصار.
فعلى الإنسان أن يسكت عما حجبته عنه ظلمة الجهل و لا يقول بغير علم و لا يكذب بما لا يحيط به علما و أن يقول و يؤمن بما تجليه له بينات الآيات التي هي كالنهر المبصرة.
قوله تعالى: و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله و كل أتوه داخرين النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور و الارتحال و غير ذلك، و الفزع كما قال الراغب انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف و هو من جنس الجزع، و الدخور الذلة و الصغار.
قيل: المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور التي بها تنفخ الحياة في الأجساد فيبعثون لفصل القضاء، و يؤيده قوله في ذيل الآية: و كل أتوه داخرين و المراد به حضورهم عند الله سبحانه، و يؤيده أيضا استثناؤه من شاء الله من حكم الفزع ثم قوله فيمن جاء بالحسنة: و هم من فزع يومئذ آمنون حيث يدل على أن الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية.
و قيل: المراد به النفخة الأولى التي يموت بها الأحياء بدليل قوله: و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون: الزمر: 68، فإن الصعقة من الفزع و قد رتب على النفخة الأولى و على هذا يكون المراد بقوله: «و كل أتوه داخرين رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت.
و لا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعم مما يميت أو يحيي فإن النفخ كيفما كان من مختصات الساعة، و يكون ما ذكر من فزع بعضهم و أمن بعضهم من الفزع و سير الجبال من خواص النفخة الأولى و ما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية و يندفع بذلك ما يورد على كل واحد من الوجهين السابقين.
و قد استثنى سبحانه جمعا من عباده من حكم الفزع العام الشامل لمن في السماوات و الأرض، و سيجيء كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي: و هم من فزع يومئذ آمنون.
و الظاهر أن المراد بقوله: و كل أتوه داخرين رجوع جميع من في السماوات و الأرض حتى المستثنين من حكم الفزع و حضورهم عنده تعالى، و أما قوله: فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين: الصافات: 127، فالظاهر أن المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب و السؤال لا نفي بعثهم و رجوعهم إلى الله و حضورهم عنده فآيات القيامة ناصة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذ منهم شاذ.
و نسبة الدخور و الذلة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزة عند الله فإن عزة العبد عند الله ذلته عنده و غناه بالله فقره إليه نعم ذلة أعدائه بما يرون لأنفسهم من العزة الكاذبة ذلة هوان.
قوله تعالى: و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله الذي
أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون الآية بما أنها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات و هو سير الجبال و قد قال تعالى في هذا المعنى أيضا: و سيرت الجبال فكانت سرابا: النبأ: 20، إلى غير ذلك.
فقوله: و ترى الجبال الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد به تمثيل الواقعة، كما في قوله: و ترى الناس سكارى: الحج: 2، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها لو كنت مشاهدا، و قوله: تحسبها جامدة أي تظنها الآن و لم تقم القيامة بعد جامدة غير متحركة، و الجملة معترضة أو حالية.
و قوله: و هي تمر مر السحاب حال من الجبال و عاملها ترى أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء.
و قوله: صنع الله الذي أتقن كل شيء مفعول مطلق لمقدر أي صنعه صنعا و في الجملة تلويح إلى أن هذا الصنع و الفعل منه تعالى تخريب للدنيا و هدم للعالم، لكنه في الحقيقة تكميل لها و إتقان لنظامها لما يترتب عليه من إنهاء كل شيء إلى غايته و إيصاله إلى وجهته التي هو موليها من سعادة أو شقاوة لأن ذلك صنع الله الذي أتقن كل شيء فهو سبحانه لا يسلب الإتقان عما أتقنه و لا يسلط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة.
و قوله: «إنه خبير بما تفعلون قيل: إنه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور و ما بعده صنعا محكما له تعالى فإن علمه بظواهر أفعال المكلفين و بواطنها مما يستدعي إظهارها و بيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن و السوء و ترتيب آثارها من الثواب و العقاب عليها بعد البعث و الحشر و تسيير الجبال.
و أنت ترى ما فيه من التكلف و أن السياق بعد ذلك كله لا يقبله.
و قيل: إن قوله: إنه خبير بما تفعلون استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم و فصل بقوله: من جاء بالحسنة فله خير منها إلى آخر الآيتين.
و هاهنا وجه آخر مستفاد من الإمعان في سياق الآيات السابقة فإن الله سبحانه أمر فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوكل عليه و يرجع أمر المشركين و بني إسرائيل إليه فإنه إنما
يستطيع هداية المؤمنين بآياته المستسلمين للحق و أما المشركون في جحودهم و بنو إسرائيل في اختلافهم فإنهم موتى لا يسمعون و صم عمي لا يسمعون و لا يهتدون إلى الحق بالنظر في آيات السماء و الأرض و الاعتبار بها باختيار منهم.
ثم ذكر ما سيواجههم به - و حالهم هذه الحال لا يؤثر فيهم الآيات - و أنه سيخرج لهم دابة من الأرض تكلمهم و هي آية خارقة تضطرهم إلى قبول الحق و أنه يحشر من كل أمة فوجا من المكذبين فيتم عليهم الحجة، و بالآخرة هو خبير بأفعالهم سيجزي من جاء بحسنة أو سيئة بعمله يوم ينفخ في الصور ففزعوا و أتوه داخرين.
و بالتأمل في هذا السياق يظهر أن الأنسب كون يوم ينفخ ظرفا لقوله: إنه خبير بما يفعلون و قراءة يفعلون بياء الغيبة أرجح من القراءة المتداولة على الخطاب.
و المعنى: و إنه تعالى خبير بما يفعله أهل السماوات و الأرض يوم ينفخ في الصور و يأتونه داخرين يجزي من جاء بالحسنة بخير منها و من جاء بالسيئة بكب وجوههم في النار كل مجزي بعمله، و على هذا تكون الآية في معنى قوله تعالى: «أ فلا يعلم إذا بعثر ما في القبور و حصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير: العاديات: 11، و قوله: يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء: المؤمن: 16، و يكون قوله: من جاء بالحسنة إلخ، تفصيلا لقوله: إنه خبير بما يفعلون من حيث لازم الخبرة و هو الجزاء بما فعل و عمل كما أشار إليه ذيلا بقوله: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: هل تجزون إلخ، لتشديد التقريع و التأنيب.
و في الآية أعني قوله: و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب إلخ، قولان آخران: أحدهما: حملها على الحركة الجوهرية و أن الأشياء كالجبال تتحرك بجوهرها إلى غاية وجودها و هي حشرها و رجوعها إلى الله سبحانه.
و هذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما في قوله: تحسبها جامدة من التلويح إلى أنها اليوم متحركة و لما تقم القيامة، و أما جعل يوم القيامة ظرفا لحسبان الجمود و للمرور كالسحاب جميعا فمما لا يلتفت إليه.
و ثانيهما: حملها على حركة الأرض الانتقالية و هو بالنظر إلى الآية في نفسها معنى
جيد إلا أنه أولا: يوجب انقطاع الآية عما قبلها و ما بعدها من آيات القيامة و ثانيا: ينقطع بذلك اتصال قوله: إنه خبير بما يفعلون بما قبله.
قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها و هم من فزع يومئذ آمنون هذه الآية و ما بعدها - كما تقدمت الإشارة إليه - تفصيل لقوله: إنه خبير بما يفعلون من حيث أثره الذي هو الجزاء و المراد بقوله: من جاء بالحسنة فله خير منها أن له جزاء هو خير مما جاء به من الحسنة و ذلك لأن العمل أيا ما كان مقدمة للجزاء مقصود لأجله و الغرض و الغاية على أي حال أفضل من المقدمة.
و قوله: و هم من فزع يومئذ آمنون ظاهر السياق أن هذا الفزع هو الفزع بعد نفخ الصور الثاني دون الأول فيكون في معنى قوله: لا يحزنهم الفزع الأكبر و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون: الأنبياء: 103.
قوله تعالى: و من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون يقال: كبه على وجهه فانكب أي ألقاه على وجهه فوقع عليه فنسبة الكب إلى وجوههم من المجاز العقلي و الأصل فكبوا على وجوههم.
و قوله: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون الاستفهام للإنكار، و المعنى ليس جزاؤكم هذا إلا نفس العمل الذي عملتموه ظهر لكم فلزمكم فلا ظلم في الجزاء و لا جور في الحكم.
و الآيتان في مقام بيان ما في طبع الحسنة و السيئة من الجزاء ففيهما حكم من جاء بالحسنة فقط و من أحاطت به الخطيئة و استغرقته السيئة و أما من حمل حسنة و سيئة فيعلم بذلك حكمه إجمالا و أما التفصيل ففي غير هذا الموضع.
قوله تعالى: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها و له كل شيء الآيات الثلاث - من هنا إلى آخر السورة - ختام السورة يبين فيها أن هذه الدعوة الحقة تبشير و إنذار فيه إتمام للحجة من غير أن يرجع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمرهم شيء و إنما الأمر إلى الله و سيريهم آياته فيعرفونها ليس بغافل عن أعمالهم.
و في قوله: إنما أمرت إلخ، تكلم عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو في معنى: قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، و المشار إليها بهذه الإشارة مكة المشرفة، و في الكلام تشريفها من وجهين: إضافة الرب إليها، و توصيفها بالحرمة حيث قال:
رب هذه البلدة الذي حرمها.
و فيه تعريض لهم حيث كفروا بهذه النعمة نعمة حرمة بلدتهم و لم يشكروا الله بعبادته بل عدلوا إلى عبادة الأصنام.
و قوله: و له كل شيء إشارة إلى سعة ملكه تعالى دفعا لما يمكن أن يتوهم أنه إنما يملك مكة التي هو ربها فيكون حاله حال سائر الأصنام يملك الواحد منها على عقيدتهم جزء من أجزاء العالم كالسماء و الأرض و بلدة كذا و قوم كذا و أسرة كذا، فيكون تعالى معبودا كأحد الآلهة واقعا في صفهم و في عرضهم.
و قوله: و أمرت أن أكون من المسلمين أي من الذين أسلموا له فيما أراد و لا يريد إلا ما يهدي إليه الخلقة و يهتف به الفطرة و هو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.
قوله تعالى: و أن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فقل إنما أنا من المنذرين معطوف على قوله: أن أعبد أي أمرت أن أقرأ القرآن و المراد تلاوته عليهم بدليل تفريع قوله: فمن اهتدى إلخ، عليه.
و قوله: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه أي فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه و لا يعود نفعه إلي.
و قوله: و من ضل فقل إنما أنا من المنذرين أي و من لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه و هو الضلال فعليه ضلاله و وبال كفره لا علي لأني لست إلا منذرا مأمورا بذلك و لست عليه وكيلا و الله هو الوكيل عليه.
فالعدول عن مثل قولنا: و من ضل فإنما أنا من المنذرين و هو الذي كان يقتضيه الظاهر إلى قوله: فقل إنما أنا من المنذرين لتذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تقدم من العهد إليه أنه ليس إلا منذرا و ليس إليه من أمرهم شيء فعليه أن يتوكل على ربه و يرجع أمرهم إليه كما قال: فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى إلخ، فكأنه قيل: و من ضل فقل له قد سمعت أن ربي لم يجعل علي إلا الإنذار فلست بمسئول عن ضلال من ضل.
قوله تعالى: و قل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها و ما ربك بغافل عما تعملون معطوف على قوله: فقل إنما أنا من المنذرين و فيه انعطاف إلى ما ذكره بعد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتوكل عليه في أمرهم من أنه سيجعل للمشركين عاقبة سوء
و يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه و يريهم من آياته ما يضطرون إلى تصديقه ثم يجزيهم بأعمالهم.
و محصل المعنى: و قل الثناء الجميل لله تعالى فيما يجريه في ملكه حيث دعا الناس إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم و هدى الذين آمنوا بآياته و أسلموا له و أما المكذبون فأمات قلوبهم و أصم آذانهم و أعمى أبصارهم فضلوا و كذبوا بآياته.
و قوله: سيريكم آياته فتعرفونها إشارة إلى ما تقدم من قوله: و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض و ما بعده، و ظهور قوله: آياته في العموم دليل على شموله لجميع الآيات التي تضطرهم إلى قبول الحق مما يظهر لهم قبل قيام الساعة و بعده.
و قوله: و ما ربك بغافل عما تعملون الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن أعمالكم معاشر العباد بعين ربك فلا يفوته شيء مما تقتضيه الحكمة قبال أعمالكم من الدعوة و الهداية و الإضلال و إراءة الآيات ثم جزاء المحسنين منكم و المسيئين يوم القيامة.
و قرىء عما يعملون بياء الغيبة و لعلها أرجح و مفادها تهديد المكذبين و في قوله: ربك بإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقوية لجانبه.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و إذا وقع القول عليهم الآية: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو نائم في المسجد قد جمع رملا و وضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الأرض فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أ يسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال: لا و الله ما هو إلا له خاصة و هو الدابة الذي ذكره الله في كتابه فقال: و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض - تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة و معك ميسم تسم به أعداءك.
فقال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن العامة يقولون: إن هذه الآية إنما تكلمهم فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كلمهم الله في نار جهنم إنما هو تكلمهم من الكلام.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الشيعة.
و في المجمع، و روى محمد بن كعب القرطي قال: سئل علي عن الدابة فقال: أما و الله ما لها ذنب و إن لها للحية.
أقول: و هناك روايات كثيرة تصف خلقتها تتضمن عجائب و هي مع ذلك متعارضة من أرادها فليراجع جوامع الحديث كالدر المنثور أو مطولات التفاسير كروح المعاني.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يقول الناس في هذه الآية يوم نحشر من كل أمة فوجا؟ قلت: يقولون إنه في القيامة. قال: ليس كما يقولون إنها في الرجعة أ يحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا و يدع الباقين؟ إنما آية القيامة و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا.
أقول: و أخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و نفخ في الصور: و اختلف في معنى الصور إلى أن قال و قيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق و قد ورد ذلك في الحديث.
و فيه،: في قوله تعالى: إلا من شاء الله قيل: يعني الشهداء فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم و روي ذلك في خبر مرفوع.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: صنع الله الذي أتقن كل شيء قال: فعل الله الذي أحكم كل شيء.
و فيه،: في قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها - و هم من فزع يومئذ آمنون - و من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار قال: الحسنة و الله ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و السيئة و الله عداوته.
أقول: و هو من الجري و ليس بتفسير و هناك روايات كثيرة في هذا المضمون ربما أمكن حملها على ما سيأتي.
و في الخصال، عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء
و هو الطمع، و آخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد و هي الرهبة، و لكني أعبده حبا له فتلك عبادة الكرام و هو الأمن لقوله تعالى: و هم من فزع يومئذ آمنون»، و لقوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني - يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم فمن أحب الله أحبه الله و من أحبه الله كان من الآمنين.
أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته و توليه تعالى بنفسه أمر عبده و تصرفه فيه و هذا أحد معنيي ولاية علي (عليه السلام) فهو (عليه السلام) صاحب الولاية و أول فاتح لهذا الباب من الأمة و به يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية علي (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه و الديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قول الله: من جاء بالحسنة فله خير منها يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، و من جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي و هذه تردي.
أقول: و هذا المعنى مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ مختلفة من طرق شتى و ينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الأحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد و إلا لغا تشريعها و هو ظاهر.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها قال: مكة.
و فيه، عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها و لا يعضد شجرها و لا يختلى خلالها و لا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر و البيوت فقال رسول الله إلا الإذخر: أقول: و هو مروي من طرق أهل السنة أيضا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما كان في القرآن و ما الله بغافل عما تعملون بالتاء، و ما كان و ما ربك بغافل عما يعملون بالياء.
تم و الحمد لله.
|