بيان
لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الأوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم و خلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للإنسان و لكل شيء الواجب أن يعبد وحده لا شريك له.
قوله تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين» قال في المجمع،: السلالة اسم لما يسل من الشيء كالكساحة اسم لما يكسح انتهى.
و ظاهر السياق أن المراد بالإنسان هو النوع فيشمل آدم و من دونه و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله: «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين»: الم السجدة: 8.
و يؤيده قوله بعد: «ثم جعلناه نطفة» إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلخ.
و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأن المراد به آدم (عليه السلام) غير سديد.
و أصل الخلق كما قيل التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى و لقد قدرنا الإنسان أولا من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.
قوله تعالى: «ثم جعلناه نطفة في قرار مكين» النطفة القليل من الماء و ربما يطلق على مطلق الماء و القرار مصدر أريد به المقر مبالغة و المراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، و المكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة و الفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها.
و المعنى ثم جعلنا الإنسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.
قوله تعالى: «ثم خلقنا النطفة علقة - إلى قوله - فكسونا العظام لحما» تقدم بيان مفردات الآية في الآية 5 من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب و في قوله: «فكسونا العظام لحما» استعارة بالكناية لطيفة.
قوله تعالى: «ثم أنشأناه خلقا آخر» الإنشاء كما ذكره الراغب - إيجاد الشيء و تربيته كما أن النشء و النشأة إحداثه و تربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشىء.
و قد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال: «ثم أنشأناه خلقا آخر» دون أن يقال: ثم خلقناه إلخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه و لا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا و إن خالفت النطفة في أوصافها و خواصها من لون و طعم و غير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الأوصاف و الخواص ما يجانسه و إن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة و هما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا و هو الإنسان الذي له حياة و علم و قدرة فإن ما له من جوهر الذات و هو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة و العلقة و المضغة و العظام المكسوة لحما شيء، و لا سبق فيها شيء يناظر ما له من الخواص و الأوصاف كالحياة و القدرة و العلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم.
و الضمير في «أنشأناه» - على ما يعطيه السياق - للإنسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشأ و أحدث خلقا آخر أي بدل و هو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة و علم و قدرة، فقد كان مادة لها صفاتها و خواصها ثم برز و هو يغاير سابقته في الذات و الصفات و الخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، و ليس بها إذ لا يشاركها في ذات و لا صفات، و إنما له نوع اتحاد معها و تعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.
و هذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: «و قالوا أ ءذا ضللنا في الأرض أ ءنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11، فالمتوفى و المأخوذ عند الموت هو الإنسان، و المتلاشي الضال في الأرض هو البدن و ليس به.
و قد اختلف العطف في مفردات الآية بالفاء و ثم، و قد قيل في وجهه إن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: «ثم جعلناه نطفة» «ثم خلقنا النطفة علقة»، «ثم أنشأناه خلقا آخر»، و ما لم يكن بتلك البينونة و البعد عطف بالفاء كقوله: «فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما».
قوله تعالى: «فتبارك الله أحسن الخالقين» قال الراغب: أصل البرك بالفتح فالسكون - صدر البعير.
قال: و برك البعير ألقى ركبه و اعتبر منه معنى اللزوم.
قال: و سمي محبس الماء بركة بالكسر فالسكون - و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء قال تعالى: «لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض» و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة و المبارك ما فيه ذلك الخير.
قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك و فيه بركة.
انتهى.
فالتبارك منه تعالى اختصاص بالخير الكثير الذي يجود به و يفيضه على خلقه و قد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره و هو إيجاد الأشياء و تركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها و تناسب ما وراءها و من ذلك ينتشر الخير الكثير.
و وصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به و هو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير و قياس الشيء من الشيء لا يختص به تعالى، و في كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: «و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير»: المائدة: 110 و قوله: «و تخلقون إفكا: العنكبوت: 17.
قوله تعالى: «ثم إنكم بعد ذلك لميتون» بيان لتمام التدبير الإلهي و أن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، و أنه حق كما تقدم في قوله تعالى: «كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة»: الأنبياء: 35.
قوله تعالى: «ثم إنكم يوم القيامة تبعثون» و هذا تمام التدبير و هو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الإنسان إذا حل بها لزمها و لا يزال قاطنا بها.
قوله تعالى: «و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق و ما كنا عن الخلق غافلين»، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: «فوقكم» السماوات السبع و قد سماها طرائق - جمع طريقة - و هي السبيل المطروقة لأنها ممر الأمر النازل من عنده تعالى إلى الأرض، قال تعالى: «يتنزل الأمر بينهن»: الطلاق - 12، و قال: «يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه»: الم السجدة - 5، و السبل التي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: فاطر - 10، و قال: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك»: مريم - 64.
و بذلك يتضح اتصال ذيل الآية «و ما كنا عن الخلق غافلين» بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.
و بذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.
على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.
قوله تعالى: «و أنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض و إنا على ذهاب به لقادرون» المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.
و في قوله: «بقدر» دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الإلهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضا إلى قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21.
و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكناه في الأرض و هو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الأرض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.
قوله تعالى: «فأنشأنا لكم به جنات من نخيل و أعناب» إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن و صبغ للآكلين» معطوف على «جنات» أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طور سيناء، و قوله: «تنبت بالدهن» أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله: «و صبغ للآكلين» أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ بالكسر فالسكون الإدام الذي يؤتدم به، و إنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و إن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها» إلخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لأمر خلقه حنين بهم رءوف رحيم، و المراد بسقيه تعالى مما في بطونها أنه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.
قوله تعالى: «و عليها و على الفلك تحملون» ضمير «عليها» للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البر و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله: «و حملناهم في البر و البحر»: إسراء: 70، و الفلك جمع فلكة و هي السفينة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: «ثم أنشأناه خلقا آخر» يعني نفخ الروح فيه.
و في الكافي، بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله و ما رزقه و كل شيء من حاله؟ و عدد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه. فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحول الأنثى ذكرا أو الذكر أنثى؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء. أقول: و الرواية مروية عن أبي جعفر (عليه السلام) بطرق أخرى و ألفاظ متقاربة.
و في تفسير القمي،: «قوله عز و جل و شجرة تخرج من طور سيناء - تنبت بالدهن و صبغ للآكلين» قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) فالطور الجبل و سيناء الشجرة.
و في المجمع،: «تنبت بالدهن و صبغ للآكلين» و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادهنوا.
|